سبحانه : ( ذِى قُوَّة عِنْدَ ذِى العَرْشِ مَكِين ) ( التكوير/20 ) و بذلك يضعف إحتمال كون المراد هو اللّه سبحانه ، و الضمير في « علّمه » يرجع إلى الصاحب ، المراد منه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و إحتمال رجوعه إلى الوحي أو القرآن ضعيف لإستلزامه تقدير مفعول له مثل قولنا : « علّمه إيّاه » و هو خلاف الظاهر.
6 ـ ( ذُو مِرَّة فَاسْتَوَى ) المرّة ـ بكسر الميم ـ الشدّة و حصافة العقل و الرأي ، أي ذو حصافة في عقله و رأيه أو ذو شدّة في جنب اللّه ، و إحتمال كون المراد منه هو النبي يستلزم جعله صفة لـ « صاحبكم » و هو بعيد ، بل هو صفة لشديد القوى الذي جاء بعده ، و هو أيضاً دليل على أنّ المراد من شديد القوى هو جبرئيل. كما أنّ المراد من قوله « فاستوى » إستقام على صورته الأصليّة التي خلق عليها ، لأنّ جبرئيل كان ينزل على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في صور مختلفة ، و لكنه في بدء الدعوة ظهر له في صورته الأصليّة. 7 ـ ( وَ هُوَ بِالاُفُقِ الأَعْلَى ) و الضمير يرجع إلى شديد القوى ، و المراد منه جبرئيل ، كما أنّ المراد بالاُفُق الأعلى ناحية المشرق من السماء ، لأنّ المشرق مطلّ على المغرب و يحتمل أن يكون المراد اُفق أعلى من السماء من غير إعتبار كونه شرقياً ، و الجملة ، هي جملة حالية من ضمير فاستوى. 8 ـ ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ) و الضميران راجعان إلى جبرئيل ، و المراد من « الدنوّ » القرب كما أنّ المراد من التدلّي هو الإعتماد على جهة السفل مأخوذ من الدلو ، والمراد قرب جبرئيل متدلّياً من الاُفق الأعلى. 9 ـ ( فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ) ألقاب مقدار الشيء ، و القوس معروف وهي آلة الرمي ، و المعنى قرب جبرئيل على حدّ لم يبق بينه و بين النبي إلاّ قدر قوسين أو أقلّ. 10 ـ ( فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ) و الضمير في كلا الفعلين يرجع إلى جبرئيل على نسق رجوع سائر الضمائر إليه. نعم الضمير في « عبده » يرجع إلى اللّه
(212)
سبحانه ، و المعنى فأوحى جبرئيل إلى عبد اللّه ما أوحى.
و ربّما يحتمل رجوع الضمائر الثلاث إلى اللّه سبحانه ، و المراد فأوحى اللّه بتوسّط جبرئيل إلى عبده ، و هو و إن كان صحيحاً و لكنه على خلاف السياق. 11 ـ ( مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَأَى ) و الكذب كما يتّصف به الكلام كذلك يطلق على خطأ القوّة المدركة ، يقال : كذّبته عينه أي أخطأت في رؤيتها ، و نفي الكذب عن الفؤاد كناية عن تنزيهه عن الخطأ ، و المراد من الفؤاد فؤاد النبي ، و ضمير الفاعل في « ما رأى » راجع إلى الفؤاد ، و الرؤية رؤيته ، و لا إشكال في إسناد الرؤية إلى الفؤاد لأنّه يطلق على شهود النفس رؤيتها. 12 ـ ( أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ) و هو توبيخ لهم على مماراتهم إيّاه ، حيث إنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان يدّعي رؤية جبرئيل و هم يجادلونه في ما رآه وشاهده ، و لامجال للمجادلة فيما شوهد بالحسّ و العيان. إلى هنا تمّت الطائفة الاُولى من الآيات و الكلّ يهدف إلى إستعراض قصّة بدء الدعوة أنّ جبرئيل الذي هو شديد القوى كان قد علّمه القرآن و رآه النبي و هو بالاُفق الأعلى ، و قد قرب من النبي متدلّياً إليه فلم يبق بينه و بين النبي إلاّ مسافة قوسين أو أدنى ، و ليس هناك بحث عن رؤية النبي للّه سبحانه كما لاصلة لهذه الآيات بحديث المعراج و عروجه إلى السماء. و بالإمعان فيما ذكرنا تظهر اُمور : أ ـ إنّ الضمائر من قوله علّمه إلى قوله : ( إَلَى عَبْدِه مَا أَوْحَى ) كلّها يرجع إلى شديد القوى و المراد منه جبرائيل إلاّ الضمير في ( إِلَى عَبْدهِ ) فإنّه يرجع إلى اللّه. و على إحتمال ، يرجع الضميران في الفعلين ( فَأَوْحَى ... مَا أَوْحَى ) إلى اللّه سبحانه ، و بعد ذلك لامعنى للإستدلال بهذه الآيات على أنّ النبي رأى ربّه ، والإشتباه إنّما حصل من إرجاع الضمائر الثلاثة من قوله : ( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ) إلى النبي
(213)
الأكرم و أنّ المرادنا منه سبحانه و هو ممّا لايساعد عليه سياق الآيات.
ب ـ إنّ الكاتب الإنگليزي « جان. ديون. بورت » فسّر قوله دنا فتدلّى بأنّ النبي استجاز ربّه للحضور عنده ، فقرب منه إلى حدّ لم يبق بينه و بين ربّه إلاّ قاب قوسين ، و هو غلط كما أوضحناه. أضف إلى ذلك : إنّ هذا القسم من الآيات لايمتّ إلى حديث المعراج بصلة ، و إنّما هو بصدد بيان حادثة بدء الدعوة و لم يكن هناك يومئذ معراج من النبيّ حتى يستأذن للحضور عند ربّه ، و منشأ الإشتباه مضافاً إلى ذلك هو إرجاع الضميرين في دنا فتدلّى إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . ج ـ إنّ بعض المستشرقين يذكر في تفسير الآيات : إنّ النبي قرب من اللّه سبحانه حتى سمع صرير قلمه و وقف على أنّه سبحانه مهتمّ بصيانة حساب عباده ، سمع صرير قلمه و لم يرشخصه ، كل ذلك خلط و خبط ، يفعلون ذلك على الرغم من أنّهم غير متضلّعين في اللغة العربيّة و أساليبها و قواعدها و أسرارهاو في القرآن الكريم و إشاراته و نكاته ، ثمّ يكتبون عن النبي و الإسلام و القرآن كل شيء دعتهم إليه أغراضهم و لاعلم لهم بشيء منها إلاّ ما لايلتفت إليه. إذا وقفت على مفاد الطائفة الاُولى من الآيات نعرج بك على تفسير الطائفة الثانية التي وردت في معراج النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و إنّما جاءت بعد الطائفة الاُولى لصلة تامّة بينهما و هو التركيز على أنّ النبي رأى جبرئيل على صورته الواقعيّة في كلتا المرحلتين ، اُولاهما بدء الدعوة حيث رآه بالاُفق الأعلى ، و ثانيهما عند المعراج إذ رآه عند سدرة المنتهى التي عندها جنّة المأوى ، و يؤكّد على أنّ الرؤية كانت رؤية صادقة غير خاطئة ، فيركّز على صدق الرؤية في ضمن الطائفة الاُولى بقوله : ( مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَآى ) و في ضمن الطائفة الثانية بقوله : ( مَا زَاغَ البَصَرُ وَمَا طَغَى ) و أنّ الرؤية رؤية واقعيّة غير مشوبة بالزيغ و الخطأ ، ثمّ قال سبحانه : 13 ـ ( وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً اُخْرَى ) النزلة بناء مرة من النزول فمعناه نزول واحد ، فتدلّ الآية على أنّ هذه قصّة رؤية في نزول آخر ، و الآيات السابقة تحكي نزولاً آخر ، و لأجل
(214)
ذلك قلنا إنّ الطائفتين تهدف كل منهما إلى قصّة خاصة ، و ضمير الفاعل يرجع إلى النبي ، و ضمير المفعول لجبرئيل و النزلة نزول جبرئيل إليه ليعرج به إلى السموات.
14 ـ ( عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى ) و هو ظرف للرؤية ، لا للنزلة و المراد برؤيته رؤيته و هو في صورته الأصليّة ، و المعنى أنّه نزل عليه نزلة اُخرى ، و عرج به إلى السماوات ، و رآه النبي عند سدرة المنتهى و هو في صورته الأصليّة ، و السدر شجر معروف و التاء للوحدة ، و المتنهى كأنّه إسم مكان ، و لعلّ المراد به منتهى السماوات بدليل أنّ جنّة المأوى عنده و الجنّة في السماء ، فينتج إنّ سدرة المنتهى في السماء ، و أمّا كون الجنّة في السماء فبدليل قوله : ( وَ فِى السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَ مَا تُوعَدُونَ ) ( الذاريات/22 ) و أمّا ما هو المراد من تلك الشجرة فليس في كلامه سبحانه ما يفسّره ، و يؤيّده قوله : ( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) و سيوافيك تفسيره. 15 ـ ( عِنْدَهَا جَنَّةُ المَأْوَى ) و المراد هي جنّة الآخرة التي يأوى إليها المؤمنون. قال تعالى : ( فَلَهُمْ جَنَّاتُ المَأْوَى نُزُولاً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( السجدة/19 ). و هي أيضاً في السماء على ما دلّ عليه قوله : ( و في السماء رزقكم و ما توعدون ). 16 ـ ( إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ) غشيان الشيء الإحاطة به ، و ما موصولة والمعنى إذ يحيط بالسدرة ما يحيط بها ، و قدأبهم اللّه تعالى حقيقة تلك الشجرة كما أبهم ما يغشاها. 17 ـ ( مَا زَاغَ البَصَرُ وَ مَا طَغَى ) زيغ البصر إدراكه المبصر على غير ما هو عليه ، و طغيانه إدراكه مالاحقيقة له ، و المراد بالبصر بصر النبي ، والمعنى أنّه لم يبصر ما أبصره على غير صفته الحقيقة ، و لاأبصر ما لاحقيقة له بل أبصر إبصاراً لايشوبه الخطأ. و قال العلاّمة الطباطبائي : إنّ المراد بالإبصار رؤيته بقلبه لابجارحة العين ، فإنّ المراد بهذا الإبصار ما يعنيه بقوله : ( وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً اُخْرَى ) المشير إلى مماثلة هذه
(215)
الرؤية لرؤية النزلة الاُولى التي يقول فيها : ( مَا كَذَبَ الفُؤَادُ مَا رَآى أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَايَرَى ) (1) غير أنّه لامنافاة بين أن يراه بعينه و يراه بقلبه ، فإنّ الرؤية بالجارحة وسيلة والرؤية الحقيقية بالقلب.
18 ـ ( لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكُبْرَى ) فهو رأى بعض آيات ربّه الكبرى ، ورؤية الآيات نوع رؤية لذيها و لايمكن رؤية ذي الآية أعني ذاته المقدسة بلاتوسيط آية. قال سبحانه : ( وَ لاَيُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ) إلى غير ذلك من الآيات المنكرة لإمكان وقوع الرؤية على ذاته عزّ و جلّ ، و الإمعان في مجموع الآيات الواردة حول إسرائه وعروجه ينتهي بنا إلى عدّة اُمور : 1 ـ إنّه قد اُسري بالنبي ليلاً على جهة القطع ، و لكن هل كان عروجه في الليل أيضاً ؟ ليس في الآيات شيء يدل على ذلك ، فلو كان عروجه إلى السماوات متّصلاً بإسرائه فيتّحد معه زماناً. 2 ـ إنّ النبي اُسري و عرج بروحه و جسده و لم يكن ذلك رؤياً. 3 ـ بدأ الإسراء من المسجد الحرام أو مكّة المكرمة على ما مرّ ذكره ، و أمّا مبدأ المعراج فلو كان متّصلاً بالإسراء فيكون مبدؤه من المسجد الأقصى. 4 ـ منتهى الإسراء هو المسجد الأقصى ، و أمّا منتهى المعراج فهو منتهى السماوات كما يفيده قوله : ( عِنْدَ سِدْرَةِ المُنْتَهَى ) أي رأى جبرئيل عند شجرة السدرة الواقعة في منتهى السماوات. 5 ـ كان الغرض من الإسراء و المعراج إراءة الآيات كما يتضمّنه قوله : ( لنريهمن آياتنا ) و قوله : ( و لقد رأى من آيات ربّه الكبرى ). 6 ـ إنّ النبي رآى جبرئيل بصورته الأصليّة مرّتين ، مرّة في بدء الدعوة و مرّة في المعراج.
1 ـ الميزان : ج19 ص32.
(216)
7 ـ قد دنا جبرئيل من النبي على حد لم يبق بينهما مسافة إلاّ مقدار قاب قوسين أو أدنى. 8 ـ لم يكن هناك خطأ في تلك الرؤية ، فما أخطأ فؤاده وما زاغ بصره وماطغى. كل ذلك ممّا تفيده الآيات و بقيت هنا عدّة اُمور لم يرد في كلامه سبحانه مايوضحه : الف ـ ما هو حقيقة شجرة السدرة ؟ ب ـ بما ذا غشى السدرة ؟ ج ـ ما ذا أوحى إلى النبي في بدء الدعوة ؟ فلابدّ في الوقوف على هذه الاُمور من الرجوع إلى الروايات. ثمّ إنّ الروايات الواردة في الإسراء ومعراج النبي تنقسم جملتها عن أربعة أوجه : أوّلاً : ما يقطع بصحّتها لتواتر الأخبار به و لإحاطة العلم بصحّته. ثانياً : ما ورد في ذلك ممّا تجوّزه العقول و لاتأباه الاُصول ، و نحن نجوّزه ثمّ نقطع بأن ذلك كان في يقظته دون منامه. ثالثاً : ما يكون ظاهره مخالفاً لبعض الاُصول إلاّ أنّه يمكن تأويلها على وجه يوافق المعقول ، فالأولى أن نؤوّله إلى ما يطابق الحق و الدليل. رابعاً : ما لايصحّ ظاهره و لايمكن تأويله إلاّ بالتعسّف البعيد ، فالأولى أن لانقبله. أمّا الأوّل المقطوع به ، فهو أنّه أسرى به. و أمّا الثاني فمنه ما روي أنّه طاف في السماوات و رأى الأنبياء و العرش وسدرة المنتهى و الجنّة و النار و نحو ذلك.
(217)
و أمّا الثالث فنحو ما روي أنّه رأى قوماً في الجنّة يتنعّمون فيهاو قوماً في النار يعذّبون فيها ، فيحمل على أنّه رأى صفتهم أو أسماءهم. و أمّا الرابع فنحو ما روي أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كلّم اللّه سبحانه جهرة و رآه و قعد معه على سريره و نحو ذلك ممّا يوجب ظاهره التشبيه ، و اللّه سبحانه يتقدّس عن ذلك. و كذلك ما روي أنّه شقّ بطنه و غسله ، لأنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان طاهراً مطهّراً من كل سوء و عيب ، و كيف يطهر القلب و ما فيه من الاعتقاد بالماء ؟ (1)
إستشارة قريش أحبار اليهود في أمر دعوة النبي : كان النضر بن الحارث من شياطين قريش ، و كان ممّن يؤذي رسول اللّه وينصب له العداوة ، و كان قد قدم الحيرة ، و تعلّم بها أحاديث ملوك الفرس ، وأحاديث رستم و إسبنديار ، و كان يقول : أنا و اللّه يا معشر قريش أحسن حديثاً منه فأنا اُحدّثكم أحسن من حديثه ، ثمّ يحدّثهم عن ملوك فارس و رستم و إسبنديار ، ثمّ يقول : بما ذا محمد أحسن حديثاً منّي ؟ و هو الذي نزل في حقّه قوله : ( وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَو قَالَ اُوحِىَ إِلَىَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَ مَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللّهُ ... ) ( الأنعام/93 ). فلمّا قال ذلك النضر بن الحارث ، بعثته قريش مع عقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود و قالوا لهما : سلاهم عن محمد ، وصفا لهم صفته ، و إخبراهم بقوله ،
1 ـ مجمع البيان : ج3 ص395 ( طبع طهران ).
(218)
فإنّهم أهل الكتاب الأوّل و عندهم علم ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى قدما المدينة ، فسألا أحبار يهود عن رسول اللّه و وصفاً لهم أمره ، و أخبراهم ببعض قوله ، وقالا لهم : إنّكم أهل التوراة و قدجئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ، فقال لهما أحبار يهود : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، و إن لميفعل فالرّجل متقوّل ، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان أمرهم ؟ و أنّه قدكان لهم حديث عجب ، و سلوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض و مغاربها ما كان نبأه ، و سلوه عن الروح ما هي ، فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنّه نبي ، و إن لميفعل فهو رجل متقوّل فاصنعوا في أمره ما بدا لكم ، فأقبل النضر بن الحارث وعقبة ابن أبي معيط حتى قد ما مكة على قريش ، و قالا : يا معشر قريش قدجئناكم بفصل مابينكم و بين محمد ، قد أخبرنا أحبار يهود أن نسأله عن أشياء آمرونا بها فإن أخبركم عنها فهو نبي وإن لم يفعل فالرجل متقوّل ، فروا فيه رأيكم.
فجاؤا رسول اللّه و ذكروا الأسئلة حسبما تلقّوه من أحبار يهود ، فوافاه الوحي في الموارد الثلاثة. أمّا الفتية التي ذهبوا في الدهر الأوّل ، فبيّنتها آيات من سورة الكهف مبتدئة من قوله : ( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً ... ) و منتهية بقوله : ( قُلِ اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَ الأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِىّ وَ لاَيُشْرِكُ فِى حُكْمِهِ أَحَداً ) ( الكهف/26 ). و أمّا الرجل الطوَّاف الذي قد بلغ مشارق الأرض و مغاربها ، فنزل في حقّه آيات من سورة الكهف ، مبتدئة بقوله : ( وَ يَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِى القَرْنَينِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً ) ( الكهف/83 ) و منتهية بقوله : ( وَ تَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذ يَمُوجُ فِى بَعْض وَ نُفِخَ فِى الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً ) ( الكهف/99 ). و أمّا الروح فوافاهم الجواب بقوله : ( وَ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قَلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّى وَ مَا اُوتِيتُم مِنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) ( الإسراء/85 ).
(219)
ثمّ إنّ النبي الأكرم لمّا قدم المدينة قالت أحبار اليهود : يا محمد أرأيت قولك ( وَ مَا اُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ) إيّانا تريد ، أم قومك ؟ قال : كلاّ ، قالوا : فإنّك تتلو فيما جاءك : « إنّا قداُوتينا التوراة فيها بيان كل شيء فقال رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّها في علم اللّه قليل ، و عندكم في ذلك ما يكفيكم لو أقمتموه ». قال : فأنزل اللّه تعالى عليه فيما سألوه عنه من ذلك : ( وَ لَوْ أَنَّ مَا فِى الأَرْضِ مِنْ شَجَرَة أَقْلاَمٌ وَ البَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) أي أنّ التوراة في هذا من علم اللّه قليل (1). هذا ما رواه ابن هشام في سيرته ، و لكن المروي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) يختلف معه في جهات : الاُولى : إنّ صريح ما ورد في السيرة هو أنّ قريشاً بعثوا إلى أحبار اليهود بالمدينة و المروي عنه ( عليه السلام ) أنّ قريشاً بعثوا إلى نجران. الثانية : إنّ المبعوث على ما في السيرة شخصان ، و لكن المرويّ عنه ثلاثة أشخاص ، و الثالث العاص بن وائل. الثالثة : إنّ المسألة الثالثة على ما في السيرة هو السؤال عن الروح و المروي عنه هو قصّة موسى حين أمره اللّه عزّ وجلّ أن يتبع العالم و يتعلّم منه ، فمن هو ذلك العالم وكيف تبعه و ما كانت قصّته معه ؟ الرابعة : صريح السيرة أنّ السؤال كان عن ثلاث مسائل ، و المرويّ عنه أنّ السؤال كان عن أربع مسائل ، و المسألة الرابعة هو السؤال عن وقت الساعة ، فإن ادّعى علمها فهو كاذب ، فإنّ قيام الساعة لايعلمها إلاَّ اللّه (2). و يؤيّد كون السؤال عن أمر موسى باتباع العالم إنّ هذه المسائل الثلاث وردت
1 ـ السيرة النبويّة : ج1 ص307و308. 2 ـ تفسير القمي : ج2 ص31.
(220)
في سورة الكهف (1) و أمّا السؤال عن الروح فقد ورد في سورة الأسراء ، الآية85. ولوكان السؤال عن الروح لكان الأنسب الإجابة عن الجميع في سورة واحدة.
و على فرض التسليم بذلك فما هو المراد من الروح ، فهل المراد هو روح الإنسان أو جبرئيل ( روح الأمين ) و الأقرب هو الثاني ، و ذلك بقرينة كون السؤال من هو اليهود ، فقدكان لهم عقيدة خاصة في جبرئيل و كانوا يسمّونه ملك العذاب ، ولأجل ذلك كانوا ينصبون له العداء ، و هم الذين يتهمونه بأنّه خان حيث نقل النبوّة من نسل إسرائيل إلى أولاد إسماعيل ، و قدإشتهر منهم قولهم « خان الأمين » ، و في الوقت نفسه كانوا يظهرون المودّة لميكائيل ، و لأجل ذلك جاء الوحي مندّداً بهم بقوله : ( مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَ بُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ) ( البقرة/97 ) و قال : ( مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَ مَلاَئِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوُّ لِلْكَافِرِينَ ) ( البقرة/98 ) و قال سبحانه : ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ ) ( الشعراء/193 ـ 194 ). و وصفه بالأمين لرد إتهام اليهود إياه بالخيانة ، و أنّه نقل النبوّة من نسل إسرائيل إلى أولاد إسماعيل ، و أنّ قولهم « خان الأمين » إفتراء على أمين الوحي. كل ذلك يعرب عن أنّ اليهودكانوا يكنّون العداء لجبرئيل أو يظهرونه له ، و عند ذلك طرحوا هذا السؤال حتى يعلم لهم موقف النبي ( مدّعي النبوّة ) من عدوّهم ( جبرئيل ) فإن قام بذمّه ، كان من أنصارهم ، و إنّ مدحه ، قاموا في وجهه ، فنزل الوحي بأنّ الروح من أمر اللّه أي من مظاهر أمره سبحانه ، فهو لايقوم بما يقوم إلاّ بأمر منه ، فلو قام بإنزال البشارة فبأمره ، و لو جاء بأمر العذاب و الإبادة فهو أيضاً من أمره وبذلك يعلم أنّ تفسير الروح بروح الإنسان بعيد عن البيئة التي طرح فيها السؤال ، فإنّ البحث عن الروح و حقيقتها و حدوثها و قدمها يناسب البيئات الفلسفية لا غير.
1 ـ أعني قوله سبحانه : ( إذ قال موسى لفتيه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضى حقباً ... ) ( الكهف/60 ـ 82 ).