ياخبّاب أليس يزعم محمد صاحبكم هذا الذي أنت على دينه أنّ في الجنة ما ابتغى أهلها من ذهب ، أو فضّة ، أو ثياب ، أو خدم. قال خبّاب : بلي. قال : فانظرني إلى يوم القيامة يا خبّاب حتى أرجع إلى تلك الدار فاقضيك هنالك حقّك ، فواللّه لاتكون أنت و صاحبك يا خبّاب آثر عند اللّه منّي ، و لاأعظم حظّاً في ذلك. فأنزل اللّه تعالى فيه : ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِى كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَ قَالَ لاَُوتَيَنَّ مَالاً وَ وَلَدَاً * أَطَّلَعَ الغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً * كَلاَّ سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ العَذَابِ مَدَّاً * وَ نَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً ) ( مريم/77 ـ 80 ).
7 ـ وقف الوليد بن المغيرة مع رسول اللّه و رسول اللّه يكلّمه و قد طمع في إسلامه ، فبينما هو في ذلك إذ مرّ به ابن اُم مكتوم الأعمى فكلّم الأعمى رسول اللّه وجعل يستقرئه القرآن ، فشقّ ذلك منه على رسول اللّه حتى اضجره و ذلك أنّه شغله عمّا كان فيه من أمر الوليد و ما طمع فيه من إسلامه ، فلمّا أكثر عليه انصرف عنه عابساً و تركه ، فأنزل اللّه تعالى فيه : ( عَبَسَ وَ تَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَ مَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى * وَ أَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَ هُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ) ( عبس/1 ـ 12 ) (1). و ما ذكره ابن هشام و غيره و إن كان ينطبق على ظاهر الآيات و لكنّه لايتفق مع خلق النبي الذي وصفه سبحانه بقول : ( وَ إِنَّكَ لَعَلَى خُلْق عَظِيم ). و في بعض الروايات إنّ العباس المتولّي ، رجل من بني اُميّة ، كان عند النبي فدخل على النبي ابن اُم مكتوم فعبس الرجل و قبض وجهه فنزلت الآيات. قال العلاّمة الطباطبائي : و ليست الآيات ظاهرة الدلالة على أنّ المراد بها هو النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بل خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه ، بل فيها مايدل على أنّ المعني بها غيره ، لأنّ العبوس ليس من صفات النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم )
1 ـ السيرة النبويّة : ج1 ص363 ، و أكثر التفاسير نقلوا هذا المضمون.
(172)
مع الأعداء فضلاً عن المؤمنين به و الموالين له ، و على كلّ تقدير ، فإنّ توصيفه بأنّه يميل للأغنياء و يعرض عن الفقراء لايتناسب مع أخلاقه الكريمة كما عن المرتضى ( رحمه الله ).
و قد أوضحنا الحال في الجزء الخامس من هذه الموسوعة (1). 8 ـ كان العاص بن وائل السهمي ـ إذا ذكر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ قال : دعوه ، فإنّما هو رجل أبتر لاعقب له ، لو مات لانقطع ذكره و استرحتم منه ، فأنزل اللّه في ذلك : ( إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ ) ما هو خير لك من الدنيا و ما فيها ، و الكوثر : العظيم. إنّ هذه الآية تتضمّن خبراً غيبيّاً و هو أنّه سيكثر نسل رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و إنّ تعيير العدو يرجع إلى نفسه ، و على الرغم من أنّ أهل بيته لاقوا من الاُمّة مالاقوا من القتل و التشريد و التنكيل ، و مع ذلك نجد نسل الرسول قد بلغ من التصّور ما بلغ. قال الرازي : « فانظر كم قتل من أهل البيت ثمّ العالم ممتلئ منهم ولم يبق من بين اُميّة في الدنيا أحد يعبأ به ، ثمّ انظر كم فيهم من الأكابر من العلماء كالباقر و الصادق و الكاظم و الرضا ( عليهم السلام ) و النفس الزكية وأمثالهم » (2). هذا ما يقوله الرازي في القرن السابع أو أواخر القرن السادس ، و نحن في أوائل القرن الخامس عشر ، و قد ملأ العالم نسل البتول ، و هذه بلاد المغرب و تونس والجزائر و مصر و الشام و تركيا و إيران و العراق زاخرة بالشرفاء من أبناء الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فصدق قول اللّه العلي العظيم : ( إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ ). إنّ منصب نقابة الطالبين في عصر الرضا ( عليه السلام ) و بعده إلى عصر الشريف الرضي الذي تصدّر هذا المنصب عام 380هـ ، لأوضح دليل على كثرة
1 ـ مفاهيم القرآن : ج5 ص130 عند البحث عن عصمة النبي. 2 ـ مفاتيح الغيب : ج8 ص498 ( طبع مصر ـ 1308 ).
(173)
الطالبيين من نسل البتول إلى حد عيّن لهم نقيب كالإمام الرضا والشريف الرضي ، والمسؤولية الملقاة على عاتقه ، ضبط مواليدهم و وفياتهم و أنسابهم و القيام بمهام اُمورهم و هدايتهم و إرشادهم إلى ما فيه صلاح دنياهم و آخرتهم على حد ما ذكره الماوردي في كتاب الأحكام السلطانية (1).
1 ـ الأحكام السلطانية : ص82 ـ 86.
الدارج و المألوف بين الدبلوماسيين إذا كانوا بصدد رفع ما بينهم من خصومة ومرافعة ، هو الجلوس على طاولة المفاوضات و إبداء بعض التنازلات عن المصالح الجزئية لقاء الحفاظ على مصالح اُخرى أكثر أهميّة بالنسبة لهم مع سعيهم الحثيث للحفاظ على حرمة الاُصول المبدئية للطرفين. و لكن القوم لتشبّثهم بما كانوا عليه ، و غربتهم عن العلم باُصول دعوة الأنبياء و أهدافها السامية ، كانوا يطلبون من النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) اُموراً مختلفة : منها ما يضاد الاُصول التي بنيت عليها الشرائع السماوية ، و منها ما يدخل في المحالات بالذات ، و منها ما هو خارج عن نطاق وظائف الرسل و الأنبياء ، ولايمت بصدق دعوتهم و رسالتهم ، و إليك جملة من هذه الطلبات التي تقدّموا بها على ضوء الكتاب العزيز : 1 ـ التشريك في العبادة روى المفسرون أنّ نفراً من قريش منهم الحارث بن قيس السهمي ، و العاص ابن أبي وائل ، و الوليد بن المغيرة و غيرهم ، قالوا : اتبع ديننا نتبع دينك ، و نشركك في أمرنا كلّه ، تعبد آلهتنا سنة و نعبد إلهك سنة ، فإن كان الذي جئت به خيراً ممّا بأيدينا كنا قد شركناك فيه و أخذنا بحظّنا منه ، و إن كان الذي بأيدينا خيراً ممّا في يديك كنت قدشركتنا في أمرنا و أخذت بحظّك منه ، فقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : معاذ اللّه أن اُشرك به غيره. قالوا : فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك و نعبد إلهك فقال : حتى انظر ما يأتى من عند ربي ، فنزل : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ ) فعدل رسول اللّه
(175)
( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى المسجد الحرام و فيه الملأ من قريش ، فقام على رؤوسهم ، ثمّ قرأ عليهم حتى فرغ من السورة فأيسوا عند ذلك ، فآذوه و آذوا أصحابه ، قال ابن عباس : و فيهم نزل قوله : ( أَفَغَيْرُ اللّه تَأْمُرُونِى أَعْبُدُ أَيُّها الجَاهِلُونَ ) ( الزمر/64 ) (1).
و روى أبو حفص الصائغ عن جعفر بن محمد ( عليهما السلام ) قالوا : نعبد إلهك سنة و تعبد إلهنا سنة ، فأنزل اللّه عليه : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ ... ) (2). نظراً لابتعاد هؤلاء عن النبوّة و الأنبياء يخالون أنّ برامج الأنبياء في رسالاتهم برامج بشرية يسوغ لهم المساومة فيها و إبداء التنازلات عنها ، و لأجل ذلك نزل الوحي رادّاً على تلك الفكرة الخاطئة و قال : ( قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَ لاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ * وَ لاَ أَنْتُم عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْدِينُكُمْ وَ لِىَ دِينٌ ). إنّ الدعوة إلى التوحيد في العبادة و رفض عبادة الغير هو الحجر الأساس الذي تهدف إليه الدعوة الإلهية المتمثّلة في رسالات الأنبياء ، و لم يبعث نبي قط إلاّ و كان هذا هو المحور المهمّ في صلب دعوته ، فكيف يخوّل له التنازل عن هذا الأصل الأصيل. قال سبحانه : ( وَ لَقَدْ بَعَثْنَا فِى كُلِّ اُمَّة رَسُولاً أَنْ اعْبُدُو اللّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ) ( النحل/36 ). و يعرب أيضاً عن وجود مثل هذا الاقتراح قوله سبحانه : ( وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِى أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِىَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاَتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَ لَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لاََذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لاَتَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ) ( الأسراء/73 ـ 75 ). هذه الآيات تفصح عن شدة مكر المشركين و تماديهم في إنكار التوحيد حيث
1 ـ مجمع البيان : ج5 ، ص252. 2 ـ السيرة النبويّة لابن هشام : ج1 ص362 ، بحار الأنوار : ج7 ص239.
(176)
أرادوا أن يفتنوا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن بعض ما اُوحي إليه أن مال إلى الركون إليهم بعض الميل ، و لكنّهم لم يحظوا بما كانوا يصبون إليه و يرمون تحقيقه من ميل النبي إليهم وافتتانه عن بعض ما اُوحي إليه و الشاهد على ذلك أمران : 1 ـ قوله سبحانه : ( وَ إِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ ) و هو صريح في أنّه لم يتحقّق الإفتتان. 2 ـ قوله عزّ و جلّ : ( وَ لَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْكَدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئَاً قَلِيلاً ) والمراد من التثبيت هو العصمة و لأجل ذلك قال : ( لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ ) ولميقل : « كنت » و المراد القرب من الركون و إنّه لولا التثبيت لقرب ركونه إليهم ولكنّه لم يحصل القرب فضلاً عن الركون لأجل التثبّت.
2 ـ تبديل القرآن بغيره و قد كان من جملة الإقتراحات التي قدّمت للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أزاء قبول دعوته هو تبديل القرآن لأنّه يشتمل على تخطئة ما كانوا هم و آباؤهم عليه من الإعتقاد و العمل ، فاقترحوا عليه أن يأتي بقرآن خالي من ذلك ، قال سبحانه في محكية عنهم : ( وَ إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَات قَالَ الَّذِينَ لاَيَرْجُونَ لِقَائَنَا ائْتِ بِقُرآن غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ ) ( يونس/15 ). و هذا الإقتراح على غرار ما سبق ينبع عن جهل بمبادئ النبوّة و الرسالة التي يتحمّلها الرسول من خلال دعوته و ابلاغه و ليس له حق في تحويره و إبداله بل هو مأمور لاتتجاوز وظيفته حد الإبلاغ.قال سبحانه مشيراً إلى هذا الجواب : ( قُلْ مَا يَكُونَ لِى أَنْ اُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِى إِنْ اَتَّبِعُ اِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ إِنِّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْم عَظِيم ) ( يونس/15 ). فهذه الآية تفسّر حقيقة النبوّة و تبيّن حدود وظيفة النبي ، فإنّه خاضع للوحي وليس له إِلاّ إبلاغ ما يوحى إليه و إنّ تبديل الموحى إليه عمل إجرامي لا يغتفر
(177)
وعصيان للرب موجب للثبور و الخسران.
ثمّ إنّه سبحانه يرشد النبي إلى أن يستدل عليهم بأنّ القرآن ليس كلامه و إنّما هو وحي يوحى إليه من خلال تسليط الضوء على سيرته بينهم حيث عاش فيهم عمراً و لم يسمعوا منه شيئاً ممّا يشبه القرآن ، فلو كان القرآن حصيلة فكره و نتاج عقله لبدر منه شيء طيلة أربعين سنة من عمره المنصرم إذ ( مَا أَضْمَرَ أْحَدٌ شَيْئاً إِلاَّ ظَهَرَ فِى صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَ فَلَتَاتِ لِسَانِهِ ) (1). فامساكه في هذه الحقب و الأعوام عن التفوّه بما يماثل ذلك لأوضح دليل على أنّه وحي أوحى إليه في حاضر دعوته فكيف تقترحون عليه أن يأتي بقرآن غيره هذا إذ ليس القرآن رهن إشارته وطوع اختياره و إرادته حتى يأتي بطائفة منه و يعزف عن طائفة اُخرى و إليه يشير قوله سبحانه : ( قُلْ لَوْ شَاء َ اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ ُ عَلَيْكُمْ وَ لاَ أَدْرَأَكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتَ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) ( يونس/16 ). فهؤلاء القوم مرضى القلوب و الضمائر و ضعفاء العقول و البصائر ، يقترحون على الطبيب الإلهي أن يكتب لهم الوصفة العلاجية لدائهم المزمن حسبما تشتهي أنفسهم و أهواؤهم.
3 ـ شروط تعجيزية قد بلغ عناد القوم و لجاجهم في وجه الدعوة المحمديّة حدّاً كانوا يقترحون عليه اُموراً تارةً تدخل في حيّز المستحيلات و لاتتعلّق بها القدرة و إن بلغت ما بلغت ، و اُخرى اُموراً ممكنة و لكنّها خارجة عن نطاق وظائف النبي في دعوته ورسالته و تضاد أهدافها و لاتمت بالاستدلال على صدقها بصلة و لاتعد دليلاً على
1 ـ مقتبس من كلام لأمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) في قصار حكمه ( رقم26 ) من نهجالبلاغة.
(178)
ربانيّة رسالته (1).
و قد تعرّض القرآن الكريم لهذه الشروط المستحيلة أو الصعبة بأشكالها المختلفة في ضمن الآيات التالية : ( وَ قَالُوا لَنْ تُؤْمِنَ لَكَ : 1 ـ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنْبُوعاً 2 ـ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيل وَ عِنَب فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلاَلَهَا تَفْجِيراً 3 ـ أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً 4 ـ أَوْ تَأْتِىَ بِاللّهِ 5 ـ وَ المَلاَئِكَةِ قَبِيلاً 6 ـ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُف 7 ـ أَوْ تَرْقَى فِى السَّمَاءِ 8 ـ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ). هذا تصوير لجملة شروط القوم ، و أمّا الجواب عنها فقد أوجزه في كلمتين : 1 ـ ( قُلْ سُبْحَانَ رَبِّى 2 ـ هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً ) ( الأسراء/90 ـ 93 ) هذه مطالبهم و إليك تفصيل القول فيها : إنّ هذه المطالب بين محال لاتدخل في نطاق القدرة ، و بين ما هو خارج عن وظيفة الرسول و رسالته ، و بين ما هو يضادّ أهداف دعوته ، أو لايمت بصلة إلى صدق دعوته ، كما سبق ذكره ، و إليك بيانها بمزيد من التفصيل :
1 ـ لاحظ السيرة النبويّة : ج1 ص296 و297 و309.
(179)
أمّا الأول : أعني تفجير الينبوع من الأرض فهو يحتمل معنيين : 1 ـ أن يفجّر الينبوع من الأرض وفق رغبتهم لنفسه حتى يكون رجلاً ثريّاً. 2 ـ أن يفجّر الينبوع من الأرض لأجل هؤلاء حتى تصبح أراضيهم و مراتعهم مخضرّة مزهرة يانعة الثمار. أمّا الإحتمال الأول : فلايعد دليلاً على صدق الدعوة ، و لو اُريد الثاني فهو على خلاف السنّة الإلهية فقد تعلّقت مشيئته الحكيمة بتحصيل هذه المواهب المادّية عن طريق الكدح و الجد في ظل أعمال الطاقات البشرية ، بالإضافة إلى أنّه خارج عن وظائف الرسالة ، فإنّ الأنبياء قدبعثوا لهداية الناس إلى ما فيه سعادتهم في الدارين باراءة الطريق الموصل إليها ، و أمّا القيام بتفجير الينبوع من الأرض فهو أمر خوّل إلى الناس أنفسهم. و أمّا الثاني : فهو أن يكون للنبيّ جنّة من نخيل و عنب تجري الأنهار خلالها فلاصلة له بصدق الدعوة إذ أقصى ما يستدلّ به على أنّه رجل عاقل عارف بشؤون الفلاحة والتجارة أو رجل له مكانة مرموقة في المجتمع و لاتدلّ كثرة الأموال و الإنتعاش الإقتصادي على صدق الدعوة ، و قدمرّ تحقيق ذلك في تفسير قوله : ( وَلَوْلاَ نُزِّل هِذَا القُرْآن عَلَى رَجُل مِنَ القَرْيَتَيْنِ عَظِيم ). و أمّا الثالث : أعني إسقاط السماء على رؤوسهم فهو يضادّ هدف الدعوة ، لأنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعث لهداية الناس و رحمة بهم لا لأهلاكهم ، نعم يمكن تصوّر ذلك إذا تمّت الحجّة عليهم و لم يبق لهم عذر في عدم قبول الدعوة ، فربّما يشملهم العذاب و هو خارج عن موضوع البحث. أمّا الرابع : أعني الإتيان باللّه فهو طلب أمر محال ، فهؤلاء كانوا يطلبون رؤية اللّه سبحانه قبيلاً و مواجهة. و اللّه فوق الزمان و المكان لايحيط به شيء ، و لايمكن أن تراه العيون بمشاهدة الأبصار و إنّما تراه القلوب بحقائق الإيمان.
(180)
و أمّا الخامس : أعني الإتيان بالملائكة قبيلاً و مشاهدتهم بانقلاب الغيب شهوداً فهو من المعاجز التي لو تحقّقت و لم يترتب عليها منهم إيمان و إذعان لعمّهم العذاب و لاينظرون ، و قد مرّ ذلك في تفسير قوله : ( وَ لَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِىَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَيُنْظَرُونَ ) ( الأنعام/8 ). و أمّا السادس : و هو أن يكون له بيت من ذهب فلاصلة له بصدق الدعوة. و أمّا السابع : و هو الرقي في السماء فهو أشبه باقتراح الصبيان و لو فرض تحققه عن طريق الإعجاز لما آمنوا به بشهادة قولهم في الإقتراح الثامن : ( وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُهُ ). حيث صرحوا بأنّ رقيه في السماء غير كاف في إيمانهم و إذعانهم بل يجب أن يقترح عليه أمراً ثامناً و هو أن ينزل عليهم كتاباً يقرؤونه ، و لعلّ مقصودهم أن ينزل كتاباً فيه اسمه و رسالته. إنّ هذه الإقتراحات التعجيزية أوضح شاهد على أنّ القوم لم يكونوا بصدد كشف الحقيقة و تحرّى الواقع و الصدق و لو افترضنا النبي قد امتثل لبعض اقتراحاتهم الممكنة لوجدناهم يأتون بحجج واهية اُخرى بقصد التعجيز لاغير و لأجل ذلك يقول سبحانه في حق هؤلاء و أشباههم : ( وَ لَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِى قِرْطَاس فَلَمَسُوهُ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ ) ( الأنعام/7 ). و يقول سبحانه : ( وَ لَوْ أَنَّ قَرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ المَوْتَى بَلْ للّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً ) ( الرعد/31 ).و هذه الآية و نظائرها تدلل بشواهد صادقة لايشوبها الريب على أنّ القوم لم يكونوا بصدد الوقوف على الحقيقة و استكشافها ولأجل ذلك كانوا يقترحون على النبي اُموراً تنم عن روح العناد و المكابرة ، و أمّا الذكر الحكيم فقد أجاب عنه بوجهين : 1 ـ ( سُبْحَانَ رَبِّى ... ) و لعلّه جواب عن قولهم أو يأتي باللّه ، و اللّه سبحانه منزّه عن المادّة و آثارها و ليس للبشر تصحّ رؤيته بحاسة الأبصار. قال سبحانه : ( لاَتُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ ) ( الأنعام/103 ).