الفصل الثاني

مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية

1ـ حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح
2ـ وقوع المجاز في القرآن
3 ـ تقسيم المجاز القرآني
4 ـ مجاز القرآن : عقلي ولغوي


( 56 )



( 57 )

1 ـ حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح


يبدو أن المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمد من الأصل اللغوي ، فلقد نقل ابن منظور ( ت : 711 هـ ) قول اللغويين :
« جزت الطريق ، وجاز الموضع جوازا ومجازا : سار فيه وسلكه ، وجاوزت الموضع بمعنى جزته ، والمجاز والمجازة الموضع (1) .
وكان عبد القاهر الجرجاني ( ت : 471 هـ ) قد كشف العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز ، فالمجاز عنده : « مفعل من جاز الشيء يجوزه إذا تعداه ، وإذا عدل باللفظ عما نوجبه أصل اللغة ، وصف بأنه مجاز على معنى أنهم جازوا به موضعه الأصلي ، أو جاز هو مكان الذي وضع به أولا »(2) .
وهو لايكتفي بذلك حتى يحدد العلاقة بين الأصل والفرع في عملية العدول عن أصل اللغة ، أو النقل الذي يثبت إرادة المجاز لهذا اللفظ أو ذاك دون الاستعمال الحقيقي فيقول : « ثم إعلم بعد : إن في إطلاق المجاز على اللفظ المنقول عن أصله شرطا ؛ وهو أن الأسم يقع لما تقول أنه مجاز فيه بسبب بينه وبين الذي تجعله فيه »(3) .
وهذا يعني مضافا لما سبق : مجانسة المعنى المنقول له اللفظ الى معناه الأولي حيث توافر المناسبة في وجه النقل كتسمية الاعتدال غصنا ،
____________
(1) ابن منظور ، لسان العرب ، مادة : جاز .
(2) عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 365 .
(3) المصدر نفسه : 365 .

( 58 )

والقوام بانا ، والحلم طودا ، لافتراع الغصن استقامة ، ورشاقة البان طولا ، ورسوخ الطود ثباتا . فجاء النقل متساوقا في مناسبته مع المعاني الجديدة دون النبو عنها في شيء .
والطريف عند عبد القاهر أن يعود ليؤكد المناسبة القائمة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق المجاز ، متناولا قضية الوضع الحقيقي ، وتجاوزه الى المعنى الثانوي المستجد في المجاز ، فيقول : « وأما المجاز فكل كلمة أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثاني والأول ، فهي مجاز ، وإن شئت قلت :
كل كلمة جزت بها . ما وقعت له في وضع الواضع الى ما لم توضع له من غير أن تستأنف فيها وضعا لملاحظة بين ما تجوز إليه وبين أصلها الذي وضعت له في وضع واضعها ، فهي مجاز »(1) .
وهذا التعقيب لرأي عبد القاهر في الموضوع ليس عبثا ، بل منطلق من اعتبار عبد القاهر مرجعا في هذا النص ، ومصدرا من مصادر التفريق بين الجزئيات المتقاربة في الحدود والتعريفات ومتمرسا في اكتشاف ما بين الأصول والفروع من أواصر وصلات .
ومن هنا يبدوا أن التقرير اللغوي متحدر من التبادر الذهني للفظ المجاز ، وأن التحديد الاصطلاحي له نابع من الأصل اللغوي ، وذلك فيما وضعه أبو يعقوب السكاكي ( ت : 626 هـ ) موضع القانون الذي لا يعدل ولا يناقش ، فيقول :
« المجاز هنا هو الكلمة المستعملة في غير ما هي موضوعة له بالتحقيق استعمالا في الغير بالنسبة الى نوع حقيقتها مع قرينة مانعة عن إرادة معناه في ذلك النوع »(2) .
وهذا التحديد ـ كما تراه ـ لا يخلو من بعد منطقي في التعبير ، وأثر علم المنطق واضح في تخريجات السكاكي في هذا وسواه .
____________
(1) عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 325 .
(2) السكاكي ، مفتاح العلوم : 170 .

( 59 )

ويبدوا أن اللغويين والبلاغيين معا ، لم يأتوا بجديد في الموضوع ، وإنما تمايزوا بالأداء المختلف ، واتفقوا على الأصل ، وقد سبقهم أبو الفتح عثمان بن جني ( ت : 392 هـ ) في التوصل الى كنه هذا الأصل حينما عرف الحقيقة ببساطة ، وحدد المجاز بما يقابلها بقوله : « فالحقيقة ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة ، والمجاز : ما كان بضد ذلك »(1) .
ويترجح عندي وجود علاقة قائمة بين التعريف لغة واصطلاحا ؛ وذلك لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي عنه ، وهو الاجتياز والتخطي من موضع الى موضع ، وهذا ما يكشف عن سر العلاقة المدعاة بين استعمال المجاز لغة واستعماله اصطلاحا ، فكما يجتاز الإنسان ، ويتنقل في خطاه من موضع الى موضع ، فكذلك تجتاز الكلمة وتتخطى حدودها بمرونتها الاستعمالية من موقع الى موقع ، ويتجاوز اللفظ محله من معنى الى معنى ، مع إرادة المعنى الجديد بقرينة تدل على ذلك ؛ فيكون أصل الوضع باقيا على معناه اللغوي ، والنقل إضافة لغوية جديدة في معنى جديد ، وبهذا يبدو لنا أن المجاز يتضمن عملية تطوير لدلالة اللفظ المنقول المعنى ، وتحميله المعنى المستحدث بما لا يستوعبه اللفظ نفسه لو ترك واصل وضعه الحقيقي (2) .
وكان التحرر من الضيق اللفظي ، والانطلاق في مجالات الخيال ، والتأثر بالوجدان النفسي ، والحنين الى العاطفة الصادقة ، والاتساع في رحاب اللغة ، والتوجه نحو الحياة الحرة الطليقة : أساس هذا الاستعمال ، فرارا من الجمود ، وتهربا من التقوقع في فلك واحد ، حول محور واحد .
وفي ضوء هذا الفهم جديدا كان أو مسبوقا ، فإن ما يقال عن المجاز في تعبيره الموحي بالمعاني الجديدة ، وتركيزه على استكناه الصور الإبداعية ، فإنه ينطبق على التشبيه والاستعارة باعتبارهما استعمالين مجازيين ، مع فرض وجود العلاقة الدالة على المعنى المستحدث .
وليس هذا الفهم جديدا ، بل هو مفهوم الأوائل للاستعمال المجازي ،
____________
(1) ابن جني ، الخصائص : 2/442 .
(2) ظ : المؤلف ، أصول البيان العربي : 35 .

( 60 )

فالجاحظ ( ت : 255 هـ ) كمعاصريه يعبر عن الاستعارة والتشبيه والتمثيل جميعا بالمجاز ، ويبدو هذا جليا في أغلب استعمالات الجاحظ البيانية التي يطلق عليها اسم المجاز ، وهي عبارة عن مجموعة العناصر البلاغية في النص الأدبي التي تكون المفهوم النقدي الحديث للصور الفنية (1) .
ولا يعتبر هذا رجوعا الى الوراء في التماس حقائق الأشياء ، ولكنه إفادة موضوعية من القديم لرصد الجديد وتحقيقه ، لذلك فقد يلتبس الأمر بين المجاز والتشبيه والاستعارة ، ولكن التمييز الدقيق يقتضي الفصل والتفريق بين هذه الظواهر البيانية المتجاورة ، ويتم ذلك بالنظر الى الكلام العربي عن كثب :
أ ـ فإن أريد فيه التوسع مطلقا دون سواه فهو المجاز .
ب ـ وإن أريد فيه التشبيه التام في ذكر المشبه والمشبه به وأداة التشبيه مع وجود وجه الشبه ، أو حذف أداة التشبيه مع ذكر وجه الشبه ، أو انعدام أوجه التشبيه من جهة وتوافقه من جهة أخرى مع ذكر أداة التشبيه ، أو حذفهما معا فهو التشبيه دون ريب .
ج ـ وإن أريد التشبيه في ذكر الشبه وحذف المشبه به ؛ فهو الاستعارة(2) .
إذن فالتحديد المانع هو الذي يقتضي الفصل بين هذه المتقاربات ، لأن في المجاز توسعا ونقلا وتجوزا في الألفاظ يختلف عما يراه في التشبيه والاستعارة .
وعلى هذا فالمجاز حدث لغوي فضلا عن كونه عنصرا بلاغيا نابضا بالاستنارة والعطاء ، هذا الحدث يفسر لنا تطور اللغة العربية الفصحى بتطور دلالة ألفاظها على المعاني الجديدة ، والمعاني الجديدة في عملية ابتداعها لا يمكن إدراكها الا بالتعبير عنها ، والتصوير اللفظي لها ، وذلك لا يتحدد بزمن أو بيئة أو إقليم ، وإنما هو متسع للعربية في أعصارها وأدوارها
____________
(1) الجاحظ في استعمالاته لإطلاق المجاز ، الحيوان 5 : 23 ـ 34 .
(2) ظ : المؤلف ، أصول البيان العربي : 40 .

( 61 )

وتواجدها ، وتنقلها في تخطي حدودها الجغرافية الى بقاع الأرض المختلفة ، والمجاز خير وسيلة للتعبير عن هذا الاتساع بما يضيفه من قرائن ، وبما يضفيه من علاقات لغوية مبتكرة ، توازن بين الألفاظ والمعاني في الشكل والمضمون ، وتلائم بين عمليتي الإبداع والتجديد في دلالة اللفظ الواحد للخروج في اللغة الى ميدان أوسع . والتطلع بها نحو أفق رحيب .
ولما كان القرآن العظيم اساس العربية ودستورها ، كان المجاز فيه أحد قسيمي الكلام ، وهما : الحقيقة والمجاز .
وسنرصد في الصفحات التالية وقوعه في القرآن بشكل لا يقبل الشك استقراء ومجانسة وبيانا
2 ـ وقوع المجاز في القرآن
ومجاز القرآن في الذروة من البيان العربي ، فالقرآن كتاب العربية الأكبر ، وهو ناموسها الاعظم ، يحرس لغتها من التدهور ، ويحفظ أمدادها من النضوب ، ويقوّم أودها من الانحطاط . وقد كان إعجازه البياني موردا متأصلا من موارد إعجازه الكلي ، وتفوقه البلاغي حقيقة ناصعة من تفوقه في الفن القولي ، وقد وقف العرب عاجزين أمام حسّه المجازي ، وبعده التشبيهي ، ورصده الاستعاري ، وتهذيبه الكنائي، وأعجبوا أيما إعجاب بوضع ألفاظه من المعنى المراد حيث يشاء البيان السّمح ؛ والإرادة الاستعمالية المثلى ، تأنقا في العبارة ، وتحيزا للمعاني ؛ فلا غرابة أن يكون القرآن مصدرا للثروة البلاغية الكبرى عند العرب ، وأصلا لتفجير طاقات تلك البلاغة ، والمجاز منها عقدها الفريد .
ولذلك يرى بعض البلاغيين : « إن المجاز هو علم البيان بأجمعه ، وأنه أولى بالاستعمال من الحقيقة في باب الفصاحة والبلاغة ؛ لأن العبارة المجازية تنقل السامع عن خلقه الطبيعي في بعض الأحوال حتى أنه ليسمح بها البخيل ويشجع الجبان »(1) .
____________
(1) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 84 وانظر مصادره .
( 62 )

ومن نافلة القول التوسع في بحث إمكان وقوع المجاز في القرآن دون طائل ، فقد ثبت وقوعه دون أدنى شك في كوكبة متناثرة من ألفاظه تعد في القمة من الأستعمال البياني .
فقد رد عبد القاهر ( ت : 471 هـ ) القول بحمل اللفظ على ظاهره في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله )(1) .
ب ـ ( وجاء ربّك )(2) .
ج ـ ( الرحمن على العرش استوى * )(3) .
وأوجب أن يكون مجازا لا محالة لأن الإتيان والمجيء انتقال من مكان الى مكان ، وصفة من صفات الأجسام ، وأن الاستواء إن حمل على ظاهره لم يصح الا في جسم يشغل حيّزا ، ويأخذ مكانا ، والله عزّوجلّ خالق الأماكن والأزمنة ، ومنشيء كل ما تصح عليه الحركة والنقلة والتمكن والسكون والانفصال والاتصال والمماسة والمحاذاة(4) .
إن ما أوّله عبد القاهر في مقارنته بين معاني هذه الآيات الظاهرة ، ومعانيها الإيحائية الأخرى ، قد دلّه بالنظر العقلي الى مواطن الضرورة في القول بوقوع المجاز في القرآن ، وإلا وقعنا بالتجسيد تارة ، واصطدمنا بإشغال المكان بالنسبة اليه تارة أخرى ، وهذا باطل من الأساس في العقيدة ، كما أننا قد نقع في لبس وحيف عظيمين لو لم نقل بالمجاز ، ولنسبنا الظلم لله تعالى دون دراية وبدراية بهذه النسبة المفتراة . انظر الى قوله تعالى :
( ومن كان في هذه اعمى فهو في الأخرة أعمى وأضل سبيلا * )(5) .
____________
(1) البقرة : 210 .
(2) الفجر : 22 .
(3) طه : 5 .
(4) ظ : عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 362 .
(5) الإسراء : 72 .

( 63 )

فإن حملنا هذه الآية على ظاهرها ، وهو عمى العين ، فيكون المعنى من كان في الحياة الدنيا أعمى فهو في الآخرة أعمى العين ، بل وأضل سبيلا !!
وفي هذا نسبة عين الظلم له تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، فما هو ذنب من خلقه أعمى في الدنيا أن يحشره أعمى في الآخرة ؟ وما هو المراد حينئذ بـ : أضل سبيلا ، فهل هذا مكافأة على عماه البصري في الدنيا ، فإن حملنا هذا على الظاهر فالأعمى في الدنيا ضال عن السبيل ، وهو أضل له في الآخرة ، ولا ملازمة بين العمى البصري وبين الضلال عن الدين على الاطلاق ، إذن لا بد من حمل العمى على الاستعمال المجازي في الموردين ، ليناسب مع الضلال ، فيستقيم المعنى القرآني ، وينزه الله تعالى ، فيكون المعنى الثانوي هو المراد ، وهو ـ والله العالم ـ من كان في حياته الدنيا ضالا عن الحق ، متعاميا عن الصراط المستقيم ، زائغا عن سنن رب العالمين ، مكذبا لأنبيائه ورسله ، مستهزئا بتعليماته وتشريعاته ، فقد كتب له الضلال في الدنيا نتيجة تصرفه وسلوكه ، فهو كالأعمى الذي لا يبصر ما حوله ، وأبصار الدين بين واضح ولكنه تعامى عنه ، وإذا كانت هذه حالة في الدنيا ، فهو في الآخرة أضل سبيلا فلا يهتدي الى نور يستنقذه ، أو الى شفيع يأخذ بيده ، فهو في ظلمات متعاقبة ، متداخلة ، كمن وهب حاسة البصر ولم يعملها ويستفد منها في تمييز المرئيات فشأنه شأن فاقدها ، فهو أعمى كما كان ذلك أعمى ، وأذا عمي الانسان عن السبيل الحق في الدنيا ، ولم يعمل عمله ، كان في الآخرة أشد حيرة وضلالا ، إذ قدم على ما عمل فوجده هباءً منثورا ، ولما يقدم لنفسه في حياته ما يستنير به بعد وفاته . وهذا ما يوضح مجازية الآية ، وبدلالة القرآن نفسه في قوله تعالى :
( ومن أعرض عن ذكري فإنّ له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك ءاياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى * )(1) .
____________
(1) طه : 124 ـ 126 .
( 64 )

وفي الآيات هذه عدة شواهد على مجازية الآية السابقة ، وعلى مجازية الآيات نفسها في عدة دلائل منها :
1 ـ إن المعنى : يحشر أعمى البصر ، وقيل أعمى عن الحجة ، أي لا حجة يهتدي إليها .
قال الفراء : « يقال أنه يخرج من قبره بصيرا في حشره »(1) .
وفي ذلك دلالة على أن لا ملازمة بين العمى الحقيقي ـ في الآية السابقة ـ وبين الضلال . فقد يحشر البصير في هذه الدنيا أعمى في الآخرة ، وهذا العمى قد يكون على ظاهره كما حمله أبو زكريا الفراء وقد يكون مجازه كما روى ذلك معاوية بن عمار قال : سألت أبا عبد الله عليه السلام ـ يعني الإمام جعفر بن محمد الصادق ـ عن رجل لم يحج وله مال ، قال هو ممن قال الله ( ونحشره يوم القيامة أعمى ) فقلت سبحان الله أعمى ، قال أعماه الله عن طريق الحق(2) . قال الطبرسي ( ت : 548 هـ ) فهذا يطابق قول من قال : إن المعنى في الآية أعمى عن جهات الخير لا يهتدي لشيء منها(3) .
2 ـ وكما حشر أعمى حينما أعرض في حياته الدنيا عن القرآن ودلائل الشريعة ، وسنن النبوة ، ونسي آيات الله ، فقد صكّ ( فكذلك اليوم تنسى ) أيها الناسي ، فتصير بمنزلة من ترك كالمنسي بعذاب لا يفنى .
3 ـ وقيل معناه : كما حشرتك أعمى ، لتكون فصيحة ؛ كنت أعمى القلب ، فتركت آياتي ولم تنظر فيها ، وكما تركت أوامرنا فجعلتها كالشيء المنسي ، تترك اليوم في العذاب كالشيء المنسي(4) .
فالمجازية في إضراب هذه الألفاظ متواترة الورود في الروايات ومقتضاة لضرورة المعاني .
والطريف أننا لو رجعنا الى المصادر التراثية في تفسير تلك الألفاظ وأمثلها ، لكان ذلك وحده كافيا للاستدلال بوقوع المجاز في القرآن ؛ وانظر الى جمهرة الأقوال في شتى شؤونها بالنسبة للآية موضوع البحث ، وإنما أكدنا عليها لأن دلالتها واضحة تكاد لا تخفى على السواد ، فكيف
____________
(1 ـ 4 ) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 4/34 ـ 35 .
( 65 )

بالعلماء ، وهذه بعض مميزات النص القرآني أن يكون بعضه مفهوما بين الناس دون عناء .
ذكر في معنى قوله تعالى : ( ومن كان في هذه أعمى فهو في الأخرة أعمى وأضلّ سبيلا * )(1) عدة أقوال :
إن هذه إشارة الى ما تقدم ذكره من النعم ، ومعناه : أن من كان في هذه النعم ، وعن هذه العبر أعمى ، فهو عما غيّب عنه من أمر الآخرة أعمى . روي ذلك عن ابن عباس .
2 ـ إن هذه الإشارة الى الدنيا ومعناه : من كان في هذه الدنيا أعمى عن آيات الله ضالا عن الحق ، ذاهبا عن الدين ، فهو في الآخرة أشد تحيرا وذهابا عن طريق الجنة ، أو عن الحجة إذا سئل ، فإن من ضل عن معرفة الله في الدنيا ، يكون يوم القيامة منقطع الحجة ، فالأول اسم ، والثاني فعل من العمى .
3 ـ إن معناها من كان في الدنيا أعمى القلب ، فإنه في الآخرة أعمى العين ، يحشر كذلك عقوبة له على ضلالته في الدنيا ، روي ذلك عن أبي مسلم ، محمد بن بحر ، قال فهذا كقوله تعالى : ( ونحشره يوم القيامة أعمى )(2) . . . وعلى هذا فليس يكون قوله ( فهو في الأخرة أعمى * ) على سبيل المبالغة والتعجب وإن عطف عليه بقوله : ( وأضلّ سبيلا * ) ويكون التقدير : وهو أضل سبيلا . قال : ويجوز أن يكون أعمى : عبارة عما يلحقه من الغم المفرط ، فإنه إذا لم ير إلا ما يسوء فكأنه أعمى ، كما يقال : فلان سخين العين .
4 ـ وقيل معناه : من كان في الدنيا ضالا ، فهو في الآخرة أضل ، لأنه لا تقبل توبته ، واختار هذا الرأي أبو إسحاق الزجاج : وقال تأويله أنه إذا عمي الدنيا وقد عرّفه الله الهدى ، وجعل له الى التوبة وصلة ، فعمي عن رشده ولم يثب فهو في الآخرة أشد عمى ، وأضل سبيلا ، لأنه لا يجد طريقا الى الهداية(3) .
____________
(1) الإسراء : 72 .
(2) طه : 124 .
(3) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان 3/ 430 .

( 66 )

فكل هذه المعاني ـ كما رأيت ـ قد اشتملت على الإرادة المجازية وهو كاف للاستدلال على أصالة الاستعمال المجازي في القرآن .
« ومن قدح في المجاز ، وهم أن يصفه بغير الصدق ، فقد خبط خبطا عظيما ، ويهدف لما لا يخفى »(1) .
فهناك من أنكر المجاز في القرآن ، وهناك من حمل جملة من الاستعمال الحقيقي على المجاز ، وكلاهما قد تجاوز القصد ، وجانب الاعتدال في المذهب .
وقد ناقش عبد القاهر الجرجاني ( ت : 471 هـ ) هؤلاء وهؤلاء : « وأقل ما كان ينبغي أن تعرفه الطائفة الأولى ، وهم المنكرون للمجاز : إن التنزيل كما لم يقلب اللغة في أوضاعها المفردة عن أصولها ، ولم يخرج الألفاظ عن دلالتها ، كذلك لم يقض بتبديل عادات أهلها ، ولم ينقلهم عن أساليبهم وطرقهم ، ولم يمنعهم ما يتعارفونه من التشبيه والتمثيل والحذف والاتساع .
وكذلك كان من حق الطائفة الأخرى ، أن تعلم أنه عزّ وجلّ لم يرض لنظم كتابه الذي سماه هدىً وشفاء ، ونورا وضياء ، وحياة تحيا بها القلوب ، وروحا تنشرح عنه الصدور ، ما هو عند القوم الذي خوطبوا به خلاف البيان ، وفي حد الإغلاق ، والبعد عن التبيان ، وأنه تعالى لم يكن ليعجز بكتابه من طريق الإلباس والتعمية ، كما يتعاطاه الملغز من الشعراء ، والمحاجي من الناس ، كيف وقد وصفوه بأنه : ( عربيٌ مبين )(2)(3) .
وعبد القادر في هذا يشير الى الخلاف التقليدي في هذه المسألة ، أهي واردة أم هي منتفية ؟ كقضية لها بعدها الكلامي عند المتكلمين ، فلقد رفض أهل الظاهر استعمال صيغ المجاز في القرآن ، ووافقهم على هذا بعض الشافعية ، وقسم من المالكية ، وأبو مسلم الأصبهاني من المعتزلة(4) .
____________
(1) عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 361 .
(2) النحل : 103 .
(3) عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 363 .
(4) ظ : الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : 2/255 .

( 67 )

وقد جاء هذا الرفض بحجة أن المجاز أخو الكذب ، والقرآن منزّه عنه ، فإن المتكلم لا يعدل اليه الا اذا ضاقت به الحقيقة فيستعير ، وذلك محال على الله تعالى (1) .
وقد ثبت لدينا في ضوء ما تقدم ، وفي ظلال ما سيأتي بيانه ، أن المورد المجازي في الاستعمال القرآني لا تضيق في الحقيقة ، أو عجز عن تسخيرها في تحقيق المعنى المراد ، بل لغاية التحرر في الالفاظ ، وإرادة المعاني الثانوية البكر ، فيكون بذلك قد أضاف الى الحقيقية في الألفاظ إضاءة جديدة ، والألفاظ هي هي ، وهذا بعيد عن ملحظ الكذب في التقرير ، أو العجز عن تسخير الحقيقة . ولو خلا منه القرآن لكان مجردا عن هذه الإضافات البيانية الاصيلة ، وليس الأمر كذلك .
ويؤكد هذا الملحظ تعقيب الزركشي ( ت : 794 هـ ) على القول بمنع استعمال المجاز القرآني بقوله :
« وهذا باطل ولو وجب خلو القرآن من المجاز لوجب خلوه من التوكيد والحذف وتثنية القصص وغيره ، ولو سقط المجاز من القرآن سقط شطر الحسن »(2) .
فاستعمال المجاز في القرآن نابع من الحاجة اليه في بيان محسنات القرآن البلاغية ، فهو والحقيقة يتقاسمان شطري الحسن في الذائقة البيانية كما أشار الزركشي .
ويبدو ضعف هذا المذهب ـ وهو يرفض وجود المجاز في القرآن ـ حينما نشاهد حرص الجمهور والإمامية ، وأغلب المعتزلة ، ومن وافقهم من المتكلمين على إثبات وقوعه في القرآن(3) .
حقا إن ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) قد أشار منذ عهد مبكر الى مسألة
____________
(1) ظ : السيوطي ، الاتقان في علوم القرآن : 3/109 .
(2) الزركشي ، البرهان في علوم القرآن : 2/255 .
(3) ظ في هذا الشأن : الجاحظ ، الحيوان : 1/212 . ابن جني ، الخصائص : 2/447 ـ457 . الرضي ، تلخيص البيان في جملة نصوصه ، المرتضى في الأمالي ، الزمخشري ، الكشاف في أغلب مواضعه .

( 68 )

الطعن على القرآن في هذه القضية ، وناقشها مناقشة أدبية ونقدية بارعة ، مؤيدا ذلك بموافقات اللسان العربي ، ومستدلا على ما يراه بسنن القول عند العرب في سائر الاستعمالات حتى الساذجة البسيطة منها .
يقول ابن قتيبة : « وأما الطاعنون على القرآن بالمجاز ، فإنهم زعموا أنه كذب ، لأن الجدار لا يريد ، والقرية لا تسأل ، وهذا من أشنع جهالاتهم ، وأدلها على سوء نظرهم ،وقلة إفهامهم ، ولو كان المجاز كذبا ، وكل فعل ينسب الى غير الحيوان باطلا ، كان أغلب كلامنا فاسدا ، لأنا نقول : نبت البقل ، طالت الشجرة ، أينعت الثمرة ، أقام الجبل ، رخص السعر »(1) .
وقد أيد هذا المنحى عبد القاهر الجرجاني ( ت : 471 هـ ) بقوله : « وأنت ترى في نص القرآن ما جرى فيه اللفظ على إضافة الهلاك الى الريح مع استحالة أن تكون فاعلة ، وذلك قوله عزّ وجلّ : ( مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدّنيا كمثل ريح فيها صرّ أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته )(2) وأمثال ذلك كثير »(3) .
وقد أفرد المجاز بالتصنيف من الشافعية الشيخ عز الدين بن عبد السلام ( ت : 660 هـ ) في كتابه « الإشارة الى الإيجاز في بعض أنواع المجاز »(4) .
وهناك كتاب قديم ذكره ابن النديم في الفهرست يخص هذا الجزء من البحث اسمه ( الرد على من نفى المجاز من القرآن ) للحسن بن جعفر(5) . ولم أعثر فيما لدي من فهارس المخطوطات على إشارة الى مكان وجوده في مكتبات العالم ، ولعله فقد فيما فقد من عيون التراث ، ويبدوا أنه قد ألف لغرض إثبات وقوع المجاز في القرآن ردا على من نفى ذلك عنه ، كما هو واضح من العنوان .
____________
(1) ابن قتيبة ، تأويل مشكل القرآن : 99 .
(2) آل عمران : 117 .
(3) عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 361 .
(4) طبع في استانبول ، دار الطباعة العامرة ، 1312 هـ .
(5) ابن النديم ، الفهرست : 63 ، دار المعرفة ، بيروت ، 1978 م .

( 69 )

والحق أن المجاز واقع في القرآن باعتباره عنصرا أساسيا من عناصر بلاغته الإعجازية ، كما سنشاهد هذا فيما بعد ، عند التطبيق المجازي على عبارات القرآن الحكيم .
3 ـ تقسيم المجاز القرآني
لم يكن المجاز القرآني بمنأى عن الإطار العام لتقسيم المجاز في البيان العربي ، شأنه بذلك شأن الأركان البلاغية الاخرى التي يقوم على أساسها الفن القولي ، فقد استقطب القرآن الكريم شتى صنوفها ومختلف تقسيماتها ، وحفلت سوره وآياته بأبرز ملامحها وأصدق مظاهرها ، حتى عاد تقسيمها خاضعا لأحكام القرآن البلاغية ، ولم يكن القرآن خاضعا لتلك التقسيمات في حال من الأحوال ، لأنها مستمدة من هديه ، وسائرة بركاب مسيرته البيانية المعجزة ، وهكذا بالنسبة للمجاز فهو عند البلاغيين نوعان ، لأنه في القرآن نوعان : مجاز لغوي ومجاز عقلي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكلي المجاز باعتباره عقليا أو لغويا .
هناك بعض الإضافات والمسميات عند القدامى تجاوزت هذا التحديد في نهجه البلاغي ، نعرض إليه ونردّه الى أصوله :
هناك مجاز الحذف عند سيبويه ( ت : 180 هـ ) وعند الفراء ( ت : 207 هـ ) اورداه على سبيل الاتساع في الكلام كأخذ المضاف اليه إعراب المضاف(1) .
وقد مثلوا له بقوله تعالى : ( وسئل القرية )(2) . وقد أضاف عز الدين إبن عبد السلام ( ت : 660 هـ ) نوعين للمجاز سمّى الأول مجاز التشبيه ، وهو التشبيه المحذوف الأداة ، وأوضح رأيه هذا بقوله :
« العرب إذا شبهوا جرما بجرم ، أو معنى بمعنى ، أو معنى بجرم ، فإن أتوا بأداة التشبيه كان ذلك تشبيها حقيقيا ، وإن أسقطوا أداة التشبيه كان
____________
(1) ظ : سيبويه ، الكتاب : 1/212 . الفراء ، معاني القرآن 1/363 .
(2) يوسف : 82 .

( 70 )

ذلك تشبيها مجازيا »(1) .
والثاني : مجاز التضمين ، وهو أن تضمن اسما معنى إسم لإفادة معنى الإسمين ، فتعديه تعديته في بعض المواطن(2) .
ولقد قسم القزويني المجاز الى مفرد والى مركب ، والمفرد الى لغوي وشرعي وعرفي ، والمركب وهو التمثيل على سبيل الأستعارة الى مرسل واستعارة(3) .
وهنا نعقب على هذه الإضافات ناظرين أصول المجاز في التقسيم .
فأما مجاز الحذف فشأنه كشأن مجاز الزيادة ، والأول أشار إليه سيبويه والفراء ، وقد أفاد من هذه التسمية القزوني ( ت : 739 هـ ) فضم إليها مجاز الزيادة ، وعقد لذلك فصلا في الإيضاج سمّاه : المجاز بالحذف والزيادة(4) .
أما مجاز الحذف ، فتسميته بالإيجاز هي اللائقة بالمقام ، والإيجاز جار في القرآن مجرى المساوات والأطناب في موضوعهما ، ولا داع الى تكلف القول في الآية ( وسئل القرية )(5) . ان حكم القرية في الأصل هو الجر ، والنصب فيها مجاز ، باعتبار ان المضاف محذوف ، وأعطي للمضاف إليه حكم المضاف فأصبح منصوبا وحقه الجر أصلا .
وأما مجاز الزيادة ، وقد مثلوا له بقوله تعالى : ( ليس كمثله شيء )(6) ، على القول بزيادة الكاف ، أي ليس مثله شيء ، فإعراب « مثله » في الأصل هو النصب ، فزيدت الكاف ، فصار الحكم جرا ، وهذا الجر مجازي على ما يصفون .
والذي أميل إليه أن لا زيادة في الاستعمال القرآني قط ، بل هو من
____________
(1) عز الدين بن عبد السلام ، الإشارة الى الإيجاز : 85 .
(2) المصدر نفسه : 74 .
(3) ظ : القزويني ، الإيضاح : 268 . التلخيص : 293 .
(4) ظ : القزويني ، الإيضاح : 454 ، تحقيق : الخفاجي : 82 .
(5) يوسف : 82 .
(6) الشورى : 11 .

( 71 )

باب زيادة المعنى في زيادة المبنى ، فإن العبارة لا تعطي دقتها ومرادها لو استعملت مجردة عن الكاف ، ووجود الكاف وهو أداة للتشبيه في الآية قد نفى أن يكون لله ما يشبه به ، وإذا لم نستطع أن نحصل على ما يشبّه به ، فأنى يكون له مثيل أو شبيه فيكون المراد ـ والله العالم ـ ليس لما يمثل به مثيل ، فمن باب أولى أن لا يكون له مثيل ، وبهذا ينتفي فرض الزيادة جملة وتفصيلا .
ويبدو أن مسألة مجاز الحذف والزيادة قد سبقت القزويني بقرون إذ تعقب عبد القاهر ( ت : 471 هـ ) فبالغ في إنكار هذا القول مجاز الحذف والزيادة ، إذ لا يسمى كل حذف مجازا ، ولا كل زيادة كذلك ، إذ لم يؤد هذا أو ذاك الى تغيير حكم الكلام(1) .
وأما ما أضافه عز الدين فليس من المجاز عند البلاغيين ، فمجاز التشبيه عنده هو التشبيه المحذوف الأداة ، فيسمى تشبيها بليغا ، أو هو جار على سبيل الاستعارة لو حذف المشبه به مع أداة التشبيه .
وأما مجاز التضمين ، فليس من المجاز في شيء ، بل هو إضافة معنى جديد للفظ لا علاقة لها بالنقل عن المعنى الأصلي ، بل المراد به : إرادته وإرادة غيره بوقت واحد كقوله تعالى : ( وأخبتوا الى ربهم )(2) ، فأنه على ما قالوا تضمن معنى أنابوا مضافا الى الإخبات ، لإفادة الإخبات معنى الإنابة والإخبات معا .
وأما ما أبداه القزويني فلا يعدو كونه تفريعا على أصلي المجاز وهما المجاز العقلي واللغوي ، فالمجاز المفرد يكون ، عقليا ويكون لغويا ، فالمفرد في المجاز العقلي ما كان جاريا على الكلمة بالإضافة الى ما بعدها ، وتكتشف بالإسناد ، كقوله تعالى : ( والضحى * والليل إذا سجى * )(3) فكلمة « سجا » بالنسبة الى اللّيل مجاز عقلي مفرد ، والليل لا يهدأ ، وإنما ينسب الهدوء فيه الى غيره ؛ ولما كان الليل زمانا لهذا الهدوء ،
____________
(1) ظ : عبد القاهر ، أسرار البلاغة : 383 وما بعدها .
(2) هود : 23 .
(3) الضحى : 1 ـ 2 .