كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لمّا فتح مكّة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة ، وكانت سنّة العرب في الحج أنّه من دخل مكّة وطاف البيت في ثيابه لم يحلّ له امساكها ، وكانوا يتصدّقون بها ولا يلبسونها بعد الطواف ، فكان من وافى مكّة يستعير ثوباً ويطوف فيه ثم يردّه ، ومن لم يجد عارية و لاكراءً و لم يكن له إلاّ ثوب واحد طاف بالبيت عرياناً. فجاءت امرأة من العرب حسناء جميلة فطلبت ثوباً عارية أو كراءً فلم تجده ، فقالوا لها : إن طفت في ثيابك احتجت أن تتصدّقي بها ، فقالت : كيف أتصدّق وليس لي غيرها ؟ فطافت بالبيت عريانة ، وأشرف لها الناس ، فوضعت احدى يديها على قبلها والاُخرى على دبرها ، وقالت شعراً :
اليوم يبدو بعضه أو كلّه
فما بدا منه فلا أحلّه
فلما فرغت من الطواف ، خطبها جماعة ، فقالت : إنّ لي زوجاً. وكانت سيرة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قبل نزول سورة البراءة أن لا يقاتل إلاّ من قاتله ، ولا يحارب إلاّ من حاربه وأراده ، فكان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لايقاتل اُحداً قد تنحّى عنه واعتزله حتى نزلت عليه سورة البراءة ، وأمره بقتل المشركين من اعتزله ومن لم يعتزله إلاّ الذين قد عاهدهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم فتح مكّة إلى مدة ، منهم : صفوان بن اُميّة وسهيل بن عمرو ، فقال اللّه عزّ وجلّ : ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ اِلَى الَّذِينَ عَاهَذتُّم مِنَ المُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِى الأَرْضِ اَرْبَعَةَ اَشْهُر ) ثمّ يقتلون حيثما وجدوا بعد.
(472)
هذه أشهر السياحة : عشرين من ذي الحجة ومحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشراً من ربيع الآخر. فلمّا نزلت الآيات من سورة البراءة دفعها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى أبي بكر وأمره أن يخرج إلى مكّة ويقرأها على الناس بمنى يوم النحر ، فلمّا خرج أبوبكر نزل جبرئيل على رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : يا محمّد لايؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك. فبعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) في طلب أبي بكر ، فلحقه بالروحاء وأخذ منه الآيات فرجع أبوبكر إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : يا رسول الله أنزل اللّه فيّ شيئاً ؟ فقال : لا إنّ اللّه أمرني أن لا يؤدّي عني إلاّ أنا أو رجل منّي (1). هذا مجمل ماروته الشيعة حول حادثة نزول السورة وهو بنفسه جاء في كتب أهل السنّة في مصادر جمّة من حديث وتفسير ، و من أراد التفصيل فليرجع إلى تفسير الطبري والسيوطي في تفسير الآية ، ولكن لإلقاء المزيد من الضوء على تلك الحادثة نبحث عن اُمور :
1 ـ لماذا لم يحجّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بنفسه في هذا العام ؟ روى المفسّرون أنّه أقبل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من تبوك فأراد الحج ، فقيل له : إنّه يحضر المشركون فيطوفون عراة ، فقال : لا أحبّ أن أحجّ حتّى لا يكون ذلك (2). ويؤيّد ذلك قصة المرأة التي طافت بالبيت الحرام عريانة كما عرفت.
1 ـ تفسير القمي : ج1 ص281 ـ 282. 2 ـ تفسير الطبري ، ج11 ص44.
(473)
2 ـ اختلفت الرواية في عدد الآيات التي بعث النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عليّاً ( عليه السلام ) بها ليقرأها يوم الحجّ الأكبر على المشركين ويرفع الأمان عنهم. فقد روى الطبري عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا : بعث رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبابكر أميراً على الموسم سنة تسع وبعث علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) بثلاثين أو أربعين آية من سورة براءة فقرأها على الناس يؤجّل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض ، فقرأ عليهم براءة يوم عرفة أجّل المشركين عشرين من ذى الحجة والمحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وعشراً من ربيع الآخر (1). وروى السيوطي في الدر المنثور قال : أخرج عبدالله بن أحمد بن حنبل في زوائد السند وأبو الشيخ وابن مردويه عن علي ( رضي الله عنه ) قال : لمّا نزلت عشر آيات من براءة على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) دعا أبابكر ليقرأها على أهل مكّة ثمّ دعاني فقال لي : أدرك أبابكر فحيث ما لقيته فخذ الكتاب منه (2). روى البحراني في تفسيره عن مصادر وثيقة ، روايات تنتهي إلى أبي هريرة وأنس وأبي رافع وزيد بن نفيع وابن عمر و ابن عباس ـ واللّفظ للأخير : إنّه لمّا نزل ( بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) إلى تسع آيات أنفذ النبي أبابكر إلى مكّة لأدائها ، فنزل جبرئيل وقال : إنّه لا يؤدّيها إلاّ أنت أو رجل منك ، فقال النبي لعلي : إركب ناقتي العضباء وإلحق أبابكر وخذ براءة منه (3). والرواية الثانية والثالثة أوفق بمضمون الآيات وما يمس بالقضية لا يتجاوز الآية العاشرة وربّما تزيد قليلاً ، مضافاً إلى أنّ الرواية الاُولى فيها من الشذوذ ما لا يخفى ، وسيوافيك أنّ عليّاً ( عليه السلام ) قد قرأ يوم النحر لا يوم عرفة وأنّه رفع الأمان عن
1 ـ نفس المصدر السابق. 2 ـ الدر المنثور : ج10 ص122. 3 ـ تفسير البرهان ج2 ص105.
3 ـ لماذا عزل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبابكر عن مهمّة التبليغ : قد تضافرت النصوص على أنّه لمّا نزلت عشر آيات من أوّل سورة براءة دعا النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أبابكر ليقرأها على أهل مكّة ثّم دعا عليّاً ( عليه السلام ) فقال له : أدرك أبابكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه فا ذهب به إلى أهل مكّة فاقرأه عليهم ، فخرج علي ( عليه السلام ) من المدينة فلحق أبابكر في الجحفة وأخذ
(475)
الكتاب منه ، ورجع أبوبكر إلى المدينة مستاءً فقال للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : أنزل فيّ شيء ؟ قال : لا ، ولكن جبرئيل جاءني فقال : لن يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك (1).
وهناك صور اُخرى للحديث يقرب بعضها من بعض ويتّحد الكل في إفادة معنى واحد لمضمون القصّة. قال البغوي في تفسيره : لمّا كانت سنة تسع وأراد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يحج قيل له : إنّه يحضر المشركون فيطوفون عراة ، فبعث أبابكر تلك السنة أميراً على الموسم ليقيم للناس الحج وبعث معه أربعين آية من صدر براءة ليقرأها على أهل الموسم ، ثم بعث بعده عليّاً ( كرم اللّه وجهه ) على ناقته العضباء ليقرأ على الناس صدر براءة وأمره أن يؤذّن بمكّة ومنى وعرفة : أن قد برئت ذمة اللّه وذمّة رسوله من كلّ مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان. فرجع أبوبكر فقال : يا رسول الله بأبي أنت واُمّي أنزل في شأني شيء ؟ قال : لا ، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلّغ هذا إلاّ رجل من أهلي (2). وعند الرجوع إلى طرق وأسانيد هذه القصة في المجامع الحديثية والتفسيرية المهمّة يظهر بجلاء وجود تواتر معنوي أو إجمالي لوقوع القصة أعني استرداد الآيات من أبي بكر وتشريف أميرالمؤمنين بتبليغها ونزول الوحي المبيّن بأنه لا يبلّغ عنه إلاّ هو أو رجل من أهل بيته وإن اشتملت القصة على بعض الخصوصيّات التي تفرّد بها بعض الطرق والمتون (3).
1 ـ الدر المنثور ج3 ، ص209 ، كنز العمال ج1 ص247 ، تاريخ ابن كثير ج5 ص38. 2 ـ تفسير البغوي : ج2 ص267. 3 ـ و قد جمع العلاّمة الأميني كافة صور الحديث بطرقه المختلفة المسندة منها و المرسلة في موسوعته الثمينة الغدير و نقله عن ثلاثة و سبعين محدّثاً و مفسّراً و مؤرّخاً لاحظ ج6 ص338 ـ 350.
(476)
وإلى تلك الفضيلة يشير شمس الدين المالكي ( ت780 هـ ) في قصيدته :
وإنّ عليّاً كان سيف رسوله
وصاحبه السامي لمجد مشيّد
إلى أن قال :
وأرسله عنه الرسول مبلّغاًوقال هل التبليغ عنّي ينبغي
وخصّ بهذا الأمر تخصيص مفردلمن ليس عن بيتي من القوم فاقتد (1)
وحينئذ يأتي الكلام على الوازع الذي دفع الوحي الإلهي إلى عزل أبي بكر وتنصيب عليّ ( عليه السلام ) مكانه فقد ذكرت في المقام وجوه نشير إليها : 1 ـ ما ذكره الآلوسي في روح المعاني بقوله : ليس في شيء من الروايات ما يدلّ على أنّ عليّاً ( عليه السلام ) هو الخليفة بعد رسول اللّه دون أبي بكر ، وقوله : « لا يبلّغ عنّي غيري أو رجل منّي » سواء كان بوحي أو جار على عادة العرب أن لا يتولّى تقرير العهد ونقضه إلاّ رجل من الأقارب لتنقطع الحجّة بالكلّية (2). ويؤاخذ عليه : أوّلاً : بأنّ النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) برّر عزل أبي بكر بأنّه نزل جبرئيل على « أنّه لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك » ولو كانت لما ذكره القائل مسحة من الحق لكان على النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن يقول السنّة الجارية عند العرب هي أن لا ينقض العهد إلاّ عاقده أو رجل من أهل بيته ، مع إنّا نرى أنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يذكره أبداً. وثانياً : إنّ ابن كثير لم يذكر لتلك السنّة العربية مصدراً ولا خبراً عنها في أيّامهم ومغازيهم ، ولو صحّت السنّة لكانت سنّة عربيّة جاهليّة فما وزنها في الإسلام ؟ وما
1 ـ نفح الطيب ج4 ص603. 2 ـ روح المعاني : ج10 ص45 ، و قد أخذه عن تفسير ابن كثير ، ج2 ، ص331.
(477)
هي قيمتها عند النبي ؟ وهو ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان ينسخ كل يوم سنّة جاهليّة وينقض كل حين عادة قوميّة ، وقد قال يوم فتح مكّة : « ألا إنّ كلّ مأثرة أودم أو مال يدّعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج » (1).
وثالثاً : لو افترضنا أنّ هذه السنّة كانت سنّة عربيّة محمودة فهل كان رسول اللّه ذاهلاً عنها وناسياً لها حين سلّم الآيات بيد أبي بكر وأرسله وخرج إلى طريق مكّة ؟ فعند ما كان في بعض الطريق ذكر النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ما نسيه أو ذكّره بعض من كان عنده بما أهمله وذهل عنه من أمر كان الواجب مراعاته ، مع أنّ هذه السنّة لوكانت رائجة لما كان للنبي ولمن حوله أن يغفلوا عنها ثم يتذكّروها ، فهل الذهول عنها إلاّ كذهول المقاتل عن سلاحه والحارس عن حربته ؟ ورابعاً : إنّ عليّاً ( عليه السلام ) لم يبعث لمجرّد نقض العهد وحده ، وإنّما بلّغ أحكاماً لم تكن داخلة في ضمن العهد ، فقال : « يا أيّها الناس لا يحجّ بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند رسول اللّه عهد فهو له إلى مدّته ... الخ » (2). وبالجملة فلم تكن رسالة الإمام علي ( عليه السلام ) مقصورة على مجرد تلاوة طائفة من سورة براءة بل تعدّت إلى تبليغ أحكام قرآنية اُخرى نزل بها جبرئيل عن اللّه سبحانه على رسوله حيث اخبر فيها بأنّه « لا يؤدّي عنك إلاّ أنت أو رجل منك ». هذا هو التبرير الذي إرتآه ابن كثير وجنح إليه الآلوسي في تفسيره. وهناك زمزمة اُخرى تفوّه بها صاحب المنار واستحسنها شلتوت في تفسيره حيث قال الأوّل : « إنّ الصدّيق كان مظهراً لصفة الرحمة والجمال وكان عليّ أسد اللّه ومظهر جلاله ، ولأجل ذلك فوّض إليه نقض عهد الكافرين الذي هو من آثار الجلال وصفات القهر ، فكان هناك عينين فوّارتين يفور من أحد هما صفة الجمال ومن
1 ـ السيرة النبوية لابن هشام ج2 ص412. 2 ـ السيرة النبوية لابن هشام ج2 ص546.
(478)
الاُخرى صفة الجلال في ذلك المجمع العظيم الذي كان انموذجاً للحشر ومورداً للمسلم والكافر » (1).
وصاحب المنار عندما ينقله عن بعض أهل السنّة يعود فينتقده بقوله : « ولايخفى حسنه لو لم يكن في البين تعليل النبي فإنّه علّل تبليغ علي نبذ العهود عنه بكونه من أهل بيته وهو ينافي أن تكون النكتة المذكورة علّة ، فهو لا يأبى أن تكون حكمة ». وصاحب المنار وإن أتى ببعض الحق ولكن غفل عن البعض الآخر وهو إنّ أهل بيت النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لم يكونوا منحصرين في عليّ وحده ، بل كانوا عدّة كثيرة كعمّه العباس وأبناء أبي طالب كطالب وعقيل وغيرهم ، فلماذا ـ ياتري ـ اختار عليّاً وحده من دونهم ؟ والحق أن يقال : إنّ عزل أبابكر ونصب عليّ مكانه لم يكن إلاّ لأمر سياسى ودينّى يتلخّص في الأمر التالي : وهو إنّ نقض وإبرام المواثيق والعهود من الاُمور الحكومية التي يمارسها الحاكم المدني أو الشرعي ولا يحق لغيره التدخّل فيها ، فالنبي الأكرم نوّه بعمله هذا إلى أنّ الإنسان اللائق بهذه المهام في حياته ـ وبطريق أولى بعد وفاته ـ هو علي بلامنازع ، الذي هو منه (2) فهو اللائق والمسؤول بحكم النيابة عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) للتصدّي لشؤون الخلافة والحكومة و لايختصّ شأن علي بالاُمور السياسية وحده بل هو المبلّغ لأحكام شرعيّة لم يبلّغه النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لاجل ظروف قاسية فهو الزعيم للاُمة في الاُمور السياسية و الشرعية. ومن العجب العجاب مايرى من تساهل الرواة والمؤرّخون في نقل هذه الفضيلة ، ونسوق إليك بعض الصور المختلفة لهذه القصّة في كتب الحديث :
1 ـ تفسير المنار ج10 ص193 ، تفسير القرآن المجيد للشيخ محمود شلتوت ص615. 2 ـ نظير ذلك ما ورد في آية المباهلة حيث قال سبحانه : ( تَعَالَوا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَ أَبْنَاءَكُمْ وَ نِسَاءَنَا وَ نِسَاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنَا وَ أَنْفُسَكُمْ ... ) ( آل عمران/61 ).
(479)
1 ـ ما يحكى انّ عليّاً اختصّ بتأدية براءة و اُخرى تدلّ على أنّ أبابكر شاركه فيه ، و اُخرى تدلّ على أنّ أبا هريرة شاركه في التأدية ، و رجال آخرون لم يسمّوا في الروايات. 2 ـ ما يدل على أنّ الآيات كانت تسع آيات ، و اُخرى عشراً ، و اُخرى ستّة عشر ، و اُخرى ثلاثين ، و اُخرى ثلاثاً و ثلاثين ، و اُخرى سبعاً و ثلاثين ، و اُخرى أربعين ، و اُخرى سورة براءة. 3 ـ ما يدلّ على أنّ أبابكر ذهب لوجهه أميراً على الحاج ، و اُخرى على أنّه رجع و أوّله بعضهم كابن كثير إنّه رجع بعد إتمام الحج ، و آخرون انّه رجع ليسأل النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عن سبب عزله ، و في رواية أنس انّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعث أبابكر ببراءة ثمّ دعاه فأخذها منه. 4 ـ ما يدل على أنّ الحجّة وقعت في ذي الحجّة و إنّ يوم الحجّ الأكبر تمام أيّام تلك الحجّة أو يوم عرفة أو يوم النحر أو اليوم التالي ليوم النحر أو غير ذلك ، واُخرى إنّ أبابكر حجّ في تلك السنة في ذي القعدة. 5 ـ ما يدل على أنّ أشهر السياحة تأخذ من شوال ، و اُخرى من ذي القعدة واُخرى من عاشر ذي الحجّة ، و اُخرى من الحادي عشر من ذي الحجّة وغير ذلك. 6 ـ ما يدل على أنّ الأشهر الحرم هي ذو القعدة و ذو الحجّة و المحرّم من تلك السنة ، و اُخرى على أنّها أشهر السياحة تبتدئ من يوم التبليغ أو يوم النزول (1).
4 ـ مبدأ أمد الهدنة : إنّ اللّه سبحانه و رسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد رفعا الأمان عن المشركين الناقضين للعهود إلاّ إنّه تمّ إمهالهم مدّة أربعة أشهر و حيث قال سبحانه :
1 ـ الميزان : ج9 ص175 ، و لاحظ تفسير الطبري ج9 ص42.
(480)
( فَسِيحُوا فِى الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُر وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللّه وَ أَنَّ اللّهَ مُخْزِى الكَافِرينَ * وَ أَذَانٌ مِنَ اللّهِ وَ رَسُولِهِ إِلِى النَّاسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِىءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِى اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَاب أَلِيم ) ( براءة/2و3 ).
و أمّا مبدأ هذه الهدنة هو يوم الحجّ الأكبر الذي هو يوم الإبلاغ و الإنذار. و الأوفق بسماحة الإسلام أن يبتدأ أمدها من حين الإعلان و الإنذار لا من حين إنشاء الحكم الذي ربّما يتقدّم على إعلامه. فإذا فرضنا أنّ يوم الحجّ الأكبر هو يوم النحر العاشر من ذى الحجة كان آخر الأمد هو العاشر من ربيع الآخر. وأمّا من جعل مبدأ الإنذار يوم العشرين من ذى الحجة فعليه تنتهي الهدنة بمرور عشرين يوماً. وعند ذلك يتوجّه سؤال وهو : أنّه إذا كان نهاية الأمد هو العاشر أو العشرين من ربيع الآخر فكان يجب على المسلمين الصبر حتّى ينتهي ذلك الأمر مع أنّه سبحانه يأمر بقتلهم عند انسلاخ الأشهر الحرم أي في نهاية محرّم الحرام وإطلالة شهر صفر ، قال سبحانه : ( فَإِذَا انْسَلَخَ الاَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَد فَاِن تَابُوا وَاَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاهَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ اِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( براءة/5 ). والجواب عن ذلك : إنّ المراد من الأشهر الحرم هي الأشهر الأربعة الواردة في الآية المتقدّمة التي حرّم الله سبحانه قتال المشركين فيها وتبتدئ من يوم النحر وتنتهي في يوم العاشر من ربيع الآخر ، واللام في الأشهر الحرم للعهد الذكري إشارة إلى الأربعة المذكورة في الآية المتقدّمة ، وليس المراد منه الأشهر الحرم المعروفة التي حرّم فيها الحرب في الإسلام وما قبله بل تمتد جذوره إلى عهد الأنبياء السالفين لأنّه