ولبني عبد المطلب فهو لكم ، و قال المهاجرون و الأنصار : ما كان لنا فهو لرسول اللّه و قال الأقرع بن حابس : ما كان لي ولنبي تميم فلا. وقال عيينة بن حصن : ما كان لي ولفزارة فلا. وقال عباس بن مرداس : ما كان لي ولسليم فلا. فقالت بنوسليم : ما كان لنا فهو لرسول الله فقال : وهّنتموني.
فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : من تمسّك بحقّه من السبي فله بكل إنسان ستّ فرائض من أوّل شيء نصيبه ، فردّوا على الناس أبناءهم ونساءهم. وسأل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن مالك بن عوف فقيل : إنّه بالطائف. فقال : اخبروه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وما له وأعطيته مائة بعير ، فاُخبر مالك بذلك ، فخرج من الطائف سرّاً ولحق برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأسلم وحسن إسلامه واستعمله رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) على قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل التي حول الطائف ، فأعطاه أهله وماله ومائة بعير ، وكان يقاتل بمن أسلم معه من « ثمالة » و « فهم » و « سلمة » ، فكان يقابل بهم ثقيفاً لا يخرج لهم سرح إلاّ أغار عليه حتى ضيّق عليهم (1). لمّا فرغ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من رد سبايا حنين إلى أهلها ، ركب جواده واتّبعه الناس يقولون : يا رسول الله قسّم علينا فيأنا من الإبل والغنم ، فقام رسول الله إلى جنب بعير ، فاجتزّ وبرة من سنامه ، فجعلها بين اصبعيه ثم رفعها قائلاً : والله مالي من فيئكم ولا هذه الوبرة إلا الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدّوا الخياط والمخيط ، فانّ الغلول يكون على أهله عاراً وناراً وشناراً يوم القيامة. ثم إنّه أعطى المؤلّفة قلوبهم شيئاً كثيراً من الخمس المتعلّق به ، فأعطى أباسفيان ابن حرب وابنه معاوية لكلّ مائة بعير ، وأعطى حكيم بن حزام مائة بعير ، وهكذا وعندما فرغ من القسمة بينهم ، جاء رجل من بني تميم يقال له ذوالخويصرة ، فوقف عليه ، فقال : يا محمد قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم. فقال رسول الله :
1 ـ السيرة النبويّة : ج2 ص489و490.
(452)
أجل فكيف رأيت ؟ فقال : لم أرك عدلت. فغضب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم قال : ويحك إذا لم يكن العدل عندي فعند من يكون ؟ فقال عمر بن الخطاب : يا رسول الله ألا أقتله ؟ فقال : لا ، دعه فانّه سيكون له شيعة يتعمّقون في الدين حتى يخرجوا منه كما يخرج السهم من الرمية (1).
وقد نزل بهذا الصدد عدة آيات منها : ( وَمِنْهُم مِنْ يَلْمِزُكَ فِى الصَّدَقَاتِ فَاِنْ اُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَاِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا اِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ * وَلَوْ اَنَّهُم رَضُوا مَا آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ اِنَّا اِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ * اِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالمَسَاكِينِ وَالعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِى الرِّقَابِ وَالغَارِمِينَ وَفِى سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة/58 ـ 60 ). وقد اختلف المفسّرون في سبب نزولها فمن قائل بأنّها نزلت في حقّ ذي الخويصره وأمثاله ، إلى قائل من أنّها نزلت في حقّ المؤلّفة قلوبهم.
مشادة الأنصار مع النبي ولمّا أعطى رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما أعطى من تلك العطايا لقريش ولقبائل العرب ولم يحظ الأنصار بمثل عطيّتهم وجد جمع من الأنصار في أنفسهم شيئاً ، فأرسلوا منهم سعد بن عبادة إلى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يستطلع صدق الأمر ، فقال : قسّمت في قومك وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب ولم يك في هذا الحي من الأنصار منها شيء. قال : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟
1 ـ السيرة النبويّة : ج2 ص496 ، البداية و النهاية : ج4 ص336 و فيه : دعه فإنّ له أصحاباً يحقّر أحدكم صلاته مع صلاتهم و صيامه مع صيامهم يقرأون القرآن لايجاوز تراقيهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية.
(453)
قال : يا رسول اللّه ما أنا إلاّ من قومي ، قال : فأجمع لي قومك في هذه الحظيرة ، قال : فخرج سعد فجمع الأنصار في تلك الحظيرة ، قال : فجاء رجال من المهاجرين فتركهم فدخلوا ، وجاء آخرون فردّهم فلمّا اجتمعوا له أتاه سعد فقال : قداجتمع لك هذا الحي من الأنصار ، فأتاهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فحمد اللّه وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال : يا معشر الأنصار مقالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها عليّ في أنفسكم ؟ ألم آتكم ضلاّلاً فهداكم الله ؟ وعالة فأغناكم الله ؟ وأعداء فألّف الله بين قلوبكم ؟
قالوا : بلى ، اللّه ورسوله أمنّ وأفضل ، ثمّ قال : ألاتجيبونني يا معشر الأنصار ؟ قالوا : بما ذا نجيبك يا رسول الله ؟ لله ولرسوله المنّ والفضل. قال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أما والله لوشئتم لقلتم فلصَدَقتم ولصدّقتم : أتيتنا مكذّباً فصدّقناك ومخذولاً فنصرناك وطريداً فآويناك وعائلاً فآسيناك ، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم لعاعة من الدنيا تألّفت بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول اللّه إلى رحالكم ؟ فو الذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار ، ولو سلك الناس شعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. اللّهمّ إرحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار. قال : فبكى القوم حتّى أخضلوا لحاهم وقالوا : رضينا برسول اللّه قسماً وحظّاً ثم انصرف رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وتفرّقوا (1). إلى هنا تمّ الحديث عن فتح مكّة وما أعقبه من الأحداث وقد وصفه سبحانه هكذا : ( اِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نَعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً * هُوَ الَّذِى اَنْزَلَ1 ـ السيرة النبوية لابن هشام ج2 ص500 ، البداية و النهاية ج4 ص358.
(454)
السَكِينَةَ فِى قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا اِيْمَاناً مَعَ اِيْمَانِهِم وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماًً حَكِيماً ) ( الفتح/1 ـ 4 ).
وفي الآيات سؤال يستحثّ الجواب عنه وهو أنّه سبحانه جعل فتح مكّة علّة لغفران ما تقدّم من ذنوب النبي وما تأخّر منها ، فيقال : 1 ـ ماهي المناسبة بين العلّة والمعلول فتح مكّة وغفران الذنوب ، مع أنّه يجب أن يكون بينهما مناسبة ذاتية أو اعتبارية ؟ 2 ـ إنّ النبي الأكرم معصوم من اجتراح الذنوب فما المراد من هذا الذنب ؟ ويجاب عنه : بأنّ النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان متّهماً عند رجال قريش وحلفائها منذ سابق عهدهم به بالكهانة والسحر والجنون والألقاب المزرية المشينة الاُخرى ، وقد سبق أن قلنا بأنّ هذه التهم كانت بمثابة الحرب النفسية لإظهار العداء المقيت بالرسول الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكان يصعب على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مجابهتها والقضاء عليها وكفّ ألسنة الناس عن التفوّه بها بأي نحو من أنحاء الإعلام المضادّ إلاّ لمن عايشه عن قرب واختبره عن كثب. ولكنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد منحه اللّه سبحانه ببركة هذا الفتح المبين حيث تمكّن بعد هدم حصون الشرك والوثنية وتطهير الكعبة من آلهة المشركين والاستيلاء على مراكز قوّتهم من الظهور بمظهر العظمة إلى أن تلاشت معه جميع قلاع الشرك وخضعت له الرقاب التي تنصب غروراً وكبرياءً في وجهه. فأثبت بذلك أنّه منزّه عن الكهانة والسحر والجنون لأنّ المنتسب إلى أحد تلك الأصناف أعجز من أن يقوى على تدبير اُمور نفسه الخاصّة. فكيف يقوم بقيادة جيش جرّار عرمرم يخترق الفيافي والصحارى والقفار على الرغم من كثرة العيون والجواسيس المترصّدة في أنحاء الطرق والمعابر ، ثمّ يباغت العدو في عقرداره وهو في غفلة من أمره فما يلبثوا إلاّ يسيراً حتّى يسلّموا له وتذلّل له أعناق رؤسائهم ، ويبلغ به الأمر إلى
(455)
أكثر من ذلك فيواصل زحفه إلى ماوراء مكّة على ثبات من أمره وقوّة و شكيمة.
فالمتصدّي لقيادة تلك الجيوش والتسلّط على ما تمكّن منه بالنحو المتقدّم لابدّ وأن يعد من الرعيل الأوّل من قوّاد الجيوش في العالم وأشدّهم حنكة وحكمة ، فكيف يتبادر إلى الأذهان أمثال تلك الأراجيف إذا كان حاله على ما شاهده الناس به من العظمة والبسالة والحكمة ؟ وتمكّن من خلال هذا الفتح من إزالة كل فرية وتهمة مشينة ألصقها كفّار قريش به أو يمكن أن توصف شخصيته بها في المستقبل ، ولذلك وردت الإشارة إلى ذلك بقوله : ( لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ). وبذلك يندفع ما تمّ إيراده في السؤالين ، وفي ذلك غنى عن المزيد من الإطالة حيث تبيّن وجود الصلة بين الفتح ومغفرة الذنوب ، كما تبيّن عدم منافاة المغفرة مع العصمة ، فلاحظ. وفي الختام نقول : إنّه سبحانه قد بشّر النبي الأكرم بالنصر والفتح قبل وقوع الأمر بإنزال سورة النصر. قال سبحانه : ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِى دِيْنِ اللَّهِ اَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً ) ( النصر/1 ـ 3 ). لمّا فتح رسول اللّه مكّة قالت العرب : إنّما أظفر محمد بأهل الحرم وقدأجارهم اللّه من أصحاب الفيل فليس لكم به طاقة ، فكان يدخلون في دين اللّه أفواجاً واحداً واحداً ، اثنين اثنين وربّما تدخل القبيلة بأسرها في الإسلام (1).
1 ـ مجمع البيان ، ج5 ص553 ـ 554.
(456)
9 ـ غزوة تبوك كانت بلاد الشام في عصر الرسالة من المناطق التي تخضع لنفوذ إمبراطورية الروم ، وكان شيوخ القبائل تدين بالمذهب المسيحي ، وكانوا أداة طيّعة في أيديها ، ولمّابلغ أسماع أباطرة الروم خبر استيلاء المسلمين على مكّة ودخول المشركين في الدين الإسلامي أفواجاً ، استشاطوا غضباً وعزموا على حربهم واطفاء نائرتهم ، فأرسلوا إلى رؤساء قبائل « لخم » و « عامله » و « غسّان » و « جذام » يحثّونهم على تكثيف حشودهم وإعداد العدّة لحرب محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) و مباغتته في عقرداره ليسهل عليهم إخماد أنفاس تلك الدولة الفتيّة ، ولمّا وصل الخبر إلى النبي الأكرم عن طريق القوافل التجارية عزم على حربهم قبل أن يهاجموه ، وكانت تلك الفترة فترة شاع فيها الفقر والشدّة والفاقة. وقد أمر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بالرحيل في الفصل الذي كانت الثمار فيه على وشك الإيناع. قال ابن هشام : إنّ رسول اللّه أمر أصحابه بالتهيّؤ وغزو الروم وذلك في زمان من عسرة الناس وشدّة من الحر وجدب من البلاد ، وحين طابت الثمار والناس يحبّون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص على الحال من الزمان الذي هم عليه وكان رسول اللّه قلّما يخرج لغزوة إلاّ كنّى عنها وأخبر أنّه يريد غير الوجه الذي يقصده إلاّ ما كان من غزوة تبوك ، فإنّه بيّنها للناس لبعد الشقّة وشدّة الزمان ، وكثرة العدو الذي يقصده ليتأهّب الناس لذلك اُهبتهم ، فأمر الناس بالجهاز ، وأخبرهم أنّه يريد الروم. ولمّا تفرّدت به تلك الغزوة عن سائر الغزوات ببعد الطريق ، والاعتياز إلى مؤن
(457)
تكفل حاجة الجند ذهاباً وإيّاباً ، فقد صدرت الأوامر من النبي الأكرم بحشد جميع الإمكانات المتوفّرة لديهم بلا فرق بين الغني والفقير ، ولأجل ذلك ساهم في تدعيم ذلك المجهود الحربي جميع الطبقات والفئات من الرجال والنساء وأصحاب الثروة والعمّال.
وممّن ساهم في تدعيم أمر الجيش عبد الرحمان بن عوف حيث جاء بصرّة من دراهم تملأ الكف ، وفي قبال ذلك أتى من الضعفاء عتبة بن زيد الحارثي بصاع من تمر وقال يا رسول اللّه : عملت في النخل بصاعين فصاعاً تركته لأهلي وصاعاً أقرضته ربّي ، وجاء زيد به أسلم بصدقة ، فقال بعض الناس : إنّ عبد الرحمان رجل يحبّ الرياء ، ويبتغي الذكر بذلك وإنّ اللّه غني عن الصاع من التمر ، فعابوا كلتا الطائفتن : المكثر بالرياء والمقل بالإقلال ، فنزل قوله سبحانه : ( الَّذِينَ يَلْمِزُونَ المُطَّوِّعِينَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فِى الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ اِلاَّ جُهْدَهُم فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ اَلِيمٌ * اسْتَغْفِرْ لَهُمْ اَوْلاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِاَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَيَهْدِى القَوْمَ الفَاسِقِينَ ) ( التوبة/79 ـ 80 ). والحقّ إنّه يوجد في جميع المجتمعات رجال ، لا يحبّون الخير ولا يساهمون فيه ، بل لا يحبّون أن يساهم فيه أحد ويعيبونهم في المساهمة بأي شكل تحقّقت ، فإن ساهم إنسان بالمال الكثير ، يتّهمونه بأنّه يحب الرياء والذكر ، وإن ساهم بمال قليل حقّروه وأهانوه ، هذه شأن تلك الطبقة التي لا يريدون الخير ولا يطلبونه بتاتاً.
تخاذل بعض المؤمنين عن المناصرة ـ ومع أنّ الظروف لم تكن مساعدة لحشد الناس بما يقتدر به على حرب العدو الشرس ـ فقد تمكّن النبي من حشد ثلاثين ألف مقاتل ، ولم يكن لهذا النجاح ( في استنهاض عزائم العرب وجمع قواهم بهذه المثابة ) مثيل في تاريخ العرب ، على
(458)
الرغم من الجهود المكثّفة التي كانت يبذلها المنافقون في تثبيط العزائم وإخماد روح الشهادة والفداء في نفوس المسلمين.
وقد ألمح الذكر الحكيم إلى تثاقل جمع من الصحابة ( المؤمنين ) عن الإسهام والمشاركة. قال سبحانه : ( يَا اَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ اِذَا قِيْلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِى سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُم اِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بالحَيوة الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فِى الآخِرَةِ اِلاّ قَلِيلٌ * اِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُم عَذَاباً اَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَىْء قَدِيرٌ ) ( التوبة/38 ـ 39 ). وما هو المراد من قوله سبحانه : ( وَيَسْتَبْدِل قَوْماً غَيْرَكُم ) وقد جاءت تلك الجملة في آيات اُخرى أيضاً ؟ قال سبحانه : ( فَسَوْفَ يَأْتِى اللَّهُ بِقَوْم يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ اَذِلَّة عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّة عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ ... ) ( المائدة/54 ) وقال تعالى : ( وَاِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِل قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا اَمْثَالَكُم ) ( محمد/38 ). وقد فسّرت الآية بأبناء فارس تارة وبأهل اليمن اُخرى وبالذين أسلموا ثالثة ، والحق إنّ الآية تتمتّع عن سعة وعموم تعمّ الطوائف الذين جاءوا بعد نزول الآية ، واتّسموا بما فيها من الصفات ( يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ... ).
نكوص المنافقين عن القتال كانت وقعة تبوك محكّاً لتمحيص المسلمين ، و ثباتهم على الحق و مفاداتهم الرسول بأنفسهم و أموالهم. كيف و قد كانت المسافة بين المدينة و تبوك تقرب من ستمائة كيلومتراً ، و كانت الركائب المعدّة للمسير تغطّي معشارهم ، و كان زادهم الشعير المسوّس ، و الإهالة السخنة و التمر الزهيد ، ففي خضمّ تلك الظروف
(459)
العصيبة ، سعى المنافقون لإخماد همم المسلمين ، و كسر شوكتهم ، فكشف اللّه عنهم لقاء تآمرهم على الإسلام ، ما كانوا يبطنونه و يخفونه من ضغائن و أحقاد ، و قد كرّست سورة التوبة ثقلها الأكبر على بيان تآمر اُولئك ، وقد كانوا يتذرّعون بأعذار وترّهات خاوية ، ويستأذنون من النبي للبقاء في المدينة وعدم المساهمة في الجهاد. نعم ماكانوا يعتذرون به لم يكن سبباً حقيقيّاً لتثاقلهم ، و إنّما السبب فيه هو : 1 ـ علمهم بأنّ النبي لايصيب غنيمة. 2 ـ بعد الطريق. 3 ـ شدّة الحر و حمّارة القيظ. و قد كشف الوحي عن سرّ تثبّطهم و تثاقلهم و ألمع إلى الوجهين الأوّلين بقوله : ( لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَرَاً قَاصِداً لاَتَّبَعُوكَ وَ لَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يِهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) ( التوبة/42 ). و في هذه الآية إلماع إلى السببين الأوّلين اللّذين عاقاهم عن المساهمة : 1 ـ يريد أنّه لو كان في ما دعوتهم إليه منفعة قريبة المنال لم يكن في الوصول إليها عناء كبير لاتّبعوك كما يقول : ( لَوْ كَانَ عَرَضَاً قَرِيباً ). 2 ـ لو كان السفر سفراً هيّناً لاتعب فيه لأسرعوا بالنفر إليه إذ حبّ المال أمر طبيعي خصوصاً إذا كانت سهلة المأخذ قريبة المنال كما يقول : ( سَفَراً قَاصِداً ). و لمّا بعدت عليهم الشقّة أوّلاً و لم يكونوا مطمئنّين بالوصول إلى المال ثانياً انصرفوا عن المساهمة ، و لكنّهم لحفظ مكانتهم بين المسلمين كانوا يحلفون للرسول بعدم استطاعتهم للخروج ، و هم كاذبون في حلفهم كما يقول سبحانه : ( وَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِاسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ).
(460)
و قد ألمع إلى السبب الثالث بقوله : ( فَرِحَ المُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِى سَبِيلِ اللّهِ وَ قَالُوا لاَتَنْفِرُوا فِى الحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ ) ( التوبة/81 ). كان المنافقون يقولون لإخوانهم لاتنفروا في حرّ الصيف و اللّه سبحانه فنّد آراءهم و سفّه أحلامهم بأنّ نار جهنّم المعدّة للعصاة أشدّ حرّاً من تلك الأيّام ، لأنّ ذلك الحرّ تحتمله الأجسام و أمّا نار جهنّم فتلفح الوجوه و تنضج الجلود ، و على ذلك ينبغي عليهم أن يضحكوا قليلاً و بيكوا كثيراً. هذه سيرة المنافقين و ضعفاء الإيمان في كل عصر يعتذرون في الصيف بشدّة الحرّ ، و في الشتاء بشدّة البرد ، و لكنّها أعذار ظاهريّة اتّخذوها واجهة لستر ما هو السبب الحقيقي لترك المساهمة. و التاريخ يعيد نفسه. كان علي ( عليه السلام ) يأمر أصحابه بالجهاد ضد العدو و هم يتثاقلون إلى الأرض ، يعتذرون بمثل تلك الأعذار ، يقول الإمام : « فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيّام الصيف ، قلتم : هذه حمارة القيظ أمهلنا يُسَبَّخَ عنّا الحرّ ، و إذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء ، قلتم : هذه صبارّة القرّ أمهلنا ينسلخ عنّا البرد ، أكلّ هذا فراراً من الحرّ و القرّ ، فإذا كنتم من الحرّ و القرّ تفرّون فأنتم و اللّه من السيف أفر ، يا أشباه الرجال و لارجال! ... » (1). إلى هنا وقفنا على الأسباب الواقعيّة التي ثبّطت عزائم المنافقين عن المساهمة في الجهاد ، ثمّ إنّهم كانوا ينتحلون الأعذار الواهية ، ليستأذنوا النبي في القعود والتخلّف ، و كان النبي يأذن لهم ، فتزل الوحي و قال : ( عَفَا اللّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الكَاذِبِينَ ) ( التوبة/43 ). و هل الآية تدلّ على أنّ إذنه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان على خلاف
1 ـ نهج البلاغة : الخطبة27.