فقالوا لرسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إلى ما تدعو ؟ فقال إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أنّي رسول اللّه و إنّ عيسى عبد مخلوق ، يأكل و يشرب ، و يُحدث ، فقالوا فمن أبوه ؟ فنزل الوحي على رسول اللّه ، فقال : قل لهم : « ما تقولون في آدم أكان عبداً مخلوقاً يأكل و يشرب و يُحدث و ينكح ؟ فسألهم النبيّ ، فقالوا : نعم ، فقل : فمن أبوه ؟ فبهتوا ، فأنزل اللّه : ( إِنَّ مَثَلَ عِيْسَى عِنْدَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَاب ثِمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * الحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلاَتَكُنْ مِنَ المُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَ أَبْنَاءَكُمْ وَ نِسَاءَنَا وَ نِسَاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنَا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلَ لَعْنَةَ اللّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ ) ( آل عمران/59 ـ 61 ).
الدعوة إلى المباهلة فلأجل ذلك قال لهم رسول اللّه فباهلوني فإن كنت صادقاً اُنزلت اللّعنة عليكم و إن كنت كاذباً اُنزلت عليّ ، فقالوا : « أنصفت » ، فتواعدوا للمباهلة ، فلمّا رجعوا إلى منازلهم ، قال لهم رؤساؤهم ـ السيّد و العاقب و الأيهم ـ : إن باهلنا بقومه باهلناه فإنّه ليس نبيّاً ، و إن باهلنا بأهل بيته خاصّة لم نباهله فإنّه لايقدّم أهل بيته إلاّ و هو صادق ، فلمّا أصبحوا جاءوا إلى رسول اللّه و معه أمير المؤمنين و فاطمة و الحسن والحسين ، فقال النصارى من هؤلاء ؟ فقيل لهم : هذا ابن عمه و صهره علي بن أبي طالب و هذه ابنته فاطمة و هذان ابناه الحسن و الحسين ، ففزعوا ، فقالوا لرسول اللّه : نعطيك الرّضا فاعفنا من المباهلة ، فصالحهم رسول اللّه على الجزية و انصرف (1). و روى الطبرسي : و لمّا كان الغد جاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) آخذ بيد علي بن أبي طالب و الحسن و الحسين ( عليهم السلام ) بين يديه يمشيان وفاطمة ( عليها السلام ) تمشي خلفه ، و خرج النصارى يتقدّمهم أسقفهم فلمّا رأى
1 ـ تفسير القمي ج1 ص
(282)
النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد أقبل بمن معه ، سأل عنهم ، فقيل له : هذا ابن عمّه و زوج ابنته و أحب الخلق إليه و هذان ابنا بنته من علي ( عليه السلام ) و هذه الجارية بنته فاطمة ، أعزّ الناس عليه و أقربهم إلى قلبه ، و تقدّم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فجثا على ركبتيه.
قال أبو الحارثة الأسقف : جثا و اللّه كما جثا الأنبياء للمباهلة ، فسكع ولميقدم على المباهلة ، فقال السيّد : إدن يا أبا حارثة للمباهلة ، فقال : لا ، إنّي لأرى رجلاً جريئاً على المباهلة و أنا أخاف أن يكون صادقاً و لئن كان صادقاً لم يحل و اللّه علينا الحول و في الدنيا نصراني يطعم الماء ، فقال الأسقف : يا أبا القاسم إنّا لانباهلك و لكن نصالحك فصالحنا على ما ينهض به ، فصالحهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على ألفي حلّة من حلل الأواقي قسمة كل حلّة أربعون درهماً فما زاد و نقص فعلى حساب ذلك ، و على عارية ثلاثين درعاً ، و ثلاثين رمحاً ، وثلاثين فرساً إن كان باليمن كيد ، و رسول اللّه ضامن حتّى يؤديها و كتب لهم بذلك كتاباً. و روي أنّ الأسقف قال لهم : إنّي لأرى وجوهاً لوسألوا اللّه أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله ، فلاتباهلوا فتهلكوا و لايبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة ، وقال النبيّ : و الذي نفسي بيده لو لاعنوني لمسخوا قردة و خنازير ، و لاضطرم الوادي عليهم ناراً ، و لما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا كلّهم ، قالوا : فلمّارجع وفد نجران ، لم يلبث السيّد و العاقب إلاّ يسيراً ، حتّى رجعا إلى النبيّ ، وأهدى العاقب له حلّة و عصا و قدحاً و نعلين و أسلما (1). و هناك كلمة قيّمة للزمخشري يقول فيها : فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلاّ لتبيّن الكاذب منه و من خصمه وذلك أمر يختصّ به و بمن يكاذبه فما معنى ضم الأبناء و النساء ؟ قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله و استيقانه بصدقه حيث تجرّأ على
1 ـ مجمع البيان : ج2 ص762 و 763 ( طبع بيروت ).
(283)
تعريض أعزّته و أفلاذ كبده و أحبّ الناس إليه لذلك ، و لم يقتصر على تعريض نفسه له و على ثقته بكذب خصمه حتّى يهلك خصمه مع أحبّته و أعزّته هلاك الإستئصال إن تمّت المباهلة. و خصّ الأبناء و النساء لأنّهم أعزّ الأهل و ألصقهم بالقلوب ، و ربّما فداهم الرجل بنفسه ، و حارب دونهم حتّى يقتل ، و من ثمّ كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ، و يسمّون الذادة عنهم بأرواحهم : « حماة الحقائق » و قدّمهم في الذكر على الأنفس ( في الآية ) لينبّه على لطف مكانهم ، و قرب منزلتهم و ليؤذن بأنّهم مقدّمون على الأنفس مفدون بها ، و فيه دليل لاشيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء ( عليهم السلام ) وفيه برهان واضح على صحّة نبوّة النبيّ لأنّه لم يرو أحد من موافق و لامخالف أنّهم أجابوا إلى ذلك (1).
و من أمعن فيما ورد من سبب النزول و شرحه في كتب الحديث و التفسير يقف على مكرمة و فضيلة عظيمة لأهل البيت ( عليهم السلام ) في تلك الحادثة ، ومن أراد التفصيل فليرجع إلى كتاب « الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء » للسيّد شرف الدين ( ص197 ـ 203 ). و هناك نكتة اُخرى نقلها الرازي عن بعض معاصريه من الشيعة و لم يناقش في كلامه مع غرامه بنقض المحكمات و هيامه في التشكيكات و الشبهات ، قال : كان في الري رجل يقال له محمود بن الحسن الحمصي و كان معلّم الإثنى عشرية و كان يزعم أنّ عليّاً ( رضي الله عنه ) أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و استدلّ على ذلك بقوله تعالى : ( وَ أَنْفُسَنَا وَ أَنْفُسَكُم ) إذ ليس المراد بقوله ( وَ أَنْفُسَنَا ) نفس محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأنّ الإنسان لايدعو نفسه بل المراد غيرها ، و أجمعوا على أنّ ذلك الغير كان علي بن أبي طالب ( رض ) فدلّت الآية على أنّ « نفس علي » هي محمد ، و لايمكن أن يكون المراد إنّ هذه النفس هي عين تلك ، فالمراد إنّ هذه النفس مثل تلك النفس ، و ذلك
1 ـ الكشاف : ج1 ص327.
(284)
يقتضي المساواة في جميع الوجوه ، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوّة و في حق الفضل لقيام الدلائل على أنّ محمداً عليه الصلاة و السلام كان نبيّاً و ما كان علي كذلك و لإنعقاد الإجماع على أنّ محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان أفضل من علي ( رض ) فبقى فيما وراءه معمولاً به ثمّ الإجماع دلّ على أنّ محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان أفضل من سائر الأنبياء ( عليهم السلام ) فيلزم أن يكون علي أفضل من سائر الأنبياء (1).
29 ـ الخلفيّة التشريعيّة لحرمة الأشهر الحرم : ربّما نقرأ في بعض الصحف و الكتب أنّ عرب الجاهلية هم الذين حرّموا الحرب في الأشهر الحرم و أضفوا عليها مسحة قدسية خاصة ، و ذلك لأنّهم كانوا متوغّلين في الحروب و الغارات و كان تمادي الظاهرة القبليّة الشاذّة موجباً لفكّ عرى الحياة ، و لأجل ذلك إستثنوا هذه الأشهر لتقويم أودهم و ضمان أمن طرق التجارة وتيسير أمر زيارة الكعبة. و لكنّها فكرة خاطئة تخالف ما نستلهمه من القرآن الكريم ، فإنّ الظاهر منه أنّ حرمة الأشهر لها جذور دينية و أنّها جزء من صميم الدين القيّم الذي جاء به إبراهيم ( عليه السلام ) إلى اُمّته ، قال سبحانه : ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِى كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّموَاتِ وَ الأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلاَتَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ... ) ( التوبة/36 ). فإنّ قوله : ( ذلك الدين القيّم ) ربّما يشير إلى أنّ إتّصاف الأربعة بالحرم جزء من الدين القيّم و تشريعاته. و على ذلك الأساس فالنبيّ الأكرم أولى بأن يحافظ على حرمتها و يراعي قدسيّتها ، و بذلك يسهل لك القضاء في الحادثة الدموية التي وقعت في مستهلّ
1 ـ تفسير الرّازي ج8 ص81 ( طبع بيروت ).
(285)
شهر رجب بيد المسلمين و هي التي إستغلّتها قريش للتعيير بالنبيّ و الإزدراء به ، وأنّه هدم قدسيّة تلك الأشهر و إراقة الدم فيها ، و إليك نصّ القصة : بعث رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عبد اللّه بن جحش بن رئاب الأسدي في رجب مقفلة من بدر الاُولى و بعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد ، و كتب لهم كتاباً و أمره أن لاينظر فيه حتّى يسير يومين ثمّ ينظر فيه ، فيمضي بما أمره به و لايستكره من أصحابه أحداً. فلمّا سار عبد اللّه بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فإذا فيه : إذا نظرت في كتابي هذا فامض حتّى تنزل نخلة بين مكّة و الطائف ، فترصد بها قريشاً و تعلم لنا من أخبارهم. فلمّا نظر عبد اللّه بن جحش في الكتاب قال : سمعاً و طاعة ، ثمّ قال : لأصحابه قد أمرني رسول اللّه أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشاً حتّى آتيه منهم بخبر ، و قد نهاني أن أستكره أحداً منكم فمن كان منكم يريد الشهادة و يرغب فيها فلينطلق و من كره ذلك فليرجع ، فأمّا أنا فماض لأمر رسول اللّه ، فمضى و مضى معه أصحابه لم يتخلّف منهم أحد. و سلك إلى الحجاز حتّى إذا كان بمعد فوق « الفرع » يقال له بحران أضلّ سعد بن أبي وقّاص و عتبة بن غزوان بعيراً لهما ، كانا يتعاقبانه ، فتخلّفا عليه في طلبه ومضى عبد اللّه بن جحش و بقيّة أصحابه حتّى نزل بنخلة ، فمرّت به عير لقريش تحمل زبيباً و أدماً وتجارة من تجارة قريش ، فيها عمرو بن الحضرمي ، فلمّا رآهم القوم (1) هابوهم و قد نزلوا قريباً منهم ، فأشرف لهم عكاشة ابن محصن و كان قد حلق رأسه فلمّا رأوه أمنوا و قالوا : عمّار لابأس عليكم منهم ، و تشاور القوم فيهم و ذلك في آخر يوم من رجب ، فقال القوم : (2) و اللّه لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلنّ الحرم
1 ـ المقصود عير قريش. 2 ـ المقصود المسلمون.
(286)
فليمتنعنّ منكم به (1) و لئن قتلتموهم لنقتلنّهم في الشهر الحرام ، فتردّد القوم (2) و هابوا الإقدام عليهم ثمّ شجّعوا أنفسهم عليهم و أجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم فرمى و اقد بن عبد اللّه التيمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، وإستأسر عثمان بن عبد اللّه و الحكم بن كيسان و أفلت القوم (3) نوفل ابن عبد اللّه فأعجزهم و أقبل عبد اللّه بن جحش و أصحابه بالعير و بالأسيرين حتّى قدموا على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
فلمّا قدموا على رسول اللّه المدينة ، قال : ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام فوقّف العير و الأسيرين و أبى أن يأخذ من ذلك شيئاً ، فلمّا قال ذلك رسول اللّه ، سقط في أيدي القوم و ظنّوا أنّهم قد هلكوا و عنّفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا ، وقالت قريش : قد إستحلّ محمّد و أصحابه الشهر الحرام فسفكوا فيه الدم و أخذوا فيه الأموال و أسروا فيه الرجال. و قد توقّع اليهود لأجل هذه الحادثة بالمسلمين الشر ، فلمّا أكثر الناس في ذلك أنزل اللّه على رسوله : ( يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَال فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَ إِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وَ الفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ وَ لاَيَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وِ هُوَ كَافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِى الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّهِ وَ اللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( البقرة/217و218 ). و الآية الثانية تحكي عن نزول المغفرة لعبد اللّه بن جحش و أصحابه و ذلك لأجل أنّهم كانوا ذوو سابقة حسنة و بلاء محمود كما يشير إليه قوله : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا1 ـ أي يتحصنون يالحرم. 2 ـ المقصود هم المسلمون. 3 ـ أي فر من بين أيديهم فلم يتمكنّوا من اللحاق به و القبض عليه.
(287)
وَ الَّذِينَ هَاجَرُوا وَ جَاهَدُوا فِى سَبِيلِ اللّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللّهِ ).
قال ابن هشام : لمّا تجلّى عن عبد اللّه بن جحش و أصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن ( الآية الاُولى ) طمعوا في الأجر ، فقالوا : يا رسول اللّه أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطي فيها أجر المجاهدين ؟ فأنزل اللّه عزّ و جلّ فيهم : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هَاجَرُوا ... ). فلمّا نزل القرآن بهذا و فرّج اللّه تعالى عن المسلمين ما كانوا فيه من الشفق قبض رسول اللّه العير و الأسيرين. و بعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد اللّه و الحكم بن كيسان ( الأسيرين ) ، فقال رسول اللّه لانفديكموهما حتّى يقدم صاحبانا ـ يعني سعد بن أبي وقاص و عتبة بن غزوان ـ فإنّا نخشاكم عليهما فإن تقتلوهما ، نقتل صاحبيكم ، فقدم سعد و عتبة فأفداهما رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) منهم. فأمّا الحكم بن كيسان فأسلم فحسن إسلامه و أقام عند رسول اللّه حتّى قتل يوم بئر معونة شهيداً ، و أمّا عثمان بن عبد اللّه فلحق بمكّة حتّى مات بها كافراً. هذا كلّه راجع إلى حكاية القصّة بجزئيّاتها و أمّا تحليل الحادثة و توضيح الجواب الذي جاءت به الآية الاُولى فهو بالشكل التالي. لاشك أنّ عمل عبد اللّه بن جحش لم يكن خاضعاً للضوابط العسكرية ، فإنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يأمره بالقتال بل أمر بإستطلاع أخبار القوم ونقل أخبارهم إليه ، فقتاله كان عصياناً لأوامر قائده أوّلاً و هتكاً لقداسة الشهر ثانياً ، ولأجل ذلك لمّا جاء إلى النبيّ لم يقبل منه العير و الأسيرين و انتظر الوحي الإلهي حتّى وافاه ، و ليس من الصحيح أن يؤاخذ الأمير و رئيس القوم بإجرام واحد من قادة عسكره. و إليه يشير قوله سبحانه : ( قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ) أي إنّ القتال فيه و إن كان صغيراً في نفسه : أمر كبير مستنكر لعظيم حرمته ، و لكن الذي ينبغي إلفات النظر إليه هو أنّ الناقدين أعني قريشاً قد إرتكبوا جريمة أكبر ممّا إرتكبه ذلك القائد
(288)
العسكري و ذلك : 1 ـ إنّهم صدّوا الناس عن سبيل اللّه و منعوهم عن الطريق الموصل إلى اللّه تعالى و هو الإسلام ، حيث كان المشركون يضطهدون المسلمين و يقتلون من يسلم أو يؤذونه في نفسه و أهله و ماله فيمنعونه من الهجرة إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ). 2 ـ إنّهم كفروا باللّه سبحانه. 3 ـ إنّهم صدّوا عن المسجد الحرام و منعوا المؤمنين من الحج و الإعتمار. 4 ـ إنّهم أخرجوا النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و المهاجرين. و كلّ هذه أكبر عند اللّه من قتال المسلمين المشركين في الشهر الحرام. 5 ـ و الفتنة أكبر من القتل أي فتنة المسلمين في دينهم بإلقاء الشبهات في قلوبهم أو بتعذيبهم كما فعلوا بعمّار بن ياسر و بلال و خبّاب بن الأرت و غيرهم ، أكبر من قتل المشركين. و القتال في الشهر الحرام أهون من الفتنة عن الإسلام لو لم يحفّ بها غيرها من الآثار ، كيف و قد قارنها الصدّ عن سبيل اللّه ، و الكفر به ، و الصد عن المسجد الحرام و إخراج أهله منه ، فمن وقف على فتنة المشركين لضعفاء المسلمين طيلة ثلاث عشرة سنة و إستمرارها بعد هجرته في حقّ المستضعفين القاطنين في مكّة ، يقف على أنّ قتل مشرك و أسر نفرين منهم أهون بكثير ممّا إرتكبوه طوال هذه السنين. و إلى هذا يشير قوله سبحانه : ( وَ صَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَ إِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللّهِ وَ الفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ ).
1 ـ إجلاء بني قينقاع من المدينة : قد وقفت فيما سبق على المناظرات و الإجتجاجات التي دارت رحاها بين النبيّ و اليهود ، و اتّضح لك إنّها لم تكن من اليهود بغرض كشف الحقيقة و إنّما كانت مماراة منهم حتّى يشوّهوا الحقيقة على طلاّبها و يضعوا العراقيل في وجه إنتشار الإسلام و تعاظم قدرة المسلمين ، و قد كان النبيّ الأكرم صابراً على إيذائهم ، ولكنّهم لمّا بلغت جرأتهم إلى حدّ هتكوا عرض امرأة مسلمة و قتلوا رجلاً من المسلمين في سوقهم ، قام النبيّ في وجههم فرفض الميثاق الذي عقدوه بينهم و بين النبيّ لأنّهم بأعمالهم الإجرامية نقضوا بنوده و مضامينه فلم يبقوا له حرمة ، و لكن النبيّ الأكرم أخذ كل طائفة من اليهود بجرمها و لم يأخذ جميع طوائف اليهود بجرم واحدة منها. فأجلى بني قينقاع لأجل ذينك العملين ( هتك حرمة المرأة المسلمة و قتل مسلم ) و أبقى الطائفتين الاُخريين على حالهما ، فلمّا همّ بنو النضير بقتل النبيّ الأكرم ، أجلاهم بمؤامرتهم و أبقى بني قريظة على حالها في المدينة إلى أن إرتكبت الثالثة جريمة كبيرة ، فجازاهم بعملهم حسبما يوافيك بيانه. و هذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ النبيّ الأكرم كان يحترم العهود والمواثيق المبرمة بينه و بين سائر الملل و النحل و أنّه لو لم تنقض اليهود عهودها ومواثيقها لما خطا النبيّ الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خطوة واحدة في طريق
(290)
الحرب ضدّهم ، و لأجل ذلك يجب علينا دراسة العوامل التي حفّزت النبي إلى إتّخاذ موقف حازم و صارم في وجه اليهود القاطنين في المدينة ، و قبل إيضاحها نذكر لك نص الميثاق الذي عقده النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) معهم إبّان نزوله المدينة.
روى القمّي في تفسيره : و جاءته اليهود ـ قريظة و النضير و قينقاع ـ فقالوا : يامحمّد إلى ما تدعو ؟ قال : إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أنّي رسول اللّه و أنّي الذي تجدونني مكتوباً في التوراة و الذي أخبركم به علماؤكم أنّ مخرجي بمكة و مهاجري في هذه الحرّة ، و أخبركم عالم منكم جاءكم من الشام فقال : « تركت الخمر والخمير و جئت إلى البؤس و التمور لنبيّ يبعث في هذه الحرّة مخرجه بمكة ومهاجره هاهنا ، و هو آخر الأنبياء و أفضلهم ، يركب الحمار و يلبس الشملة و يجتزي بالكسرة ، في عينيه حمرة و بين كتفيه خاتم النبوّة ، و يضع سيفه على عاتقه لايبالي من لاقى ، و هو الضحوك القتال يبلغ سلطانه منقطع الخف و الحافر » فقالوا له : قدسمعنا ما تقول وقد جئناك لنطلب منك الهدنة على أن لانكون لك و لاعليك ولانعين عليك أحداً ولانتعرّض لأحد من أصحابك و لاتتعرّض لنا و لا لأحد من أصحابنا حتّى ننظر إلى ما يصير أمرك و أمر قومك ، فأجابهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى ذلك و كتب بينهم كتاباً : ألاّ يعينوا على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و لا على أحد من أصحابه بلسان و لايد و لابسلاح و لابكراع في السرّ والعلانية ، لابليل ولابنهار ، اللّه بذلك عليهم شهيد ، فإن فعلوا فرسول اللّه في حِلّ من سفك دمائهم ، وسبي ذراريهم و نسائهم ، و أخذ أموالهم. و كتب لكل قبيلة منهم كتاباً على حدّة ، و كان الذي تولّى أمر بني النضير حيّي بن أخطب ، فلمّا رجع إلى منزله قال له اُخوته ( جديّ بن أخطب و أبوياسر بن أخطب ) : ما عندك ؟ قال : هو الذي نجده في التوراة و الذي يبشّرنا به علماؤنا و لاأزال له عدوّاً لأنّ النبوّة خرجت من ولد إسحاق ، وصارت في ولد إسماعيل ، و لانكون تبعاً لولد إسماعيل أبداً. و كان الذي ولي أمر قريضة كعب بن أسد ، و الذي ولي أمر بني قينقاع مخيريق و كان أكثرهم مالاً و حدائق ، فقال لقومه : تعلمون أنّه النبيّ المبعوث ؟