مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: 371 ـ 380
(371)
صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وهم الذين يصفهم سبحانه بقوله : ( وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَ أَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ ) (1).
    فالهداية المطلقة والدعوة الواسعة والأُسوة التامة خاصة لقسم من الأنبياء وإن كان كل نبي داعياً وهادياً إلى الحلال والحرام ، ويرشد إلى ذلك انّ الخليل إنّما وصل إلى ذلك المقام ، بعد ما صار خليلاً ، والخلّة هي فراغ القلب من غير الله سبحانه بحيث لا يفعل صاحبها إلاّ ما فيه رضى الله سبحانه وتعالى ، وإليك متن الحديث : إنّ الله تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً ، وانّ الله اتّخذه نبياً قبل أن يتّخذه رسولاً ، وانّ الله اتّخذه رسولاً قبل أن يتّخذه خليلاً ، وانّ الله اتّخذه خليلاً قبل أن يتّخذه إماماً ، فلمّا جمع له الأشياء قال : ( إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً ). (2)
    فالإمامة نتيجة الخلّة وصيرورة النبي فارغاً من كل شيء سوى الله سبحانه ، وعند ذلك ، يكون إماماً مطلقاً يستدل به وأُسوة يقتدى به في المجالات الثلاثة : قولاً وفعلاً وتقريراً.
     تحليل النظرية
    وفيه : أوّلاً : فلأنّ هذه النظرية مبنية على ما استظهره من قوله سبحانه : ( وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) ، فاستظهر أنّ الأنبياء على قسمين : إمام وغيره ، بشهادة كلمة « من » ، لكن الاستظهار غفلة عن مرجع الضمير ، فالضمير يرجع إلى
    1 ـ الأنبياء : 73.
    2 ـ الكافي : 1 / 175 ، باب طبقة الأنبياء.


(372)
بني إسرائيل لا إلى الأنبياء ، قال سبحانه : ( وَ لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُنْ فِي مِرْيَة مِنْ لِقَائِهِ وَ جَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ * وَ جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَ كَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (1).
    ولأجل ذلك نرى أنّه سبحانه يصف إبراهيم ولوطاً وإسحاق ويعقوب أئمّة يهدون بأمره ، قال سبحانه : ( ونَجَّيْنَاهُ وَ لُوطًا إِلَى الأَرْضِ التي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ * وَ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَ يَعْقُوبَ نَافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ * وَ جَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (2).
    وعلى هذا فجعل الأنبياء على قسمين معتمداً على ما استظهر من الآية غير تام ، وإن كان أصل التقسيم صحيحاً على ما سيبيّن.
    وثانياً : فلماذا لا تكون الإمامة ذات مراتب ودرجات ومقولةً بالتشكيك ويكون الكل باعتبار انّ لهم نور الوحي والنبوة ، والعصمة والمصونية ، أئمّة يقتدى بهم ، وتخصيص الإمامة بجماعة خاصة منهم بلغوا القمّة في الطهارة والفضيلة يحتاج إلى دليل خاص ، فإنّ الإنسان المثالي إذا بلغ مقام العصمة يصبح أُسوة للناس ودليلاً في الحياة ، وإماماً في القول والعمل ، فالتشدّد والتزمّت في شرطية ترك الأولى في الإمامة ، غير واضح.
    نعم لو كان ما اقترفوه من الأعمال ، عصياناً صحّ القول بعدم كونهم أئمّة وأُسوة على وجه الإطلاق ، وأمّا اذاكان أمراً مباحاً وجائزاً شرعاً وإن كان الأولى تركه ، فلا وجه لإخراج المقترفين منهم عن كونهم أئمّة.
    1 ـ السجدة : 23 ـ 24.
    2 ـ الأنبياء : 71 ـ 73.


(373)
الملاك الثالث : كونه معلم الهداية عبر العصور
    إنّ هذه النظرية تتلخّص في كلمة : وهي انّ الإمامة الّتي جاءت في هذه الآية من خصائص الخليل ( عليه السلام ) ، ولا تعدوه إلى أشخاص آخرين ، لاختصاص ملاكها به من الأنبياء ، وهو كونه بين الأنبياء واقعاً في قمة الهداية ومعلماً للآخرين ، وانّ الذين جاءوا بعده ساروا على الطريق الّذي اختطه.
    ويظهر لك من الآيات الواردة في حقّه ، قال سبحانه : ( مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لاَ نَصْرَانِيًّا وَ لَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (1).
    ( إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هَذَا النَّبِىَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللهُ وَلِىَّ الْمُؤْمِنِينَ ) (2).
    فالآية الأُولى تجلّ إبراهيم عن أن يكون يهودياً أو نصرانياً ، وتصفه بأنّه كان حنيفاً مسلماً وما كان مشركاً ، وذلك لأنّ اليهودية والنصرانية عدلتا عن جادة التوحيد وامتزجتا بالشرك ، مضافاً إلى أنّ إبراهيم بعث قبل نزول الشريعتين.
    والآية الثانية تخص الأصناف الثلاثة بأنّهم أولى بإبراهيم ، فإنّ الأوّل هم الذين اتّبعوه في عصره وما بعد عصره حتّى ظهور النبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والصنف الثاني هو النبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، والثالث الذين آمنوا بالنبي محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأولوية الصنف الأوّل به لأجل كونهم من أُمّته والثاني والثالث لوجود الوحدة بين الخطين والتشابه بين المنهجين.
    نرى في بعض الآيات انّ الأمر أعظم من ذلك حيث يأمر سبحانه النبي
    1 ـ آل عمران : 67.
    2 ـ آل عمرن : 68.


(374)
الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) باتّباع طريقة إبراهيم ، وهي الطريقة الحنيفية ، وخصّ منها البراءة من الشرك والنزاهة من الوثنية حتّى يعرف الخليل ( عليه السلام ) بأنّه أبو الإسلام والمسلمين ، وانّه هو أوّل من وصف مشاة خط التوحيد بالمسلمين ، قال سبحانه : ( ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَ مَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) (1). ويقول أيضاً : ( وَ جَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَ مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَج مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ) (2).
    وهذه الآيات وغيرها تعرب عن إمامة إبراهيم عبر العصور والأدوار وانّه بطريقته المثلى وشريعته الحنيفية ونزاهته من ألوان الشرك في العقيدة والعمل صار مثالاً شاخصاً لجميع الأنبياء والمرسلين ، والشرائع السماوية من بدايتها إلى نهايتها الّتي تمت بشريعة النبي الأعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكأنّ الأنبياء في كل عصر يتّبعون منهجه ويخطون خطواته ويمشون على الخط الّذي مشى عليه ، ولأجل ذلك صار الخليل إماماً للناس ومثالاً للأُمم يتمثل به ويتخذ مناراً يقتدى به في القول والعمل.
     تحليل هذه النظرية
    لاشك انّ إبراهيم يعد من القمم بين الأنبياء وانّ له من الصفات الجليلة الّتي يذكرها القرآن ما ليس لغيره إلاّ أنّ تفسير ملاك الإمامة على النحو الّذي مر يوجب اختصاص الإمامة به من بين جميع الأنبياء والأولياء ولا تتعدى إلى غيره ، لأنّ الخصيصة الّتي نالها إبراهيم ( عليه السلام ) من جانب شريعته وطريقته حتّى صار علماً
    1 ـ النحل : 123.
    2 ـ الحج : 78.


(375)
ومناراً في حقول الشرائع والنبوّات أمر يختص به ، فلو كان ملاك الإمامة هو هذا ، يجب أن يكون هو الإمام وحده دون غيره مع أنّه ( عليه السلام ) طلبها لذريته فأُجيب بأنّ عهده سبحانه : ( لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ) مشعراً بأنّ غيرهم ينالونه ، فلو كان ملاك الإمامة كون الإنسان مناراً بين الأنبياء ، وشريعته علماً بين الشرائع لاختصت الإمامة به ، ولايناسب في المقام سؤلها للأولاد بما ذكر.
    وحصيلة الجواب : انّ ما ذكر من الفضيلة لبطل التوحيد أمر لاينكر على ضوء الآيات الّتي ذكرناها ، لكنّها لا تكون ملاكاً للإمامة بل يجب هناك شيء آخر وراءها يكون ملاكاً حتّى يصحّ طلبها لذريته وتصحّ الإجابة بنيل العدول منهم لها.

الملاك الرابع : كونه مفترض الطاعة
    هذه النظرية تتلخّص في أنّ الإمام في الآية هو الحاكم السائد على المجتمع ، والآخذ بيد الأُمّة إلى الكمال في الحياة الفردية والاجتماعية ، فيجب على الأُمّة امتثال أوامره وتوجيهاته في الحقول السياسية والاجتماعية والقضائية والعسكرية وغير ذلك ، ولا نقف على مدى صحة هذه النظرية إلاّ بعد الوقوف على معنى النبي والرسول في القرآن الكريم حتّى نعرف أنّ الإمام يشتمل على معنى لا يشتمل عليه اللفظان ، وعلى الأصحّ يشتمل منصب الإمامة على شيء لا يوجد في منصبي النبوة والرسالة فنقول :
    النبي ـ سواء أجعل بمعنى المطّلع على الغيب أو بمعنى المنبئ عن الغيب ـ إنسان مؤدّ عن الله بلا واسطة بشرية (1) ، وهذا الإنسان باعتبار اتصاله بالملأ
    1 ـ الرسائل العشر للشيخ الطوسي : 11.

(376)
الأعلى وكونه متلقياً للوحي ومطّلعاً عليه ومنبئاً عنه ، يسمّ نبياً ، وإذا كلّف بإبلاغ ما أُمر به وتجسيد ما أخبر به على صعيد الحياة فهو رسول ، ففي إطار النبوة ليس إلاّ قضية الاطّلاع على الغيب أو قدرة الإخبار عنه إلى الناس ولا يتعدى عنها كما أنّه في إطار الرسالة ، مأمور بالإبلاغ والبيان ولا يتعدى عن هذه الوظيفة ، وهذا هو الموضوع الهام الّذي فرغنا منه في الجزء الرابع من كتابنا : مفاهيم القرآن ولا حاجة للإعادة. (1)
    ولكن القول الّذي نركّز عليه هو انّ الرسول المأمور بالإبلاغ ليس له في هذا المجال أمر ولا نهي ولا إكراه ولا سيطرة ، بل تتلخص وظيفته في التذكير والتبليغ ، قال سبحانه : ( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِر ) (2) ويقول سبحانه : ( فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ ) (3) ، ففي هذا المجال تتجلّى وظيفة الرسالة في بيان الحلال والحرام والمشروع والممنوع وإراءة طرق الصلاح والفلاح ، فلو صحّ في تبيين الحقيقة التمثيل بشيء أدون من الممثّل فنقول : إنّ مثل الرسول في توجيهاته الرسالية أشبه بمستنبط الأحكام من الكتاب والسنّة وإبلاغها للناس ، فإذا امتثل الناس بما يقول فقد امتثلوا إلى المشرّع الأعظم وأطاعوه ، وإن لم يقوموا بأداء ما يقول فقد خالفوا الشارع وعصوه ، وعلى هذا الضوء فالناس في صلاتهم وصومهم وحجهم وزكاتهم مطيعون لله سبحانه فقط وليس للرسول أيّ طاعة إلاّ بضرب من العناية ، كما أنّ للمفتي والمجتهد طاعة مثله ، فحين قال سبحانه : ( وَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ ) (4) ، فهو يرشد إلى
    1 ـ لاحظ الجزء الرابع من هذه الموسوعة : 317 ـ 369.
    2 ـ الغاشية : 21 ـ 22.
    3 ـ المائدة : 92.
    4 ـ النساء : 64.


(377)
هذا النوع من الإطاعة ، فالمطاع هو الله سبحانه حقيقة والنبي مطاع بضرب من العناية إذ المفروض انّه ليس للرسول أيّ تشريع وأيّ تقنين ولا أمر ونهي فلا يكون له طاعة.

إمامة الرسول
    هذا إذا قصرنا النظر على مجالي النبوة والرسالة ، ولكنّه سبحانه لما كساه ثوب الإمامة بعد أن ابتلاه ونصبه لمقام الإمامة وصار عند ذلك حاكماً سائداً على المجتمع ، رائداً للأُمّة ، قائماً بإرشادهم في الحقول المختلفة سياسياً وعسكرياً ...
    فعند ذلك كان الرسول في مقام التنفيذ ذا أمر ونهي وأخذ ورد وتعيين وعزل إلى غير ذلك من الأُمور الّتي يمارسها الرسول باعتبار كونه حاكماً وسائساً ومؤدّباً للأُمّة وقائداً للمجتمع وإماماً للمؤمنين.
    ولا ريب انّه ليس لأحد ولاية على أحد وانّ الناس كأسنان المشط ليس لأحدهم حق حكم على الآخر ، بل الولاية المطلقة لله سبحانه وتعالى ، فهو باعتبار كونه خالقاً للكون ومدبراً لما فيه ، له حق الحكم والطاعة ، يقول سبحانه : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) (1).
    وهذا ما يعبّر عنه بالتوحيد في الحاكمية والطاعة لا يشاركه فيها غيره ، لكن مع الاعتراف بذلك لا نعني من عنوان انحصار الحاكمية ( بالله ) حصر الإمرة بالله بأن يتولّى سبحانه الإمرة على العباد ، فالولاية وحق الحاكمية بالأصالة حق لله سبحانه ، ولكن الإمرة لخيرة عباده يتصدّون لها بإذنه.
    1 ـ يوسف : 40.

(378)
    وإن شئت قلت : إنّ المقصود من قوله سبحانه : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ للهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ ) (1) ، وقوله : ( أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ) (2) ، وقوله سبحانه : ( لَهُ الْحَمْدُ فِي الأُولَى وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ) (3) ، هو حصر الولاية وحق الحاكمية لا الإمرة والتصدّي لنظام البلاد ، إذ يستحيل ممارسة الحكم من الله تعالى بصورة مباشرة ، ولأجل ذلك نجد جمعاً من الأنبياء تولّوا منصة الولاية بإذن الله وأخذوا بتدبير شؤون الحياة الاجتماعية للإنسان ، ففي هذا الصدد يقول سبحانه : ( يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ) (4).
    فالرسول الّذي يحظى بمقام تنفيذ الولاية الإلهية في المجالات المختلفة بين الناس ، هو الإمام المفترضة طاعته ، ولا يحظى به إلاّ ثلة من المصطفين الأخيار ، وإليك الشواهد القرآنية الّتي تدل بوضوح على أنّ ملاك الإمامة في هذه الآية ـ لا مطلقاً ـ هو كونه مثالاً في القول والعمل ، وعلى الأُمّة طاعته في كل ما يأمر وينهى ويبرم وينقض ، فهو أُسوة في الحياة وقدوة للجميع.

الشواهد القرآنية على تفسير الإمامة بافتراض الطاعة
    إنّ تفسير ملاك الإمامة بافتراض الطاعة والقيادة الإلهية الحكيمة شيء تؤيده الآيات التالية بل تثبته.
    1 ـ الأنعام : 57.
    2 ـ الأنعام : 62.
    3 ـ القصص : 70.
    4 ـ ص : 26.


(379)
    روى بعض المفسرين أنّ كعب بن الأشرف خرج في سبعين راكباً من اليهود إلى مكة بعد وقعة أُحد ، ليحالفوا قريشاً ضد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فنزل كعب على أبي سفيان فأحسن مثواه ، ونزلت اليهود في دور قريش ، فقالت قريش : إنّكم أهل كتاب ، ومحمد صاحب كتاب ، فلا نأمن من أن يكون هذا مكراً منكم ، فإن أردت أن نخرج معك فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما ، ففعل ذلك.
    ثم قال أبو سفيان لكعب : إنّك امرؤ تقرأ الكتاب وتعلم ونحن أُميّون لا نعلم ، فأيّنا أهدى طريقاً وأقرب للحق نحن أم محمد؟
    قال كعب : اعرضوا عليّ دينكم ، فلمّاعرض أبو سفيان عليه دينه ، قال كعب : أنتم والله أهدى سبيلاً ممّا عليه محمد.
    فأنزل الله سبحانه الآيات التالية :
    ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً* ... أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ) (1). (2)
    توضيح الاستدلال : أنّه سبحانه ردّ على قولهم ( هَؤُلاَءِ ( المشركون ) أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ) بوجوه ثلاثة :
    الأوّل والثاني : يستفادان من قوله سبحانه : ( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لاَ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ) ، فإنّ « أم » بحكم كونها متصلة تدلّ على وجود معطوف
    1 ـ النساء : 51 ـ 54.
    2 ـ مجمع البيان : 2 / 59 ، وغيره.


(380)
عليه محذوف ، مثل :
    1. « أَلَهم علم في كل ما حكموا به من حكم » ثم قال :
    2. ( أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ ).
    وعلى ذلك فعطف على ذلك المقدر قوله : أم لهم نصيب من الملك ثم أجاب بجواب ثالث.
    3. ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ).
    فيؤوّل معنى الآية وجوابه سبحانه عنهم إلى شقوق ثلاثة :
    الف. ألهم حق الحكم في كل شيء حتى في أنّ المشركين أهدى من الذين آمنوا؟
    ب. أم لهم نصيب من الملك الذي أنعم الله به على نبيّه ، ولو كان لهم نصيب من الملك لم يؤتوا الناس حتى أقل القليل الّذي لا يعتد به لبخلهم وسوء سريتهم ، وهذا يظهر من قوله سبحانه : ( قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنْفَاقِ ) (1).
    ثم عاد سبحانه يبيّن أساس قضائهم وحكمهم بكون المشركين أهدى من الذين آمنوا وقال :
    ج. ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ ).
    فبيّن أنّ أساس حكمهم بكون المشرك أهدى من الموحّد هو الحسد للموحّد وهو النبي ، وبذلك تبيّن أنّ المراد من الناس المحسودين هو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وإطلاق لفظ « النّاس » عليه ، إمّا لأجل كونه في وحدته أُمّة ، كما كان إبراهيم
    1 ـ الإسراء : 100.
مفاهيم القرآن ـ جلد الخامس ::: فهرس