مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: 271 ـ 280
(271)
نبّأها به قالت من أنبأك هذا قال نبّأني العليم الخبير ).
    وبما انّ مستمع السر كمفشيه عاص ، يعود سبحانه يندّد بهما ويأمرهما بالتوبة ، لاَجل ما كسبت قلوبهما من الآثام ، وانّه لو لم تكُفَّا عن إيذاء النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فاعلما انّ الله يتولّى حفظه ونصرته ، وأمين الوحي معين له وناصر يحفظه ، وصالح الموَمنين وخيارهم يوَيدونه ، وبعدهم ملائكة الله من أعوانه. كما يقول سبحانه : ( ان تتوبا فقد صغت قلوبكما ) أي مالت إلى الاِثم ، وإن تظاهرا عليه أي تعاونا على إيذاء النبي ، فانّ الله مولاه وجبرئيل و صالح الموَمنين والملائكة بعد ذلك ظهير.
    هاتان الآيتان توقفنا على مكانة الزوجتين من القيام بوظائف الزوجية ، حيث إنّ حفظ الاَمانة من واجب الزوجة حيال زوجها ، كما أنّ الآية الثانية تعرب عن مكانتهما عند الله سبحانه حيث تجعلهما على مفترق الطرق : إمّا التوبة لاَجل الاِثم ، وإمّا التمادي في غيّهما وإحباط كلّ ما تهدفان إليه ، لاَنّ له أعواناً مثل ربه والملائكة وصالح الموَمنين.
    وبما انّ السورة تكفّلت بيان تلك القصة ناسب أن يمثل سبحانه حالهما بزوجتين لرسولين أذاعتا سرهما وخانتاهما. إذ لم تكن خيانتهما خيانة فجور لما ورد : ما بغت امرأة نبي قط ، و إنّما كانت خيانتهما في الدين.
    قال ابن عباس : كانت امرأة نوح كافرة تقول للناس : إنّه مجنون ، وإذا آمن بنوح أحد أخبرت الجبابرة من قوم نوح ، كما أنّ امرأة لوط دلّت على أضيافه.
    وعلى كلّ حال فقد شاركت هذه الزوجات الاَربع في إذاعة أسرار أزواجهنّ ، وبذلك صرن نموذجاً بارزاً للخيانة.
    وقد كنَّ يتصورنّ انّ صلتهن بالرسل تحول دون عذاب الله ، ولم يقفن


(272)
على أنّ مجرد الصلة لا تنفع مالم يكن هناك إيمان وعمل صالح ، قال سبحانه : ( فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَومَئِذٍ ) (1) وقال سبحانه مخاطباً بني آدم : ( يا بَنِى آدَمَ إمّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ). (2)
    ومن هنا تقف على أنّ صحبة الرسول لا تنفع مالم يضم إليه إيمان خالص وعمل صالح ، فلا تكون مجالسة الرسول دليلاً على العدالة ولا على النجاة ، وأصحاب النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أمام الله سبحانه كالتابعين يحكم عليهم بما يحكم على التابعين ، فكما أنّ الصنف الثاني بين صالح وطالح ، فهكذا الصحابة بين صالح وطالح.
    1 ـ الموَمنون : 101.
    2 ـ الاَعراف : 35.


(273)
التحريم
56
التمثيل السادس والخمسون
    ( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلّذِينَ آمَنُوا امرأتَ فِرْعَون إِذْ قالَتْ رَبّ ابنِ لى عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الجَنّةِ وَنَجّني مِنْ فِرْعَونَ وَعَمَلِهِ وَنَجّني مِنَ الْقَومِ الظّالِمين * وَمَرْيم ابْنَتَ عِمْرانَ الّتي أحصَنَت فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقت بِكَلِماتِ رَبّها وَكُتُبهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتين ). (1)
    تفسير الآيات
    « الحصن » : جمعه حصون وهي القلاع ، ويطلق على المرأة العفيفة ، لاَنّها تحصّن نفسها بالعفاف تارة وبالتزويج أُخرى.
    القنوت : لزوم الطاعة مع الخضوع ، قوله : ( كُلّ لَهُ قانِتُون ) أي خاضعون.
    لما مثّل القرآن بنماذج بارزة للفجور من النساء أردفه بذكر نماذج أُخرى للتقوى والعفاف من النساء بلغن من التقوى والاِيمان منزلة عظيمة حتى تركن الحياة الدنيوية ولذائذها وعزفن عن كل ذلك بغية الحفاظ على إيمانهنّ ، وقد مثل القرآن بآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، فقد بلغت من الاِيمان والتقوى بمكان انّها طلبت من الله سبحانه أن يبني لها بيتاً في الجنة ، فقد آمنت بموسى
    1 ـ التحريم : 11 ـ 12.

(274)
لمّا رأت معاجزه الباهرة ودلائله الساطعة ، فأظهرت إيمانها غير خائفة من بطش فرعون و قد نقل انّه وتدها بأربعة أوتاد واستقبل بها الشمس.
    هذه هي المرأة الكاملة التي ضحّت في سبيل عقيدتها واستقبلت الشهادة بصدر رحب ولم تعر للدنيا و زخارفها أيّة أهمية ، وكان هتافها حينما واجهت الموت قولها : ( ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنة ونجّني من فرعون وعمله ونجّني من القوم الظالمين ).
    فقولها : « عندك » ، يهدف إلى القرب من رحمة الله ، وقولها : « في الجنة » يبين مكان القرب.
    فقد اختارت جوار ربها والقرب منه وآثرت بيتاً يبنيه لها ربها على قصر فرعون الذي كان يبهر العقول ، ولكن زينة الحياة الدنيا عندها نعمة زائلة لا تقاس بالنعمة الدائمة.
    ثمّ إنّه سبحانه يضرب مثلاً آخر للموَمنات مريم ابنة عمران ، ويصفها بقوله : ( ومريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فنفخنا فيه من روحنا وصدّقت بكلمات ربّها وكتبه وكانت من القانتين ).
    ترى أنّه سبحانه يصفها بالصفات التالية :
    1. ( أحصنت فرجها ) فصارت عفيفة كريمة وهذا بإزاء ما افتعله اليهود من البهتان عليها ، كما يعرب عنه قوله سبحانه : ( وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً ) (1) وفي سورة الاَنبياء قوله : ( وَالّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنَا فِيها مِنْ رُوحِنا ). (2)
    1 ـ النساء : 156.
    2 ـ الاَنبياء : 91.


(275)
    2. ( فنفخنا فيه من روحنا ) : أي كونها عفيفة محصّنة صارت مستحقة للثناء والجزاء ، فأجرى سبحانه روح المسيح فيها ، وإضافة الروح إليه إضافة تشريفية ، فهي امرأة لا زوج لها انجبت ولداً صار نبياً من أنبياء الله العظام.
    وقد أُشير إلى هذين الوصفين في سورة الاَنبياء ، قال سبحانه : ( وَالّتي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنَا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِين ).
    وهناك اختلاف بين الآيتين ، فقد جاء الضمير في سورة الاَنبياء موَنثاً فقال : ( فنَفخنا فيها من روحنا ) و في الوقت نفسه جاء في سورة التحريم مذكراً ( فنفخنا فيه من روحنا ).
    وقد ذكر هنا وجه وهو :
    إنّ الضمير في سورة الاَنبياء يرجع إلى مريم ، وأمّا المقام فإنّما يرجع إلى عيسى ، أي فنفخنا فيه حتى أنّ من قرأه « فيها » أرجع الضمير إلى نفس عيسى والنفس موَنثة.
    أقول : هذا لا يلائم ظاهر الآية ، لاَنّه سبحانه بصدد بيان الجزاء لمريم لاَجل صيانة فرجها ، فيجب أن يعود الجزاء إليها ، فالنفخ في عيسى يكون تكريماً لعيسى ولا يعد جزاءً لمريم.
    3. ( صدَّقت بكلمات ربّها وكتبه ) : ولعل المراد من الكلمات الشرائع المتقدمة ، والكتب : الكتب النازلة ، كما يحتمل أن يكون المراد الوحي الذي لم يكن على شكل كتاب.
    4. ( وكانت من القانتين ) : أي كانت مطيعة لله سبحانه ، ومن القوم المطيعين لله الخاضعين له الدائمين عليه ، وقد جيء بصيغة المذكر تغليباً ، يقول


(276)
سبحانه : ( يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرّاكِعين ). (1)
    ونختم البحث بذكر ثلاث روايات :
    1. روى الطبري ، عن أبي موسى ، عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قال : « كمل من الرجال كثير ، ولم يكمل من النساء إلاّ أربع : آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، و مريم بنت عمران ، و خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد » ( صلى الله عليه وآله وسلم ). (2)
    2. أخرج الحاكم ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « أفضل نساء أهل الجنة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون مع ما قص الله علينا من خبرهما في القرآن ( قالت ربّ ابن لي عندك بيتاً في الجنّة » ). (3)
    3. أخرج الطبراني ، عن سعد بن جنادة ، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « إنّ الله زوجني في الجنة : مريم بنت عمران ، وامرأة فرعون ، وأُخت موسى ».
    1 ـ آل عمران : 43.
    2 ـ مجمع البيان : 5/320.
    3 ـ و 4. الدر المنثور : 8/229.


(277)
الملك
57
التمثيل السابع والخمسون
    ( أَمَّنْ هذا الّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَه بَل لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ * أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْههِ أَهْدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيم ). (1)
    تفسير الآيات
    « لجّ » : من اللجاج : التمادي و العناد في تعاطي الفعل المزجور عنه.
    « عُتُوّ » : التمرّد.
    « النفور » : التباعد عن الحقّ.
    « مكب » : من الكبو ، و هو إسقاط الشيء على وجهه ، قال سبحانه : ( فَكُبَّتْ وُجُوهُهُم فِي النّار ). ومنه قوله : « إنّ الجواد قد يكبو » أي قد يسقط ، والمراد هنا بقرينة مقابله : ( يمشي سوياً ) ، أي من يمشي ووجهه إلى الاَرض لا الساقط. وقال الطبرسي : أي منكساً رأسه إلى الاَرض ، فهو لا يبصر الطريق ولا من يستقبله.
    وأمّا الآيات فقد جاءت بصيغة السوَال بين الضالين الذين لجّوا في عتو ونفور وظلّوا متمسّكين بالاَوثان والاَصنام ، وبين المهتدين الذين يمشون في
    1 ـ الملك : 21 ـ 22.

(278)
جادة التوحيد ولا يعبدون إلاّ الله القادر على كلّ شيء.
    فمثل هوَلاء مثل من يمشي على أرض متعرجة غير مستوية يكثر فيها العثار ، وبالتالى يسقط الماشي مكباً على وجهه ، ومن يمشي على جادة مستوية مستقيمة ليس فيها عثرات ، فيصل إلى هدفه بسهولة.
    فالاختلاف بين هاتين الطائفتين ليس في كيفية المشي ، وإنّما الاختلاف في طريقهم حيث إنّ طرق الكفّار ملتوية متعرجة فيها عقبات كثيرة ، وطريق المهتدين مستقيمة لا اعوجاج فيها ، فعاقبة المشي في الطريق الاَُوّل هو الانكباب على الاَرض ، وعاقبة المشى في الطريق الثاني هو الوصول إلى الهدف ، فتأويل الآية : أفمن يمشي على طريق غير مستقيم بل متعرج ملتوٍ مكبّاً على وجهه أهدى أم من يمشي على صراط مستقيم بقامة مستقيمة.
    قال العلاّمة الطباطبائي : والمراد أنّهم بلجاجهم في عتوّ عجيب ونفور من الحقّ ، كمن يسلك سبيلاً و هو مكب على وجه لا يرى ما في الطريق من ارتفاع وانخفاض ومزالق ومعاثر ، فليس هذا السائر كمن يمشي سوياً على صراط مستقيم ، فيرى موضع قدمه و ما يواجهه من الطريق على استقامة ، وما يقصده من الغاية ، وهوَلاء الكفّار سائرون سبيل الحياة وهم يعاندون الحقّ على علم به ، فيغمضون عن معرفة ما عليهم أن يعرفوه والعمل بما عليهم أن يعملوا به ، ولا يخضعون للحق حتى يكونوا على بصيرة من الاَمر ويسلكوا سبيل الحياة وهم مستوون على صراط مستقيم فيأمنوا الهلاك. (1)
    1 ـ الميزان : 19/360 ـ 361.

(279)
خاتمة المطاف
    ربما عدّ غير واحد ممّن كتب في أمثال القرآن ، الآية التالية منها :
    ( وَما جَعَلْنا أَصحابَ النّارِ إِلاّ مَلائكةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُم إلاّ فِتْنةً لِلّذينَ كَفَرُوا ليَستَيْقِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ وَيَزدادَ الّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرتابَ الّذينَ أُوتُوا الكِتابَ وَالمُوَْمِنُونَ وَلِيَقُول الّذينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالكافِرُون ماذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلّ اللهُ مَن يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَمايَعْلمُ جنودَ رَبّكَ إِلاّ هُوَ وَماهِيَ إِلاّ ذِكرى لِلبَشر ). (1)
    تفسير الآية
    لمّانزل قوله سبحانه ( سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * و ما أدراكَ ما سَقَرُ * لا تُبْقِي ولا تَذَرُ * لواحَةٌ للبشرِ * عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ ). (2)
    قال أبو جهل لقريش : ثكلتكم أُمّهاتكم أتسمعون ابن أبي كبيشة يخبركم انّ خزنة النار تسعة عشر ، وأنتم الدهم (3) الشجعان ، أفيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنم.
    1 ـ المدثر : 31.
    2 ـ المدثر : 26 ـ 30.
    3 ـ الدهم : الجماعة الكثيرة.


(280)
فقال أبو أسد الجمحي : أنا أكفيكم سبعة عشر ، عشرة على ظهري ، وسبعة على بطني ، فأكفوني أنتم اثنين ، فنزلت هذه الآية : ( وَماجعلنا أصحاب النّار إلاّ ملائكة ) ، أي جعلنا أصحاب النار ملائكة أقوياء مقتدرون وهم غلاظ شداد ، يقابلون المذنبين بقوة ، وهم أمامهم ضعفاء عاجزون ، ويكفي في قوتهم انّه سبحانه يصف واحداً منهم بقوله : ( عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى ). (1)
    فالكفّار ما قدروا الله حقّ قدره وما قدروا جنود ربّهم ، وظنوا انّ كلّ جندي من جنوده سبحانه يعادل قوة فرد منهم.
    ثمّ إنّه سبحانه يذكر الوجوه التالية سبباً لجعل عدتهم تسعة عشر :
    1. ( فتنةللذين كفروا ).
    2. ( ليستيقن الذين أُوتوا الكتاب ).
    3. ( يزداد الّذين آمنوا إيماناً ).
    4. ( لا يرتاب الّذين أُوتوا الكتاب والموَمنون ).
    5. ( وَليقول الّذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً ).
    وإليك تفسير هذه الفقرات :
    أمّا الاَُولى : فيريد انّه سبحانه لم يجعل عدتهم تسعة عشر إلاّ للاِفتتان والاختبار ، قال سبحانه : ( واعلموا انّما أموالكم وأولادكم فتنة ) أي يختبر بهم الاِنسان ، فجعل عدتهم تسعة عشر يختبر بها الكافر والموَمن ، فيزداد الكافر حيرة واستهزاءً ويزداد الموَمن إيماناً وتصديقاً ، كما هو حال كلّ ظاهرة تتعلق بعالم الغيب. يقول سبحانه : ( وَإِذا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ
    1 ـ النجم : 5 ـ 6.
مفاهيم القرآن ـ جلد التاسع ::: فهرس