1 ـ ما روي عن الزهري : إنّ رسول اللّه لمّا قدم المدينة مهاجراً أمر بالتاريخ فكتب في ربيع الأوّل (1). 2 ـ ما رواه الحاكم و صحّحه عن عبد اللّه بن العباس أنّه قال : كان التاريخ في السنة التي قدم فيها رسول اللّه المدينة ، وفيها ولد عبد اللّه بن الزبير (2). و دلالته على المقصود واضحة ، لأنّه قال : « كان التاريخ في السنة » و لم يقل « من السنة ». 3 ـ إنّ بعض الصحابة كانوا يعدّون بالأشهر من مهاجرة النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أواسط السنة الخامسة ، مثلاً أرّخوا تحويل القبلة على رأس سبعة عشر شهراً ، و فرض رمضان على رأس ثمانية عشر شهراً من هجرة الرسول (3). 4 ـ ما رواه أبو نعيم عن عهد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لسلمان الفارسي و هو مؤرّخ بسنة تسع للهجرة ، و هو ينقل عن الحسين بن محمد بن عمرو الوثابي : إنّه رأى هذا السجل بشيراز بيد سبط لغسّان بن زاذان بن شاذويه بن ماهبنداز ، و هو أخو سلمان ، و هذا العهد بخط علي بن أبي طالب ، مختوم بخاتم النبي ، فنسخ منه ما صورته : « بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. هذا كتاب من محمد رسول اللّه ـ سأله سلمان وصيّة بأخيه ماهبنداز أهل بيته و عقبه ... » و في آخر العهد : « و كتب علي بن أبي طالب بأمر رسول اللّه في رجب سنة تسع من الهجرة ، و حضره أبوبكر ، و عمر ، و عثمان ، وطلحة ، و الزبير ، و عبد الرّحمان ، و سعد ، و سعيد ، و سلمان ، و أبوذر ، وعمّار ، و عيينة ، و صهيب ، و بلال ، و المقداد ، و جماعة آخرون من المؤمنين ».
1 ـ فتح الباري : ج7 ص208 ، و إرشاد الساري : ج6 ص233. 2 ـ مستدرك الصحيحين ، للحاكم النيسابوري : ج3 ص13و14. 3 ـ تاريخ الخميس : ج1 ص368 ، و من راجع الكتب المؤلّفة حول السيرة يجد ذلك بوضوح ، فإنّ أكثر الحوادث في السنين الاُولى بعد الهجرة مؤّرخة بالشهور.
(232)
و ذكره أيضاً أبو محمد بن حيّان عن بعض من عني بهذا الشأن : إنّ رهطاً من ولد أخي سلمان بشيراز زعيمهم رجل يقال له ( غسّان ) بن زاذان معهم هذا الكتاب بخط علي بن أبي طالب في يدغسان ، مكتوب في أديم أبيض مختوم بخاتم النبي وخاتم أبي بكر و علي ـ رضي اللّه عنهما ـ على هذا العهد حرفاً بحرف إلاّ أنّه قال : وكتب علي بن أبي طالب ، و لم يذكر عيينة مع الجماعة (1). و نقل أيضاً عن أبي كثير بن عبدالرحمان بن عبد اللّه بن سلمان الفارسي ، عن أبيه ، عن جدّه أنّ النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أملى هذا الكتاب على علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) : هذا مافادى محمد بن عبداللّه رسول اللّه فدى سلمان الفارسي من عثمان بن الأشهل اليهودي ، ثمّ القرظي بغرس ثلاثمائة نخلة و أربعين أوقية ذهب ، فقد برء محمد بن عبداللّه رسول اللّه لثمن سلمان الفارسي ، و ولاّه لمحمد بن عبداللّه رسول اللّه و أهل بيته فليس لأحد على سلمان سبيل. شهد على ذلك : أبوبكر الصديق و عمر بن الخطاب و علي بن أبي طالب ... و كتب علي بن أبي طالب يوم الإثنين في جمادي الاُولى مهاجر محمد بن عبداللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) (2). 5 ـ كتب خالد بن وليد لأهل دمشق : إنّي قد أمنتهم على دمائهم و أموالهم وكنائسهم ... و في آخره شهد أبو عبيدة بن الجرّاح و شرحبيل بن حسنة ، و كتب سنة13 (3). إلى غير ذلك من النصوص التي جاء بها الفاضل المتتبّع السيّد جعفر مرتضى
1 ـ ذكر أخبار اصبهان : ج1 ص53. 2 ـ المصدر السابق : ج1 ص52 ، و الظاهر أنّ المراد من « المهاجر » هو عام الهجرة لامكانها ، ويؤيّد ذلك إنّ سلمان عرف الرسول إبّان قدومه بالمدينة و آمن و التحق به ، و الظاهر أنّ توصيف أبي بكر بما في الرواية من تلاعب الرواة ، حيث لم يكن يوم ذلك معروفاًبه. لاحظ : السيرة النبويّة لابن هشام : ج1 ص218و219. 3 ـ الأموال لأبي عبيد الثقفي القاسم بن سلام ، ـ ( المتوفّى 224 ) : ص297.
(233)
العاملي في مقاله في مجلة الهادي (1) و هذا يعرب عن أنّ التاريخ بالهجرة كان قبل الخليفة ، و غاية ما يمكن تصحيح ما ورد بأنّ الخليفة أرّخ بالهجرة هو أنّ النبيّ أرّخ بالهجرة و لم يشتهر بين الناس لقلّة حاجاتهم إلى التاريخ ، فلمّا إنتشر الإسلام خارج الجزيرة مسّت الحاجة إلى تاريخ الكتب و الرسائل الواردة من مختلف الأرجاء ، جمع الخليفة صحابة النبي وأشار الإمام بنفس مافعله رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
و ممّا يؤسف له أنّ المسلمين نسوا أمجادهم التاريخية و الحضارية التي كرّمهم الإسلام بها ، فعادوا يؤرّخون كتبهم و رسائلهم بالتاريخ المسيحي ، فكأنّهم ( نَسُوا اللّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ ) و قد رأيت بعيني رسالة لشيخ الأزهر الشيخ محمود عبد الحليم و قد أرّخها بالتاريخ المسيحي الميلادي و لم يذكر ـ حتّى في جنبه ـ التاريخ الهجري ، فإذا كان هذا حال شيخ الأزهر فما ظنّك بغيره ؟
إذا كان ربّ البيت بالدفّ مولعاً
فشيمة أهل البيت كلّهم رقص
و من الواجب على المسلمين أن لايتنازلوا عن أقل شيء ممّا يرجع إلى تاريخهم و حضارتهم و دينهم ، حتى إنّ ذكر التاريخ الميلادي جنب التاريخ الهجري نوع ترويج له و مماشاة مع الكفر ، و لم يزل أعداء الدين يتآمرون على الإسلام و المسلمين بمسخ شخصيتهم الإسلاميّة و اقتلاع جذور مبادئها ، وقدشهدنا في بلدنا العزيز إيران مثل ذلك عام1396 هـ ـ ق. فقد قام طاغوت إيران بتبديل التاريخ الإسلامي إلى التاريخ « الشاهنشاهي » المجعول الذي لاسند له ، و فرضه على الناس وعادت الرسائل و الكتب الرسمية تؤرّخ به ، و كادت أن ترسّخ في القلوب لولا أن بدّد اللّه شمله و أزال ملكه و حاق به العذاب و البلاء بانتصار الثورة الإسلاميّة عام 1398 هـ.ق ( قُلْجَاءَ الحَقُّ وَ زَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ).
1 ـ العدد السادس من السنة الخامسة و هو مقال ممتع.
(234)
نزول النبيّ بالمدينة : خرج رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم الجمعة من ( قبا ) فأدرك الجمعة في بني سالم بن عوف فكانب أوّل جمعة أقامها بالمدينة ، و كان لايمر على قبيلة إلاّ قالوا أقم عندنا ، فيقول النبيّ خلّوا سبيلها ( الناقة ) فإنّها مأمورة حتّى إذا أتت دار بني مالك بن النجّار ، بركت ناقته على باب مسجده و هو مريد (1) فنزل رسول اللّه فاحتمل أبو أيّوب رحله فوضعه في بيته ، و سأل عن المربد لمن هو ، فقال معاذبن عفراء : هو لسهل و سهيل ابني عمرو و هما يتيمان لي و سارضيهما منه ، فاتّخذه مسجداً ، فأمر به رسول اللّه أن يبني مسجداً ، و نزل رسول اللّه حتى بنى مسجده ومسكنه ، فعمل فيه رسول اللّه ليرغّب المسلمين في العمل فيه ، فعمل فيه المهاجرون والأنصار و دأبوا ، فقال قائل من المسلمين :
لئن قعدنا و النبي يعمل
لذاك منّا العمل المضلّل
و ممّن ساهم في بناء المسجد عمّار بن ياسر و قد أثقلوه باللبن ، فقال يارسول اللّه : قتلوني ، يحمّلون عليّ مالا يحملون ، قالت اُمّ سلمة زوجة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فرأيت رسول اللّه ينفض و فرته بيده و كان رجلاً جعداً ، و هو يقول : ويح ابن سميّة ليسوا بالذين يقتلونك إنّما تقتلك الفئة الباغية. و ارتجز علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) يومئذ :
لا يستوي من يعمّر المساجدا
يدأب فيه قائماً و قاعداً
و من يرى عن الغبار حائداً و قد كان بين أصحاب رسول اللّه من يستنكف العمل ، فهذا الرجز من علي ( عليه السلام ) كان بقصد التعريض به ، و قد قال ابن إسحاق : إنّ المقصود به عثمان بن عفّان ، و في المواهب ، للدنية : إنّ المقصود عثمان بن مظعون.
1 ـ الموضع الذي يجفّف فيه التمر.
(235)
فأقام رسول اللّه بالمدينة إذ قدمها شهر ربيع الأوّل إلى صفر من السنة التالية حتّى بنى له فيها مسجده و مساكنه ، فلم يبق دار من دور الأنصار إلاّ أسلم أهلها إلاّ حيّ من الأوس ، فإنّهم أقاموا على شركهم. و لأجل إستتباب الأمن ، و إضفاء طابع الوحدة السياسية على القبائل التي تستوطن يثرب و ما جاورها كتب رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كتاباً بين المهاجرين و الأنصار ، وادع فيه اليهود وعاهدهم و أقرّهم على دينهم و أموالهم وشرط لهم و إشترط عليهم. و قد نقل ابن هشام الكتاب برمّته و هو أوّل منشور سياسي أدلى به النبي إبّان نزوله بالمدينة. و لم يكتف بذلك حتى آخى بين المهاجرين و الأنصار ، فقال : تآخوا في اللّه أخوين أخوين ، ثمّ أخذ بيد علي بن أبي طالب ، فقال : هذا أخي ، فكان رسول اللّه سيّد المرسلين و إمام المتّقين و رسول رب العالمين الذي ليس له نظير من العباد وعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أخوين ، و كان حمزة بن عبد المطلب أسد اللّه وأسد رسوله و عمّه و زيد بن حارثة مولى رسول اللّه أخوين ، و إليه أوصى حمزة يوم اُحدحين حضره القتال إن حدث به حادث الموت ، فهكذا تآخى المهاجرون والأنصار أخوين أخوين. فلمّا إطمأنّ رسول اللّه بالمدينة و التفّ حوله إخوانه من المهاجرين و إجتمع أمر الأنصار ، إستحكم أمر الإسلام ، فقامت الصلاة و فرضت الزكاة و الصيام و قامت الحدود و فرض الحلال و الحرام ، و شرع الآذان (1). و لمّا استحكمت شوكة المسلمين ظهرت من أحبار اليهود العداوة حسداً وضغناً و إلتحق بهم رجال من الأوس و الخزرج فتظاهروا بالإسلام ، و نافقوا في السرّ و كان هواهم مع اليهود.
1 ـ السيرة النبويّة : ج1 ص494 ـ 512.
(236)
و كان أحبار اليهود هم الذين يسألون رسول اللّه و يشاغبونه ليلبسوا الحق بالباطل ، فكان القرآن ينزل فيهم فيما يسألون عنه. و كان المجتمع اليهودي عبارة عن مجموع قبائل ثلاث : 1 ـ بني قينقاع. 2 ـ بني النضير. 3 ـ بني قريظة. و كانت تلك القبائل مليئة بالأحبار و هم الذين شنُّو حرب الإستنزاف الخفية على النبي ، و استمدّوا ممّن إجتمع إليهم من منافقي الأنصار ، وإليك إستعراض مابدر منهم من جدال على ضوء ما ورد في القرآن الكريم.
مجادلة أهل الكتاب كانت بيئة مكّة قاعدة للشرك و المشركين و لم يكن هناك حبر و لاراهب ، بل و لايهودي و لانصراني إلاّ شرذمة قليلة لاتتجاوز عدد الأصابع من أمثال ورقة بن نوفل ، و عثمان بن حويرث اللّذين تنصّرا قبل الإسلام ، و كانت قريش تغط في الكفر و الشرك إلاّ اُناس قليل المقتفين أثر الخليل المسمّين بالأحناف (1). إنّ ما ورد من الآيات حول جدال أهل الكتاب مع النبي ، آيات مدنية تناثر ذكرها في السور الطوال كالبقرة و آل عمران و غيرهما. كان الجدال محتدماً على قدم و ساق في الفترة التي كانت القبائل الثلاث مقيمة في المدينة ، و بعد ما اُزيلوا عنها اُخمدت نار فتنتهم ، و كان أكثر ما جادلوا فيه ما يرجع إلى النبي و علائمه في العهدين ، و لسنا في هذا المقام بصدد نقل كل حوار
1 ـ السيرة النبويّة : ج1 ص222 ـ 224.
(237)
ورد في القرآن الكريم سواء أكانت راجعة إلى الأحبار و الرهبان أم إلى غيرهم ، وإنّما الهدف تبيين مادار بين النبي وبين أحبار اليهود في يثرب قبل إجلائهم وإبادتهم ، وكان الكل في السنين الخمس الاُولى إلى أوان حرب الخندق حيث استأصل نسل اليهود في المدينة و لم يبق منهم أحد إلاّ كعب القرظي (1).
تنبّؤ القرآن عن شدّة عداوة اليهود : تنبّأ القرآن الكريم عن قسوة اليهود و شدّة عدائهم كالمشركين بينما كان المسيحيون على خلاف ذلك ، فكانوا أقرب الناس مودّة للّذين آمنوا ، قال سبحانه : ( لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسَ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْبَاناً وَ أَنَّهُمْ لاَيَسْتَكْبِرُونَ * وَ إِذَا سَمِعُوا مَا اُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ) ( المائدة82 ـ 83 ) و لأجل ذلك نرى أنّه لميسلم من اليهود و لا من أحبارهم إلاّ أقل القليل ، كعبد اللّه بن سلام و كعب الأحبار من الذين دسُّوا بإسلامهم كثيراً من البدع اليهودية بين المسلمين ، بينما نرى أنّه بعد ما إنتشر الإسلام في ربوع الأراضي المسيحية ، دخل المسيحيّون أفواجاً في الإسلام وماذلك إلاّ لأنّه كان فيهم قسّيسون و رهبان ، مالوا إلى الحق و اعتنقوه وصدّقوا به فتبعهم غيرهم. و هناك سبب آخر لتصلّب اليهود و عدم رضوخهم لدعوة الإسلام ، يتمثّل في حرصهم على زينة الحياة و زبرجها و هو أكبر حجاب بين بصيرة الإنسان ، و الحق الذي يجب أن يتّبع ، قال سبحانه :
1 ـ هو والد محمد بن كعب القرظي ، القصّاص الذي ملأت كتب التاريخ و التفسير قصصه ، فتدبّر.
الدعوة إلى أصل مشترك بين الشرائع السماوية : إنّ التوحيد في العبادة هو الأصل المشترك الذي قام عليه صرح الشرائع السماوية ، و من العجب إنّ أهل الكتاب الذي يضفون على أنفسهم أنّهم من أنصار لواء التوحيد ، قدإنحرفوا عن هذا الأصل الأصيل ، فعاد يتّخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون اللّه ، فجاء الوحي يدعوهم إلى العودة إلى هذا الأصل ، و الإنضواء تحت رايته الخفّاقة ، قال سبحانه : ( قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوا إِلَى كَلِمَة سَواء بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَنُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لاَيَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللّهِ فإنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) ( آل عمران/64 ). و لأجل إيقاف القارئ على نماذج من إنحراف اليهودو النصارى عن هذا الأصل المشترك على أبعاده المختلفة ( التوحيد في العبادة ـ التوحيد في الربوبية ... ) نذكر بعض عقائدهم الخرافية حسبما ورد في القرآن الكريم. الإعتقاد بمبدأ البنوّة للباري جلّ و علا : و قد تمخّض الانحراف عن أصل التوحيد ، و بلغ الذروة حيث إتّخذوا للّه ابناً باسم عزير و المسيح و هم يضاهئون بذلك قول الكافرين ، و إليه الإشارة في قوله عزّ و جلّ : ( وَ قَالَتْ اليَهُودُ عُزَيْزٌ ابْنُ اللّهِ وَ قَالَتِ النَّصَارَى المَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذِلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ) ( التوية/30 ).
(239)
إنّ اليهود اليوم و إن كانت تنكر تلك النسبة و لاتدين بها ولكنّها كانت موجودة في عصر نزول القرآن ، و لأجل ذلك لم تعترض اليهود على النبي الأكرم. و المستفاد من الآية إنّ الإعتقاد بمبدأ البنوّة للباري جلّ و علا ذات خلفية تاريخية و لعلّ الآية تشير إلى عقيدة التثليث التي كانت تدين بها الهندوكية كما هو الظاهر من آثار آلهتكم المجسّمة المثلّثة (1). و بما أنّ للتثليث دعامة راسخة في الديانة النصرانية أفاض القرآن القول فيه ، يليق بنا الإسهاب في تناول أطراف هذا الموضوع.
ذاتية التوحيد و ظاهرة التثليث : لقد تمثّلت ظاهرة التثليث في الديانة النصرانية عصر نزول القرآن في صور مختلفة تناولها القرآن الكريم بالذكر. فتارة يقولون المسيح هو اللّه. و اُخرى يصرّحون بالثالوث المقدّس ، و إنّ هناك ثلاث آلهات بإسم إله الأب ، و إله الابن ، و روح القدس. و ثالثة إنّ المسيح ابن اللّه و لعلّ الجميع تعبيرات متنوّعة عن حقيقة واحدة أو أنّها عبارة عن نظريات مختلفة يتبنّى كل واحد منها طائفة منهم و إليك التوضيح. أ ـ المسيح هو اللّه : يقول سبحانه حاكياً عنهم تلك العقيدة : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ هُوَ1 ـ لاحظ : الآثار الوثنية في الديانة النصرانية.
(240)
المَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَ قَالَ المَسِيحُ يَا بَنِى إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللّهَ رَبِّى وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْحَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَ مَأْوَاهُ النَّارُ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار ) ( المائدة/72 ).
فالآية تعرب عن أنّ المسيح عند طائفة منهم هو الرّب الخالق ، و بعبارة اُخرى : إنّ اللّه إتّحد بالمسيح إتّحاد الذات ، فصارا شيئاً واحداً و صار الناسوت لاهوتاً (1). و الذين يقولون من النصارى : إنّ اللّه هو المسيح ابن مريم هم اليعقوبية ، واللائق بهذا القول هو إنكار التثليث ، و لكنّ لايخلوا مذهب من مذاهب النصارى منه ، و قد ردّ القرآن على ذلك الزعم بما نقله عن المسيح بأنّه قال : ( يَا بَنِى إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا رَبِّى وَ رَبَّكُمْ ... ) فهو يدّل على أنّه عبد مثلهم كما أنّ قوله : ( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكُ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ ) يدلّ على أنّ من يجعل للّه شريكاً في اُلوهيّته ، فهو مشرك كافر ، محرّم عليه الجنّة. و في هذا القول مزيد عناية بإبطال ما ينسبونه إلى المسيح من حديث التفدية و أنّه ( عليه السلام ) باختياره الصلب فدّى بنفسه عنهم ، فهم مغفور لهم ، مرفوع عنهم التكاليف الإلهية ، و مصيرهم إلى الجنة ولايمسّون ناراً. كيف يقولون ذلك مع أنّه ( عليه السلام ) كان يقول : ( مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجَنَّةَ وَ مَأْوَاهُ النَّارُ وَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار ) (2). ب ـ اللّه ثالث ثلاثة أو الثالوث المقدّس : و كان هناك قسم آخر من الإنحراف عن خط التوحيد يتجسّد في القول بأنّ اللّه ثالث ثلاثة كما يحكيه قوله سبحانه : ( لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَة وَ مَا مِنْ إِله إِلاَّ إِلهٌ وَاحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( المائدة/73 ) و القائل بهذه
1 ـ مجمع البيان : ج2 ص228. 2 ـ التبيان : ج3 ص587.