للحيلولة دون بلوغ أهدافه التي كان يطمح لإقرارها وتثبيت اُسسها في برهة زمنية قياسية ، فكانت لهم ردود فعل مثبّطة نشير إليها.
قد وقفت على الدوافع الروحية الباعثة على مخالفة النبي الأكرم غير أنّها تبلورت في الاُمور التالية : 1 ـ إكالة التهم للنبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . 2 ـ الاستنكار والاحتجاج بالاُمور الواهية. 3 ـ الاقتراحات الباطلة كشروط لقبول الرسالة. 4 ـ ايقاع الأذى على النّبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأصحابه. وإليك بيان هذه الاُمور واحداً تلو الآخر حسبما يستفاد من آيات القرآن الكريم :
كان اسلوب تحطيم الشخصيات عن طريق إكالة التّهم إليهم أقدم حربة بيد الجهّال يطعنون بها على المصلحين ، وقد إستعملها مشركوا عصر الرسالة في بدء الدعوة ولم تكن الفرص تسنح لهم بقتله واغتياله ، فحاولوا إغتيال شخصيّته ليسقطوه عن أعين الناس ، فإنّ نجاح المصلح في نشر دعوته يكمن في اتّسامه بالقداسة والطهارة والعقلية الرزينة ، فلو افتقد المصلح تلك ـ السمات عن طريق الاتّهام بما يضادها ـ ذهب سعيه أدراج الرياح وأصبحت جهوده سدى ، فلأجل ذلك إختارت قريش القيام بشن حرب نفسيّة ضروس لا هوادة فيها للحطّ من قيمته وكرامته والحيلولة دون نفوذ كلمته. ولكنّهم مهما بذلوا من جهود لإنجاح مؤامراتهم لم تتجاوز تهمهم عن الكهانة والسحر والجنون وأشباهها لأنّ النّبي قد كان في الطهارة النفسيّة والأمانة المالية وسائر الصفات الكريمة على حدّ حال دون إلصاق تهم اُخرى به ككونه خائناً سارقاً قاتلاً غير غفيف ، وهذا أحد الدلائل البارزة المشرقة على أنّه كان فوق التهم المشينة المزرية ، وكانت حياته طيلة أربعين سنة مقرونة بالصلاح والفلاح والأمانة ولو كانت هناك أرضية صالحة لتوصيف النبيّ بها ، لما أمسكوا عنها. نعم قام العدو باتّهامه باُمور يشكل اثباتها كما يشكل نفيها عن المتهم ، وهذه هي الطريقة المألوفة عند بني الشياطين لمس كرامة المصلحين حيث يشنّون عليهم بمثل هذه التّهم لغاية إسقاطهم عن أعين النّاس. يقول سبحانه : ( كَذلَك مَا اَتى الّذِينَ مِنْ قَبْلِهم مِنْ رَسُول إلاّ قَالُوا سَاحِرٌ اَوْ مجْنُونٌ ) ( الذاريات/52 ).
هكذا كانت سيرة الأعداء في طرد المصلحين عن الساحة. ثمّ إنّ التّهم الّتي حكاها القرآن عن لسان أعداء النبيّ تتلخّص في العناوين التالية : 1 ـ الكهانة : وهي في اللغة عبارة عن اتّصال الإنسان بالجن ليتلقّى منهم أنباء الماضين وأخبار اللاّحقين ومن خلالها يتمكّن من التنبّؤ بالمستقبل ، يقول سبحانه مشيراً إلى تلك التّهمة وردّها : ( وَلا بِقَولِ كَاهِن قَليلاً مَا تَذَكّرُونَ ) ( الحاقة/42 ). 2 ـ السحر : وهو قوّة نفسانيّة للساحر يقدر معها على إنجاز اُمور خارقة للعادة مموّهة ، ومن تلك الاُمور التفريق بين المرء وزوجته والوالد وولده بل بين أفراد العائلة كافّة. قال سبحانه : ( وَعَجِبُوا اَنْ جَاءهُم مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الكَافِرُونَ هَذا سَاحِرٌ كَذّابٌ ) ( ص/4 ). 3 ـ المسحورية : والمراد منه تأثّره بسحر الآخرين ، وإنّ هناك ساحراً أو سحرة سحروا النبيّ و أثّروا فيه. يقول سبحانه حاكياً عن المشركين : ( اِنْ تَتَّبِعُونَ إلاّ رَجُلاً مَسْحُوراً ) ( الفرقان/8 ). ثمّ يردّه بقوله سبحانه : ( انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبوا لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيْعُونِ سَبيِلاً ) ( الفرقان/9 ) والمراد من قوله ( ضَرَبوا لَكَ الأَمْثَالَ ) أي وصفوك بالمسحورية ، وقد اتّهم بنفس تلك التهمة النبيّ صالح. قال سبحانه حاكياً عن أعدائه : ( قَالُوا اِنّما اَنْتَ مِنَ المُسَحّرِينَ ) ( الشعراء/153 ) وممّا يجدر ذكره أنّ اتّهام النبيّ بالمسحورية ليست تهمة مستقلّة تغاير الجنون جوهراً بل هي نفس التهمة ولكنّها صيغت بلفظ أكثر أدباً ، وهذه شيمة الدهاة حيث يمزجون السم بالعسل. 4 ـ الجنون : ومفهومه غني عن البيان وقد مضى أنّها تهمة شائعة تُلصق بالمصلحين من جانب خصومهم من غير فرق بين النبيّ وغيره ، وبين نبيّنا وسائر الأنبياء كما عرفت (1). قال سبحانه نقلاً عن المشركين : ( وَقَالُوا يَا اَيُّهَا الّذَي نُزّلَ عَلَيْهِ الذّكْرُ إنّكَ لَمَجنُونٌ ) ( الحجر/6 ) ، قال تعالى : ( وَمَا صَاحِبُكُم1 ـ الذاريات/52.
بِمَجْنُون ) ( التكوير/22 ) ، وقال عزّ من قائل : ( فَذَكّر فَمَا اَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ بِكاهِن وَلا مَجْنُون ) ( الطور/29 ) والمبرّر لهم بوصفه بالجنون ومؤاخذتهم له ، وقوفه لوحده في وجه الرأي العام المتمثّل في الشرك. والسذّج من النّاس يصفون من يتبنّى الفكر الذي لا يوافقه عليه الرأي العام وهو يريد تطبيقه في المجتمع ، بأَنّه مجنون لا يعرف قدر نفسه ومنزلته وسوف يهدر دمه لا محالة.
ما أسخف هذه التهم إذ كيف يتّهمون من هو أرجحهم عقلاً وأبينهم قولاً منذ ترعرع إلى أن بلغ أشدّه بالجنون والكهانة مضافاً إلى ما في هذا من التناقض والإضطراب ، فإنّ الكهنة كانوا من الطبقة العليا بين الناس يرجع إليهم القوم في المشاكل والمعضلات وأين هو من الجنون ؟ فكيف جمعوا بين كونه كاهناً ومجنوناً ؟ ولقد لمسنا ذلك في حياتنا القصيرة في مجتمعنا ورأينا كيف رمي رجال الإصلاح بنظائر هذه التهم وما ذلك إلاّ لأنّهم قاموا في وجه المستعمرين والناهبين لثروة أقطار العالم الإسلامي ، فما كان نصيبهم جرّاء مقاومتهم تلك ، إلاّ اتّهامهم بالجنون والتدهور العقلي ، والغربة عن الواقع والحياة. 5 ـ التعلّم من الغير : إنّ أعداء النبيّ من قريش وغيرهم وقفوا على مدى عظمة تعاليمه وسموّها ، ولكن الحالة النفسية قد صدّتهم عن تصديق قوله والإذعان برسالته الإليهة وانتسابه إلى الوحي والسماء ، فقاموا بتزوير آخر وهو انّه مُعَلّم ، قد تلقّى تعاليمه من غيره. يقول سبحانه : ( وَقدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُبينٌ * ثُمّ تَوَلُوا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلّمٌ مَجْنُونٌ ) ( الدخان/13و14 ). وأمّا من هو المعلّم الذي كان قد علّم النبي وغذّاه بتلك المبادئ والقيم فلم يذكروه ، ولكن إقتران هذه التهمة بتهمة الجنون يدلّ على أنّ المعلّم المزعوم هو الجن فهو عن طريق صلته بهم تلقّى رسالته عنهم ـ وبالتالي ـ اُصيب في عقله فصار معلّماً مجنوناً بزعمهم. وهناك إحتمال آخر وهو أنّه تلقّى مبادئه عن بشر آخر ، وقد اُشير إليه في قوله
(145)
سبحانه : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِى يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِىٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِىٌّ مُبِينٌ ) ( النحل/103 ).
قال ابن عباس : قالت قريش : إنّما يعلّمه بلعام ( و كان قينا بمكّة روميّاً نصرانياً ) و قال الضحّاك : أرادوا به سلمان الفارسي (1) قالوا إنّه يتعلّم القصص منه ، وقال مجاهد و قتاده : أرادوا به عبداً لبني الحضرمي روميّاً يقال له يعيش أو عائش صاحب كتاب ، أسلم و حسن إسلامه ، و قال عبد اللّه بن مسلم : كان غلامان في الجاهلية نصرانيّان من أهل عين التمر ، اسم أحدهما يسار و اسم الآخر خير ، كانا صيقلين يقرءان كتاباً لهما بلسانهم و كان رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ربّما مرّ بهما و استمع لقراءتهما ، فقالوا : إنّما يتعلّم منهما ، ثم ألزمهم اللّه تعالى الحجّة وأكذبهم بأن قال : لسان الذي يضيفون إليه التعليم و يميلون إليه القول ، أعجميّة لايفصح و لايتكلّم بالعربية ، فكيف يتعلّم منه من هو في أعلى طبقات البيان ؟ و هذا القرآن بلسان عربي مبين ، فإذا كانت العرب تعجز عن الإتيان بمثله و هو بلغتهم فكيف يأتي الأعجمي بمثله ؟ (2) قال ابن هشام : قالوا : إنّما يعلّمه رجل باليمامة يقال له الرحمان و لن نؤمن به أبداً ، فنزل قوله سبحانه : ( كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِى اُمَّة قَدْخَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّى لاَإِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتَابِ ) ( الرعد/30 ) (3) روى ابن هشام : إنّ النضر بن الحارث كان إذا جلس رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مجلساً ، فدعا فيه إلى اللّه تعالى و تلا فيه القرآن ، و حذّر فيه قريشاً ما أصاب الاُمم الخالية ، خلّفه في مجلسه إذا قام ، فحدّثهم عن رستم و اسفنديار وملوك فارس ثم يقول : و اللّه ما محمد بأحسن حديثاً منّي و ما حديثه إلاّ أساطير
1 ـ كيف يقول ذلك مع أنّ سلمان أدرك النبي في مهجره ، لا في موطنه. 2 ـ مجمع البيان ج3 ص386. 3 ـ السيرة النبوية لابن هشام ج1 ص331.
الأوّلين ، اكتتبها كما اكتتبتها ، فأنزل اللّه فيه : ( وَ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً و أَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِى يَعْلَمُ السِّرَّ فِى السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً ) ( الفرقان/5و6 ).
و نزل فيه : ( وَيْلٌ لِكْلِّ أَفَّاك أَثِيم يَسْمَعُ آيَاتِ اللّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنَ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بَعَذَاب أَلِيمٌ ) ( الجاثية/7 ) (1). 6 ـ كذّاب : و ما وصفوه به إلاّ لأجل أنّه كان يكافح عقيدتهم و يقارع دينهم. قال سبحانه حاكياً عنهم تلك التهمة : ( وَ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قَالَ الكَافِرونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ) ( ص/4 ). فلماذا لايكون عندهم كذّاباً و قدرفض الآلهة المتعدّدة و جعلها إلهاً واحداً. قال سبحانه حاكياً عنهم : ( أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ) ( ص/5 ). 7 ـ مفتر : و إنّما وصفوه به لأنّه ينسب تعاليمه إلى السماء. يقول سبحانه حاكياً عنهم : ( قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَر بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَيَعْلَمُونَ ) ( النحل/101 ) و يقول أيضاً : ( وَ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَ أَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ وَ قَدْجَاؤُوا ظُلْماً وَ زُوراً ) ( الفرقان/4 ). و هذه الآية تعبّر عن أنّهم كانوا يتّهمونه بأنَّ القرآن ليس من صنعه وحده بل هناك قوم أعانوه عليه ، فربّما كانوا يفسّرونه بشكل آخر و هو إنّ القرآن ليس شيئاً جديداً بل هي أساطير الأوّلين تملى عليه بكرة و أصيلاً ، كما قال سبحانه : ( وَ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِىَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ) ( الفرقان/5 ). و قد أدحض الوحي هذه التهمة و كشف عن زيفها بأمرين : الأوّل : لو صحّ قولكم إنّ هذا الكتاب من صنع محمد فنسبه إلى الوحي فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ، فإنّه لبشر مثلكم و أنتم بشر مثله. قال سبحانه :
1 ـ السيرة النبويّة لابن هشام : 1 ص357.
( أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَر مِثْلِهِ مُفْتَرَيَات وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا اُنْزِلَ بَعِلْمِ اللّهِ وَ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) ( هود/13و14 ).
الثاني : كيف تقولون بأنّه استنسخ هذه الأساطير بإملاء الغير مع أنّه ما تلى كتاباً ، و لاخطّ صحيفة ، فكيف تتّهمونه بالاستنساخ و الاستكتاب ؟ قال سبحانه : ( وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَاب وَ لاَتَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَرْتَابَ المُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِى صُدُورِ الَّذِينَ اُوتُوا العِلْمَ وَ مَا يَجْحَدُ بآيَاتِنَا إِلاَّ الظَّالِمُونَ ) ( العنكبوت/48و49 ). 8 ـ مفتر أو مجنون : ـ على ترديد بينهما ـ ربّما كان القوم يتردّدون في توصيف النبي بين كونه عاقلاً مفترياً على اللّه سبحانه أو مجنوناً معدم العقل و الشعور ، و هذه شيمة الدهاة في استنقاص فضل الأشخاص حيث يكيلون التهم على مخالفيهم الأقوياء بلسان التردّد و عدم الجزم ، لدفع نسبة شناعة التهمة عن أنفسهم كما يحكي عنهم سبحانه : ( افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ ) ( سبأ/8 ). 9 ـ شاعر : إنّ القوم كانوا اُسود الفصاحة و فرسان البلاغة و قدأدركوا بفطرتهم سموّ القرآن و علوّ مرتبته في ذلك المجال ، و من جانب كانوا في العداء و الحسد على مرتبة صدّتهم عن الاعتراف بكونه كتاباً منزّلاً من السماء ، حاولوا أن يفسّروه بالشعر فوصفوه بالشاعر و قالوا : ( أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المَنُونِ ) ( الطور/30 ) و حاصل هذه التهمة إنّه شاعر و « أعذب الشعر أكذبه » ، فلنصبر عليه و لنتربّص به صروف الدهر و أحداثه فسيكون حاله حال زهير و النابغة وأضرابهم ممّن انقرضوا و صاروا كأمس الدابر. و قد ردّ سبحانه على تلك التهمة يأمر نبيّه بقوله : ( قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّى مَعَكُمْ مِنَ المُتَرَبِّصِينَ * أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ * أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لاَيُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيث مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ) ( الطور/31 ـ 34 ).
(148)
إنّ اللّه سبحانه أمر النبي أن يتهدّدهم ويتوعّدهم باُمور : أ ـ ( قُل تربّصوا فانّي مَعكُم مِنَ المُتربّصين ) : انتظروا وتمهّلوا في ريب المنون فإنّي متربّص معكم منتظر قضاء اللّه فيّ وفيكم وستعلمون لمن تكون حسن العاقبة والظفر في الدّنيا والآخرة. ب ـ ( أم تأْمرهُمْ أحلاَمَهُم بِهذا ) ؟ أي هل تأمرهم عقولهم بنشر هذه التّهمة ، فإنّ التهم الثلاث لا تجتمع بحسب مدّعاهم في آن واحد ، فإنّ المجنون من زال تعقّله وإدراكه ، فكيف يقوى على إنشاء الشعر الرصين ، وكيف يكون قوله حجّة في الإخبار عن المغيّبات ؟. وقصارى القول : إنّ هؤلاء المتحاملين كانوا قد فقدوا رشدهم فأخذوا يتخبّطون في تهمهم وكلامهم من دون وعي. ج ـ ( اَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ) : بل الحقّ ، إنّ الذي حملهم على ما يقولون هو عنادهم وعتوّهم عن الحقّ وطغيانهم. د ـ ( اَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ ) أي إنّ عقولهم لم تأمرهم بهذا ولم تدعهم إليه بل حملهم الطغيان على تكذيبك ، ولأجل ذلك يقولون : افتعل القرآن من تلقاء نفسه. ه ـ ـ ( بَلْ لاَ يُؤمِنُونَ ) أي قصارى القول : إنّهم لا يؤمنون ولا يصدّقون بذلك عناداً وحسداً واستكباراً ، وإنّما هذه تهم اتّخذوها ذريعة إلى التمويه وستروا بها عداءهم وعنادهم. و ـ ( فَلْيأتُوا بِحَدِيث مِثْلِهِ اِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ) أي إن كان شاعراً فلديكم الشعراء الفصحاء ، أو كاهناً فلديكم الكهّان الأذكياء ، وإن كان قد تقوّله فلديكم الخطباء الّذين يحضرون الخطب ويجيدون إنشاء القول في كلّ فنون الكلام ، فليأتوا بمثل هذا القرآن إن كانوا صادقين فيما يزعمون ، فإنّ أسباب التحدّي بالقول متوفّرة لديكم كما هي متوّفّرة لديه ، بل فيكم من طالت مزاولته للخطب والأشعار وكثرة الممارسة لأساليب النظم والنثر وحف ـ ظ أيّام العرب ووقائعها أكثر من محمّد ( صلى الله عليه وآله
وسلم ) (1).
وقال سبحانه ردّاً على هذه الفرية : ( وَمَا عَلّمْنَاهُ الشّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ اِنْ هُوَ إلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبينٌ ) ( يس/69 ) فأين القرآن من الشعر وأين محمّد من الشعراء ؟. 10 ـ أضغاث أحلام : والمراد منه تخاليط أحلام رآها في المنام ، ويحكي عنهم سبحانه بقوله : ( وَاَسَرُّوا النّجوَى الّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ اَفَتَأتُونَ السّحْرَ وَاَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * قَالَ رَبّي يَعْلَمُ القَوْلَ فِي السّماءِ وَ الأَرْضِ وَهُو السّمِيعُ الَعلِيمُ * بَلْ قَالُوا اَضغاثُ اَحْلام بَل افْتَراهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَليَأتِنَا بِآية كَما اُرْسِلَ الأَوَّلُونَ ) ( الأنبياء/3 ـ 5 ). بيّن سبحانه في هاتين الآيتين إقتسامهم القول في النبيّ ، فقال بعضهم أخلاط أحلام قد رآها في النوم ، وقال آخرون : بل إختلقه من تلقاء نفسه ونسبه إلى اللّه ، وقال قوم : بل هو شاعر وما أتى به شعر ، يخيّل إلى السامع معاني لا حقيقة لها ، مضافاً إلى أنّهم استبعدوا أن يكون بشر مثلهم نبيّاً. وهذا الإضطراب والتردّد في القول دأب المحجوج المغلوب على أمره ، لايتردّد إلاّ بين باطل وأبطل ويتذبذب بين فاسد وأفسد منه. فلو بنى على تحليل القرآن بواحد من هذه الوجوه ، فكونه سحراً ـ مع كونه فاسداً ـ أقرب من كونه أضغاث أحلام ، فأين هذا النظم البديع من تخاليط الكلام التي لا تضبط ؟ وادّعاء كونها مفتريات أبعد وأبعد ، لأنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد اشتهر بالأمانة والصدق ، مضافاً إلى أنّهم أعرف النّاس بالفرق بين النظم والنثر ، فكيف يصفونه بالشعر ؟ كما أنّهم يفرّقون بين الغايات التي يصاغ له الشعر والغايات التي يشدها القرآن كيف يتّهمونه بالشعر مع أنّهم يعلمون أنّه لم ينشد شعراً وما اجتمع بالشعراء ولا حام حوله مدى أربعين سنة ؟ (2).
1 ـ تفسير المراغي : ج25 ص32. 2 ـ تفسير المراغي : ج17 ص7.
(150)
إنّ المتمعّن في أحوال النبيّ ينتهي من خلال هذه التهم إلى أنّه كان رجلاً صالحاً طاهراً ديّناً عفيفاً نقي الجيب مأموناً على المال والعرض والنفس ، لم يدنّس نفسه بفاحشة ولم يتجاوز حقّ أحد قط بل كانت حياته حياة إنسان مثالي ، فلأجل ذلك لم يجد الأعداء سبيلاً إلى رميه بهذه التهم ، فحاولوا أن يتّهموه باُمور نفسيّة يعسر إثباتها كما يعسر نفيها ، وأمّا انّهم كيف اتّهموه بالسحر ؟ فيقول ابن هشام : « إنّ الوليد بن المغيرة إجتمع إليه نفر من قريش ، إنّه قد حضر الموسم ، وإنّ وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فاجمعوا فيه رأياً واحداً ، ولا تختلفوا فيكذّب بعضكم بعضاً ، ويرد قولكم بعضه بعضاً ، قالوا : فأنت يا أبا عبد شمس ، فقل وأقم لنا رأياً نقول به ، قال : بل أنتم فقولوا و أسمع ، قالوا : نقول كاهن ، قال : لا واللّه ما هو بكاهن ، لقد رأينا الكهّان فما هو بزمزمة الكاهن ولاسجعه ، قالوا : فنقول مجنون ، قال : ما هو بمجنون ، لقد رأينا الجنون وعرفناه ، فما هو بخنقه ولا تخالُجه ولا وسوسته ، قالوا فنقول : شاعر ، قال : ما هو بشاعر ، لقد عرفنا الشعر كلّه رجزه وهزجه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه ، فما هو بالشعر ، قالوا : فنقول ساحر ، قال : ما هو بساحر ، لقد رأينا السحّار وسحرهم ، فما هو بنفثهم ولاعقدهم ، قالوا : فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال : واللّه إنّ لقوله لحلاوة ، وإنّ أصله لعذق ، وإنّ فرعه لجناة ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلاّ عرف أنّه باطل ، وإنّ أقرب القول فيه لأن تقولوا ساحر ، جاء بقول هو سحر يفرّق بين المرء وأبيه ، وبين المرء وأخيه ، وبين المرء وزوجته ، وبين المرء وعشيرته. فتفرّقوا عنه بذلك ، فجعلوا يجلسون بسبل النّاس حين قدموا الموسم ، لا يمرّ بهم أحد إلاّ حذّروه إيّاه ، وذكروا لهم أمره. فأنزل اللّه تعالى في الوليد بن المغيرة في ذلك من قوله : ( ذَرْني وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهّدْتُّ لَهُ تَمْهِيداً * ثمّ يَطمَعُ اَنْ اَزِيدَ * كَلاّ اِنّهُ كَانَ لآِياتِنَا عَنيداً ) أي خصيماً ( سَاُرْهِقُهُ صَعُوداً * اِنّهُ فَكّرَ وَقَدّر * فَقُتِلَ كَيفَ قَدّرَ * ثُمّ قُتِلَ كَيفَ قَدّر * ثُم نَظَرَ * ثُمّ عَبَسَ وَبَسَر * ثُمّ اَدْبَرَ واسْتَكْبَر * فَقالَ اِنْ هَذا اِلاّ سِحرٌ يُؤثَرُ * اِنْ هَذَا اِلاّ قَوْلُ البَشَر ) ( المدّثّر/11 ـ 25 ).