( وَ لَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِاللّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَ كَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَاعَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الكَافِرِينَ ) ( البقرة/89 ). روى الطبرسي عن معاذبن جبل ، و بشربن البراء : إنّهما خاطبا معشر اليهود وقالا لهم : اتّقوا اللّه وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد و نحن أهل الشرك ، وتصفونه و تذكرون أنّه مبعوث ، فقال سلام بن مسلم أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه ، ما هو بالذي كنّا نذكر لكم ، فنزلت هذه الآية (1). و عن الإمام جعفر الصادق ( عليه السلام ) أنّه لما كثر الحيّان ( الأوس والخزرج ) بالمدينة ، كانوا يتناولون أموال اليهود ، فكانت اليهود تقول لهم : أمّا لو بعث محمد لنخرجنّكم من ديارنا و أموالنا ، فلمّا بعث اللّه محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) آمنت به الأنصار ، و كفرت به اليهود ، و هو قوله تعالى : ( وَ كَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ) (2). و بالرغم من أخذ الميثاق من الاُمم ، و بالرغم من تعرّف تلك الاُمم على النبي الخاتم ، عمد أصحاب الأهواء منهم إلى كتمان البشائر به ، و إخفاء علائمه ، وسماته الواردة في كتبهم كما يقول سبحانه : ( اِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا اَنْزَلَ اللّهُ مِنَ الكِتَابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً اُولئكَ مَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ اِلاَّ النَّارَ وَ لاَيُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَ لاَيُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذَابٌّ اَلِيمٌّ ) ( البقرة/174 ). و قال سبحانه : ( اِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا اَنْزَلْنَا مِنَ البَيِّنَاتِ وَ الهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَاهُ لِلنَّاسِ فِى الكِتَابِ اُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) ( البقرة/159 ). و المعنيّ بالآية نظراء كعب بن الأشرف و كعب بن أسد و ابن صوريا و غيرهم
1 ـ مجمع البيان ج1 ص158. 2 ـ تفسير العياشي ج1 ص 50.
(22)
من علماء اليهود و النصارى الذين كتموا أمر محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونبوّته و هم يجدونه مكتوباً في التوراة و الإنجيل مثبّتاً فيهما. قال (1) العلاّمة الطباطبائي : المراد بالكتمان و هو الإخفاء أعمّ من كتمان أصل الآية و عدم إظهارها للناس ، أو كتمان دلالتها بالتأويل ، أو صرف الدلالة بالتوجيه كما كانت اليهود تصنع ببشارات النبوّة ذلك فما يجهله الناس لايظهرونه ، و ما يعلم به الناس يؤوّلونه بصرفه عنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (2). و قال سبحانه : ( وَ إِذْ اَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ اُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لاَتَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ ). و الضمير في « لتبيّننّه » إمّا عائد إلى النبي الخاتم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المفهوم من سياق الآية ، أو إلى الكتاب المذكور قلبه ، و على كل تقدير يدخل في الآية ، بيان أمر النبي لأنّه في الكتاب ، و الظاهر أنّ الآية مطلقة تعمّ كل ما يكتمونه من بيان الدين و الأحكام و الفتاوى و الشهادات.
النبي الأكرم و دعاء الخليل أمر سبحانه إبراهيم الخليل بتعمير بيته ، و قدقام الخليل بما اُمر ، و بمساهمة فعليّة من ابنه « إسماعيل » و قدحكى سبحانه دعاءه عند قيامه بهذا العمل و قال : ( وَ إِذْ يَرْفَعُ اِبْرَاهِيمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَيْتِ وَ اِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا اِنَّكَ اَنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ * رَبَّنَا وَ اجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ وَ مِنْ ذُرِيَّتِنَا اُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ اَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا اِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ اِنَّكَ اَنْتَ العَزِيزُ1 ـ مجمع البيان ج1 ص195. 2 ـ الميزان ج1 ص 394.
(23)
الحَكِيمُ ) ( البقرة/127 ـ 129 ).
فقد دعا إبراهيم لذرّيته من نسل إسماعيل القاطنين في مكّة و حواليها ، ولميبعث سبحانه من تتوفّر هذه الأوصاف الواردة في الآية من تلاوة الآيات و تعليم الكتاب و الحكمة و التزكية سوى النبي الأكرم محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ). و الآية تدلّ على أنّ إبراهيم و إسماعيل دعيا لنبيّنا بجميع شرائط النبوّة لأنّ تحت التلاوة الاداء ، و تحت التعليم البيان ، و تحت الحكمة السنّة ، و دعوا لاُمّته باللطف الذي لأجله تمسّكوا بكتابه و شرعه فصاروا أزكياء ، و بما أنّ المرافق والمشارك في الدعاء مع إبراهيم هو ابنه ، فيجب أن يكون النبي من نسل إبراهيم من طريق ابنه ، و لم يكن في ولد إسماعيل نبيّ غير نبيّنا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) سيّدالأنبياء. و قداستجاب اللّه سبحانه دعاء الخليل و ابنه إذ بعث في ذرّيته رسولاً و قال : ( لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ اِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ اَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَ الحِكْمَةَ وَ اِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلاَل مُبِين ) ( آل عمران/164 ). و قال تعالى : ( هُوَ الَّذِى بَعَثَ فِى الاُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَ الحِكْمَةَ وَ اِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِى ضَلاَل مُبِين ) ( الجمعة/2 ). و لقد نقَّب علماء الإسلام في العهدين ( التوراة و الإنجيل ) و جمعوا البشارات الواردة فيهما على وجه التفصيل ، و من أراد الوقوف عليها فليرجع إلى الكتب المعدّة لذلك (1). و نحن نعرض عن نقل تلكم البشائر في هذه الصحائف لأنّ نقلها يوجب الاسهاب في الكلام و الخروج عن وضع المقال.
1 ـ مثل أنيس الأعلام في نصرة الإسلام لفخر الاسلام الشيخ محمد صادق ، في ستة أجزاء واظهار الحق تأليف الشيخ رحمة اللّه الهندي و هو كتاب ممتع ، و الهدى إلى دين المصطفى تأليف الشيخ العلاّمة محمد جواد البلاغي ، و في كتاب بشارات العهدين غنى و كفاية.
إنّ الإنسان مهما بلغ من الكمال لايستطيع أن يجرّد نفسه و فكره ، و منهجه الإصلاحي عن معطيات بيئته ، فهو يتأثّر عن لاشعور بثقافة قومه ، و حضارة موطنه ، و لكن إذا راجعنا تفكير إنسان و شخصيته فوجدناها منقطعة عن تأثيرات الظروف التي نشأ فيها ، و مباينة لمقتضياتها ، بل كانت على النقيض منها ، فتكشف أنّ لماجاء به من التشريع و التقنين و لما قدّمه إلى اُمّته من مبادئ الإصلاح خلفيّة سماويّة غير خاضعة لثقافة قومه ، و تقاليد قبيلته. و هذا نجده في ما حمله رسول الإسلام إلى قومه و إلى البشرية جمعاء من عقائد و أخلاق و تشريعات. و للوقوف على هذه الحقيقة نقدّم عرضاً خاطفاً عن حياة العرب في عصره قبل ميلاده و بعده ، و من المعلوم أنّ الإسهاب في ذلك يتوقّف على الغور في التاريخ والسيرة و هو خارج عن هدفنا ، بل نقدّم موجزاً ممّا يذكره القرآن عن حياتهم المنحطّة البعيدة عن الحضارة ، و ستقف أيّها القارئ الكريم من خلال ذلك على أنّ الذي جاء به رسول الإسلام الكريم ، من عقائد و أخلاق و سنن ، تضاد مقتضيات ظروفه ، فهو بدل أن يؤكّد تفكير قومه و طقوس قبيلته و تقاليد وسطه الذي كان يعيش فيه ، بدأ يكافحها و يفنّدها بالإسلوب المنطقي. لقدنشأ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بين قومه و قد كانوا منقطعين عن الأنبياء و برامجهم حيث لم يبعث فيهم نبيّ ، قال سبحانه في هذا الصدد :
(26)
( وَ لَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِير مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكرُونَ ) ( القصص/46 ). يقول تعالى : ( اَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا آتَاهُمْ مِنْ نَذِير مِنْقَبْلِكَلَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ) ( السجدة/3 ). و قال سبحانه : ( لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ ) ( يس/6 ). و هذه الآيات تعرب من أنّ اُمّ القرى و ما حولها لم يبعث فيها أي بشير أو نذير ، و الآيات تعني هذه المناطق و القاطنين فيها ، و لاتعني العرب البائدة التي بعث فيها أنبياء عظام كهود و صالح و شعيب ، و لاعامّة المناطق في الجزيرة العربيّة و لاعامّة القبائل من القحطانيين و العدنايين ، و قدكان فيهم بشير و نذير كخالدبن سنان العبسي و حنظلة على ما في بعض الروايات و الأخبار. و من المعلوم أنّ الاُمّة البعيدة عن تعاليم السماء خصوصاً في العصور البعيدة التي كانت المواصلات فيها ضعيفة بين الاُمم ، و كانت عقلية البشر في غالب المناطق قاصرة عن تنظيم برنامج ناجح للحياة الإنسانية ، فحياتهم لاتتعدّى عن حياة الحيوانات بل الوحوش في الغابات ، ولايكون لهم من الإنسانية شيء إلاّ صورتها ، ولا من الحضارة إلاّ رسمها. و هذا هو القرآن يصفهم بأنّهم كانوا على شفا حفرة من النار ، ولم يكن بين سقوطهم واقتحافهم فيها إلاّ خطوات ودقائق بل لحظات لولا أنّ النبيّ الأكرم أنقذهم من النار ، قال تعالى : ( وَاعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَميعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نعمَةَ اللّهِ علَيْكُم اِذْ كُنْتُمْ اَعداءً فَاَلَّفَ بيْنَ قُلُوبِكُمْ فَاَصْبَحْتُمْ بِنِعْمتهِ إِخْوانَاً وَكُنتُمْ علَى شَفَا حُفْرَة مِنَ النَّارِ فَاَنْقَذكُمْ مِنْهَا ) ( آل عمران/103 ).
(27)
وقد تضمّن قوله سبحانه : ( وَاعْتصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ ) استعارة بليغة حيث صوّر قوم النبيّ كالساقطين في قعر هوَّة سحيقة لا يقدورن على الخروج ، وفي يد النبيّ حبل ألقاه في قعر تلك الهوّة يدعوهم إلى التمسّك به حتّى يستنقذهم من الهلكة. هذا ما يصف به القرآن الكريم بيئة النبيّ وعقلية عشيرته ، على الوجه الكلّي ، ولكنّه يصفهم في الآيات الأُخر بالإنحطاط والإنهيار بشكل مفصّل. وإليك بيان ذلك في ضوء الآيات القرآنية.
1 ـ الشرك أو الدين السائد كان الدين السائد في العرب في الجزيرة العربية عامّة ، ومنطقة أُمُ القرى خاصّة ، هو الشرك باللّه سبحانه ، فهم وإن كانوا موحّدين في مسألة الخالقيّة ، وكان شعارهم هو أنّ اللّه هو الخالق للسماوات والأرض ، ولكنّهم كانوا مشركين في المراحل الاُخرى للتوحيد. أمّا كونهم موحّدين في مجال الخالقيّة فلقوله سبحانه : ( وَلئنْ سأَلْتَهُم مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ والأَرضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) ( لقمان/25 ) (1). وأمّا كونهم مشركين في المراتب الاُخرى للتوحيد فيكفي في ذلك كونهم مشركين في أمر الربوبية ( تدبير العالم ) هو أنّ الوثنية دخلت مكّة وضواحيها ، بهذا اللون من الشرك ( الشرك في الربوبية ). روى ابن هشام عن بعض أهل العلم أنّه قال : « كان عمرو بن لحى أوّل من أدخل الوثنية إلى مكّة ونواحيها ، فقد رأى في سفره إلى البلقاء من أراضي الشام اُناساً يعبدون الأوثان وعندما سألهم عمّا يفعلون ، قالوا : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها ، فتمطرنا ، ونستنصرها ، فتنصرنا ، فقال لهم : أفلا تعطونني منها فأسير بها إلى أرض
1 ـ و لهذا المضمون آيات اُخر لاحظ العنكبوت/61 ، الزمر/38 ، و الزخرف/9و78.
(28)
العرب فيعبدوه ، فاستصحب معه إلى مكّة صنماً باسم « هبل » ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة ودعى الناس إلى عبادتها » (1).
وأمّا الشرك في العبادة : فقد كان يعمّهم قاطبة إلاّ أُناساً لا يتجاوز عددهم عن عدد الأصابع ، فالأغلبيّة الساحقة كانوا يعبدون الأصنام مكان عبادته سبحانه زاعمين أنّ عبادتهم تقرّبهم إلى اللّه ، قال سبحانه : ( والَّذينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ اَوليَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إلاّ لِيُقَرِّبونَا اِلى اللّهِِ زُلفى ا ِنَّ اللّهَ يَحُكمُ بَيْنَهُمْ فِيمَا هُمْ فيهِ يَختلِفُونَ ) ( الزمر/3 ). والقرآن شدّد النكير على فكرة الشرك أكثر من كل شيء ، وفنّدها بأساليب علميّة وعقليّة ، ولقد صوّر واقع الشرك ووضع المشرك ببعض التشبيهات البليغة التي تقع في النفوس بأحسن الوجوه قال سبحانه : ( مثَلُ الَّذينَ اتَّخذُوا منْ دُونِ اللّهِ اَولياَء كَمثَلِ الَعنكَبُوتِ اتَّخذَتْ بيْتاً واِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكبوتِ لوْ كانُوا يَعلمُونَ ) ( العنكبوت/41 ). وقال تعالى : ( ومَنْ يُشرِكْ باللّهِ فَكَأنَّما خَرَّ منَ السَّماءِ فَتَخْطفُهُ الطَّيرُ اَوْ تَهْوِى بهِ الرِّيحُ في مَكان سَحيق ) ( الحجّ/31 ). فالمعتمد على الحجر ، والخشب الذي لا يبصر ، ولا يسمع ، ولا ينفع ، ولايضرّ ، كالمعتمد على بيت العنكبوت الذي تخرقه قطرة ماء ، وتحرقه شعلة نار وتكسحه هبّة ريح.
2 ـ إنكار الحياة بعد الموت الإعتقاد بالحياة بعد الموت هو الرصيد الكامل للتديّن ، وتطبيق العمل على الشريعة ، ولكن العرب كانت تنزعج من نداء الدعوة إلى الإيمان بها ، لأنّ الإيمان
1 ـ السيرة النبويّة لابن هشام ج1 ص79.
(29)
بالحياة المستجدة ، يستدعي كبح جماح الشهوات ، ووضع السدود والعوائق دون المطامح و المطامع ، وأين هذا من نزعة الاُمّة المتطرّفة التي لا تهمّها إلاّ غرائزها الطاغية ورغباتها الجامحة.
وبما أنّ ذكر الموت والحياة بعده يلازمان الحساب والجزاء ، لهذا كان العرب يقابلون النبيّ بالسبّ والشتم واتّهامه بالجنون ، لأجل إنبائه عن أمر غير مقبول ، وحادث غير معقول ، قال سبحانه : ( وَقَالَ الَّذينَ كَفرُوا هَلْ ندُلُّكُمْ عَلى رجُل يُنبِّئكُم إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمزَّق إِنَّكُم لَفِي خَلْق جديد * افتَرَى عَلى اللّهِ كذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بل الَّذينَ لا يُؤمِنُونَ بالآخِرَةِ فِي العَذَابِ والضَّلالِ البَعِيدِ ) ( سبأ/7 ـ 8 )
3 ـ عقيدتهم في الملائكة والجنّ ومن عقائدهم : إنّ الملائكة بنات اللّه سبحانه ، وفي الوقت نفسه كانوا يكرهون البنات لأنفسهم ، يقول سبحانه : ( اَلِرَبِّكَ البنَاتُ وَلَهمُ البَنُون * اَمْ خلَقْنَا الملاَئكَةَ إنَاثاً وَهُمْ شَاهِدونَ * اَلا إنَّهُمْ منْ اِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَد اللّهُ وإنَّهُمْ لكَاذِبُون * اصْطَفَى البَنَاتِ عَلَى البَنينَ * مَا لَكُم كَيْفَ تَحكُمُونَ ) ( الصافّات /149 ـ 154 ). والآية ترد عليهم وتفنّد عقيدتهم بوجوه : 1 ـ إنّ تصوير الملائكة بناتاً للّه سبحانه يستلزم تفضيلهم عليه سبحانه ـ حسب عيقدتهم ـ لأنّهم يفضلّون البنين على البنات ، ويشمئزون منهنّ ، ويئدونهنّ ، فكيف تجعلون البنات للّه وإليه أشار بقوله سبحانه : ( اَلِرَبِّكَ البَنَاتُ وَلَهُمُ البَنُونَ ) ؟. 2 ـ إنّهم يقولون شيئاً لم يشاهدوه ، فمتى شاهدوا الأُنثويّة للملائكة ؟ وإليه
(30)
يشير بقوله : ( اَمْ خَلَقْنَا المَلائِكَةَ إناثَاً وَهُمْ شَاهِدُونِ ) ؟.
3 ـ إنّ توصيف الملائكة بناتاً للّه يستدعي أنّه سبحانه ولدهنّ وهو منزّه عن الإيلاد والاستيلاد ، وإليه يشير قوله : ( لَيقُولُونَ ولَدَ اللّهُ واِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ). ثمّ إنّهم كانوا يتخيّلون وجود نسب بين اللّه والجنّ ، والوحي يحكي ذلك على وجه الإجمال قوله سبحانه : ( وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وبيْنَ الجنَّةِ نَسَباً ولَقدْ عَلِمَتْ الجنَّةُ إنّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ) ( الصافات/158 ). وقد ذكر المفسّرون وجوهاً مختلفة لتبيين ذلك النسب أظهرها بالاعتبار أنّهم قالوا : صاهر اللّه الجنّ فوجدت الملائكة تعالى اللّه عن قولهم. (1)
4 ـ سيادة الخرافات إنّ الأمّة البعيدة عن تعاليم السماء ، وهداية الأنبياء يعيشون غالباً في خِضمِّ الخرافة ، ويستسلمون في مجال العقيدة إلى الأساطير والقصص الخرافية ، وكذلك كانت الأمّة العربية عصر نزول القرآن ، فقد كانت غارقة في الخرافات والأساطير ، وقدجمع « الآلوسي » تقاليدهم الإجتماعية ، وطقوسهم الدينيّة في كتابه « بلوغ الارب في معرفة أحوال العرب » حيث يجد القارئ فيها تلاًَّ من الأوهام والخرافات ، وقد ذكر القرآن الكريم نماذج من عقائدهم ، ونحن نشير إلى بعض ما وقفنا عليه في القرآن. أ ـ كانت العرب في عصر حياة النبي قبل البعثة تحكم على بعض الأصناف من الأنعام بأحكام خاصّة تنشأ عن نيّة التكريم وقصد التحرير لها ، غير أنّ تلك الأحكام كانت تؤدِّي إلى الإضرار بالحيوان ، وتلفه وموته عن جوع وعطش ، وقد حكى سبحانه تلك الأحكام عنهم وقال : ( مَا جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَة ولا سَائِبَة وَلا وصِيْلة وَلا حِام ولَكنَّ1 ـ مجمع البيان ج4 ص46.