رعاية الأخلاق في الحرب إنّ وقائع الحروب تشهد بأنّ الجبابرة والطواغيت ينسون ـ عند نشوب الحروب ـ كل القيم الإنسانية ، والاُصول الأخلاقية ، فيرتكبون كل جريمة ، ويقترفون كل جناية دون أن يردعهم عن ذلك رادع ، أو يتقيّدوا في القتال بقانون. وليس هذا أمر يتّصل بالماضي ، فساحات المعارك اليوم ، وما تشهده من فظائع خير دليل على ما ذكرناه. صحيح أنّ هناك أعرافاً دولية ، وقوانين عالمية للحروب ، ولكن من الصحيح أيضاً انّ رعاية هذه القوانين والأعراف ضئيلة ، أوكادت أن تكون مفقودة أصلاً. هذا مضافاً إلى أنّ هذه القوانين والأعراف لا تكون ـ في الأغلب ـ شاملة ، أو كافية. غير أنّ الإسلام سنّ للحرب والقتال حدوداً دقيقة من شأنها أن تجعل الحرب في إطار الأخلاق والقواعد الإنسانية ولم يكتف بمجرّد تشريعها ووضعها ، بل عمل بها في كافة حروبه ووقائعه. من هنا يجب علينا أن نقف على هذه الحدود ، لنتعرّف على مدى رحمة الإسلام وإنسانيّته ، وعدالته ، حتى في الحروب حيث يفقد المقاتلون توازنهم عادة ، فلا يتورّعون عن ارتكاب كل كبيرة وصغيرة ، وتشهد على ذلك الحروب العالمية وخاصّة ( الاُولى والثانية ) ، وكذا الحروب التي شنها الغرب على الشرق في مختلف المناطق في القرن الحاضر ، ونخصّ بالذكر المعارك الدامية بين الإستعمار الفرنسي ، والشعب الجزائري البطل ، والإستعمار الأمريكي والشعب الفيتنامي ، والإستعمار الإسرائيلي والشعب الفلسطيني ، وماجرى في هذه الحروب من الممارسات الوحشية المروّعة على يد هذه القوى الإستعمارية.
(512)
1 ـ الآمنون في الحرب لمّا كانت العدالة الإجتماعية هي المطلب الأقصى للإسلام ، ولم تكن للحرب أصالة في منطقة ، ولم تكن بنفسها هدفاً بل شرعت لدفع المعتدين وإزالتهم عن طريق الدعوة الحقّة ، اقتضى ذلك كلّه أن لا يهاجم إلاّ على الظالمين ولذا قال القرآن الكريم : ( فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ) ( البقرة/193 ). ولأجل ذلك نهى الإسلام عن قتل طائفة من الناس إذا لم يكونوا يساندون الأعداء الظالمين ولا يقاتلون ، وهؤلاء هم : 1 ـ النساء. 2 ـ الولدان. 3 ـ المجانين. 4 ـ الأعمى. 5 ـ الشيخ الفاني. 6 ـ المقعد. وقد دلّت على ذلك أحاديث متضافرة منها ما عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : « نهى رسول الله عن قتل المقعد و الأعمى والشيخ الفاني والمرأة والولدان في دارالحرب » (1). 2 ـ تمالك النفس لا ريب أنّ الحرب سبب قوي لغليان المشاعر وارتفاع سورة الغضب إلى
1 ـ فروع الكافي ج5 ص28 ح6.
(513)
أقصاه ولهذا ربّما يؤدّي إلى ارتكاب أقسى ألوان الجريمة في حقّ الخصم.
ومن هنا يجب أن يعطى زمام الحرب للعقل لا للمشاعر الملتهبة ، والأحاسيس المشتعلة. ولقد أعطى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) تعاليم كلّية في الحرب ، كان يوصي يها كل جيش يبعثه ، وكل سرية يرسلها. وإليك فيما يأتي نموذجاً من الأحاديث التي أدّب فيها النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أو الإمام المجاهدين والمقاتلين بآداب ، وتعاليم خاصة ، تكفل إنسانية الحروب وعدالتها. عن الإمام أبي عبد الله الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : « كان رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إذا أراد أن يبعث سرية دعاهم فأجلسهم بين يديه ، ثم يقول : سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله ، لا تغلوا ، ولاتغدروا ولاتقتلوا شيخاً فانياً ولا صبيّاً ولا امرأة ، ولا تقطعوا شجراً إلاّ أن تضطرّوا إليها. وأيّما رجل من أدنى المسلمين أو أفضلهم نظر إلى أحد من المشركين فهو جار ، حتّى يسمع كلام الله فإن تبعكم ، فأخوكم في الدين ، وإن أبى فابلغوه مأمنه ، واستعينوا بالله » (1). و عنه ( عليه السلام ) أيضاً أنّه قال : إنّ النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان إذا بعث أميراً له على سرية أمره بتقوى الله عزّ وجل في خاصّة نفسه ، ثمّ في أصحابه عامّة ، ثم يقول : اُغز باسم الله ، وفي سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، لا تغدروا ، ولا تغلوا ، ولاتمثّلوا ، ولا تقتلوا وليداً ، ولا متبتّلاً في شاهق ، ولا تحرقوا النخل ولا تغرقوه بالماء ،
1 ـ وسائل الشيعة ج11 ص43.
(514)
ولا تقطعوا شجرة مثمرة ، ولا تحرقوا زرعاً لأنّكم لا تدرون لعلّكم تحتاجون إليه. ولاتعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلاّ ما لابدّ لكم من أكله ، وإذا لقيتم عدوّاً للمسلمين فادعوهم ... الخ الحديث » (1).
بل ونص بعض الفقهاء على أنّ المرأة لا تقتل حتّى لو كانت تعاون الأعداء ، لأنّ النساء مستضعفات غالباً ، وهنّ يرغمن على القيام بمثل هذا التعاون إرغاماً. قال المحقّق الحلّي في المختصر النافع : « ولا تقتل نساؤهم ولو عاون إلاّ مع الإضطرار » (2). وهذا يجسّد منتهى الرحمة والإنسانية التي يتحلّى بها الدين الإسلامي. وقد جاء في غزوة بدر إنّ عمر بن الخطاب قال لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا رسول الله دعني أنزع ( اقلع ) ثنيّتي سهيل بن عمرو ، ويدلع لسانه ( وكان سهيل خطيباً يهرّج ضد النبي ) فلا يقوم عليك خطيباً في موطن أبداً. فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « لا اُمثّل به فيمثّل الله بي وإن كنت نبيّاً » (3). إنّ المقارنة بين هذه التعاليم والمواقف الإسلامية والجنايات والجرائم الوحشية التي ارتكبتها الدول الكبرى في مستعمراتها كالجزائر وفيتنام وغيرهما ، توقفنا على إنسانيّة الدين الإسلامي ورحمته في الحرب.
3 ـ منع ممارسة الأساليب الوحشية إنّ الإسلام يحرّم إهلاك العدو بالطرق غير الإنسانية مثل إلقاء السم في الماء أو قطعه عنهم ، أو إرساله على مُخيّمهم لغرقهم ، أو حرقهم بالنار. وفي ذلك يقول المحقّق الحلّي في المختصر النافع : « ويجوز المحاربة بكل ما يرجى به الفتح ... » (4). ثمّ قال : « ويكره يإلقاء النار ، ويحرم بإلقاء السم » (5). وقال العلاّمة الحلّي في تبصرة المتعلّمين :
1 ـ وسائل الشيعة ج11 ص44. 2 ـ المختصر النافع ، كتاب الجهاد ص112 طبعع القاهرة. 3 ـ سيرة ابن هشام ج2 ص642. 4 ـ المختصر النافع ، كتاب الجهاد : ص112. 5 ـ المختصر النافع ، كتاب الجهاد : ص112.
(515)
« ويجوز المحاربة بسائر أنواع الحرب ، إلاّ إلقاء السم في بلادهم » (1). ثمّ ها هو الإمام علي ( عليه السلام ) في صفّين بعد الإستيلاء على الشريعة لايمنع جيش معاوية عن الماء ، وإن كان معاوية قد فعل ذلك من قبل (2). إلى هذه الدرجة الرفيعة من الرحمة والشفقة تبلغ رحمة الإسلام ، بينما لا تتورّع الدول الكبرى عن قصف الشعوب المقهورة بقنابل النابالم ، وغيرها من الوسائل والأدوات الحربية الفتّاكة المروّعة. ومن الذي لايمكن أن ينسى ما فعلته الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية حينما قصفت هيروشيما ، وناكازاكي بالقنابل الذرية ، فأبادت ما يقارب نصف مليون ، وحذف ذينك البلدين من الخريطة الجغرافية بحجّة التعجيل في إنهاء الحرب ، كما قال ترومن رئيس الجمهورية الأمريكي الأسبق عام 1945م ؟
1 ـ تبصرة المتعلّمين : كتاب الجهاد ص81. 2 ـ راجع وقعة صفين لابن مزاحم : ص166 ـ 167 ( طبعة مصر ).
(516)
4 ـ أمان الكفّار : إنّ الإسلام ـ بحكم كونه رسالة إلهية ودعوة سماويّة لهداية الإنسان ـ يحرص على دخول الأفراد في صفوف أتباعه ، والإنضواء تحت لوائه عن رغبة وإرادة. ولتحقيق هذا الهدف الأسمى نجد الإسلام يسمح بإعطاء الأمان لكلّ من يطلب ذلك من الكفّار لكي يسمع منطق الإسلام ، ويتعرّف على تعاليمه ، سواء كان ذلك عند نشوب الحرب ، أو في غير الحرب. بل إنّ الإسلام يعطي الحق لكلّ مسلم أن يمنح الأمان لمن شاء ، ولو كان لغير الهدف المذكور. قال المحقّق الحلّي في الشرائع : « و يجوز أن يذم الواحد من المسلمين لآحاد من أهل الحرب » (1). و قال في المختصر النافع : « و يذم الواحد من المسلمين للواحد ، و يمضي ذمامه على الجماعة و لو كان أدونهم » (2). ثمّ إنّ ما يدلّ على مدى عناية الإسلام و حرصه على الدماء أنّه يجير حتّى من دخل في حوزة المسلمين بشبهة الأمان و ظنّه فهو مأمون حتّى يرد إلى مأمنه دون أن يصيبه أذى. قال المحقّق في الشرائع : « و كذا كلّ حربي دخل في دار الإسلام بشبهة الأمان كان يسمع لفظاً فيعتقده أماناً ، أو يصحب رفقة فيتوهّمها أماناً » (3).
1 ـ شرائع الإسلام ، كتاب الجهاد في الذمام ، و راجع الجواهر ج21 ص96. 2 ـ المختصر النافع ، كتاب الجهاد : ص112. 3 ـ الشرائع ، كتاب الجهاد ج1 ص313 ـ 314.
(517)
و قال في المختصر النافع : « و من دخل بشبهة الأمان فهو آمن حتّى يردّ إلى مأمنه » (1). و تدلّ على هذا أحاديث منها عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنّه قال : « لو أنّ قوماً حاصروا مدينة فسألوهم الأمان ، فقالوا : لا ، فظنّوا انّهم قالوا : نعم ، فنزلوا إليهم كانوا آمنين » (2). ومن مظاهر العدل والمساواة انّ الإسلام يجيز أمان العبد المسلم كما يجيز أمان الحر المسلم سواء بسواء. ويدلّ على هذا الحكم الإسلامي العظيم روايات عديدة منها ما روي عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) لمّا سأله السكوني عن معنى قول النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « يسعى بذمّتهم أدناهم » قال ( عليه السلام ) : « لو أنّ جيشاً من المسلمين حاصروا قوماً من المشركين فأشرف رجل ، فقال : إعطوني الأمان حتّى ألقى صاحبكم واُناظره فأعطاه أدناهم الأمان وجب على أفضلهم الوفاء به » (3). وعن الصادق ( عليه السلام ) أيضاً أنّه قال : إنّ عليّاً ( عليه السلام ) أجاز أمان عبد مملوك لأهل حصن من الحصون وقال : « هو من المؤمنين » (4). ولقد روى الجزري في تاريخه الكامل : « إنّ المسلمين نزلوا بجنديسابور فأقاموا عليها يقاتلونهم ، فرمي إلى من بها من عسكر المسلمين بالأمان. فلم يفجأ المسلمين إلاّ وقد فتحت أبوابها ، واُخرجوا أسواقهم ، وخرج أهلها ، فسألهم المسلمون ، فقالوا : رميتم بالأمان ، فقبلناه ، وأقررنا بالجزية على أن تمنعونا.
1 ـ المختصر النافع ، كتاب الجهاد : ص112. 2 ـ وسائل الشيعة ج15 ص50. 3 ـ وسائل الشيعة ج15 ص49و50. 4 ـ وسائل الشيعة ج15 ص49و50.
(518)
فقال المسلمون : ما فعلنا .... وسأل المسلمون فيما بينهم ، فإذا عبد يدعى « مكثفاً » كان أصله منها ، فعلهذا. فقالوا : هو عبد. فقال أهلها : لا نعرف العبد من الحر ، وقد قبلنا الجزية ، وما بدّلنا ، فان شئتم فاغدروا. فكتبوا لعمر فأجاز أمانهم ، فأمّنوهم وانصرفوا عنهم » (1). وهذا هو نموذج واحد من سلوك المسلمين في هذا المجال يجد نظائره كل من راجع التاريخ الإسلامي.
1 ـ الكامل في التاريخ لابن الأثير الجزري ج2 ص387 ـ 388.
لا شك في انّ الدين الإسلامي دين عالمي ، وشريعة خاتمة ، وقد كانت قيادة الاُمّة الإسلامية من شؤون النبي الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مادام على قيد الحياة ، وكان عليه أن يوكل مقام القيادة من بعده إلى أفضل أفراد الاُمّة وأكملهم. إنّ في هذه المسألة وهي أنّ منصب القيادة بعد النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هل هو منصب تنصيصي تعييني أو أنّه منصب انتخابي ؟ هناك اتّجاهين : فالشيعة ترى أنّ مقام القيادة منصب تنصيصي ، ولابد أن ينصّ على خليفة النبي من السماء ، بينما يرى أهل السنّة أنّ هذا المنصب انتخابي جمهوري ، أي أنّ على الأمّة أن تقوم بعد النبي باختيار فرد من أفرادها لإدارة البلاد. إنّ لكل من الاتّجاهين المذكورين دلائل ، ذكرها أصحابهما في الكتب العقائدية ، إلاّ أنّ ما يمكن طرحه هنا هو تقييم ودراسة المسألة في ضوء دراسة وتقييم الظروف السائدة في عصر الرسالة ، فانّ هذه الدراسة كفيلة باثبات صحّة أحد الاتّجاهين. إنّ تقييم الأوضاع السياسية داخل المنطقة الاسلامية وخارجها في عصر الرسالة يقضي بأنّ خليفة النبي لابد أن يعيَّن من جانب الله تعالى ، ولا يصحّ أن يوكل هذا إلى الأمّة ، فانّ المجتمع الإسلامي كان مهدّداً على الدوام بالخطر الثلاثي ( الروم ـ الفرس ـ المنافقين ) بشنّ الهجوم الكاسح ، وإلقاء بذور الفساد والاختلاف بين المسلمين. كما أنّ مصالح الأمّة كانت توجب أن يوحّد صفوف المسلمين في مواجهة الخطر الخارجي ، وذلك بتعيين قائد سياسي من بعده ، وبذلك يسد الطريق على
(520)
نفوذ العدو في جسم الاُمّة الإسلامية والسيطرة عليها ، وعلى مصيرها.
وإليك بيان وتوضيح هذا المطلب : لقد كانت الامبراطورية الرومانية أحد أضلاع الخطر المثلث الذى يحيط بالكيان الإسلامي ، ويهدّده من الخارج والداخل. وكانت هذه القوة الرهيبة تتمركز فى شمال الجزيرة العربية ، وكانت تشغل بال النبي القائد على الدوام ، حتى أنّ التفكير فى أمر الروم لم يغادر ذهنه وفكره حتى لحظة الوفاة ، والالتحاق بالرفيق الأعلى. وكانت أول مواجهة عسكرية بين المسلمين ، والجيش المسيحي الرومي وقعت في السنة الثامنة من الهجرة في أرض فلسطين ، وقد أدّت هذه المواجهة إلى مقتل القادة العسكريين البارزين الثلاثة وهم « جعفر الطيار » و « زيد بن حارثة » و « عبد الله بن حارثة ». ولقد تسبّب انسحاب الجيش الإسلامى بعد مقتل القادة المذكورين إلى تزايد جرأة الجيش القيصري المسيحي ، فكان يخشى بصورة متزايدة أن تتعرّض عاصمة الإسلام للهجوم الكاسح من قبل هذا الجيش. من هنا خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في السنة التاسعة للهجرة على رأس جيش كبير جداً إلى حدود الشام ليقود بنفسه أيّة مواجهة عسكرية ، وقد استطاع الجيش في هذه الرحلة الصعبة المضنية أن يستعيد هيبته الغابرة ، ويجدد حياته السياسية. غير انّ هذا الانتصار المحدود لم يقنع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأعدّ قُبيل مرضه جيشاً كبيراً من المسلمين ، وأمّر عليهم « اُسامة بن زيد » ، وكلّفهم بالتوجّه إلى حدود الشام ، والحضور في تلك الجبهة. أمّا الضلع الثاني من المثلث الخطير الذي كان يهدد الكيان الإسلامي ، فكان