مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: 101 ـ 110
(101)
معنى ( بل نظنّكم كاذبين ) انّ الناس صوّروا نفس الرسل كاذبين وانّهم قد تعمّدوا التقوّل على خلاف الواقع ، والمذكور في الآية المبحوث عنها ليس كون الرسل كاذبين بل كونهم مكذوبين ، أي وعدوا كذباً وقيل لهم قولاً غير صادق وإن تصوّروا أنفسهم صادقين في ما يخبرون به ، وبين المعنيين بون بعيد.
     الثالث :
    ما روي عن ابن عباس من أنّ الرسل لمّا ضعفوا وغلبوا ظنّوا أنّهم قد أخلفوا ما وعدهم اللّه من النصر ، وقال كانوا بشراً ، وتلا قوله : ( وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللّهِ ). (1)
    وقال صاحب الكشاف في حق هذا القول : إنّه إن صح هذا عن ابن عباس ، فقد أراد بالظن ما يخطر بالبال ويهجس في القلب من شبه الوسوسة وحديث النفس على ما عليه البشرية ، وأمّا الظن الذي هو ترجح أحد الجائزين على الآخر فغير جائز على رجل من المسلمين فما بال رسل اللّه الذين هم أعرف الناس بربهم ، وانّه متعال عن خلف الميعاد منزه عن كل قبيح. (2)
    وهذا التفسير مع التوجيه الذي ذكره الزمخشري وإن كان أوقع التفاسير في القلوب غير انّه أيضاً لا يناسب ساحة الأنبياء الذين تسددهم روح القدس وتحفظهم عن الزلل والخطأ في الفكر والعمل ، وتلك الهاجسة وان كانت بصورة حديث النفس وشبه الوسوسة لكنها لا تلائم العصمة المطلقة المترقبة من الأنبياء.
     الرابع ( وهو المختار )
    إنّ المستدل زعم أنّ الظن المذكور في الآية أمر قلبي اعترى قلوب الرسل ،
    1 ـ البقرة : 214.
    2 ـ الكشاف : 2/157.


(102)
وأدركوه بمشاعرهم وعقولهم مثل سائر الظنون التي تحدق بالقلوب البشرية وتنقدح فيها.
    مع أنّ المراد غير ذلك ، بل المراد انّ الظروف التي حاقت بالرسل بلغت من الشدة والقسوة الى حد صارت تحكي بلسانها التكويني عن أنّ النصر الموعود كأنّه نصر غير صادق ، لا أنّ هذا الظن كان يراود قلوب الرسل ، وأفئدتهم ، وكم فرق بين كونهم ظانّين بكون الوعد الإلهي بالنصر وعداً مكذوباً ، وبين كون الظروف والشرائط المحيطة بهم من المحنة والشدة كانت كأنّها تشهد في بادئ النظر على أنّه ليس لوعده سبحانه خبر ولا أثر.
    فحكاية وضعهم والملابسات التي كانت تحدق بهم عن كون الوعد كذباً أمر ، وكون الأنبياء قد وقعوا فريسة ذلك الظن غير الصالح أمر آخر ، والمخالف للعصمة هو الثاني لا الأوّل ، ولذلك نظائر في الذكر الحكيم.
    منها قوله سبحانه : ( وَذَا النُّونِ إِذْذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنّي كُنْتُ مِنَ الظّالِمينَ ) (1) ، فإنّ يونس النبي بن متى كان مبعوثاً إلى أهل نينوى ، فدعاهم فلم يؤمنوا ، فسأل اللّه أن يعذّبهم ، فلمّا أشرف عليهم العذاب تابوا وآمنوا ، فكشفه اللّه عنهم وفارقهم يونس قبل نزول العذاب مغاضباً لقومه ظانّاً بأنّه سبحانه لن يضيق عليه وهو يفوته بالابتعاد منه فلا يقوى على سياسته وتأديبه ، لأجل مفارقته قومه مع إمكان رجوعهم إلى اللّه سبحانه وإيمانهم به وتوبتهم عن أعمالهم.
    فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى يونس ، هل كان ظناً قائماً بمشاعره ، فنحن نجلّه ونجلّ ساحة جميع الأنبياء عن هذا الظن الذي لا يتردد في ذهن غيرهم ، فكيف الأنبياء؟! بل المراد انّ عمله هذا ( أي ذهابه ومفارقة قومه ) كان
    1 ـ الأنبياء : 87.

(103)
ممثلاً بأنّه يظن أنّ مولاه لا يقدر عليه وهو يفوته بالابتعاد عنه فلا يقوى على سياسته ، فكم فرق بين ورود هذا الظن على مشاعر يونس ، وبين كون عمله مجسماً وممثلاً لهذا الظن في كل من رآه وشاهده؟ فما يخالف العصمة هو الأوّل لا الثاني.
    ومنها : قوله سبحانه في سورة الحشر حاكياً عن بني النضير إحدى الفرق اليهودية الثلاث التي كانت تعيش في المدينة ، وتعاقدوا مع النبي على أن لا يخونوا ويتعاونوا في المصالح العامة ، ولما خدعوا المسلمين وقتلوا بعض المؤمنين في مرأى من الناس ومسمع منهم ، ضيّق عليهم النبي ، فلجأوا إلى حصونهم ، وفي ذلك يقول سبحانه : ( هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لأَوّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللّهِ فَأَتاهُمُ اللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ). (1)
    فما هذا الظن الذي ينسبه سبحانه إلى تلك الفرقة؟ هل كانوا يظنون بقلوبهم أنّ حصونهم مانعتهم من اللّه؟ فإنّ ذلك بعيد جداً ، فانّهم كانوا موحّدين ومعترفين بقدرته سبحانه غير انّ علمهم والتجاءهم إلى حصونهم في مقابل النبي الذي تبيّن لهم صدق نبوته كان يحكي عن أنّهم مصدر هذا الظن وصاحبه.
    ولذلك نظائر في المحاورات العرفية فإنّا نصف المتهالكين في الدنيا والغارقين في زخارفها ، والبانين للقصور المشيدة والأبراج العاجية بأنّهم يعتقدون بخلود العيش ودوام الحياة ، وانّ الموت كأنّه كتب على غيرهم ، ولا شك أنّ هذه النسبة نسبة صادقة لكن بالمعنى الذي عرفت أي أنّ عملهم مبدأ انتزاع هذا الظن ، ومصدر هذه النسبة.
    وعلى ذلك فالآية تهدف إلى أنّ البلايا والشدائد كانت تحدق بالأنبياء طيلة
    1 ـ الحشر : 2.

(104)
حياتهم وتشتد عليهم الأزمة والمحنة من جانب المخالفين ، فكانوا يعيشون بين أقوام كأنّهم أعداء ألداء ، وكان المؤمنون بهم في قلّة ، فصارت حياتهم المشحونة بالبلايا والنوازل ، والبأساء والضراء ، مظنّة لأن يتخيّل كل من وقف عليها من نبي وغيره ، انّ ما وعدوا به وعد غير صادق ، ولكن لم يبرح الوضع على هذا المنوال حتى يفاجئهم نصره سبحانه ، للمؤمنين ، وإهلاكه وإبادته للمخالفين كما يقول : ( فَنُجِّيَ مَن نَشاءُ ولا يُردُّ بأسُنا عنِ القومِ المُجْرمين ). (1)
    ويشعر بما ذكرناه قوله سبحانه : ( أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البَأْساءُ وَالضَّرّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ ). (2)
    فالمراد من الرسول هو غير النبي الأكرم من الرسل السابقين ، فعندما كانت البأساء والضراء تحدق بالمؤمنين ونفس الرسول ، وكانت المحن تزلزل المؤمنين حتى أنّها كانت تحبس الأنفاس ، فعند ذلك كانت تكاد تلك الأنفاس المحبوسة والآلام المكنونة تتفجر في شكل ضراعة إلى اللّه ، فيقول الرسول والذين آمنوا معه ( متى نصر اللّه ) ؟ فإنّ كلمة ( متى نصر اللّه ) مقرونة بالضراعة والالتماس ، تقعمظنة تصور استيلاء اليأس والقنوط عليهم لا بمعنى وجودهما في أرواحهم وقلوبهم ، بل بالمعنى الذي عرفت من كونه ظاهراً من أحوالهم لا من أقوالهم.
    وما برح الوضع على هذا إلى أن كان النصر ينزل عليهم وتنقشع عنهم سحب اليأس والقنوط المنتزع من تلك الحالة.
    هذا ما وصلنا إليه في تفسير الآية ، ولعلّ القارئ يجد تفسيراً أوقع في النفس مما ذكرناه.
    1 ـ يوسف : 110.
    2 ـ البقرة : 214.


(105)
الآية الثانية
    ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُول وَلا نَبِىّ إِلاَّ إِذا تَمَنّى أَلْقَى الشَّيْطانُ في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ اللّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللّهُ آياتِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ). (1)
    ( لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظّالِمينَ لَفي شِقاق بَعِيد ). (2)
    ( وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللّهَ لَهادِالَّذينَ آمَنُوا إِلى صِراط مُسْتَقيم ). (3)
    وهذه الآية أو الآيات من أوثق الأدلة في نظر القائل بعدم عصمة الأنبياء ، وقد استغلها المستشرقون في مجال التشكيك في الوحي النازل على النبي على وجه سيوافيك بيانه.
    وكأنّ المستدل بهذه الآية يفسر إلقاء الشيطان في أُمنية الرسول أو النبي بالتدخل في الوحي النازل عليه فيغيره إلى غير ما نزل به.
    ثم إنّه سبحانه يمحو ما يلقي الشيطان ويصحّح ما أُُنزل على رسوله من الآيات ، فلو كان هذا مفاد الآية ، فهو دليل على عدم عصمة الأنبياء في مجال التحفّظ على الوحي أو إبلاغه الذي اتفقت كلمة المتكلمين على المصونية في هذا المجال.
    وربما يؤيد هذا التفسير بما رواه الطبري وغيره في سبب نزول هذه الآية ، وسيوافيك نصه وما فيه من الإشكال.
    1 ـ الحج : 52.
    2 ـ الحج : 53.
    3 ـ الحج : 54.


(106)
    فالأولى تناول الآية بالبحث والتفسير حتى يتبيّن انّها تهدف إلى غير ما فسّره المستدل فنقول : يجب توضيح نقاط في الآيات.
    الأُولى : ما معنى أُمنية الرسول أو النبي؟ وإلى مَ يهدف قوله سبحانه : ( إذا تمنّى ) ؟
    الثانية : ما معنى مداخلة الشيطان في أُمنية النبي الذي يفيده قول اللّه سبحانه : ( ألقى الشيطان في أُمنيّته ) ؟
    الثالثة : ما معنى نسخ اللّه سبحانه ما يلقيه الشيطان؟
    الرابعة : ماذا يريد سبحانه من قوله : ( ثم يحكم اللّه آياته ) وهل المراد منه الآيات القرآنية؟
    الخامسة : كيف يكون ما يلقيه الشيطان فتنة لمرضى القلوب وقاسيتها؟ وكيف يكون سبباً لإيمان المؤمنين ، وإخبات قلوبهم له؟
    وبتفسير هذه النقاط الخمس يرتفع الإبهام الذي نسجته الأوهام حول الآية ومفادها فنقول :

1. ما معنى أُمنية الرسول أو النبي؟
    أمّا الأُمنية قال ابن فارس : فهي من المنى ، بمعنى تقدير شيء ونفاذ القضاء به ، منه قولهم : مني له الماني أي قدر المقدر قال الهذلي :
لا تأمنن وان أمسيت في حرم حتى تلاقي ما يمني لك الماني
    والمنا : القدر ، وماء الإنسان : منيّ ، أي يُقدّر منه خلقته. والمنيّة : الموت ، لأنّها مقدّرة على كل أحد ، وتمنّى الإنسان : أمل يقدِّره ، ومنى مكة : قال قوم : سمِّي به لما قُدِّر أن يُذبح فيه ، من قولك مناه اللّه. (1)
    1 ـ المقاييس : 5/276.

(107)
    وعلى ذلك فيجب علينا أن نقف على أُمنية الرسل والأنبياء من طريق الكتاب العزيز ، ولا يشك من سبر الذكر الحكيم انّه لم يكن للرسل والأنبياء ، أُمنية سوى نشر الهداية الإلهية بين أقوامهم وإرشادهم إلى طريق الخير والسعادة ، وكانوا يدأبون في تنفيذ هذا المقصد السامي ، والهدف الرفيع ولا يألون في ذلك جهداً ، وكانوا يخططون لهذا الأمر ، ويفكّرون في الخطة بعد الخطة ، ويمهدون له قدر مستطاعهم ، ويدل على ذلك جمع من الآيات نكتفي بذكر بعضها :
    يقول سبحانه في حق النبي الأكرم : ( وَما أَكْثَرُ النّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنينَ ). (1)
    ويقول أيضاً : ( فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرات إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ ). (2)
    ويقول أيضاً : ( إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرينَ ). (3)
    ويقول سبحانه : ( إِنَّكَ لاتَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ ). (4)
    ويقول سبحانه : ( فَذَكِّرْإِنَّما أَنْتَ مُذَكِّر * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بُمُصَيْطِر ). (5)
    هذا كلّه في حق النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    ويقول سبحانه حاكياً عن استقامة نوح في طريق دعوته : ( وَإِنّي كُلَّما
    1 ـ يوسف : 103.
    2 ـ فاطر : 8.
    3 ـ النحل : 37.
    4 ـ القصص : 56.
    5 ـ الغاشية : 21 ـ 22.


(108)
دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ في آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً * ثُمَّ إِنّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً * ثُمَّ إِنّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً ). (1)
    ويقول سبحانه بعد عدة من الآيات : ( قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْني وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاّخَساراً * وَمَكَرُوا مَكْراً كُبّاراً * وَقالُوا لا تَذَرُُنَّ آلهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً * وَقَدْأَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِالظّالِمينَ إِلاّ ضَلالاً ). (2)
    فهذه الآيات ونظائرها تنبئ بوضوح عن أنّ أُمنية الأنبياء الوحيدة في حياتهم وسبيل دعوتهم هو هداية الناس إلى اللّه ، وتوسيع رقعة الدعوة إلى أبعد حد ممكن ، وان منعتهم من تحقيق هذا الهدف عراقيل وموانع ، فهم يسعون إلى ذلك بعزيمة راسخة ورجاء واثق.
    إلى هنا تبيّن الجواب عن السؤال الأوّل ، وهلم معي الآن لنقف على جواب السؤال الثاني ، أعني :

2. ما معنى إلقاء الشيطان في أُمنية الرسل؟
    وهذا السؤال هو النقطة الحاسمة في استدلال المخالف ، وبالإجابة عليها يظهر وهن الاستدلال بوضوح فنقول : إنّ إلقاء الشيطان في أُمنيتهم يتحقّق بإحدى صورتين :
    1 ـ أن يوسوس في قلوب الأنبياء ويوهن عزائمهم الراسخة ، ويقنعهم بعدم جدوى دعوتهم وإرشادهم ، وانّ هذه الأُمّة أُمّة غير قابلة للهداية ، فتظهر بسبب
    1 ـ نوح : 7 ـ 9.
    2 ـ نوح : 21 ـ 24.


(109)
ذلك سحائب اليأس في قلوبهم ويكفّوا عن دعوة الناس وينصرفوا عن هدايتهم.
    ولا شك أنّ هذا المعنى لا يناسب ساحة الأنبياء بنص القرآن الكريم ، لأنّه يستلزم أن يكون للشيطان سلطان على قلوب الأنبياء وضمائرهم ، حتى يوهن عزائمهم في طريق الدعوة والإرشاد ، والقرآن الكريم ينفي تسلل الشيطان إلى ضمائر المخلصين الذين هم الأنبياء ومن دونهم ، ويقول سبحانه : ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ ). (1)
    ويقول أيضاً ناقلاً عن نفس الشيطان : ( فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَّنَهُمْ أَجْمَعينَ * إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ). (2)
    وليس إيجاد الوهن في عزائم الأنبياء من جانب الشيطان إلاّ إغواءهم المنفي بنص الآيات.
    2 ـ أن يكون المراد من إلقاء الشيطان في أُمنية النبي هو إغراء الناس ودعوتهم إلى مخالفة الأنبياء ( عليهم السلام ) والصمود في وجوههم حتى تصبح جهودهم ومخططاتهم عقيمة غير مفيدة.
    وهذا المعنى هو الظاهر من القرآن الكريم حيث يحكي في غير مورد أنّ الشيطان كان يحض أقوام الأنبياء ( عليهم السلام ) على المخالفة ويعدهم بالأماني ، حتى يخالفوهم.
    قال سبحانه : ( يَعِدُهُمْ ويُمَنِّيهِم وَمَا يَعِدُهُمُ الشّيطانُ إلاّ غُرُوراً ). (3)
    1 ـ الحجر : 42 ، الإسراء : 65.
    2 ـ ص : 82 ـ 83.
    3 ـ النساء : 120.


(110)
    وقال سبحانه : ( وَقالَ الشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحَقِّ وَوعَدتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطان إِلاّأَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلومُوني وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ). (1)
    وهذه الآيات ونظائرها تشهد بوضوح على أنّ الشيطان وجنوده كانوا يسعون بشدة وحماس في حضّ الناس على مخالفة الأنبياء والرسل ، وكانوا يخدعونهم بالعدة والأماني ، وعند ذلك يتضح مفاد الآية ، قال سبحانه : ( وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلاّ إذا تمنى ( أي إذا فكّر في هداية أُمّته وخطّط لذلك الخطط ، وهيّأ لذلك المقدمات ) ألقى الشيطان في أُمنيّته ) ( بحض الناس على المخالفةوالمعاكسة وإفشال خطط الأنبياء حتى تصبح المقدمات عقيمة غير منتجة ).

3. ما معنى نسخه سبحانه ما يلقيه الشيطان ؟
    إذا عرفت هذا المقطع من الآية يجب أن نقف على مفاد المقطع الآخر منها وهو قوله سبحانه : ( فينسخ اللّه ما يلقي الشيطان ) وما معنى هذا النسخ؟
    والمراد من ذاك النسخ ما وعد اللّه سبحانه رسله بالنصر ، والعون والإنجاح ، قال سبحانه : ( إِنّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الحَياةِ الدُّنْيا ) (2) ، وقال سبحانه : ( كَتَبَ اللّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ) (3) ، وقال سبحانه : ( بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ ). (4)
    1 ـ إبراهيم : 22.
    2 ـ غافر : 51.
    3 ـ المجادلة : 21.
    4 ـ الأنبياء : 18.
مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: فهرس