ما وراءك ؟ قال : جئت محمداً ، فكلّمته فو الله ماردّ عليّ شيئاً.
ثم إنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أعلم الناس بعزمه على المسير لفتح مكة ، ودعاهم لإعداد العدّة لذلك وقال : « اللّهمّ خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها ».
كتاب صحابي الى قريش : لمّا أجمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على المسير إلى مكة ، كتب حاطب بن أبي بلتعة كتاباً إلى قريش ، يخبرهم بالذي أجمع عليه أمر رسول الله ، من السير إليهم ، ثم أعطاه امرأة تدعى سارة (1) وجعل لها أجراً على أن تبلّغه قريشاً ، فجعلته في رأسها ، ثم فتلت عليها قرونها ، ثم خرجت به ، وأتى رسول الله الخبر من السماء بما صنع حاطب ، فبعث علي بن أبي طالب ، والزبيربن العوّام ـ رضي الله عنهما ـ فقال : ادركا امرأة ، قد حملت رسالة حاطب إلى قريش يبلغهم ما أجمعنا عليه ، فخرجا حتى ادركاها بذي الحليفة ، فاستنزلاها ، ففتّشا رحلها ، فلم يجدا شيئاً ، فقال لها علي بن أبي طالب : إنّي أحلف بالله ، ما كذب رسول الله ، وما كذبنا ولتخرجن هذا الكتاب أو لنكشفنّك (2).
1 ـ و سارة مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هشام أتت رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مكة إلى المدينة بعد بدر بسنتين فقال لها رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أمسلمة جئت ؟ قالت : لا. قال : أمهاجرة جئت ؟ قالت : لا. قال : فما جاء بك ؟ قالت : كنتم الأصل و العشيرة و الموالي و قد ذهب موالي و احتجت حاجة شديدة ، فقدمت عليكم لتعطوني و تكسوني و تحملوني. قال : فأين أنت من شبان مكّة ، و كانت مغنيّة نائحة قالت : ما طلب مني بعد وقعة بدر ، فحث رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليها بني عبد المطلب ، فكسوها و حملوها و اعطوها نفقة. لاحظ مجمع البيان : ج5 ص269. 2 ـ و في مجمع البيان : قال لها : اخرجي الكتاب و إلاّ و اللّه لاضربنّ عنقك. ( مجمع البيان : ج5 ص269 ) و هذا هو الأوفق بمقام العصمة.
(432)
فلمّا رأت الجد منه قالت : اعرض ، فأعرض ، فحلّت قرون رأسها ، فاستخرجت الكتاب منها ، فدفعته إليه ، فاتى به رسول الله ، فدعى رسول الله حاطباً فقال : يا حاطب ما حملك على هذا ؟ فقال : يا رسول الله : إنّي لمؤمن بالله ورسوله ما غيّرت ولا بدّلت ، ولكنّي كنت امرءاً ليس لي في القوم من أصل ولا عشيرة ، وكان لي بين أظهر هم ولد و أهل ، فصانعتهم عليهم. فأنزل الله تعالى في حاطب : 1 ـ ( يَا اَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُم اَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ اِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِنَ الحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَاِيَّاكُم اَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُم اِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُم جِهَاداً فِى سَبِيلِى وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِى تُسِرُّونَ اِلَيْهِم بِالمَوَدَّةِ وَاَنَا اَعْلَمُ بِمَا اَخْفَيْتُم وَمَا اَعْلَنْتُم وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُم فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ). 2 ـ ( اِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ اَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا اِلَيْكُم اَيْدِيَهُمْ وَاَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ). 3 ـ ( لَنْ تَنْفَعَكُمْ اَرْحَامُكُمْ وَلاَ اَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ القَيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُم وَاللَّهُ بِمَاتَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ). 4 ـ ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ اُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِى اِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ اِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ اِنَّا بُرَءَآوُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَ اَوةُ وَالبَغْضَاءُ اَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ اِلاَّ قَوْلَ اِبْرَاهِيمَ لاَِبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا اَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَىْء رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ اَنَبْنَا وَاِلَيْكَ المَصِيرُ ). 5 ـ ( رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا اِنَّكَ اَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ ). 6 ـ ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ اُسوةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كانَ يَرجُواْ اللَّهَ واليَوْمَ الآخِر وَمَن يَتَوَلَّ فإِنَّ اللَّهَ هو الغنيُّ الحمِيد ). 7 ـ ( عَسَى اللَّهُ أَن يَجعَلَ بينكُمْ وبينَ الَّذينَ عادَيْتُم مِنهُمْ مَّوَدَّةً واللَّهُ قديرٌ واللَّهُ
(433)
غفورٌ رحيم ) ( الممتحنة/1 ـ 7 ).
المستفاد من الآيات : إِنّ الآية الاُولى تمنع المسلمين عن اتّخاذ الكافرين أولياءً لهم ، وتشدّد النكير على التقرب إليهم بالمودّة والمحبّة والإخاء ، إلاّ انّها لم تعن بذلك أن لا تكون هناك صلة على الإطلاق بأي نحو كان مع الكافرين ، بل لا تمنع من عقد علاقات تجارية أوسياسية بشرط أن لا تصل إلى حد المودّة الممنوعة. نعم لو أصبحت تلك العقود والاتفاقات السياسية والتجارية بشقّيها ، سبباً للإضرار بالمصلحة الخاصة أو العامة للمسلمين ، فلا شك في حرمتهما ، وقضية الأندلس خير شاهد لنا في المقام ، وما ترتب ونجم عن أخطاء حكّامها من مصائب وويلات ، قضت على الدولة الإسلامية برّمتها هناك. ثم إنّ الآية الثانية تلقي بمزيد من الضوء على ذلك الأمر ، فتوضح لنا انّ الكافرين لو سنحت الفرصة لهم للظفر بالمسلمين ، لأصبحوا لكم أعداءً ، ولامتدت سطوتهم إليكم ولأوقعوا فيكم الإيذاء ، وساموكم سوء العذاب ، ولنتاولوكم بألسنتهم بالشتم والسب ، ولودّوا لكم الرجوع عن دينكم. والآية الثالثة تفيد انّ الوشائج العرقية إنّما تنفعكم يوم القيامة إذا كان صاحبها موحّد العقيدة والمبدأ كما يشير إليه قوله سبحانه : ( لَنْ تَنْفَعَكُم اَرْحَامُكُم ... ). ولمّا كان هناك إحتياج وافتقار إلى اُسوة تكون مثالاً يقتدي به المسلمون في مجالي التولّي والتبرّي ممّن كانوا يعيشون معه ، تناول الوحي هذا الأمر بذكر قضية نبي الله إبراهيم ( عليه السلام ) ومن معه فقد تبرّؤا من الكافرين ، على الرغم منالصلات العرقية والقبلية التي كانت تربطهم بهم ، قال سبحانه : ( قَدْ كَانَتْ لَكُم اُسْوَهٌ حَسَنَهٌ فِى اِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ اِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِم اِنَّا بُرَءَاؤُا مِنْكُم وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العَدَ اَوةُ وَالبَغْضَاءُ اَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ).
(434)
ثم إنّه سبحانه يستثني في هذه الآية شيئاً وهو : ( اِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لاَِبِيهِ لاَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا اَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَىْء ). وعند ئذ يجري الكلام في التنبيه على ما هو المراد بالمستثنى منه فنقول : قدورد قبل الاستثناء جملتان والاستثناء يرجع الى واحد منهما وهما عبارة عن. 1 ـ ( اُسْوَهٌ حَسَنَةٌ فِى اِبْرَاهِيمَ ). 2 ـ ( اِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِم اِنَّا بُرَءَآؤُا مِنْكُم ). وارجاع الاستثناء إلى الجملة الاُولى بعيد عن السياق لأنّ معناه حينئذ : إنّ إبراهيم اُسوة في كل شيء إلاّ في هذا المورد ، وهذا لا يتناسب مع مقام نبوّته ، ومع قوله سبحانه في حقّه : ( اِنَّ اَوْلَى النَّاسِ بِاِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِىُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِىُّ المُؤْمِنِينَ ) ( آل عمران/68 ). فإذا كان إبراهيم أولى بأن يتبعه النبي الأكرم ، فكيف لا يكون اُسوة على الاطلاق. على أنّ الآيات الكريمة الواردة في استغفار إبراهيم تعرب عن أنّ عدته بالاستغفار لأبيه كان عملاً حسناً وواقعاً في محلّه ، وذلك لأنّه وعده عندما يحتمل انّه سيعود إلى فطرته السليمة ، ويقطع أواصره بالوثنية قال سبحانه : ( وما كانَ استِغفَارُ إبراهِيمَ لأَبِيهِ إلاّ عَن مَوْعِدَة وَعَدَها إيّاهُ فلمّا تَبَيَّنَ لَهُ اَنّهُ عَدُوٌ للَّهِ تَبرَّأَ مِنْهُ إِنّ إبراهِيمَ لأَوّاهٌ حَلِيم ) ( التوبة/114 ). وهذا يعرب عن أنّ الوعد إنّما كان في زمن كان يؤمل فيه منه الصلاح والرشد ، ولذلك لما استولى اليأس ، وفقد الأمل بتحقّق ذلك الأمر ، تبرّأ منه وعلى ذلك يتعيّن القول برجوع الإستثناء إلى الجملة التالية لأنّ مفادها انّ إبراهيم ومن كان معه تبرّؤا من جميع من كان يمت إليهم بصلة في قومهم ، مع انّ إبراهيم لم يتبرّأ من أبيه ، ولأجل ذلك جاء بالاستثناء ومعناه : إنّ إبراهيم واتباعه قالوا لقومهم : إنّا برءآؤا منكم ، إلاّ إبراهيم ، فلم يتبرءا من أبيه وهذا هو المستفاد من الآيات.
(435)
ثم إنّه سبحانه أعاد حديث الاُسوة لأهمّيته ، وانّه إنّما ينتفع بها المؤمنون أي الذين يرجون ثواب الإيمان بالله سبحانه ، وما وعد الله به المؤمنين في الآخرة ، غير أنّ من رفض حديث الاُسوة ، وتولّى أعداء الله ، فإنّما يضر نفسه والله سبحانه هو الغني ، وقال : ( لَقَدْ كانَ لكُمْ فِيهِمْ اُسوةٌ حَسنةٌ لِمَن كانَ يَرجُوا اللّه واليومَ الآخِرَ ومَنْ يتولّ فانَّ اللَّهَ هو الغنيُّ الحِميد ). ولمّا نهاهم عن موالاة الكفّار وإلقاء المودّة ، وكان ذلك عزيزاً على نفوسهم لوجود الوشائج القومية بينهم ، وكانوا يتمنّون أن يجدوا المخلص منه ، أردف ذلك سبحانه انّه عسى أن يجعل بينهم ، وبين الذين عادوهم مودّة ، وقد أنجز سبحانه ذلك بفتح مكّة ، فأسلم كثير منهم ، وتم لهم ما كانوا يريدون من التحابّ والتواد. وإليه يشير قوله سبحانه : ( عسى اللّهُ اَن يَجعَلَ بينكُمْ وبينَ الذينَ عادَيْتُم مِنهُمْ مودَّةً واللّهُ قديرٌ واللّه غفورٌ رحيم ).
المعيار في إبرام المعاهدات مع الكفّار : لما كان المستفاد من قوله سبحانه في صدر السورة : ( يَا اَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّى وَعَدُوَّكُم اَوْلِيَاءَ ) هو قطع جميع العلائق والأواصر بالكفار ، أعقبها بما يخصص مضمون الآية بالقسم المحارب دون مطلق الكافر بقوله عزّ من قائل : ( لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِنْ دِيَارِكُمْ اَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا اِلَيْهِمْ اِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ ) ( الممتحنة / 8 ). ( اِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُم فِى الدِّينِ وَاَخْرَجُوكُم مِنْ دِيَارِكُم وَظَاهَرُوا عَلَى اِخْرَاجِكُمْ اَنْ تَوَلَّوْهُم وَمَنْ يَتَوَلَّهُم فَاُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ( الممتحنة ـ 9 ). وهاتان الآيتان تتضمّنان الإلفات إلى ما هو الأصل الرصين ، والمحور الرئيسي
(436)
في حدود مشروعية العلاقة مع الدول الخارجية عن إطار دائرة الدولة الإسلامية ، وحصيلة ما يستفاد منهما : إنّ في الكافر أرضية تمهّد السبيل دائماً إليه ، للغدر والخداع والخيانة لعدم وجود رادع نفسي يحول بينه وبين اقتراف ذلك ، والآية الاُولى انطلاقاً من ذلك تحضّ على تجنّب اتّخاذ الكافر وليّاً وحليفاً.
ولكن ربّما يتّصف بعض الكفار بخصائص ، وفضائل إنسانية محدودة تتخلّف معها تلك الظاهرة الغالبة عليهم ، والمتأصّلة في نفوسهم ، وانطلاقاً من ذلك سوّغ الإسلام في حدود معينة عقد روابط وأواصر شكلية معهم سواءً كانت سياسية أم اقتصادية ، ولكن كل ذلك مرهون بتوفّر شرطين : 1 ـ عدم دخولهم أو مشاركتهم في قتال المسلمين. 2 ـ عدم إخراجهم المسلمين من ديارهم. وعند ذلك تتوفّر الأرضية الكفيلة بعقد وشائج البر وأواصر القسط وحفظ الحقوق. وأمّا إذا أظهروا العداء للمسلمين عن طريق مقاتلتهم ، ومحاربتهم وإخراجهم من أوطانهم ، مصرّين على ذلك ، فعندئذ تحرم موالاتهم ، وإسداء البرّ إليهم بأي نحو من الأنحاء. قال سيد قطب : نهى سبحانه أشد النهي عن الولاء لمن قاتلوهم في الدين ، وأخرجوهم من ديارهم ، وساعدوهم على إخراجهم ، وحكم على الذين يتولّونهم بأنّهم هم الظالمون ، وهو تهديد يجزع منه المؤمن ، ويتقى أن يدخل في مدلوله المخيف وتلك القاعدة في معاملة غير المسلمين هي أعدل القواعد التي تتّفق مع طبيعة هذا الدين ووجهته ونظرته إلى الحياة الإنسانية ، وهي أساس شريعته الدولية التي تجعل حالة السلم بينه وبين الناس جميعاً هي الحالة الثانية لا بغيرها ، إلاّ وقوع الإعتداء الحربي
(437)
وضرورة ردّه ، أو خوف الخيانة بعد المعاهدة ، وهي تهديد بالاعتداء والوقوف بالقوّة في وجه حرية الدعوة وحرية الإعتقاد ، وهو كذلك اعتداء ، وفيما عدا هذا ، فهي السلم والمودة والبر و العدل للناس (1).
وعلى ضوء ذلك يستفاد اُمور : 1 ـ إنّ الآيتين الثامنة والتاسعة مقيدتان لإطلاق الآية الاُولى الواردة في صدر السورة حيث تلفت إلى وجود قسمين من الكفّار بين محارب ومهادن موادع ، فالاُولى تحرم موالاته مطلقاً ، والثانية تجوّز بشروط حدّدت ذلك في إطار البرّ وإبداء القسط وبعبارة اُخرى يجب أن ينحصر التولّي في الملامح الظاهرية والوشائج الشكلية ، كالتجارة والروابط السياسية ، ولا يسوغ موآخاتهم في السرّاء والضرّاء ، وعدّهم إخواناً وأحلافاً ، ولا يباح إليهم بالأسرار ، ولا يكاشفونهم بما يضمرونه ، فإنّ ذلك ممّا لا يليق إلاّ بإبدائه للمؤمنين خاصة. 2 ـ إنّ بعض المفسّرين زعم أنّ قوله سبحانه : ( فَاْقُتُلوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ ) ( التوبة/5 ) ناسخ لمضمون الآية الثامنة المتقدّم ذكرها لأنّه يحكم بقتل المشركين بلاهوادة لا يمكن التوفيق بينه وبين مادلّ على جواز إبرام العقود معهم : ولكنّه زعم لا محصّل وراءه لأنّ ماورد في سورة التوبة يختصّ بالمشرك المحارب بشهادة قوله سبحانه : ( أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا اَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِاِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ اَوَّلَ مَرَّه اَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ اَحَقُّ اَنْ تَخْشَوْهُ اِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ) ( التوبة/13 ). وعلى ذلك فلا تنافي بين الآيتين في المضمون لاختلاف موضوعهما. 3 ـ إنّ لسان قوله سبحانه : ( لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُم ).
1 ـ في ظلال القرآن ج28 ص66.
(438)
وإن كان لسان رفع الحظر ، ولكنّه لا يدل على اَنّ البر و القسط بهم بعقد الأواصر معهم مباح بالمعنى المصطلح أي ما يقابل الواجب والمستحب وغيرهما ، بل المراد هو كون ذلك جائزاً بالمعنى الأعم ، ولا ينافي كونه واجباً في ظروف خاصة ، ومستحبّاً في ظروف اُخرى وهكذا ، وعلى الحاكم الإسلامي أن يتناول أوضاع المسلمين بالدراسة المتفحّصة ، وينتخب ما هو الأوفق بمصلحة الاُمّة الإسلامية حتى لا يفوت عليهم ما هو الأصلح لحالهم ، والأنسب بوضعهم. وفي خاتمة المطاف نسترعي التفات القارىء الكريم إلى أنّ عمل بعض الدول الإسلامية التي قامت بعقد اتفاقية صلح مع الكيان الصهيوني الغاصب للقدس ، يضاد ما صرّح القرآن الكريم به في الآيتين المتقدّمتين ، والذي يهوّن الخطب انّ هذه الدول إنّما ترفع شعار الإسلام بالاسم فقط دون إمتلاك أي رصيد مضموني منه.
عود على بدء : ذكرنا أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان قد أعدّ العدّة لغزو قريش في عقر دارها ، والانتقام منها بوازع القصاص منها ، لخيانتها ونقضها لبنود الميثاق الذي أبرمته مع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فخرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، واستخلف على المدينة وذلك لعشر مضين من شهر رمضان ، فصام رسول الله وصام الناس معه ، ولمّا بلغ حد الترخّص أفطر ، وأفطر أغلب من كان معه (1).
1 ـ و قد روى سماعة عن الإمام الصادق انّه سأله عن الصيام في السفر. قال : لاصيام في السفر قد صام ناس على عهد رسول اللّه فسمّاهم العصاة فلاصيام في السفر إلاّ الثلاثة أيام التي قال اللّه عز و جلّ في الحج. و في حديث آخر : إنّ رسول اللّه خرج من المدينة إلى مكّة في شهر رمضان ، و معه الناس وفيهمالمشاة ، فلما انتهى إلى كراع الغميم دعا بقدح من ماء فيما بين الظهر و العصر فشربهوأفطر ، ثمّ أفطر الناس معه و تم ناس على صومهم فسمّاهم العصاة ، و إنّما يؤخذ بآخر أمر رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ). لاحظ الوسائل : ج7 ، الباب 1 و 11 من ابواب من يصح فيه الصوم الحديث1و 7.
(439)
ثم مضى حتى نزل ( مَرّ الظهران ) في عشرة آلاف من المسلمين وقد عميت الأخبار عن قريش ، فلم يأتهم خبر عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولايدرون ما هو فاعل ، وخرج في تلك الليالي أبوسفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء يتحسّسون الأخبار ، وينظرون هل يجدون خبراً أو يسمعون به ، وقدكان العباس بن عبد المطلب قد غادر مكة متوجّهاً إلى المدينة و لقى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ببعض الطريق ( الجحفة ) فاصطحبه. فلمّا نزل رسول الله ( مرّ الظهران ) ، قال العباس بن عبد المطلب فقلت : واصباحَ قريش ، والله لئن دخل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مكة عنوة قبل أن يأتوه فيستأمنوه ، انّه لهلاك قريش إلى آخر الدهر. قال : فركبت بغلة رسول الله البيضاء حتى جئت الأراك فقلت لعلّي : أجد من يخبر قريش بمكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليخرجوا إليه ، فيستأمنوه قبل أن يدخلها عليهم عنوة ، وآنذاك طرق سمعي كلام أبي سفيان وبديل بن ورقاء وهما يتراجعان ، وأبوسفيان يقول : مارأيت كالليلة نيراناً قط ، ولا عسكراً ، قال : يقول « بديل » هذه والله خزاعة حمشها (1) الحرب ، قال : يقول أبوسفيان : خزاعة أذل وأقل من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها ، قال : فعرفت صوته ، فقلت : يا أبا حنظلة ، فعرف صوتي ، فقال : أبوالفضل ؟! قال : قلت نعم. قال : مالك ؟ فداك أبي واُمّي قال : ويحك يا أباسفيان هذا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في الناس واصباح قريش. قال : فما الحيلة ؟ قال قلت : لئن ظفر بك ليضربنّ عنقك ، فاركب في عجز هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله فاستامنه لك.
1 ـ حمشها أي أحرقتها.
(440)
قال : فدخلت على رسول الله ، وقلت : يا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إنّي قد آجرته. فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : اذهب به إلى رحلك ، فاذا أصبحت ائتني به ، فلمّا جاء به إلى رسول الله مصبحاً ، قال له رسول الله : ويحك أباسفيان ألم يأن لك أن تعلم أنّه لا إله إلاّ اللّه. قال : بأبي أنت واُمّي يارسول الله ما أحلمك وأكرمك وأوصلك. ثم قال العباس بعد كلام دار بين رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبين أبي سفيان : يا رسول الله إنّ أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له ؟ قال : نعم ، من دخل دار ابن أبي سفيان كان آمناً ، ومن أغلق بابه كان آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، فلمّا أراد أن ينصرف أبوسفيان ، قال رسول الله : اجلسه بمضيق الوادي حتى تمرّ به جنود الله ويراها. ثم إنّ أصحاب السيرة ذكروا استعراض جيش رسول الله أمام أبي سفيان (1). قال الواقدي : وعبّأ رسول الله أصحابه ومرّت قبائل على قادتها ، والكتائب على راياتها ، فكان أوّل من قدم رسول الله خالدبن الوليد في بني سليم وهم ألف ، ثممرّ على إثره الزبير ابن العوام في خمسمائة ، ومرّ بنو غفار في ثلاثمائة يحمل رايتهم أبوذر الغفاري ، ثم مضت أسلم في أربعمائة ، ثم مرّت بنو عمرو بن كعب في خمسمائة ، ثم مرّت مزينة في ألف ، ثم مرت جهينة في ثمانمائة ، ثمّ مرّت بنوليث وهم مائتان وخمسون ، ثم مرّت أشجع وهم آخر من مرّ في ثلاثمائه. وكلّما مرّت قبيلة كبروا ثلاثاً عندما حاذوا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ). فلمّا مرّ سعد براية النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نادى : يا أباسفيان اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الحرمة ، اليوم أذل الله قريشاً.
1 ـ السيرة النبوية : ج2 ص400 ـ 404.