إطلاق المجاز في هذين الأثرين يشمل الاستعارة والتشبيه والتمثيل والمجاز نفسه ، كما سيتضح فيما بعد ، لكنه في عرضه الاصطلاحي أضيق دائرة من فضفاضية الاستعمال الجاحظي ، وعموميته عند الرماني ، واتساعه عند إبن جني والوقوف به عند الاستعارة فحسب عند أبي هلال .
وقد عبر إبن رشيق القيرواني ( ت : 456 هـ ) أن العرب كثيرا ما تستعمل المجاز وتعده من مفاخر كلامها(1) .
ونظرته في هذا نظرة من سبقه في المعنى العام .
إذن فمصطلح المجاز بمعناه الواسع عريق من ناحيتين :
الأولى : استعمال النقاد والبلاغيين العرب له من قبل أن تتبلور دلالته الاصطلاحية الدقيقة .
الثانية : وروده في المظان البيانية واللغوية والتفسيرية بمعنى يقابل الحقيقة ، وإن اشتمل على جملة من أنواع البيان ، أو قصدت به الاستعارة باعتبارها تقابل الحقيقة لأنها استعمال مجازي .
والذي نريد أن ننوه به أن هذا الأصل معرّف بالأصالة منذ عهد مبكر في خطوطه الأولى ، وليس هو من ابتكار المعتزلة ، بقدر ما لهم من فضل في المساهمة فيه شأنهم بذلك شأن البلاغيين فيما بعد عصر الرضي وعبد القاهر .
3 ـ مجاز القرآن في مرحلة التأصيل :
يبدو أن إبن قتيبة ( ت : 276 هـ ) كان سباقا الى بحث المجاز في ضوء القرآن في كتابه « تأويل مشكل القرآن » ولكن التحقيق في الموضوع لديه لم يمثل عملا مستقلا في هذا الباب ، بل شكّل بابا في الكتاب .
وكان الدور الذي قام به الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) دورا حافلا ، إذ كتب « تلخيص البيان في مجازات القرآن » فكان بحثا متفردا ومتخصصا في الموضوع .
____________
(1) ابن رشيق ، العمدة في محاسن الشعر : 1 / 265 .
( 24 )

وجاء الشيخ عبد القاهر الجرجاني ( ت : 472 هـ ) فسلط الأضواء على المجاز في كتابيه « دلائل الإعجاز » و « أسرار البلاغة » فكان المنظّر البياني في التطبيق القرآني للمجاز ، حتى بلغ البحث المجازي على يديه مرحلة النضج العلمي والتجديد البلاغي ، فعاد كلا منسجما ، وقالبا واحدا متجانسا بالمعنى الاصطلاحي الدقيق لمفهوم المجاز .
وأتى بعد هؤلاء جار الله محمود بن عمر الزمخشري ( ت : 538 هـ ) فاعترف من بحري الرضي والجرجاني ، ما قوّم به أوده ، وصحّح منهجه ، وأضاف دقة الأختيار ، ولطف التنظير .
فكان الزمخشري وهؤلاء الأقطاب الثلاثة قد دفعوا بمجاز القرآن فنا الى مرحلة التأصيل ، وبلغوا به شوطا الى قمة التأهيل ، فعاد معلما بارزا في التشخيص ، وعلما قائما يشار إليه بالبنان .
وسنقتصر في الحديث عند هذه المرحلة على هؤلاء الأعلام ضمن حدود مقتضبة ، ولمسات إشارية عاجلة ، مهمتها إعلام الجهود ، وإنارة المعالم ليس غير .
ولا يعني التأكيد على هؤلاء الأعلام : الغض من منزلة الآخرين ، أو بخس البلاغيين حقوقهم ، ولكن التوسع في « مجاز القرآن » عند إبن قتيبة والشريف الرضي وعبد القاهر والزمخشري ، قد فاق في مرحلة التأصيل ، واستقرار المصطلح المجازي ، حدود الإشارة والاختصار عند غيرهم ، وهو ما وقفنا عليه ، لهذا فإن حديثنا عنهم أمس صلة ، وألصق لحمة ، بمرحلة التأصيل منه عند سواهم .
ومع هذا فقد أشرنا في نهاية هذا المبحث الى طائفة من الأعلام الذين ساهموا بإمكانات متفاوتة في هذا المجال :
1 ـ عقد إبن قتيبة ( ت : 276 هـ ) بابا خاصا للمجاز في كتابه : « تأويل مشكل القرآن »(1) . ويبدوا أن الهدف من ذلك كان كلاميا ، لأن أكثر
____________
(1) حققه في طبعة منقحة الدكتور السيد أحمد صقر وطبع عدة مرات : مطبعة الحلبي .
( 25 )

غلط المتأولين كان من جهة المجاز في التأويل ، فتشعبت بهم الطرق ، واختلفت النحل ، وكان بإمكان هؤلاء أن يرجعوا الى سعة المجاز ، فيحسم الأمر ، وتتبسط الدلالات ، لا أن يحملوا ماورد منه في القرآن على الحقيقة فتضلّهم الشبهات .
وقد عمد أبن قتيبة لأبعاض من آيات القرآن الكريم ، وشرح في ضوئها ما يذهب اليه أهل التأويل القائلين بالحقيقة دون المجاز ، ليعود بذلك الى دائرة المجاز فينفي ما قالوا جملة وتفصيلا .
وسيمر علينا في مجال التطبيق لآيات القرآن المزيد من رده على القائلين ببطلان المجاز في القرآن ، ومستشهدا على صحة القول به من خلال الأستعمال الميداني عند العرب في حياتهم اليومية لألفاظ متداولة ، وعبارات قائمة لا يمكن تأويله إلا بالمجاز .
ولكن الملاحظ عند أبن قتيبة أنه قد يخلط الحقيقة بالمجاز ، فتحار باعتباره المجاز أحيانا ، والحقيقة مجازا ، ويحشر لذلك جملة من الآيات القرآنية دليلا على الموضوع .
فهو كما يرى أستاذنا الدكتور بدوي طبانة : لا يرى في إرادة الحقيقة عجبا في مثل قوله تعالى للسماء والأرض :
( ائتيا طوعاً أو كرها ) وقولهما : ( أتينا طائِعين )(1) . أو قوله لجهنم ( هل امتلأت ) فتقول : ( هل من مّزيد )(2) . لأن الله تبارك وتعالى ينطق الجلود والأيدي والأرجل ويسخّر الجبال والطير بالتسبيح(3) .
والحق أن ابن قتيبة صاحب مدرسة إجتهادية في استنباط المجاز من القرآن ، فهو يجيل فكره ، ويستعمل حدسه البلاغي في استكناه المجاز القرآني ليحقق مذهبه الكلامي في إثبات المجاز خلافا لفهم الطاعنين بوقوعه في القرآن .
ففي قوله تعالى ( إن الذّين ءامنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن
____________
(1) فصلت : 11 .
(2) ق : 30 .
(3) ظ : بدوي طبانة ، البيان العربي : 27 وانظر مصادره .

( 26 )

ودّاً * )(1) يرى أنه ليس كما يتأولون ، وإنما أراد أنه يجعل لهم في قلوب العباد محبة ، فأنت ترى المخلص المجتهد محببا الى البر والفاجر ، مهيبا ، مذكورا بالجميل ، ونحوه قول الله سبحانه وتعالى في قصة موسى عليه السلام : ( وألقيت عليك محبّة مّنّي )(2) ، لم يرد في هذا الموضوع أني أحببتك ، وإن كان يحبه ، وإنما أراد أنه حببه إلى القلوب ، وقرّبه من النفوس ، فكان ذلك سببا لنجاته من فرعون ، حتى استحياه في السنة التي يقتل فيها الولدان(3) .
ويستمر أين قتيبة في عمليتي الاستنباط والاستدلال عليه من خلال ذائقته الفنية ، وتمرسه في طلاقة البيان العربي ، فيذهب بالمجاز الى ابعد حدوده الاصطلاحية ، وكأنه فنّ قد تأصّل من ذي قبل ، وهذا من مميزات ابن قتيبة في استقراء البعد المجازي .
ولعل من طريف ما استدلّ عليه بسجيته الفطرية قوله تعالى : ( وجعلنا نومكم سباتا * )(4) . فيذهب أن ليس السبات هنا النوم ، فيكون معناه فجعلنا نومكم نوما ، ولكن السبات الراحة ، أي جعلنا النوم راحة لأبدانكم ، ومنه قيل : يوم السبت ، لأن الخلق اجتمع يوم الجمعة ، وكان الفراغ منه يوم السبت ، فقيل لبني إسرائيل : استريحوا في هذا اليوم ، ولا تعملوا شيئا ، فسمي يوم السبت ، أي : يوم الراحة . وأصل السبت التمدد ، ومن تمدد استراح ، ومنه قيل : رجل مسبوت ، يقال : سبتت المرأة شعرها ، إذا نفضته من العقص وأرسلته ، ثم قد يسمى النوم سباتا ، لأنه بالتمدد يكون(5) .
بهذا التذوق الدلالي ، والنظر الموضوعي ، فهم ابن قتيبة مجاز القرآن ، فهل كان من المؤصلين له ، هذا ما اعتقده بحدود غير مبالغ فيها ، شاهدها عشرات الصفحات في تأويل مشكل القرآن وقد خصصها لمجاز
____________
(1) مريم : 96 .
(2) طه : 39 .
(3) ظ : ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن .
(4) النبأ : 9 .
(5) ظ : ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن .

( 27 )

القرآن بما يعد من أروع البحوث المنجزة في الموضوع ، وستقرأه في جزئيات متناثرة في هذا الكتاب ، قد سبق الى نقطتين مهمتين في خدمة مجاز القرآن :
الأولى : إشارته منذ عهد مبكر الى مسألة الطعن على القرآن في وقوع المجاز فيه ، ومناقشته ذلك ورده على الطاعنين بالموروث المجازي عند العرب وفي القرآن الكريم .
الثانية : إيراده مفردات علمي المعاني والبيان في صدر كتابه بأسمائها الاصطلاحية الدقيقة التي تعارف عليها المتأخرون عن عصره ، وإن استخدام كلمة المجاز بمفهومها العام(1) .
وزيادة على ما تقدم فقد جعل المجاز قسيما للحقيقة ، لأنه قسم الكلام الى حقيقة ومجاز(2) .
وذهب الى أن أكثر الكلام إنما يقع في باب الاستعارة(3) . وهكذا شأن كل ما هو أصيل أن يعطيك الدقة قدر المستطاع .
2 ـ وليس جديدا أن يكون أبو الحسن الشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز النبوي والقرآني بخاصة ، فقد كان ضليعا ببلاغة العرب ، وعلوم القرآن ، واللغة ، والشعر ، والنثر ، وحسن اختياره لطائفة هائلة من خطب وحكم ورسائل أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام ، وتسميته لذلك بـ « نهج البلاغة »(4) وتعليقاته وشروحه ووقفاته ولمساته البلاغية عليه ، دليل ريادته الأولى في الفن البلاغي ، وتمرسه الاستقرائي لأبعاده المختلفة .
وكتابه القيم تلخيص البيان في مجازات القرآن »(5) حافل بالمجاز
____________
(1) ظ : ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن : 15 .
(2) المصدر نفسه : 78 .
(3) المصدر نفسه : 101 .
(4) طبع مستقلا بتحقيق محمد عبده ، وطبع بشرح ابن أبي الحديد بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم .
(5) حققه الأستاد محمد عبد الغني حسن ، دار إحياء الكتب العربية ، القاهرة ، 1955 .

( 28 )

اللغوي من القرآن وضروبه المتشعبة ، ولكنه يؤكد فيه « الاستعارة » والاستعارة جزء من المجاز تكون علاقة المشابهة ؛ وهكذا الاستعارة في القرآن .
ويرى الدكتور بدوي طبانة أن نقصا كبيرا قد طرأ على الكتاب من أوله ، فلا تقرأ في بدئه ما اعتدنا رؤية مثله في أكثر المؤلفات من خطبة الكتاب ، وما حفز صاحبه على تأليفه ، ومنهجه في التأليف ، ولكن أول هذا المطبوع تمام لكلام سابق يتعلق بالمجاز الذي في أوائل سورة البقرة الى قوله تعالى ( وطُبع على قلوبهم )(1) .
وكان يمكن لو عثر على هذا المفقودة ، أن يتبين بالنص معنى المجاز عند الشريف الرضي ، وعلى كل حال فإنه يقصر الدراسة على البحث في مجازات القرآن ، أي الألفاظ المستعملة في غير ما وضعت له ، وأكثر كلامه عن الاستعارات الواردة في القرآن(2) .
ويبدو ان الأمر قد التبس على الدكتور بدوي طبانة في بدايات المطبوع من تلخيص البيان ، والذي يتضح بجلاء أن البداية الموجودة كانت من قوله تعالى ( ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم )(3) ، وهي الآية السابعة من البقرة ، و( طبع على قلوبهم ) هي الآية السابعة والثمانون من التوبة ، وكانت شاهدا على ما أورده الشريف الرضي من معنى الختم ومعنى الطبع ، « لأن الطبع من الطابع ، والختم من الخاتم ، وهما بمعنى واحد »(4) فكان كلام الرضي متعلقا بمجاز الختم الى قوله تعالى ( وعلى أبصارهم غشاوة )(5) .
وطريقة الشريف الرضي في معالجاته لمجاز القرآن في تلخيص البيان إستقراء القرآن على ترتيبه المصحفي ، فيتعقب الآيات في السور القرآنية بحسب تسلسلها آية آية فإذا لمح المجاز وقف عنده وقفة الفاحص الخبير ،
____________
(1) التوبة : 87 .
(2) ظ : بدوي طبانة ، البيان العربي : 30 .
(3) البقرة : 7 .
(4) الشريف الرضي : تلخيص البيان : 113 .
(5) البقرة : 7 .

( 29 )

وأجرى لقلمه العنان في حدود الأستعمال المجازي دون إيجاز مخل أو إطناب مملّ كما يقال .
وهو في ذلك منظر ومطبّق في آن واحد ، ومعتدّ برأيه البياني دون تردد ، فهو يورد المجاز ويشرحه ويستشهد عليه ، ويناقش فيه ، ويثبت القول الصراح باجتهاده القائم على أساس الكشف والإبداع والتبادر الذهني من خلال عمقه اللغوي ، ومنهجه البلاغي ، ومخزونه الثقافي المستفيض .
وكان هذا العمل سبقا فريدا الى الموضوع ، لم يشاركه فيه أحد قبله ، وقد سار على منواله من جاء بعده ولكن في حدود مقتضبة لم تنهض بكتاب مستقل فيما أعلم .
« ومن هنا كان « تلخيص البيان » أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو متابعة المجازات والاستعارات في كلام الله كله سورة سورة وآية آية ، ومن هنا كانت القيمة العلمية لهذا الكتاب الذي لم يؤلف مثله لهذا الغرض . فهو يقوم في التراث العربي الإسلامي وحده شاهدا على أن الشريف الرضي خطا أول خطوة في التأليف في مجازات القرآن واستعاراته تأليفا مستقلا بذاته ، ولم يأت عرضا في خلال كتاب ، أو بابا من أبواب مصنّف »(1) .
وإنك لتجد في منهجه هذا شذرات تلتقط وأنت ضنين بها .
1 ـ ففي قوله تعالى ( فأينما تولوا فثم وجه الله )(2) فإنه ينفي الجسمية والجهة عن الباري تعالى ويوجهها نحو المجاز بقوله « أي جهة التقرب الى الله ، والطريق الدالة عليه ، ونواحي مقاصده ومعتمداته الهادية إليه »(3) .
2 ـ وفي قوله تعالى ( الله وليّ الذين ءامنوا يخرجهم من الظلمات الى النور والذين كفروا أوليآؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور الى الظلمات )(4) .
____________
(1) محمد عبد الغني حسن ، مقدمة تلخيص البيان : 30 .
(2) البقرة : 115 .
(3) الشريف الرضي : تلخيص البيان : 118 .
(4) البقرة : 257 .

( 30 )

فيذهب الرضي أن المراد منها « إخراج المؤمنين من الكفر الى الأيمان ومن الغي الى الرشاد ، ومن عمياء الجهل الى بصائر العلم . وكل ما في القرآن من ذكر الإخراج من الظلمات الى النور فالمراد به ماذكرنا . وذلك من أحسن التشبيهات . لأن الكفر كالظلمة التي يتسكع فيها الخابط ويضل القاصد . والأيمان كالنور الذي يؤمه الحائر ، ويهتدي به الجائر ، لأن عاقبة الأيمان مضيئة بالأيمان والثواب ، وعاقبة الكفر مظلمة بالجحيم والعذاب . وفي لسانهم : وصف الجهل بالعمى والعمه ، ووصف العلم بالبصر والجلية »(1) .
3 ـ ويحمل الرضي قوله تعالى ( وقيل ياأرض ابلعي مآءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر )(2) على الاستعمال المجازي في صدور الأمر منه تعالى ، ويقول : « لأن الأرض والسماء لايصح أن تؤمرا أو تخاطبا . لأن الأمر والخطاب لا يكونان إلا لمن يعقل ، ولا يتوجهان إلا لمن يعي ويفهم . فالمراد إذن بذلك ، الأخبار عن عظيم قدرة الله سبحانه ، وسرعة مضي أمره ، ونفاذ تدبيره نحو قوله ( انما قولنا لشيء إذا أردناه أن نّقول له كن فيكون * )(3) ، إخبار عن وقوع أوامره من غير معاناة ولا كلفة ، ولا لغوب ولا مشقة .
وفي هذا الكلام أيضا فائدة أخرى لطيفة . وهو أن قوله سبحانه ( يا أرض ابلعي مآءك ) أبلغ من قوله : يا أرض اذهبي بمائك . لأن في الابتلاع دليلا على إذهاب الماء بسرعة . . . وكذلك الكلام في قوله سبحانه ( ويا سماء أقلعي ) لأن لفظ الأقلاع ههنا أبلغ من لفظ الإنجلاء . لأن في الإقلاع أيضا معنى الإسراع بإزالة السحاب ، كما قلنا في الابتلاع . وذلك أدل على نفاذ القدرة ، وطواعية الأمور ، من غير وقفة ولا لبثة ، هذا الى ما في المزاوجة بين اللفظين من البلاغة العجيبة والفصاحة الشريفة »(4) .
____________
(1) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 121 .
(2) هود : 44 .
(3) النحل : 40 .
(4) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 162 .

( 31 )

وفي قوله تعالى ( ففتحنا أبواب السمآء بمآء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر * )(1) يقول الشريف الرضي ( المراد ـ والله أعلم ـ بتفتيح أبواب السماء تسهيل سبل الأمطار حتى لا يحبسها حابس ، ولا يلفتها لافت . مفهوم ذلك إزالة العوائق عن مجاري العيون من السماء ، حتى تصير بمنزلة حبيس فتح عنه باب ، أو معقول أطلق عنه عقال . وقوله ( فالتقى الماء على أمر قد قدر ) أي : اختلط ماء الأمطار المنهمرة ، بماء العيون المتفجرة ، فالتقى ماءاهما على ماقدره الله سبحانه ، من غير زيادة ولا نقصان . وهذا من أفصح الكلام ، وأوقع العبارات عن هذه الحال »(2) .
5 ـ وأظهر مما تقدم في مجاز القرآن عند الشريف الرضي نسبة الخشوع والتصدع الى الجبل في قوله تعالى : ( لو انزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون * )(3) قال الشريف الرضي : « وهذا القول على سبيل المجاز . والمعنى أن الجبل لو كان مما يعي القرآن ويعرف البيان لخشع في سماعه ، ولتصدع من عظم شأنه ، وعلى غلظ أجرامه ، وخشونة أكنافه . فالإنسان أحق بذلك منه ، إذ كان واعيا لقوارعه ، وعالما بصوادعه »(4) .
وهذا الملحظ الدقيق في مجازية الآية عند الشريف الرضي مصدره : أن لازم الخشوع والتصدع والخشية ، والإدراك والمعرفة والسماع ، والجبل لا يسمع ولا يعي ، فتأمل أيها الإنسان وتفكّر بما ضربه الله لك من الأمثال .
6 ـ قلنا فيما سبق أن أغلب ما أورده الرضي في تلخيص البيان عبارة عما يقابل الحقيقة في الأستعمال ، والاستعارة عندهم كالمجاز باعتبارها استعمالا مجازيا وخلاف الأصل اللغوي ، لهذا كان « تلخيص البيان » حافلا
____________
(1) القمر : 11 ـ 12 .
(2) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 318 .
(3) الحشر : 21 .
(4) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 330 .

( 32 )

في صنوف الاستعارات القرآنية ولعل من أبلغ ما أورده تعقيبا وشرحا وبيانا ، تلك الاستعارات التي كشف فيها عن ذائقته الفطرية في استحياء المراد القرآني وسأكتفي بإيراد بعض النماذج في ذلك :
أ ـ في قوله تعالى ( وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون * )(1) قال الرضي : « وهذه استعارة . والمراد بها : أنهم تفرقوا في الأهواء واختلفوا في الآراء ، وتقسمتهم المذاهب ، وتشعبت بهم الولائج(2) ومع ذلك فجميعهم راجع الى الله سبحانه ، على أحد وجهين : إما أن يكون رجوعا في الدنيا . فيكون المعنى : انهم وإن اختلفوا في الاعتقادات صائرون الى الإقرار بأن الله سبحانه خالقهم ورازقهم ، ومصرفهم ومدبرهم . أو يكون ذلك رجوعا في الآخرة ، فيكون المعنى أنهم راجعون الى الدار التي جعلها الله تعالى مكان الجزاء على الأعمال ، وموفّى الثواب والعقاب ، والى حيث لا يحكم فيهم ، ولا يملك أمرهم إلا الله سبحانه .
وشبّه تخالفهم في المذاهب ، وتفرقهم في الطرائق ، مع أن أصلهم واحد ، وخالقهم واحد ، بقوم كانت بينهم ، وسائل متناسجة ، وعلائق متشابكة ، ثم تباعدوا تباعدا قطع تلك العلائق ، وشذب تلك الوصائل ، فصاروا أخيافا(3) مختلفين ، وأوزاعا مفترقين »(4) .
ب ـ وفي قوله تعالى ( ومن النّاس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير أطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه )(5) يحمل الرضي الآية على التصوير الاستعاري ، ويعطيك معنى عبادة المرء ربه على حرف ، تشبيها بالقائم على جرف هار ، وحرف هاو . يقول : « والمراد بها ـ والله أعلم ـ صفة الإنسان المضطرب الدين ، الضعيف اليقين ، الذي لم تثبت في الحق قدمه ، ولا استمرت عليه مريرته ، فأوهى شبهة تعرض له ينقاد معها ،
____________
(1) الأنبياء : 93 .
(2) الولائج : جمع وليجة ، وهي بطانة الإنسان .
(3) يقال : هم أخوة أخياف ، بمعنى : أمهم واحدة وآباءهم متعددون .
(4) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 232 ـ 233 .
(5) الحج : 11 .

( 33 )

ويفارق دينه لها ، تشبيها بالقائم على حرف مهواة ، فأدنى عارض يزلقه ، وأضعف دافع يطرحه »(1) .
ج ـ وفي قوله تعالى ( والذين تبوّءو الدار والإيمان من قبلهم )(2) ، تبرز استقلالية الشريف الرضي في الرأي ، وشخصيته في النّقد ، واعتداده بصميم بلاغة العرب فيقول :
« وهذه استعارة لأن تبوؤ الدار هو استيطانها والتمكن فيها ، ولا يصح حمل ذلك على حقيقته في الإيمان ، فلا بد إذن من حمله على المجاز والاتساع . فيكون المعنى أنهم استقروا في الإيمان كاستقرارهم في الأوطان . وهذا من صميم البلاغة ، ولباب الفصاحة ، وقد زاد اللفظ المستعار ههنا معنى الكلام رونقا . إلا ترى كم بين قولنا : استقروا في الإيمان ، وبين قولنا : تبوؤا . وأنا أقول أبدا : إن الألفاظ خدم للمعاني ، لأنها تعمل في تحسين معارضها ، وتنميق مطالعها »(3) .
وحديثنا عن « تلخيص البيان » قد يطول لو استرسلنا فيه ، وفيما قدمناه من نماذج غناء في إقرار منهج هذه الدراسة القائمة على سبيل الإشارة والتلميح العابر لجهود المؤصلين .
والأمر المنظور لدى الشريف الرضي في تلخيص البيان يتجلى في عدة حقائق نشير إليها :
1 ـ استقلاليتة في المنهج والفكر ، وأولويته في أولية هذا المنهج البلاغي كتابا مستقلا ، وكيانا قائما في مجاز القرآن .
2 ـ تورعه في ذات الله عن الجزم في المعنى القرآني ، إذ طالما نجده يبدأ تعقيبه على الآية بعبارة : والله أعلم .
3 ـ هذه العبارة المشرقة ، وهذا الأسلوب الحديث ، وذلك التدافع في الألفاظ ، وكأنك تقرأ فيه بلاغي اليوم لا بلاغي القرن الرابع الهجري .
____________
(1) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 237 .
(2) الحشر : 9 .
(3) الشريف الرضي ، تلخيص البيان : 330 .

( 34 )

لهذا فقد كان سليما ما قرره الدكتور محمد عبد الغني حسين في مقارنته بينه وبين سابقيه : أبي عبيدة وابن قتيبة ، في التعبير البلاغي ، والأداء الأدبي ، والذائقة الفنية ، فقال :
« وخذ أي آية شئت من كتاب الله العزيز ، وتتبعها عند أبي عبيدة في مجازه ، وعند ابن قتيبة في مشكله ، وعند الشريف الرضي في تلخيص بيانه ، فإنك مؤمن معنا في النهاية بأن سليل البيت النبوي الكريم ، كان أغزر الثلاثة بيانا ، وأفصحهم لسانا ، وأبلغهم في التعبير عن مرامي القرآن بعبارة أدبية مشرقة ناصعة ، يتضح فيها ذوق الأديب ، ورقة الشاعر ، وحسن البليغ ، أكثر مما يتضح فيها فقه اللغوي ، وعلم النحوي »(1) .

***

3 ـ وأما الحديث عن الشيخ عبد القاهر الجرجاني ( ت : 471 هـ ) فقد سبق لنا القول أنه مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفينة(2) في كتابين الجليلين : « دلائل الإعجاز »(3) ، و « أسرار البلاغة »(4) . فقد سبر فيهما أغوار الفن القولي شرحا وإيضاحا وتطبيقا ، اعتنى باللباب من هذا العلم ، وأكد فيه على الجانب الحي النابض ، وابتعد عن الفهم العشوائي ، والخلط الغوغائي بين النظرية البلاغية وتطبيقاتها ، لم يعتن بالحدود المقيدة في علم المنطق ، ولم يعر للقوقعة اللفظية أهمية مطلقا ، كان وكده منصبا حول ما يقدمه من نتاج فياض إبداعي ينهض بهذا الفن الأصيل الى أوج عظمته ويدفع به الى ذروة مشاركته في بناء الهرم الحضاري ، فماذا يجني الباحث والمتعلم ، وهذا العلم نفسه ، من الجفاف في الحد ، او الغلظة في الرسم ، أو الصرامة المضنية في القاعدة .
____________
(1) محمد عبد الغني حسن ، مقدمة تلخيص البيان : 48 .
(2) المؤلف ، أصول البيان العربي ، رؤية بلاغية معاصرة : 18 .
(3) حققه لأول مرة كل من الأستاذ محمد عبدة ، ومحمد محمود الشنقيطي . القاهرة ، 1921 وصدرت مؤخرا طبعة منقحة ، بتحقيق محمود محمد شاكر ، مكتبة الخانجي ، القاهرة 1984 .
(4) حققه ، وخرج آياته ، وضبطه ضبطا علميا فريدا الأستاذ الدكتور هلموت ريتر، مطبعة المعارف ، استانبول ، 1954 م .

( 35 )

انظر إليه وهو يتحدث عن أصالة « علم البيان » والمجاز أساسه وقاعدته الصلبة ببيان ساحر ، ومنطق جزل ، وهو يصرح باسمه اصطلاحا فيقول :
« ثم إنك لا ترى علما هو أرسخ أصلا ، وأبسق فرعا ، وأحلى جنى ، وأعذب وردا ، وأكرم نتاجا وأنور سراجا من « علم البيان » الذي لولاه لم تر لسانا يحوك الوشي ، ويصوغ الحلي ، ويلفظ الدرر ، وينفث السحر ويقري الشهد ، ويريك بدائع من الزهر ، ويجنيك الحلو اليانع من الثمر ، والذي لولا تحفيه بالعلوم وعنايته بها ، وتصويره إياها ، لبقيت كامنة مستورة ، ولما استبنت لها ـ يد الدهر ـ صورة ، ولاستمر السرار بأهلتها ، واستولى الخفاء على جملتها ، الى فوائد لا يدركها الإحصاء ، ومحاسن لا يحصرها الاستقصاء »(1) .
لقد بحث عبد القاهر في أسرار البلاغة مفردات « علم البيان » وفي طليعتها المجاز ، وبحث في دلائل الإعجاز أغلب مفرجات علم المعاني ، وكرّ أيضا على المجاز . والسبب في هذا واصح لأن المجاز القرآني من أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز .
فالمجاز عنده في أسرار البلاغة نوعان : مجاز عن طريق اللغة ، وهو المجاز اللغوي ، ومضماره الاستعارة والكلمة المفردة .
ومجاز عن طريق المعنى والمعقول ، وهو المجاز الحكمي ، وتوصف به الجمل في التأليف والإسناد(2) .
وحد المجاز الحكمي « أن كل جملة أخرجت الحكم المفاد بها عن موضعه من العقل لضرب من التأويل فهي مجاز(3) .
وقد فرّق بين المجاز العقلي واللغوي في الحدود والاستعمال والإرادة ، وقال : « أنه إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من العقل ، وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من اللغة »(4) . وكل من المجازين اللغوي
____________
(1) عبد القاهر ، دلائل الإعجاز : 4 .
(2) ظ : عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 376 .
(3) المصدر نفسه : 356 .
(4) ظ : المصدر نفسه : 344 .

( 36 )

والعقلي لا يدرك الا في التركيب ، ووراء كل منهما معان غير ما يفهم من تكوين الجملة النحوي في الإيحاءات النفسية التي يستند إليها التصوير القرآني (1) .
وهذا التقسيم لم يكن واضحا بدقته هذه قبل عبد القاهر بل كان المجاز بجملته يشمل صور البيان بعامة ، وقد يتخصص بالاستعارة والمجاز كما هي الحال عند الشريف الرضي كما أسلفنا .
وقد استنار بهذه التسمية كل من فخر الدين الرازي ( ت : 606 هـ ) وأبي يعقوب السكاكي ( ت : 626 هـ ) بل هما قد نسخا رأي عبد القاهر نسخا حرفيا .
فالرازي يقسم المجاز الى قسمين : مجاز في الإثبات ، ومجاز في المثبت ،وهما العقلي واللغوي ، وعنده أن المجاز في الإثبات إنما يقع في الجملة ، وأن المجاز في المثبت إنما يقع في المفرد(2) .
والسكاكي يقسم المجاز الى قسمين : لغوي وعقلي ، واللغوي الى قسمين : خال من الفائدة ، ومتضمن لها ويسميها الاستعارة . إلا أنه يغض النظر عن المجاز العقلي ، ويؤكد على اللغوي ، وكأنه يميل الى عدّه أساس المجاز (3) .
وفي « دلائل الإعجاز » نجد عبد القاهر يحقق القول الدقيق في المجال الحكمي عنده ، والعقلي عنده وعند غيره ممّن تبعه فيه حتى في التسمية ، وهو برؤيته الثاقبة يلمس أن وراء الكناية والاستعارة في البيان مجازا آخر غير المجاز اللغوي ، وهو المجاز الحكمي المستفاد من طريق العقل في أحكام تجريها على اللفظ وهو متروك على ظاهره(4) .
والقول عنده في التفريق بين المجاز والاستعارة ، أن المجاز هو
____________
(1) ظ : فتحي أحمد عامر ، فكرة النظم بين وجوه الإعجاز : 123 .
(2) ظ : الرازي ، نهاية الإيجاز : 48 .
(3) ظ : السكاكي ، مفتاح العلوم : 194 ـ 198 .
(4) ظ : عبد القاهر ، دلائل الإعجاز : 293 وما بعدها ، تحقيق : محمود شاكر .