|
||||||||||||||||||||||||
(106)
جاء في كتاب المزار للمشهدي عليه الرحمة في بعض الزيارات الشريفة : وأشهد أنكم قد وفيتم بعهد الله وذمته ، وبكل ما اشترطه عليكم في كتابه ، ودعوتم إلى سبيله ، وأنفدتم طاقتكم في مرضاته ، وحملتم الخلائق على منهاج النبوة ومسالك الرسالة ، وسرتم فيه بسيرة الأنبياء ، ومذاهب الأوصياء ، فلم يطع لكم أمر ، ولم تصغ إليكم أذن ، فصلوات الله على أرواحكم وأجسادكم (2).
1 ـ ظرافة الأحلام ، السماوي : 60 ـ 61. 2 ـ المزار ، محمد بن المشهدي : 294. (107)
روى الحميري عليه الرحمة بإسناده إلى أبي عبدالله ( عليه السلام ) قال : خرج الحسين ابن علي ( عليه السلام ) (1) إلى مكة سنة ماشياً ، فورمت قدماه ، فقال له بعض مواليه : لو ركبت ليسكن عنك هذا الورم ، فقال : كلا ، إذا أتينا هذا المنزل فإنه يستقبلك أسود ومعه دهن فاشتره منه ولا تماكسه ، فقال له مولاه : بأبي أنت وأمي ، ما قدّامنا منزل فيه أحد يبيع هذا الدواء ، فقال : بلى ، أمامك دون المنزل.
فسار ميلا فإذا هو بالأسود ، فقال الحسين لمولاه : دونك الرجل فخذ منه الدهن ، فأخذ منه الدهن وأعطاه الثمن ، فقال له الغلام : لمن أردت هذا الدهن ؟ فقال : للحسين بن علي ( عليهما السلام ) ، فقال : انطلق بنا إليه ، فصار الأسود نحوه فقال : يا ابن رسول الله ، إني مولاك ، لا آخذ له ثمناً ، ولكن ادع الله أن يرزقني ولداً ذكراً سوياً يحبكم أهل البيت ، فإني خلَّفت امرأتي تمخض ، فقال : انطلق إلى منزلك فإن الله قد وهب لك ولداً ذكراً سويّاً. فولدت غلاماً سوياً ، ثم رجع الأسود إلى الحسين ودعا له بالخير لولادة الغلام له ، ثم إن الحسين ( عليه السلام ) قد مسح رجليه فما قام من موضعه حتى زال ذلك الورم (2). وروى إبراهيم الرافعي ، عن أبيه ، عن جدّه ، قال : رأيت الحسن والحسين ( عليهما السلام ) يمشيان إلى الحج ، فلم يمرّا برجل راكب إلاّ نزل يمشي ، فثقل ذلك على بعضهم ، فقالوا لسعد بن أبي وقاص : قد ثقل علينا المشي ، ولا نستحسن أن نركب وهذان السيدان يمشيان ، فقال سعد للحسن : يا أبا محمد ، إن المشي قد ثقل على جماعة ممن معك ، والناس إذا رأوكما تمشيان لم تطب أنفسهم أن يركبوا فلو 1 ـ هذا في رواية البحار ، والسيد ابن طاووس في كتاب فرج المهموم : 226 ، والبحراني عنه في كتاب العوالم : 56 ح 1 ، وفي سائر المصادر بدل الحسين ( عليه السلام ) ( الحسن ( عليه السلام ) وكلاهما نور واحد ( صلوات الله وسلامه عليهما ). 2 ـ دلائل الإمامة ، الحميري : 172 ح 24 ، الكافي ، الكليني : 1/463 ح 2 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/185 ح 13. (108)
ركبتما ، فقال الحسن ( عليه السلام ) : لا نركب ، قد جعلنا على أنفسنا المشي إلى بيت الله الحرام على أقدامنا ، ولكنّا نتنكّب عن الطريق ، فأخذا جانباً من الناس (1).
وقال عبدالله بن عبيد أبو عمير : لقد حجَّ الحسين بن علي ( عليهما السلام ) خمساً وعشرين حجّة ماشياً وإن النجائب لتقاد معه (2). وذكر ابن عبد ربه في كتاب العقد الفريد أنه قيل لعلي بن الحسين ( عليهما السلام ) : ما أقلَّ ولد أبيك! فقال : العجب كيف ولدت له كان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة (3). وقيل للحسين ( عليه السلام ) : ما أعظم خوفك من ربك! قال : لا يأمن يوم القيامة إلاَّ من خاف الله في الدنيا (4). ومما روي في كرامات سيد الشهداء ( عليه السلام ) ما رواه ابن شهر آشوب عن زرارة بن أعين ، قال : سمعت أبا عبدالله ( عليه السلام ) يحدّث عن آبائه ( عليهم السلام ) أن مريضاً شديد الحمَّى عاده الحسين ( عليه السلام ) ، فلمَّا دخل من باب الدار طارت الحمَّى عن الرجل ، فقال له : رضيت بما أوتيتم به حقاً حقاً والحمَّى تهرب عنكم ، فقال له الحسين ( عليه السلام ) : والله ما خلق الله شيئاً إلاَّ وقد أمره بالطاعة لنا ، قال : فإذا نحن نسمع الصوت ولا نرى الشخص يقول : لبّيك ، قال : أليس أمير المؤمنين أمرك أن لا تقربي إلاّ عدوّاً أو مذنباً لكي تكوني كفارة لذنوبه ؟ فما بال هذا ؟ فكان المريض عبدالله بن شداد بن الهاد الليثي (5). وعن صالح بن ميثم قال : دخلت أنا وعباية الأسدي على حبابة الوالبية فقال لها : هذا ابن أخيك ميثم ، قالت : ابن أخي والله حقاً ، ألا أحدِّثكم بحديث عن 1 ـ الإرشاد ، المفيد : 2/128 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 43/276 ح 46. 2 ـ مناقب آل أبي طالب : 4/69 ، عنه بحار الأنوار : 44/192 ح 5. 3 ـ العقد الفريد : 3/126 ، تأريخ اليعقوبي : 2/247 ، بحار الأنوار : 44/196 ح 10. 4 ـ مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب : 3/224. 5 ـ بحار الأنوار : 44/183 ح 8 ، عن مناقب آل أبي طالب : 3/210 ، ورواه الكشي في رجاله : 1/299. (109)
الحسين بن علي ( عليهما السلام ) ؟ فقلت : بلى ، قالت : دخلت عليه وسلَّمت فردَّ السلام ورحبَّ ، ثم قال : ما بطَّأ بك عن زيارتنا والتسليم علينا يا حبابة ؟ قلت : ما بطَّأني عنك إلاَّ علة عرضت ، قال : وما هي ؟ قالت : فكشفت خماري عن برص ، قالت : فلم يزل يدعو حتى رفع يده وقد كشف الله ذلك البرص ، ثم قال : يا حبابة ، إنه ليس أحد على ملة إبراهيم في هذه الأمة غيرنا وغير شيعتنا ، ومن سواهم منها براء (1).
وفي عيون المعجزات للمرتضى رحمه الله : عن الصادق ( عليه السلام ) ، عن أبيه ، عن جدّه ( عليهما السلام ) قال : جاء أهل الكوفة إلى علي ( عليه السلام ) فشكوا إليه إمساك المطر ، وقالوا له : استسق لنا ، فقال للحسين ( عليه السلام ) : قم واستسق ، فقام وحمد الله وأثنى عليه ، وصلَّى على النبي ( صلى الله عليه وآله ) وقال : اللهم معطي الخيرات ، ومنزل البركات ، أرسل السماء علينا مدراراً ، واسقنا غيثاً مغزاراً ، واسعاً ، غدقاً ، مجللا سحّاً ، سفوحاً ، فجاجاً ، تنفّس به الضعف من عبادك ، وتحيي به الميت من بلادك ، آمين رب العالمين. فما فرغ ( عليه السلام ) من دعائه حتى غاث الله تعالى غيثاً بغتة ، وأقبل أعرابي من بعض نواحي الكوفة فقال : تركت الأودية والآكام يموج بعضها في بعض (2). وروي في بعض الكتب المعتبرة عن الطبري ، عن طاووس اليماني أن الحسين ابن علي ( عليهما السلام ) كان إذا جلس في المكان المظلم يهتدي إليه الناس ببياض جبينه ونحره ، فإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) كان كثيراً ما يقبِّل جبينه ونحره ، وإن جبرئيل ( عليه السلام ) نزل يوماً فوجد الزهراء ( عليها السلام ) نائمة ، والحسين في مهده يبكي ، فجعل يناغيه ويسلّيه حتى استيقظت ، فسمعت صوت من يناغيه ، فالتفتت فلم تر أحداً ، فأخبرها النبي ( صلى الله عليه وآله ) أنه كان جبرئيل ( عليه السلام ) (3). 1 ـ بحار الأنوار : 44/186 ح 15. 2 ـ بحار الأنوار : 44/187 ح 16 ، عيون المعجزات ، حسين بن عبد الوهاب : 56. 3 ـ بحار الأنوار ، المجلسي : 44/187 ـ 188. (110)
قال ابن الجوزي في كتاب المنتظم : وورد في هذه السنة من واسط خبر عجيب ، جاء به كتاب ابن وهبان الواسطي ، يذكر قصة عجيبة وهي : أن امرأة عندهم في نهر الفصيلي أصابها الجذام حتى أسقط أنفها وشفتيها وأصابع يديها ورجليها ، وجافت ريحها ، وتأذَّى أهلها بها ، فأخرجها زوجها وولدها إلى ظاهر المحلة على شوط منها ، وعملوا لها كوخا ، فكانت فيه ، ولا يمكن الاجتياز بها من نتن ريحها ، وإنما كان ولدها يأتيها برغيفين يرميهما إليها ، فجاء يوماً فقالت له : يا بنيَّ ، بالله قف حتى أبصرك ، وجئني بجرعة ماء أشربها ، فلم يفعل وهرب.
وكان قريباً من الموضع جوية ماء الكتان فحملها العطش على قصدها ، فتحاملت فوقعت عندها فأغمي عليها ، فذكرت بعد إفاقتها أنها رأت رجلين وامرأتين جلوساً عندها ، فأخرجوا لها قرصين عليهما ورقة خضراء ، وجاءوها بكراز فيه ماء ، وقالوا لها : كلي من هذا الخبز واشربي من هذا الماء ، قال : فكلَّما أكلت عاد القرص كما كان إلى أن شبعت ، وشربت من الكراز ماء لم أشرب قط ألذ منه ، فقلت : يا سادتي ، من أنتم ؟ فقال أحدهم : أنا الحسن وهذا الحسين وهذه خديجة الكبرى وهذه فاطمة الزهراء ، ثم أمرّ الحسن يده على صدري ووجهي والحسين يده على ظهري ، فعادت شفتاي وأنفي ونبتت أصابعي ، وأقاموني فسقط مني نحو ثلثين كهيئة صدف السمك ، فأقبل الناس من البلاد لمشاهدتها والتبرك بها (1). ومن كرامات الحسين ( عليه السلام ) ما رواه ابن عساكر بإسناده عن عبدالله بن جعفر ، عن أبي عون ، قال : لما خرج الحسين بن علي ( عليهما السلام ) من المدينة يريد مكة مرَّ بابن مطيع وهو يحفر بئره ، فقال له : أين فداك أبي وأمي ؟ قال : أردت مكة ، قال : 1 ـ المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ، ابن الجوزي : 9/568 ـ 569. (111)
وذكر له أنه كتب إليه شيعته بها ، فقال له ابن مطيع : أين فداك أبي وأمي ؟ متّعنا بنفسك ولا تسر إليهم ، فأبى حسين ( عليه السلام ) ، فقال له ابن مطيع : إن بئري هذه قد رشحتها ، وهذا اليوم أو ان ما خرج إلينا في الدلو شيء من ماء ، فلو دعوت الله لنا فيها بالبركة ، قال : هات من مائها ، فأتى من مائها في الدلو ، فشرب منه ثم تمضمض ثم ردَّه في البئر ، فأعذب وأمهى ، ثم ودّعه وسار إلى مكة (1).
نعم سار إلى مكّة ولكن بأية حال سار ( عليه السلام ) ، يُروى عن سكينة أنها قالت ـ كما روي عنها ـ : خرجنا من المدينة في ليلة مظلمة ، ذات رعد وبرق ، حتى خلنا أنَّ السماء اُطبقت على الأرض (2). نعم خرج الحسين ( عليه السلام ) من المدينة إلى مكة ، ولكن ترك ا لدار موحشة بعدما كانت مزهرة بنور وجهه المضي ، ولله درّ الحجة الشيخ علي الجشي عليه الرحمة إذ يقول :
1 ـ تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 14/182 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 5/144 ـ 145. 2 ـ سعادة الدارين فيما يتعلَّق بالإمام الحسين ( عليه السلام ) ، الشيخ حسين البلادي القديحي : 93. (112)
المجلس الأول ، من اليوم الرابع
جاء في الزيارة الناحية الشريفة : السلامُ عليكَ ، سلامَ العارفِ بُحرْمَتِك ، الُمخلِصِ في ولايتِكَ ، المتقرِّبِ إلى الله بمحبَّتِكَ ، البري من أعدائِكَ ، سَلاَمَ مَنْ قَلبُه بمُصابِك مقروحٌ ، ودمعُه عند ذِكرك مسفوحٌ ، سلامَ المفجوعِ المحزونِ ، الوالَهِ المستكينِ ، سلامَ مَنْ لو كان معك بالطفوفِ لو قاك بنفسهِ حَدَّ السيوفِ ، وَبذلَ حُشَاشَته دونَكَ للحُتوف ، وجاهدَ بينَ يديك ، ونَصرك على من بغى عليك ، وفداك بروحهِ وجسدهِ ، وماله وولدهِ ، وروحُهُ لروحِك فداءٌ ، وأهلُه لأهلكِ وقاء ، فلئن أخَّرتني الدهورُ ، وعاقني عن نَصرك المقدورُ ، ولم أكن لمن حاربك محارباً ، ولمن نَصب لك العداوةَ مُناصباً ، فلأند بنَّكَ صباحاً ومساءً ، ولأبكينَّ عليك بَدلَ الدموع دَماً ، حسرةً عليك ، وتأسُّفاً على مَا دَهاك وتلهُّفاً ، حتى أموت بلوعةِ المُصابِ ، وغُصَّةِ الاكتئاب (2).
كتب أهل الكوفة إلى الإمام الحسين ( عليه السلام ) وندبه مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) إليهم قال الراوي : وبلغ أهل الكوفة هلاك معاوية ، فأرجفوا بيزيد ، وعرفوا خبر الحسين ( عليه السلام ) وامتناعه من بيعته ، وما كان من أمر ابن الزبير في ذلك ، وخروجهما إلى مكة ، فاجتمعت الشيعة بالكوفة في منزل سليمان بن صرد الخزاعي ، فذكروا هلاك معاوية فحمدوا الله وأثنوا عليه ، فقال سليمان : إن معاوية قد هلك ، وإن 1 ـ ديوان العلامة الجشي : 132. 2 ـ المزار ، المشهدي : 500 ـ 501. (113)
حسيناً قد نقض على القوم بيعته ، وقد خرج إلى مكة ، وأنتم شيعته وشيعة أبيه ، فإن كنتم تعلمون أنكم ناصروه ومجاهدو عدوِّه فاكتبوا إليه ، وإن خفتم الفشل والوهن فلا تغرّوا الرجل في نفسه ، قالوا : لا ، بل نقاتل عدوَّه ، ونقتل أنفسنا دونه ، فاكتبوا إليه.
فكتبوا إليه : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، للحسين بن علي ( عليه السلام ) من سليمان بن صرد والمسيَّب بن نجبة ورفاعة بن شدّاد البجلي وحبيب بن مظاهر وشيعته المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة ، سلام عليك ، فإنّا نحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو ، أمَّا بعد فالحمد لله الذي قصم عدوَّك الجبار العنيد ، الذي انتزى على هذه الأمة فابتزَّها أمرها ، وغصبها فيئها ، وتأمَّر عليها بغير رضى منها ، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها ، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها ، فبعداً له كما بعدت ثمود ، إنّه ليس علينا إمام فأقبل لعلَّ الله أن يجمعنا بك على الحق ، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة ، لسنا نجتمع معه في جمعة ، ولا نخرج معه إلى عيد ، ولو قد بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله. ثم سرَّحوا بالكتاب مع عبدالله بن مسمع الهمداني وعبدالله بن وال وأمروهما بالنَّجَا ، فخرجا مسرعين حتى قدما على الحسين بمكة لعشر مضين من شهر رمضان. ثم لبث أهل الكوفة يومين بعد تسريحهم بالكتاب ، وأنفذوا قيس بن مسهر الصيداوي وعبد الرحمان بن عبدالله بن شداد الأرحبي وعمارة بن عبدالله السلولي إلى الحسين ( عليه السلام ) ، ومعهم نحو مائة وخمسين صحيفة من الرجل والاثنين والأربعة. وقال السيّد عليه الرحمة : وهو مع ذلك يتأبَّى ولا يجيبهم ، فورد عليه في يوم واحد ستمائة كتاب ، وتواترت الكتب حتى اجتمع عنده في نُوَب متفرقة اثنا عشر ألف كتاب. (114)
وقال الشيخ المفيد عليه الرحمة : ثم لبثوا يومين آخرين وسرَّحوا إليه هانىء بن هانىء السبيعي وسعيد بن عبدالله الحنفي ، وكتبوا إليه : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، إلى الحسين بن علي من شيعته من المؤمنين والمسلمين ، أمّا بعد فحيَّ هلا ، فإن الناس ينتظرونك ، لا رأي لهم غيرك ، فالعجل العجل ، ثم العجل العجل ، والسلام.
ثم كتب شبث بن ربعي ، وحجّار بن أبجر ، ويزيد بن الحارث بن رويم ، وعروة بن قيس ، وعمرو بن حجاج الزبيدي ، ومحمد بن عمرو التيمي : أما بعد فقد أخضرَّ الجناب ، وأينعت الثمار ، وأعشبت الأرض ، وأورقت الأشجار ، فإذا شئت فأقبل على جند لك مجندة ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وعلى أبيك من قبلك. وتلاقت الرسل كلها عنده ( عليه السلام ) ، فقرأ الكتب وسأل الرسل عن الناس ، ثم كتب مع هانىء بن هانىء ، وسعيد بن عبدالله ، وكانا آخر الرسل : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين ، أما بعد فإن هانئاً وسعيداً قدما عليَّ بكتبكم ، وكانا آخر من قدم عليَّ من رسلكم ، وقد فهمت كل الذي أقصصتم وذكرتم ، ومقالة جلِّكم أنه ليس علينا إمام ، فأقبل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحق والهدى ، وأنا باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل ، فإن كتب إليَّ بأنه قد اجتمع رأي ملأكم ، وذوي الحجى والفضل منكم ، على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم ، فإني أقدم إليكم وشيكاً إن شاء الله ، فلعمري ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب ، القائم بالقسط ، الدائن بدين الحق ، الحابس نفسه على ذلك لله ، والسلام. ودعا الحسين ( عليه السلام ) مسلم بن عقيل فسرَّحه مع قيس بن مسهر الصيداوي وعمارة بن عبدالله السلولي وعبدالرحمن بن عبدالله الأزدي ، وأمره بالتقوى وكتمان أمره واللطف ، فإن رأى الناس مجتمعين مستوثقين عجَّل إليه بذلك. (115)
فأقبل مسلم ( عليه السلام ) حتى أتى المدينة ، فصلَّى في مسجد رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وودَّع من أحبَّ من أهله ، واستأجر دليلين من قيس ، فأقبلا به يتنكّبان الطريق ، فضلاّ عن الطريق ، وأصابهما عطش شديد فعجزا عن السير ، فأوماءا له إلى سنن الطريق بعد أن لاح لهم ذلك ، فسلك مسلم ذلك السنن ، ومات الدليلان عطشاً. وساق الحديث إلى أن قال الراوي :
فأقبل ( عليه السلام ) حتى مرَّ بماء لطيء فنزل به ثم ارتحل عنه ، فإذا رجل يرمي الصيد ، فنظر إليه قد رمى ظبياً حين أشرف له فصرعه ، فقال مسلم بن عقيل : نقتل عدوَّنا إن شاء الله. ثم أقبل ( عليه السلام ) حتى دخل الكوفة ، فنزل في دار المختار بن أبي عبيدة وهي التي تُدعى اليوم دار مسلم بن المسيب ، وأقبلت الشيعة تختلف إليه ، فكلما اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين ( عليه السلام ) وهم يبكون ، وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً ويأمره بالقدوم ، وجعلت الشيعة تختلف إلى مسلم بن عقيل ( عليه السلام ) حتى علم بمكانه. فبلغ النعمان بن بشير ذلك ـ وكان والياً على الكوفة من قبل معاوية فأقرَّه يزيد عليها ـ فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أمّا بعد ، فاتقوا الله عباد الله ، ولا تُسارعوا إلى الفتنة والفرقة ، فإن فيها تهلك الرجال ، وتسفك الدماء ، وتغصب الأموال ، إني لا أُقاتل من لا يقاتلني ، ولا آتي على من لم يأت عليَّ ، ولا أنبِّه نائمكم ولا أتحرَّش بكم ، ولا آخذ بالقرف ، ولا الظنّة ، ولا التهمة ، ولكنكم إن أبديتم صفحتكم لي ، ونكثتم بيعتكم ، وخالفتم إمامكم ، فوالله الذي لا إله غيره ، لأضربنكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي ، ولو لم يكن لي منكم ناصر ، أما إني أرجو أن يكون من يعرف الحق منكم أكثر ممن يرديه الباطل. فقام إليه عبدالله بن مسلم بن ربيعة الحضرمي حليف بني أمية فقال له : إنه (116)
لا يصلح ما ترى إلاَّ الغشم ، وهذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوِّك رأي المستضعفين ، فقال له النعمان : أن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبُّ إليَّ من أن أكون من الأعزّين في معصية الله ، ثم نزل.
وخرج عبدالله بن مسلم وكتب إلى يزيد بن معاوية كتاباً : أمَّا بعد فإن مسلم ابن عقيل قد قدم الكوفة وبايعه الشيعة للحسين بن علي بن أبي طالب ، فإن يكن لك في الكوفة حاجة فابعث إليها رجلا قوياً ينفّذ أمرك ، ويعمل مثل عملك في عدوّك ، فإن النعمان بن بشير رجل ضعيف أو هو يتضعَّف ، ثم كتب إليه عمارة بن عقبة بنحو من كتابه ، ثم كتب إليه عمر بن سعد بن أبي وقاص مثل ذلك. فلمّا وصلت الكتب إلى يزيد ، دعا سرجون مولى معاوية فقال : ما رأيك ؟ إن الحسين ( عليه السلام ) قد نفذ إلى الكوفة مسلم بن عقيل يبايع له ، وقد بلغني عن النعمان ضعف وقول سيء فمن ترى أن أستعمل على الكوفة ؟ وكان يزيد عاتباً على عبيدالله بن زياد ، فقال له سرجون : أرأيت لو نُشر لك معاوية حياً ما كنت آخذاً برأيه ؟ قال : بلى ، قال : فأخرج سرجون عهد عبيدالله على الكوفة ، وقال : هذا رأي معاوية ، مات وقد أمر بهذا الكتاب ، فَضُمَّ المصرين إلى عبيدالله ، فقال له يزيد : أفعل ، ابعث بعهد عبيدالله بن زياد إليه. ثم دعا مسلم بن عمرو الباهلي وكتب إلى عبيدالله معه : أمّا بعد فإنه كتب إليَّ شيعتي من أهل الكوفة يخبرونني أن ابن عقيل فيها ، يجمع الجموع ليشقّ عصا المسلمين ، فسر حين تقرأ كتابي هذا حتى تأتي الكوفة ، فتطلب ابن عقيل طلب الخرزة حتى تثقفه فتوثقه أو تقتله أو تنفيه ، والسلام. وسلَّم إليه عهده على الكوفة ، فخرج مسلم بن عمرو حتى قدم على عبيدالله البصرة ، وأوصل إليه العهد والكتاب ، فأمر عبيدالله بالجهاز من وقته والمسير (117)
والتهيؤ إلى الكوفة من الغد ، ثم خرج من البصرة فاستخلف أخاه عثمان (1).
وقال ابن نما عليه الرحمة : رويت إلى حصين بن عبدالرحمن أن أهل الكوفة كتبوا إليه ـ يعني إلى الحسين ( عليه السلام ) ـ : إنا معك مائة ألف ، وعن داود بن أبي هند ، عن الشعبي ، قال : بايع الحسين ( عليه السلام ) أربعون ألفاً من أهل الكوفة على أن يحاربوا من حارب ، ويسالموا من سالم ، فعند ذلك ردّ جواب كتبهم يمنّيهم بالقبول ، ويعدهم بسرعة الوصول ، وبعث مسلم بن عقيل (2). وقال السيّد رحمه الله بعد ذلك : وكان الحسين ( عليه السلام ) قد كتب إلى جماعة من أشراف البصرة كتاباً مع مولى له اسمه سليمان ويكنّى أبا رزين ، يدعوهم إلى نصرته ولزوم طاعته ، منهم يزيد بن مسعود النهشلي والمنذر بن الجارود العبدي ، فجمع يزيد بن مسعود بني تميم وبني حنظلة وبني سعد ، فلمّا حضروا قال : يا بني تميم ، كيف ترون موضعي فيكم وحسبي منكم ؟ فقالوا : بخ بخ ، أنت والله فقرة الظهر ، ورأس الفخر ، حللت في الشرف وسطاً ، وتقدَّمت فيه فرطاً ، قال : فإني قد جمعتكم لأمر أريد أن أشاوركم فيه ، وأستعين بكم عليه ، فقالوا : إنّا والله نمنحك النصيحة ، ونحمد لك الرأى فقل نسمع. فقال : إن معاوية مات فأهون به والله هالكاً ومفقوداً ، ألا وإنه قد انكسر باب الجور والإثم ، وتضعضعت أركان الظلم ، وقد كان أحدث بيعة عقد بها أمراً ظنَّ أن قد أحكمه ، وهيهات والذي أراد ، اجتهد والله ففشل ، وشاور فخذل ، وقد قام يزيد شارب الخمور ، ورأس الفجور ، يدّعي الخلافة على المسلمين ، ويتأمَّر عليهم مع قصر حلم وقلّة علم ، لا يعرف من الحق موطىء قدمه ، فأقسم بالله قسماً مبروراً لجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين ، وهذا الحسين بن علي 1 ـ الإرشاد ، المفيد : 2/38 ـ 43. 2 ـ مثير الأحزان ، ابن نما الحلي : 17. (118)
ابن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ذو الشرف الأصيل ، والرأي الأثيل ، له فضل لا يوصف ، وعلم لا يُنزف ، وهو أولى بهذا الأمر لسابقته وسنّه وقدمته وقرابته ، يعطف على الصغير ، ويحنو على الكبير ، فأكرم به راعي رعية ، وإمام قوم ، وجبت لله به الحجّة ، وبلغت به الموعظة ، ولا تعشوا عن نور الحق ، ولا تسكعوا في وهدة الباطل ، فقد كان صخر بن قيس انخذل بكم يوم الجمل ، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله ونصرته ، والله لا يقصر أحد عن نصرته إلاَّ أورثه الله الذل في ولده ، والقلة في عشيرته ، وها أنا قد لبست للحرب لامتها ، وادّرعت لها بدرعها ، من لم يقتل يمت ، ومن يهرب لم يفت ، فأحسنوا رحمكم الله ردّ الجواب.
فتكلَّمت بنو حنظلة فقالوا : أبا خالد! نحن نبل كنانتك ، وفرسان عشيرتك ، إن رميت بنا أصبت ، وإن غزوت بنا فتحت ، لا تخوض والله غمرة إلاَّ خضناه ، ولا تلقى والله شدّة إلاّ لقيناها ، ننصرك بأسيافنا ، ونقيك بأبداننا ، إذا شئت. وتكلمت بنو سعد بن زيد ، فقالوا : أبا خالد! إن أبغض الأشياء إلينا خلافك والخروج من رأيك ، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال فحمدنا أمرنا وبقي عزّنا فينا ، فأمهلنا نراجع المشورة ويأتيك رأينا. وتكلَّمت بنو عامر بن تميم فقالوا : يا أبا خالد! نحن بنو أبيك وحلفاؤك ، لا نرضى إن غضبت ، ولا نقطن إن ظعنت ، والأمر إليك فادعنا نجبك ، ومرنا نطعك ، والأمر لك إذا شئت. فقال : والله ـ يا بني سعد ـ لئن فعلتموها لا رفع الله السيف عنكم أبداً ، ولا زال سيفكم فيكم. ثم كتب إلى الحسين صلوات الله عليه : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، أمّا بعد ، فقد وصل إليَّ كتابك ، وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له ، من الأخذ بحظي من طاعتك ، والفوز بنصيبي من نصرتك ، وإن الله لم يخل الأرض قط من عامل عليها (119)
بخير ، أو دليل على سبيل نجاة ، وأنتم حجة الله على خلقه ، ووديعته في أرضه ، تفرَّعتم من زيتونة أحمديّة ، هو أصلها وأنتم فرعها ، فاقدم سعدت بأسعد طائر ، فقد ذلَّلت لك أعناق بني تميم ، وتركتهم أشدَّ تتابعاً في طاعتك من الإبل الظماء لورود الماء يوم خمسها ، وقد ذلَّلت لك رقاب بني سعد ، وغسلت درن صدروها بماء سحابة مزن حين استهلَّ برقها فلمع.
فلمَّا قرأ الحسين ( عليه السلام ) الكتاب قال : مالك آمنك الله يوم الخوف وأعزَّك وأرواك يوم العطش ، فلمَّا تجهز المشار إليه للخروج إلى الحسين ( عليه السلام ) بلغه قتله قبل أن يسير ، فجزع من انقطاعه عنه. وأمَّا المنذر بن جارود فإنه جاء بالكتاب والرسول إلى عبيدالله بن زياد ، لأن المنذر خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عبيدالله ، وكانت بحرية بنت المنذر بن جارود تحت عبيدالله بن زياد ، فأخذ عبيدالله الرسول فصلبه ، ثم صعد المنبر وتوعَّد أهل البصرة على الخلاف ، وإثارة الإرجاف ، ثم بات تلك الليلة فلما أصبح استناب عليهم أخاه عثمان بن زياد ، وأسرع هو إلى قصد الكوفة (1). وقال ابن نما : كتب الحسين ( عليه السلام ) كتاباً إلى وجوه أهل البصرة ، منهم الأحنف بن قيس ، وقيس بن الهيثم ، والمنذر بن الجارود ، ويزيد بن مسعود النهشلي ، وبعث الكتاب مع زراع السدوسي ـ وقيل : مع سليمان المكنَّى بأبي رزين ـ فيه : إني أدعوكم إلى الله وإلى نبيه ، فإن السنة قد أميتت ، فإن تجيبوا دعوتي ، وتطيعوا أمري أهدكم سبيل الرشاد ، فكتب الأحنف إليه : أما بعد فاصبر إن وعد الله حق ، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون (2). ولله درّ الشيخ يوسف أبو ذئب الخطي عليه الرحمة إذ يقول : 1 ـ اللهوف ، السيد ابن طاووس : 26 ـ 29. 2 ـ مثير الأحزان ، ابن نما الحلي : 17 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/332. (120)
فلمَّا أصبح قام خاطباً ، وعليهم عاتباً ، ولرؤسائهم مؤنّباً ، ووعدهم 1 ـ رياض المدح والرثاء ، الشيخ حسين القديحي : 31. |
||||||||||||||||||||||||
|