مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: 111 ـ 120
(111)
    ب : ( ومغفرة ) لما يصدر منهم من إلحاف أو إزعاج في المسألة.
    فالمواجهة بهاتين الصورتين ( خير من صدقة يتبعها أذى ).
    وعلى كلّ حال فالمغني هو الله سبحانه ، كما يقول : ( وَالله غني ) ، أي يغني السائل من سعته ، ولكنّه لاَجل مصالحكم في الدنيا والآخرة استقرضكم في الصدقة وإعطاء السائل. ( حليم ) فعليكم يا عباد الله بالحلم و الغفران لما يبدر من السائل.


(112)
سوره البقرة
8
التمثيل الثامن
    ( يَا أَيُّها الّذِينَ آمَنوا لا تُبطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمَنّ وَالاََذى كَالّذى يُنْفِقُ مَالَهُ رئَاءَ النّاسِ وَلا يُوَْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصَابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُون َعَلى شيءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي القَومَ الكَافِرِين ). (1)
    الرئى من الروَية ، وسمي المرائي مرائياً ، كأنّه يفعل ليرى غيره ذلك.
    والصفوان واحدته صفوانة ، مثل سعدان وسعدانة ، ومرجان و مرجانة ، وهي الحجر الاَملس.
    و « الوابل » : المطر الشديد الوقع.
    و « الصلد » : الحجر الاَملس أي الصلب ، و « الصلد » من الاَرض مالا ينبت فيه شيئاً لصلابته.
    قدمرّ في التمثيل السابق انّ التلطف بالكلام في رد السائل والاعتذار منه ، والعفو عما يصدر منه من إلحاف وإزعاج ، أفضل من أن ينفق الاِنسان ويتبع عمله بالاَذى.
    وأمّا ما هو سببه ، فقد بيّنه سبحانه في هذا التمثيل ، وذلك بأنّ المنَّ والاَذى
    1 ـ البقرة : 264.

(113)
يبطل الاِنفاق السابق ، لاَنّ ترتب الاَجر على الاِنفاق مشروط بترك تعقبه بهما ، فإذا اتبع عمله بأحد الاَمرين فقد افتقد العمل شرط استحقاق الاَجر.
    وبهذا يتبيّن أنّ الآية لا تدلّ على حبط الحسنة بالسيئة ، لاَنّ معنى الحبط هو إبطال العمل السىّء الثواب المكتوب المفروض ، والآية لا تدلّ عليه لما قلنا من احتمال أن يكون ترتب الثواب على الاِنفاق مشروطاً من أول الاَمر بعدم متابعته بالمنِّ والاَذى في المستقبل ، فإذا تابع عمله بأحدهما فلم يأت بالواجب أو المستحب على النحو المطلوب ، فلا يكون هناك ثواب مكتوب حتى يزيله المنّ والاَذى.
    وأمّا استخدام كلمة الاِبطال ، فيكفي في ذلك وجود المقتضي للاَجر وهو الاِنفاق ، ولا يتوقف على تحقّق الاَجر ومفروضيته على الله بالنسبة إلى العبد.
    ثمّ إنّ الحبط باطل عقلاً وشرعاً.
    أمّا الاَوّل فلما قُرِّر في محله من استلزامه الظلم ، لاَنّ معنى الحبط أنّ مطلق السيئة يذهب الحسنات وثوابها على وجه الاِطلاق مع أنّه مستلزم للظلم ، لاَنّ من أساء وأطاع وكانت إساءته أكثر ـ فعلى القول بالاِحباط ـ يكون بمنزلة من لم يحسن.
    وإن كان إحسانه أكثر يكون بمنزلة من لم يسىَ ، وإن تساويا يكون مساوياً لمن يصدر عنهما. (1)
    وأمّا شرعاً فلقوله سبحانه : ( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَذَرَّةٍ شَراً يَرَه ). (2)
    1 ـ كشف المراد : المقصد السادس ، المسألة السابعة.
    2 ـ الزلزلة : 7 ـ 8.


(114)
    وإلى هذين الوجهين أشار المحقّق الطوسى بقوله :
    والاِحباط باطل ، لاستلزامه الظلم ولقوله تعالى : ( فَمَنْ يَعْمَل مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه ). (1)
    ثمّ إنّ العبد بما انّه لا يملك شيئاً إلاّ بما أغناه الله وأعطاه ، فهو ينفق من مال الله سبحانه ، لاَنّه وما في يده ملك لمولاه فهو عبد لا يملك شيئاً إلاّ بتمليكه سبحانه ، فمقتضى تلك القاعدة أن ينفق لله وفي سبيل الله ولا يتبع عمله بالمنّ والاَذى.
    وبعبارة أُخرى : أنّ حقيقة العبودية هي عبارة عن حركات العبد وسكناته لله سبحانه ، ومعه كيف يسوّغ له اتّباع عمله بالمنِّ والاَذى.
    ولذلك يقول سبحانه : ( يا أَيُّهَا الّذينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالمَنّ وَالاََذى ).
    ثمّ إنّه سبحانه شبّه أصحاب المنِّ والاَذى بالمرائي الذي لا يبتغي بعمله مرضاة الله تعالى ، ولا يقصد به وجه الله غير انّ المانّ والموَذي يقصد بعمله مرضاة الله ثمّ يتبعهما بما يبطله بالمعنى الذي عرفت ، والمرائي لا يقصد بأعماله وجه الله سبحانه فيقع عمله باطلاً من رأس ، ولذلك صحّ تشبيههما بالمرائي مثل تشبيه الضعيف بالقوي.
    وأمّا حقيقة التمثيل فتوضيحها بالبيان التالي :
    نفترض أرضاً صفواناً أملس عليها تراب ضئيل يخيل لاَوّل وهلة أنّها أرض نافعة صالحة للنبات ، فأصابها مطر غزير جرف التراب عنها فتركها صلداً
    1 ـ المصدر نفسه.

(115)
صلباً أملس لا تصلح لشىء من الزرع ، كما قال سبحانه : ( كمَثَل صَفْوان عَلَيْهِ تُراب فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكهُ صَلداً لا يَقْدِرُون على شيء مِمّا كسبوا ).
    فعمل المرائي له ظاهر جميل وباطن ردىء ، فالاِنسان غير العارف بحقيقة نيّة العامل يتخيل أنّ عمله منتج ، كما يتصور الاِنسان الحجر الاَملس الذي عليه تراب قليل فيتخيل انّه صالح للنبات ، فعند ما أصابه مطر غزير شديد الوقع ونفض التراب عن وجه الحجر تبين أنّه حجر أملس لا يصلح للزراعة ، فهكذا عمل المرائي إذا انكشفت الوقائع ورفعت الاَستار تبين أنّه عمل ردىء عقيم غير ناتج.
    ثمّ إنّ المانّ و الموَذي بعد الاِنفاق أشبه بعمل المرائي.


(116)
سورة البقرة
9
التمثيل التاسع
    ( وَمَثَلُ الّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ ابْتِغاءَ مَرضَاتِ اللهِ وَتَثْبيتاً مِنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَين فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلّ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ). (1)
    تفسير الآية
    « الربوة » : هي التلُّ المرتفع.
    و « الطلّ » : المطر الخفيف ، يقال : أطلّت السماء فهي مطلِّة. وروضة طلّة ندية.
    شبّه سبحانه في التمثيل السابق عمل المانِّ والموَذي بعد الاِنفاقب والمرائى بعمله بالاَرض الصلبة التي عليها تراب يصيبها مطر غزير يكتسح التراب فلا يظهر إلاّ سطح الحجر لخشونته وصلابته ، على عكس التمثيل في هذه الآية حيث إنّها تشبّه عمل المنفق لمرضاة الله تبارك و تعالى بجنة خضراء يانعة تقع على أرض مرتفعة خصبة تستقبل النسيم الطلق و المطر الكثير النافع ، وقيّد المشبه به ببستان مرتفع عن الاَرض ، لاَنّ تأثير الشمس والهواء فيه أكمل فيكون أحسن منظراً وأذكى ثمراً ، أمّا الاَماكن المنخفضة التي لا تصيبها الشمس في الغالب إلاّ قليلاً فلا تكون كذلك.
    1 ـ البقرة : 265.

(117)
    قال الرازي : إنّ المراد بالربوة الاَرض المستوية الجيدة التربة بحيث تربو بنزول المطر عليها وتنمو ، كما قال سبحانه : ( فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الماء اهْتَزَّت وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ ).
    ويوَيده أنّ المثل مقابل الصفوان الذي لا يوَثر فيه المطر.
    وعلى كلّ حال فهذا النوع من الاَرض إن أصابها وابل أتت أُكلها ضعفين فكان ثمرها مِثْلَي ما كانت تثمر في العادة ، وإن لم يصبها وابل بل أصابها الطلّ تعطي أُكلها حسب مايترقّب منها.
    فالذين ينفقون أموالهم في سبيل الله أشبه بتلك الجنة ذات الحاصل الوافر المفيد والثمين.
    ثمّ إنّ قوله سبحانه : ( ابتغاء مرضات الله و تثبيتاً من أنفسهم ) بيان لدوافع الاِنفاق وحواجزه وهو ابتغاء مرضاة الله أولاً ، وتقوية روح الاِيمان في القلب ثانياً ، ولعلّ السرّ في دخول « من » على ( من أنفسهم ) مع كونه مفعولاً لقوله ( تثبيتاً ) لبيان أنّ هذا المنفق ينفق من نفس قد روّضها وثبّتها في الجملة على الطاعة حتى سمحت لله بالمال الغزير فهو يجعل من مقاصده في الاِنفاق ، تثبيتها على طاعة الله وابتغاء مرضاته في المستقبل.


(118)
سورة البقرة
10
التمثيل العاشر
    ( أَيَوَّدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الاََنْهارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلّ الثَّمَراتِ وَأَصابهُ الكِبَرُ وَلَهُ ذُرّيّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيّنُ اللهُ لَكُمُ الآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُون ). (1)
    تفسير الآية
    ودّ الشيء : أحبه. و « الجنة » هي الشجر الكثير الملتفّ كالبستان سمّيت بذلك ، لاَنّها تجن الاَرض وتسترها وتقيها من ضوء الشمس ونحوه.
    و « النخيل » جمع نخل أو اسم جمع.
    و « الاَعناب » جمع عنب وهو ثمر الكرم ، والقرآن يذكر الكرم بثمره والنخل بشجره لا بثمره.
    و « الاِعصار » ريح عاصفة تستدير في الاَرض ثمّ تنعكس عنها إلى السماء حاملة معها الغبار كهيئة العمود ، جمعه أعاصير ، وخصّ الاَعاصير بما فيها نار ، وقال : ( إعصار فيه نار ) ، وفيه احتمالات :
    أ : أن يكون المراد الرياح التي تكتسب الحرارة أثناء مرورها على الحرائق
    1 ـ البقرة : 266.

(119)
فتحمل معها النيران إلى مناطق نائية.
    ب : العواصف التي تصاحبها الصواعق وتصيب الاَرض وتحيلها إلى رماد.
    ج : البرد الشديد الذي يطلق على كلّ ما يتلف الشيء ولو بتجفيف رطوبته.
    والمتعين أحد الاَوّلين دون الثالث ، وإلاّ لكان له سبحانه أن يقول كمثل ريح صرّ وهو البرد الشديد ، قال سبحانه في صدقات الكفار ونفقاتهم في الدنيا : ( مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ في هذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ ريحٍ فِيهَا صِرّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُون ). (1)
    نعم ربما يفسر الصرّ بالسموم الحارة القاتلة. (2) وعندئذ تّتحد الآيتان في المعنى.
    وعلى كلّ حال فالمقصود هو نزول البلاء على هذه الجنة الذي يوَدي إلى إبادتها بسرعة.
    ثمّ إنّه سبحانه بينما يقول : ( جنّة من نَخيلٍ وَأَعْناب ) الظاهر في كون الجنّة محفوفة بهما ، يقول أيضاً : ( فِيها مِنْ كُلّ الثَّمَرات ) ، فكيف يمكن الجمع بين الاَمرين؟
    والظاهر انّ النخيل والاَعناب لمّا كانا أكرم الشجر وأكثرها نفعاًخصّهما بالذكر وجعل الجنة منهما ، وإن كانت محتوية على سائر الاَشجار تغليباً لهما على غيرهما.
    إلى هنا تم تفسير مفردات الآية.
    1 ـ آل عمران : 117.
    2 ـ مجمع البيان : 1/491.


(120)
    وأمّا التمثيل فيتركب من مشبه ومشبه به.
    أمّا المشبه فهو عبارة عمن يعمل عملاً صالحاً ثمّ يردفه بالسيئة ، كما هو المروي عن ابن عباس ، عندئذٍ يكون المراد من ينفق ويتبع عمله بالمنّ والاَذى.
    قال الزمخشري : ضربت الآية مثلاً لرجل غني يعمل الحسنات ، ثمّ بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها. (1)
    وأمّا المشبه به فهو عبارة عن رجل طاعن في السن لَحِقته الشيخوخة وله أولاد صغار غير قادرين على العمل وله جنّة محفوفة بالنخيل والاَعناب تجري من تحتها الاَنهار وله من كلّ الثمرات ، وقد عقد على تلك الجنة آمالاً كبيرة ، وفجأة هبّت عاصفة محرقة فأحرقتها وأبادتها عن بكرة أبيها فكيف يكون حال هذا الرجل في الحزن والحسرة والخيبة والحرمان بعد ما تلاشت آماله ، فالمنفق في سبيل الله الذي هيأ لنفسه أجراً وثواباً أُخروياً عقد به آماله ، فإذا به يتبع عمله بالمعاصي ، فقد سلط على أعماله الحسنة تلك أعاصير محرقة تبيد كلّ ما عقد عليه آماله.
    1 ـ الكشاف : 1/299.
مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: فهرس