رسول اللّه و كلّمه. قال له رسول اللّه مثل ما قاله لرجال خزاعة ، فرجع إلى قريش فأخبرهم بما قال.
3 ـ الحليس رسول ثالث لقريش ثمّ بعثت قريش رسولاً ثالثاً ، و هو الحليس ، و كان يومئذ سيد الأحابيش ، فلما رآه رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : إنّ هذا من قوم يتألّهون (1) ، فابعثوا الهدي في وجهه حتّى يراه ، فلما رأى الهدي ، و قد أكل أوباره من طول الحبس ، رجع إلى قريش ، و لم يصل إلى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إعظاماً لما رآى ، فقال لهم ذلك. فقالوا له : إجلس فإنّما أنت أعرابي لا علم لك. فقال الحليس مغضباً : يا معشر قريش ، و اللّه ما على هذا حالفناكم ، ولاعلى هذا عاقدناكم ، أيصد عن بيت اللّه من جاء معظّماً له ؟ و الذي نفس الحليس بيده لتخلن بين محمد و بين ما جاء له ، أو لاُنفرنّ بالأحابيش نفرة رجل واحد. فقالوا له : مه ، كف عنّا يا حليس حتّى نأخذ لأنفسنا ما نرضى به. 4 ـ عروة بن مسعود رسول قريش و في المرة الرابعة بعثت قريش عروة بن مسعود الثقفي ، فخرج حتّى أتى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فجلس بين يديه ثمّ قال : يا محمد ، أجمعت أوباش الناس ، ثمّ جئت بهم إلى بيضتك لتفضّها بهم ، إنّها قريش قد لبسوا جلود النمور ، يعاهدون اللّه لاتدخلها عليهم عنوة أبداً. و كلّمه رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنحو ممّا كلّم به الآخرين ، وأخبره إنّه لم يأت يريد حرباً. فقام من عند رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم )
1 ـ يتعبّدون و يعظّمون أمر الإله.
(402)
وقد رأى ما يصنع به أصحابه ، لايتوضّأ إلاّ ابتدروا وضوءه ، و لايسقط من شعره شيء إلاّ أخذوه. فرجع إلى قريش فقال : يا معشر قريش إنّي قد رأيت كسرى في ملكه ، وقيصر في ملكه ، و النجاشي في ملكه ، و إنّي و اللّه ما رأيت ملكاً في قومه قط مثل محمد في أصحابه ، و لقد رأيت قوماً لايسلمونه بشيء أبداً ، فروا رأيكم.
5 ـ رسول النبي إلى قريش إنّ رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دعا خراش بن اُميّة الخزاعي ، فبعثه إلى قريش ، و حمله على بعير له ليبلّغ أشرافهم عنه ما جاء له ، فعقروا به جمل رسولاللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، و أرادوا قتله ، فمنعتهم الأحابيش ، فخلّوا سبيله حتّى أتى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ). ثمّ إنّ قريشاً بعثوا أربعين أو خمسين رجلاً ، و أمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ليصيبوا لهم من أصحابه أحداً ، فبينماهم بهذا الصدد ، اُخذوا أخذاً ، فأتى بهم رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فعفى عنهم ، و خلّى سبيلهم ، و قدكانوا رموا في عسكر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالحجارة و النبل. 6 ـ عثمان رسول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى قريش إنّ النبي دعا عمر بن الخطاب ليبعثه إلى قريش حتّى يبلّغ عنه أشرافها ما جاء له ، فامتنع من قبوله خوفاً على نفسه ، واقترح على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عثمان بن عفان ، وهو رجل أعزّبين قريش. فبعثه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أبي سفيان ، وأشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب ، وإنّما جاء زائراً لهذا البيت ومعظّماً لحرمته ، فانطلق عثمان حتّى أتاهم ، فبلّغهم عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما أرسله به. فقالوا لعثمان حين فرغ من الرسالة : إن
(403)
شئت أن تطوف بالبيت فطف. فقال : ما كنت لأفعل حتّى يطوف به رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والمسلمين أنّ عثمان قد قتل.
بيعة الرضوان لمّا بلغه خبر قتل عثمان ، قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : لانبرح حتّى نناجز القوم ، فدعى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت الشجرة ، ولقد اختلفوا فمن قائل : بأنّهم بايعوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على الموت ، وآخر : على أن لا يفرّوا. سهيل بن عمرو رسول قريش إلى الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعثت قريش سهيل بن عمرو إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقالوا له : ائت محمداً فصالحه ، ولا يكن في صلحه إلاّ أن يرجع عنّا عامه هذا ، فوالله لا تحدّث العرب عنّا أنّه دخلها ( مكة ) علينا عنوة أبداً. فأتاه سهيل بن عمرو ، فلمّا رآه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مقبلاً ، قال : قد أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل ، فلمّا انتهى سهيل بن عمرو إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تكلّم ، فأطال الكلام ، وتراجع ثمّ جرى بينهما الصلح. عمر ينكر على رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الصلح فلمّا التئم الأمر ، ولم يبق إلاّ الكتاب ، وثب عمر بن الخطاب ، فأتى أبابكر ، فقال : يا أبابكر ، أليس برسول الله ؟ قال : بلى. قال : آولسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى. قال : أوليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى. قال : فعلام نعطي الدنيّة في ديننا ؟ فلمّا بلغ
(404)
كلامه رسول الله قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أنا عبد الله ورسوله لن اُخالف أمره ، ولن يضيّعني! قال : فكان عمر يقول : ما زلت أتصدّق وأصوم واُصلّي و اعتق ، من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلّمت به حتّى رجوت أن يكون خيراً.
بنود الصلح دعى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علي بن أبي طالب ( رض ) فقال : اُكتب بسم الله الرحمن الرحيم. فقال سهيل : لا أعرف هذا ، ولكن اُكتب « باسمك اللهم ». فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : اُكتب « باسمك اللهم » ، فكتبها. ثمّ قال : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله سهيل بن عمرو. فقال سهيل : لو شهدت إنّك رسول الله لم اُقاتلك ، ولكن اُكتب اسمك واسم أبيك. فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعلي : أكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو. فقال علي : ما اَمحُو إسمك من النبوة أبداً. فمحاه رسول الله بيده. ثمّ كتب علي بنود الصلح ، وتمّ الإتفاق على اُمور : 1 ـ وضع الحرب عن الناس عشر سنين يأ من فيها الناس ، ويكف بعضهم عن بعض. 2 ـ من أتى محمداً من قريش ولجأ إليه بغير إذن رده عليهم ، ومن جاء قريشاً ممن كان مع محمد لم يردّوه عليه. 3 ـ تخيير الناس كافة ، فمن أحبّ أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل ، ومن أحبّ أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه. 4 ـ أن يكون الإسلام ظاهراً في مكه ، لايكره أحد على دينه ، ولا يؤذى ولا يعيّر.
(405)
5 ـ إنّ محمداً وأصحابه يرجع عنهم عامه هذا ، ثمّ يدخل عليهم في العام القابل مكة ، فيقيم فيها ثلاثة أيام ، ولا يدخل عليهم بسلاح إلاّسلاح المسافر ، السيوف في القرب.
التاريخ يعيد نفسه : إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال لعلي ( عليه السلام ) ـ بعد ما كتب الكتاب وشهد عليه المهاجرون والأنصار ـ : « يا علي انّك أبيت أن تمحو النبوة من إسمي ، فو الذي بعثني بالحق نبيّاً ، لتجيبنّ أبناءهم إلى مثلها ، وأنت مضيض مضطهد » فلمّا كان يوم صفين ، ورضوا بالحكمين كُتِبَ : « هذا ما اصطلح عليه أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب ومعاوية ابن أبي سفيان » فقال عمرو بن العاص : لوعلمنا أنّك أميرالمؤمنين ما حاربناك ، ولكن أكتب هذا ما اصطلح عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان. فقال أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) : « صدق الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، أخبرني رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بذلك » ثمّ كتب الكتاب (1). قال ابن الأثير في وقعة صفين : حضر عمرو بن العاص عند علي ليكتب الكتاب ، فكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما تقاظى عليه أميرالمؤمنين ، فقال عمرو : أكتب إسمه وإسم أبيه هو أميركم ، وأمّا أميرنا فلا ، فقال الأحنف : لا تمح إسم أميرالمؤمنين ، فإنّي أخاف إن محوتها أن لا ترجع إليك أبداً لا تمحها وإن قتل الناس بعضهم بعضاً ، فأبى ذلك علي مليّاً من النهار. ثم إنّ الأشعث قال : امح هذا الإسم ، فمحاه. فقال علي : الله أكبر سنة بسنة ، والله إنّي لكاتب رسول الله يوم الحديبيّة ، فكتبت رسول الله ، فقالوا : لست
1 ـ تفسير القمي ج2 ص313و314.
(406)
برسول الله ، ولكن أكتب إسمَك وإسم أبيك ، فأمرني رسول الله بمحوه. فقلت : لاأستطيع.
فقال : أرنيه فاريته ، فمحاه بيده ، وقال : إنّك ستدعى إلى مثلها فتجيب. فقال عمرو : سبحان الله أنشبه بالكفّار ونحن مؤمنون. فقال علي : يا ابن النابغة ، و متى لم تكن للفاسقين وليّاً ، وللمؤمنين عدوّاً ؟ فقال عمرو : والله لا يجمع بيني وبينك مجلس بعد هذا اليوم أبداً. فقال علي : إنّي لأرجو أن يطهّر الله مجلسي منك ، ومن أشباهك. فكتب هذا ماتقاظى عليه علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان (1). فبينما رسول الله يكتب الكتاب هو وسهيل بن عمرو ، جاء « أبوجندل » ابن سهيل بن عمرو ، يرسف في الحديد ، قد انفلت إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد كان أصحاب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خرجوا وهم لايشكّون في الفتح لرؤيا رآها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فلمّا رأوْا مارأوْا من الصلح والرجوع ، وما تحمل عليه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في نفسه ، دخل على الناس من ذلك أمر عظيم ، حتّى كادوا يهلكون ، فلمّا رأى سهيل أبا جندل قام إليه فضرب وجهه ، وأخذ بتلبيبه ثمّ قال : يا محمد قد لجّت القضية بينى وببينك قبل أن ياتيك هذا. قال : صدقت. فجعل ينتره بتلبيبه ، ويجرّه ليرده إلى قريش ، وجعل أبوجندل يصرخ بأعلى صوته : يا معشر المسلمين أاُرد إلى المشركين ، يفتنوني في ديني ؟ فزاد ذلك الناس إلى ما بهم ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا أباجندل اصبر واحتسب ، فإنّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجا ، إنّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً ، وأعطيناهم على
1 ـ الكامل لابن الأثير ج3 ص162.
(407)
ذلك ، وأعطونا عهد الله ، وإنّا لا نغدربهم (1).
فلمّا فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الكتاب أشهد على الصلح رجالاً من المسلمين ، ورجالاً من المشركين وهم : أبوبكر ، وعمر بن الخطاب ، وعبد الرحمان بن عوف ، وعبد الله بن سهيل بن عمرو ، وسعد بن أبي وقاص ، ومحمود بن مسلمة ، ومكرزبن حفص وهو يومئد مشرك وعلي بن أبي طالب وكتب ، وكان هو كاتب الصحيفة.
نحر الرسول وحلقه : فلمّا فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الصلح قدم إلى هَدْيِه فنحره ، ثمّ جلس فحلق رأسه ، فلمّا رأى الناس أنّ رسول الله قد نحر وحلق ، تواثبوا ينحرون ويحلقون ، غير أنّ بعض الصحابة ، تخلّف عن الحلق والتقصير ، ولأجل الإيعاز إلى أنّ عملهم إنّما هو بمثابة تجاسر على مقام النبوّة ، قال رسول الله : رحم الله المحلقين ، مومياً بذلك على نحو الازدراء بالمتخلفين. ثم إنّ رسول الله رجع إلى المدينة فقال الناس : ألم تقل أنّك تدخل مكّة آمناً ؟ قال : بلى أفقلت من عامي هذا ؟ قالوا : لا. قال : فهو كما قال لي جبرئيل ( عليه السلام ) (2) . دروس وعبر : 1 ـ كانت سفرة النبي سفرة سياسيّة هادفة تطمح بالدرجة الاُولى إلى قلب الرأي العام المتأجج ناراً ضد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) واتباعه ، ودعوته في نفوس مشركي قريش ، ومن ناحية اُخرى كانت تهدف لإ زاحة الستار الذي وضعه رؤوس
1 ـ و سنوافيك الخاتمة التي آل إليها أمر أبي جندل في آخر الفصل فترقب. 2 ـ السيرة النبويّة ج2 ص318 ـ 319.
(408)
المشركين على بصائر الناس ، والذي صوّر النبي ، وأتباعه مَردَة على شريعة إبراهيم الحنيفّية ، وأعداء القبلة التي بناها للعبادة.
2 ـ إنّ النبي أثبت في عقد الصلح مع قريش براعته السياسيّة ، وحنكته القياديّة الفذّة ، حيث أظهر مرونةً لا نظير لها ، حتّى أنّه قبل أن يكتب « باسمك اللهم » مكان « بسم الله الرحمن الرحيم » ، وأن يحذف مقام الرسالة والنبوّة عن اسمه ، وذلك يُنبئ عن أنّه كان مهتمّاً على حفظ الدماء والأنفس ، وإقرار مبادئ الصلح والسلام على ربوع المنطقة ، وإشاعة الأمن في السبل والقفار ، حتّى يتمكّن في ظل تلك الاُمور من بث الدعوة الإسلامية ، فإنّه في ظل تحكيم مبادئ السلام يكون أكثر قدرة وفاعلية لنشر المبادئ السامية. 3 ـ إعطاء صورة بديعة رائعة لمبدأ الحرية في الإسلام للبرهنة على أنّه لم يقم على أساس الجبر و الإلزام ، بشهادة انّه قبل بالبند الذي ينص على أنّ من فرّ من المسلمين إلى جانب مكّة ، وارتّدعن الإسلام أن لا يستردّه. 4 ـ إنّ المستقبل أثبت أنّ المرونة التي أظهرها في القبول بأحد البنود الناصّة على لزوم ردّ من فرّ من مكّة إلى المدينة ، ولو اعتنق الإسلام كانت صائبة ، وإن أثارت حفائظ بعض الصحابة ، ودفعهم إلى القول بأنّه من قبيل تقبّل الدنيّة في طريق الدين (1) ، ولكن المستقبل أثبت خلاف ما خطر في أذهانهم من تصوّرات ، وإليك نص ما صرّح به أهل السير والتاريخ فى ذلك : « لمّا قدم رسول الله المدينة فرّ أبو بصيرمن مكة إلى المدينة. فقال رسول الله : يا أبابصير ، إنّا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت ، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر ، وانّ الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً ، فانطلق إلى قومك. قال : يارسول الله أتردّني إلى المشركين يفتنوني في ديني ؟ قال : يا أبا بصير انطلق ، فإنّ الله تعالى سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً.
1 ـ تعرفت على قائله.
(409)
وقد بعثت قريش أزهربن عبد عوف ، والأخنس إلى رسول الله ، وبعث رجلاً من بني عامر ، ومعه مولى لهم ليردّا أبابصير إلى مكّة. فانطلق أبوبصير معهما حتّى إذا كان بذي الحليفة (1) جلس إلى جدار ، وجلس معه صاحباه ، فقال أبوبصير : أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر ؟ فقال : نعم. قال : أنظر إليه. قال : أنظر إن شئت. قال فاستلّه أبوبصير ثم علاه به حتّى قتله ، وخرج المولى سريعاً حتّى أتى رسول الله قال : ويحك ما لك ؟ قال : قتل صاحبكم صاحبي ، فو الله ما برح حتّى طلع أبوبصير متوشّحاً بالسيف ، حتّى وقف على رسول الله. فقال : يا رسول الله وفت ذمتك وأدّى الله عنك ، أسلمتني بيد القوم ، وقد امتنعت بديني أن أفتن فيّ ، أو يُعبث بي ، ثمّ خرج أبوبصير حتّى نزل العيس على ساحل البحر بطريق قريش ، التي كانوا يسلكونها إلى الشام ، فبلغ المسلمين الذين كانوا أحتبسوا بمكّة عمل أبي بصير وموقفه ، فخرجوا إلى أبي بصير ، فاجتمعوا إليه منهم قريب من سبعين رجلاً ، وكانوا قد ضيّقوا على قريش لا يظفرون بأحد منهم إلاّ قتلوه ، ولا تمربهم عير إلاّ أقتطعوها ، حتّى كتبت قريش إلى رسول الله تسأل بأرحامها إلاّ آواهم ، فلا حاجة لهم بهم ، فآواهم رسول الله ، فقد موا على المدينة ، فاُلغي ذلك البند. 5 ـ كشف مخالفة بعض الصحابة أمر الرسول في الحلق والتقصير ، عن أنّ اُناساً منهم كانوا يتوانون عن امتثال أمر النبي ويقدّمون آراءهم على التشريع الإلهي الذي كان ينطق به النبي الأكرم. 6 ـ إنّ عقد الصلح بين النبي وقريش ، أتاح لهم فرصة ثمينة لنشر الإسلام في الجزيرة العربية ، وإرسال الرسل إلى الملوك ، والسلاطين في أطراف العالم ، كدولة الروم والفرس و غيرهما من رؤساء القبائل والبلدان ، حتّى بلغت رسائلهم التبليغيّة إلى تسع وعشرين رسالة أثبتها التاريخ.
1 ـ ذو الحليفة قرية ، بينها و بين المدينة أميال قليلة ، و منها ميقات أهل المدينة و فيها مسجدالشجرة.
(410)
7 ـ لمّا عقد الرسول الصلح ، اطمأنّ من جانب المشركين في الجهة الجنوبيّة ، وبذلك تمكّن من التفرّغ للجبهة الشماليّة ، فأمر بمحاصرة خيبر ، فاجتث اليهود القاطنين فيها عن بكرة أبيهم. كل تلك الثمرات التي اجتناها النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كانت نتيجة عقد الصلح مع المشركين ، وقد أشار الإمام الصادق إلى ذلك بقوله : « ما كان قضية أعظم بركة منها ». هذه بعض الدروس والعبر التي نستفيدها من سيرة النبي الأكرم ، وإليك نص ما يتحفنا به كتاب الله عزّ وجل بشأن تلك الحادثة التاريخيّة المهمّة حيث صرّح بما نصّه في سورة الفتح (1) ولأجل سهولة التفسير نأتي بالاَيات نجوما.