عبر عنه بـ « سجا » وسجا بمعنى هدأ وسكن وما شابه ذلك .
والمفرد في المجاز اللغوي هو الكلمة المستعملة في غير ما وضعت له في اصطلاح التخاطب على وجه يصح مع قرينة عدك إرادته .
والمجاز المفرد على أقسام : لغوي ، وشرعي ، وعرفي ، كالأسد في الرجل الشجاع مثالا للغوي لفظ « صلاة » إذا استعمله المخاطب بعرف الشرع في الدعاء .
والعرفي نوعان : العرفي الخاص كلفظ « فعل » إذا استعمله المخاطب بعرف النحو في الحديث . والعرفي العام كلفظ ( دابة ) إذا استعمله المخاطب بالعرفي العام في الإنسان (1) .
وأما المجاز المركب فهو اللفظ المركب المستعمل فيما شبه بمعناه الأصلي بشبيه التمثيل للمبالغة في التشبيه ، أي : بشبيه إحدى صورتين منتزعتين من أمرين أو أمور ، لأمر واحد كما في قوله تعالى : ( يا أيها الذين ءامنوا لا تقدّموا بين يدي الله ورسوله )(2) .
فإنه لما كان التقدم بين يدي الرجل خارجا عن صفة المتابع له ، صار النهي عن التقدم متعلقا باليدين مثلا للنهي عن ترك الأتبعاع(3) . وهذا جار في الجاز المرسل الذي هو جزء من المجاز اللغوي .
إذن ما ابداه القزويني في هذا التفريع يعود الى الأصل في المجازين المذكورين ليس غير .
نعم هناك ادعاء مجاز جديد أرجأنا الحديث عنه الى هذا الموضع من البحث ، لأن لها معه متابعة قد تطول ، ولأن تشعباته وأنواعه كثيرة متشابكة ، ولا بد لنا من الإشارة إليها جميعا لإثبات أنها ليست أنواعا جديدة على المجاز ، ولا تخرج عن شقيه الأصليين العقلي واللغوي ؛ هذا المجاز ذكره عز الدين بن عبد السلام ( ت : 660 هـ ) وسماه « مجاز
____________
(1) ظ : القزويني ، الإيضاح : 395 تحقيق الخفاجي .
(2) الحجرات : 1 .
(3) ظ : القزويني ، الإيضاح : 438 وما بعدها .

( 73 )

اللزوم »(1) ، ونحن نذكر أنواعه عنده وتعقب على كل نوع .
وقد أطنب في دكر أنواعه وتعدادها ؛ وبعد مدارستها وجدناها من أجزاء المجازين العقلي واللغوي ، واشتمل بعضها على جزء من الكناية ، وهو يرفض أن تكون الكناية من المجاز(2) .
أما أنواع « مجاز اللزوم » فهي عنده(3) .
1ـ التعبير بالإذن عن المشيئة ، لأن الغالب أن الإذن في الشيء لا يقع إلا بمشيئة الإذن واختياره ، والملازمة الغالبة مصححة للمجاز ، ومن ذلك قوله تعالى : ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله )(4) .
أي بمشيئة الله ، ويجوز في هذا أن يراد بالاذن أمر التكوين ، والمعنى « وما كان لنفس أن تموت الا بقول الله موتي » .
وهذا من المجاز العقلي ، وعلاقته السببية كما هو واصح ، أو أنه من المجاز المرسل باعتبار الإذن تعبيرا عن المشيئة وعلاقته السببية أيضا .
2 ـ التعبير بالإذن عن التيسير والتسهيل في مثل قوله تعالى : ( والله يدعوا الى الجنة والمغفرة بإذنه )(5) .
أي بتسهيله وتيسيره . وهذا من المجاز اللغوي المرسل ، وعلاقته السببية ، أي بسبب من مشيئة الله تعالى وتيسيره وتسهيله .
3 ـ تسمية ابن السبيل في قوله تعالى : ( وأبن السبيل )(6) لملازمته الطريق . وهذا من المجاز العقلي ، ووجهه وعلاقته من باب تسمية الحال باسم المحل ، وذلك لكونه موجود في السبيل .
4 ـ نفي الشيء لانتفاء ثمرته وفائدته للزومهما عنه غالبا في مثل قوله
____________
(1) عز الدين بن عبد السلام ، الإشارة الى الإيجاز : 79 .
(2) المصدر نفسه : 85 .
(3) المصدر نفسه : 79 ـ 85 .
(4) آل عمران : 145 .
(5) البقرة : 221 .
(6) البقرة : 177 .

( 74 )

تعالى : ( كيف يكون للمشركين عهد )(5) .
أي وفاء عهد أو تمام عهد ، فنفى العهد لانتفاء ثمرته ، وهو الوفاء والاتمام .
وهذا التعليل وإن كان واردا ، ولكن المراد قد يكون ـ والله العالم ـ من باب الكناية ، أي أن المشركون غدرة ، فعبّر بعدم الوفاء بالعهد كناية عن الغدر الذي اتصفوا له ، والكناية ليست من المجاز حتى عند المصنف رحمه الله .
5 ـ التجوز بلفظ الريب عن الشك ، لملازمة الشك القلق والاضطراب ، فإن حقيقة الريب قلق النفس ، ومن ذلك قوله تعالى : ( لا ريب فيه )(2) أي لا شك في إنزاله أو في هدايته .
وهذا ـ والله العالم ـ من باب الكناية ، أي اطمئنوا للقرآن ، ولا تقلقوا ، ولا تضطربوا ، فإن من شأن الريب القلق والاضطراب .
والريب مصدر من رابني ، بمعنى الشك ، وهو أن نتوهم بالشيء أمرا مريبا فينكشف الأمر عما تتوهم ، وبمعنى الريبة ، وحقيقتها : قلق النفس واضطرابها وعدم اطمئنانها ، ومنه ما أورده الزمخشري عن الإمام الحسن بن علي عليهما السلام أنه قال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : « دع ما يريبك الى ما لا يريبك » ، فإن الشك ريبة ، وإن الصدق طمأنينة ؛ اي فإن كون الأمر مشكوكا فيه مما تقلق له النفس ولا تستقر ، وكونه صحيحا صادقا مما تطمئن له وتسكن »(3) .
6 ـ التعبير بالمسافحة عن الزنا لأن السفح صب المني ، وهو ملازم للجماع غالبا ، ولكنه خص بالزنا إذ لا غرض فيه سوى صب المني ، بخلاف النكاح فإن مقصوده الولد والتعاضد والتناصر بالاختان والأصهار ، والأولاد والأحفاد ، ومثاله في قوله تعالى :
____________
(1) التوبة : 7 .
(2) البقرة : 2 .
(3) الزمخشري ، الكشاف : 1/ 113 .

( 75 )

( محصنين غير مسافحين )(1) أي : غير مزانين .
وهذا أن كان الأمر كما ذكره ، فهو تعبير بالكناية المهذبة فقد ذكر المسافحة وأراد لازمها .
7 ـ التعبير بالمحل عن الحال لما بينهما من الملازمة الغالبة كالتعبير : باليد عن القدرة والاستيلاء ، والعين عن الإدراك ، والصدر عن القلب وبالقلب عن العقل ، وبالأفواه عن الألسن ، وبالالسن عن اللغات ، وبالقرية عو قاطنيها ، وبالساحة عن نازليها ، وبالنادي والندي عن أقلهما . وقد ورد كل ذلك في القرآن الكريم .
وهذا كله قسيم بين المجازين اللغوي والعقلي في القرآن الكريم ، وهما جوهر المجاز القرآني . فالتعبير باليد عن القدرة والاستيلاء ، وبالعين عن الإدراك ، وبالصدر عن القلب ، وبالقلب عن العقل ، وبالأفواه عن الالسن ، وبالألسن عن اللغات ، كله من المجاز اللغوي المرسل ، باعتباره نقلا عن الأصل اللغوي بقرينة لإرادة المجاز ، مع بقاء المعنى اللغوي على ماهيته ، وإضافة المعنى الجديد إليه .
والتعبير بالقرية عن قاطنيها ، وتوابع ذلك ، كله من المجاز العقلي ، فالقرية لا تسأل جدرانها بل سكانها ، فيكون التقدير أهل القرية ، وما استفيد هنا لم يكن بقرينة لفظية مقالية ، وإنما بقرينة معنوية حالية ، حكم بها العقل في الإسناد .
8 ـ التعبير بالإرادة عن المقاربة ، لأن من أراد شيئا قربت مواقعته إياه غالبا ، ومن ذلك قوله تعالى : ( فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ فأقامه . . . )(2) .
وهذا من المجاز العقلي ، فليس الجدار كائنا مريدا ، ولا هو بقادر على هذا الفعل ، وقد أدركنا بالضرورة العقلية ، ومن سياق الإسناد الجملي ، أن المجاز هو الذي أشاع روح الإرادة في الجدار ، وكأنه يريد .
____________
(1) النساء : 24 ، المائدة : 5 .
(2) الكهف : 77 .

( 76 )

قال أبو عبيدة : « وليس للحائط إرادة ، ولا للموات ، ولكنه إذ كان في هذه الحال من ربّه فهو إرادته »(1) .
9 ـ التجوز بترك الكلام عن الغضب ، لأن الهجران وترك الكلام يلازمان الغضب غالبا ، ومنه قوله تعالى : ( ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم )(2) .
وهذا ـ والله العالم ـ تعبير بالكناية ، ولا علاقة له بالمجاز ، فعبّر بعدم الكلام عن الغضب والانتقام والمجازاة .
10 ـ التجوز بنفي النظر عن الإذلال والاحتقار ، كقوله تعالى : ( ولا ينظر إليهم يوم القيامة )(3) .
وهذا من الكناية أيضا للتعبير عن ازدرائهم ، وعدم رضاه عنهم ، وليس لله جارحة فينظر بها إليهم ، فهو بصير بغير عين ، وسميع بغير أذن وهو على العكس من قوله تعالى :
( وجوه يومئذ ناضرة * الى ربها ناظرة * )(4) فهؤلاء قد أنعم الله عليهم بنضرة النعيم ، فنظروا الى رحمته ورأفته ، وتطلعوا الى حسن ثوابه ومجازاته ، وتوقعوا لطف عنايته ورعايته ، فكان ذلك نظرا الى عظيم إحسانه ، وكريم أنعامه ، إذ ليس الله جسما ، أو قالبا ، أو مثالا ، حتى ينظروا إليه ، فعدم نظره تعالى الى الكافرين متقارب من نظر المؤمنين إليه من جهة الكناية الهادفة .
وقد يكون ذلك مجازا مرسلا بإضافة عدم العناية والرعاية ، وإرادة الإحتقار والإذلال ، معنى جديدا الى عدم النظر ، وهو عكسه في الآيتين التاليتين .
11 ـ الحادي عشر : التجوز باليأس عن العلم ، لأن اليأس من نقيض العلوم ملازم للعلم غير منفك عنه ، كقوله تعالى : ( أفلم يأيئس الذين ءامنوا
____________
(1) أبو عبيدة ، مجاز القرآن 1/ 410 .
(2) البقرة : 174 .
(3) آل عمران : 77 .
(4) القيامة : 22 ـ 23 .

( 77 )

أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا ) .(1) فإن كان هذا مجازا فهو مجاز مرسل إذ أضاف معنى ثانويا للفظ اللغوي ، أو هو ـ والله العالم ـ من قبيل استعمال الأضداد باللغة ، فيأتي التيئيس بمعنى العلم ، وبمعنى عدم العلم وانقطاع الأمل ، وعلى هذا فلا علاقة له بالمجاز .
12 ـ التعبير بالدخول عن الوطء لأن الغالب من الرجل إذا دخل بإمرأته أنه يطؤها في ليلة عرسها ، ومنه قوله تعالى :
( وربإبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم اللاتي دخلتم بهنّ فإن لم تكونوا دخلتم بهنّ فلا جناح عليكم . . . )(2) .
وهذا من باب التعبير بالكناية المهذبة ، وليس من المجاز في شيء فاستعمل الدخول ، وأراد لازمه وهو الوطء ، تهذيبا للعبارة ، وصونا للحرمات .
13 ـ وصف الزمان بصفة ما يشتمل عليه ويقع فيه كقوله تعالى : ( فذلك يومئذ يوم عسير * )(3) .
وهذا من الجاز اللغوي / المرسل ، وهو من باب إسناد الفاعلية ، أو الصفة الثبوتية للزمان لمشابهته الفاعل الحقيقي ، فقد أسند العسرة الى اليوم ووصفه بها ، واليوم دال على زمن من الأزمان ، ولا تستند اليه صفة الفاعلية إلا مجازا ، وكأنه يريد فذلك يومئذ يوم ذو عسرة ، تعبيرا عما يجري فيه من المكاره والشدائد ، والله سبحانه هو العالم .
14 ـ وصف المكان بصفة ما يشتمل عليه ويقع فيها ، كقوله تعالى : ( رب أجعل هذا البلد ءامنا )(4) .
وهذا هو المجاز العقلي فيما يظهر لي ، فالأمن لا يلحق بالبلد وإنما بأهل البلد ، وما قيل في قوله تعالى : ( وسئل القرية )(5) ، يقال هنا .
____________
(1) الرعد : 31 .
(2) النساء : 23 .
(3) المدثر : 9 .
(4) إبراهيم : 35 .
(5) يوسف : 82 .

( 78 )

15 ـ « وصف الأعراض بصفة من قامت به ، كقوله تعالى : ( فإذا عزم الأمر )(1) ، والعزم صفة لذوي الأمر . وقوله تعالى : ( فما ربحت تجارتهم )(2) وصف التجارة ، وهو صفة للتاجر » .
وهذا من المجاز العقلي في الآيتين الكريمتين :
فالمراد من الآية الأولى ـ والله العالم ـ عزم ذوي الأمر على تنفيذ الأمر ، فليس للأمر إرادة على العزم ، وليس العزم مما يسند فعله الى الأمر ، وفي الآية الثانية : الربح مجازي فيها ، ولا يراد به الزيادة على رأس المال في المتاجرة ، والتجارة فيها مجازفة ، فلا يراد بها المعاملات السوقية في شتى البضائع . وإنما المراد بالربم تحقيق المعنى المجازي منه بالفائدة المتوخاة في إنفاق الأعمار وعدم خسرانها ، والمراد بالتجارة المعنى المجازي منها بالإثابة والمثابرة وصالح الأعمال ، وهذا إنما يدرك بأحكام العقل من خلال إسناد الجملة ، فهو هناكما في الآية الأولى : مجاز عقلي .
16 ـ الكنايات كقول طرفة :
ولست بحلال التلاع مخافة * ولكن متى يستــرفد القوم أرفد

وقد أقر أن هذا من الكناية وعقب عليه بقوله :
« والظاهر أن الكناية ليست من المجاز ، لأنك استعملت اللفظ فيما وضع له ، وأردت به الدلالة على غيره ، ولم تخرجه عن أن يكون مستعملا فيما وضع له »(3) .
وبعد هذه الجولة مع توجيهات صاحب الإشارة الى الإيجاز « فمجاز اللزوم » لا لزوم له ، لأنه ـ كما رايت ـ إما أن يكون خارجا من باب المجاز ، وإما أن يكون تفريعا عن شقي المجاز ، كما يبدو هذا من التعقيل على كل نوع من أنواعه .
____________
(1) محمد : 21 .
(2) البقرة : 16 .
(3) عز الدين بن عبد السلام ، الإشارة الى الإيجاز : 85 .

( 79 )

وهنالك أقسام أخرى تدور في هذا الفلك أعرضنا عن إيرادها ، لأنها لا تعدو القسيمين المجازيين .

4 ـ مجاز القرآن : عقلي ولغوي


بعد هذا العرض والتحقيق نتمكن أن نقول مطمئنين ان المجاز في القرآن قسمان : لغوي وعقلي . فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأقل اللسان بما يتبادر اليه الذهن العربي عن الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأولي الى معنى ثانوي جديد . والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة من خلال أحكام طارئة ، وقضايا يحكم بها العقل لدى إسناد الجملة . وسيأتي التحقيق في القسمين في موضعهما المناسب (1) . والطريف أن نشاهد السكاكي ( ت : 626 هـ ) منكرا للمجاز العقلي تارة ومثبتا له تارة أخرى(2) .
وقد وافقه على ذلك القزويني ( ت : 739 هـ ) وعدّه مجازا بالإسناد ، وقد أخرجه من علم البيان ، وأدخله في علم المعاني ، متناسيا أن المجاز العقلي إنما يدرك بالإسناد بينما نجده معترفا به ، ومعقبا لأقسامه وتشعباته بعد حين ، مما يعني عدم وضوحه لديه(2) .
وقد تابع هذا التأرجح صاحب الطراز فقال :
« والمختار أن المجاز لا مدخل له في الأحكام العقلية ، ولا وجه لتسمية المجاز بكونه عقليا ، لأن ما هذا حاله إنما يتعلق بالأوضاع اللغوية دون الأحكام العقلية »(4) .
وهذا الإخراج للمجاز العقلي لا يستند الى قاعدة بلاغية ، وتعارضه دلائل الاحوال ، لأن المجاز العقلي هو طريق البلاغيين في الأستنباط ، وسبيلهم الى اكتشاف المجهول بنوع من التأول والحمل العقلي ، ويتم ذلك
____________
(1) ظ : فيما بعد الفصل الرابع والفصل الخامس .
(2) ظ : السكاكي ، مفتاح العلوم : 194 ـ 198 .
(3) ظ : القزويني ، الإيضاح : 97 وما بعدها .
(4) العلوي ، الطراز : 1/ 25 .

( 80 )

بالاستجلاء لأحكام الجملة في التراكيب ، وإن بقيت الكلمات على حقيقتها اللغوية دون تجوز . وإليه يميل الزركشي ( ت : 794 هـ )بعده المجاز العقلي هو الذي يتكلم به أهل الصنعة بقوله عنه : « وهو أن تستند الكلمة الى غير ما هي له أصالة لضرب من التأويل ، وهو الذي يتكلم به أهل اللسان »(1) .
وقد كان عبد القاهر ـ كما سنرى فيما بعد ـ قد أولى هذا النوع من المجاز عناية فائقة ، واعتبر كنزا من كنوز البلاغة ، وهو مادة الإبداع عند الكتاب والشاعر ، وسبيل الاتساع في طرق البيان ، قال : « وهذا الضرب من المجاز على جدته كنز من كنوز البلاغة ،ومادة الشاعر المفلق ، والكتاب البليغ في الإبداع والإحسان ، والاتساع في طرق البيان ، وأن يجيء بالكلام مطبوعا مصنوعا ، وأن يضعه بعيد المرام ، قريبا من الإفهام »(2) .
وليس ملزما لأحد ما ذهب بعضهم من أن المجاز العقلي من مباحث علم الكلام ، وأولى أن يضم إليه ، لأنه من كما اتضح من تفصيلات عبد القاهر ، وإشارات القزويني ، يعد كنزا من كنوز البلاغة ، وذخرا يعمد إليه الكاتب البليغ والشاعر المفلق والخطيب المصقع ، وليس أدل على ذلك من أن القدماء استعملوا في كلامهم ، وأن القرآن الكريم حفل بألوان شتى منه ، وأن البلاغيين والنقاد أشاروا إليه وذكروا أمثلته ، وإن لم يطلق عليه الإسم إلا موخرا على يد عبد القاهر . وهذا كله يدل على أن المجاز العقلي لون من ألوان التعبير ، وأسلوب من أساليب التفنن في القول ، ولا يخرجه من البلاغة إفساد المتأخرين له ، وإدخال مباحث المتكلمين فيه عند تعرضهم للفاعل الحقيقي(3) .
وقد كان سعد الدين التفتازاني ( ت : 791 هـ ) موضوعيا حينما رد القزويني لإدخاله المجاز العقلي في مباحث علام المعاني فقال : « لان علم المعاني إنما يبحث عن الأحوال المذكورة من حيث أنها يطابق بها اللفظ مقتضى الحال . وظاهر أن البحث في الحقيقة والمجاز العقليين ليس من
____________
(1) الزركشي ، البرهان : 2/ 256 .
(2) عبد القاهر ، دلائل الإعجاز : 295 تحقيق : محمود محمد شاكر .
(3) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 109 .

( 81 )

هذه الحيثية فلا يكون داخلا في علم المعاني . وإلا فالحقيقة والمجاز اللغويان أيضا من أحوال المسند إليه أو المسند »(1) .
وأما المجاز اللغوي فلا يختلف إثنان بأنه الأصل الموضوعي للمجاز ؛ ولما كان المجاز اللغوي ـ كما أسلفنا ـ ذا فرعين في التقسيم البلاغي ، لأن مجاله رحاب اللغة في مرونة الاستعمال ، وصلاحيتها في الانتقال من معنى مع وجود القرينة الدالة على المعنى الجديد لوجود المناسبة بينه وبينها ، وتوافر الصلة بين المعنى الأولي والمعنى الثانوي ، فأن كانت العلاقة المشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ؛ فهو الاستعارة . ولا حديث لنا معها إلا لماما لأن التفريق الدقيق يقتضي رصدها بمفردها ، لأنه حقيقة بذاتها ، فهي استعارة وكفى ، وإن لم يكن العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي هي المشابهة ؛ فهو المجاز المرسل ، وحديثنا عن المجاز اللغوي حديث عنه ، وحديثنا عن المجاز القرآني سيكون مقتصرا عليه وعلى المجاز العقلي . لأننا قد وجدنا القرآن بحق قد استوعب نوعي المجاز العقلي واللغوي لدى التنظير ، أو عندما تستخرج جواهرها من بحره المحيط .
وسنقف عند هذين النوعين وقفة الراصد المتأني ، بعد أن نعطي صورة واضحة بقدر المستطاع عن الخصائص الفنية في مجاز القرآن بعامة .


____________
(1) التفتازاني ، المطول : 54 .
( 82 )



( 83 )

الفصل الثالث

مجاز القرآن وخصائصه الفنية

1 ـ خصائص المجاز الفنية
2 ـ الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن
3 ـ الخصائص النفسية في مجاز القرآن
4 ـ الخصائص العقلية في مجاز القرآن



( 84 )



( 85 )

1 ـ خصائص المجاز الفنية

لاشك أن اللغة العربية الفصحى تتمتع بخصائص ومزايا بلاغية متعددة ، تتمثل بالمعاني تارة ، وإن حملنا المعاين على معاني النحو بخاصة ، وبالبيان العربي تارة أخرى ، ونريد به أركانه الكبرى كما سيأتي ، وبجرس الألفاظ ومصطلحات البديع والمحسنات لفظية ومعنوية أحيانا إلا أن علم البيان بأركانه الأربعة : المجاز ، التشبيه ، الاستعارة ، الكناية هو ملتقى هذه الخصائص ، وعماد تلك المزايا .
فالمجاز بقسمة : العقلي واللغوي . والتشبيه بأسسه : المشبه ، المشبه به ، وجه الشبه ، أداة التشبيه . والاستعارة بأصول الشبه الاستعاري : الحسيين ، العقليين ، الحسي في المشبه والعقلي في المشبه به ، وبالعكس ، مضافا الى أقسام الاستعارة ، التمثلية ، والتصريحة ، والمكنية والأصلية ، والتبعية ، . . . الخ .
والكناية بتعبيرها المهذب ، في أقسامها كافة ، كناية الصفة ، كناية الموصوف ، كناية النسبة ، وبأرتباطها الفني والبلاغي في كل من التعريض والرمز .
هذه المفردات والتوابع والفروع والأقسام والأصناف المتشبعة المتطاولة ، لو أردنا رطها واحد متميز ، ولو حاولنا حصرها بفن من الفنون لكان ذلك المجاز بل المجاز وحده ، إذ يصح إطلاقه ـ بإطاره العام ـ عليها ، كما هي الحال عند الرواد من الأعلام لذلك فالمجاز يحتل الصدارة في إطار هذه الفنون ، ويشكل الظل المكثف في أفياء هذه الخيمة البلاغية ، حتى ليصح لنا أن نسمي لغتنا العربية بلغة المجاز بالمعنى الذي أشار إليه المرحوم الأستاذ العقاد بقوله : « اللغة العربية لغة المجاز ،


( 86 )

لا لأنها تستعمل المجاز ، فكثير من اللغات تستعمل المجاز كما تستعمله اللغة العربية ، ولكن اللغة العربية تسمى لغة المجاز لأنها تجاوزت بتعبيرات المجاز حدود الصور المحسوسة الى المعاني المجردة ، فيستمع العربي الى التشبيه فلا يشغل ذهنه بأشكاله المحسوسة إلا ريثما ينتقل منها الى المقصود من معناه »(1) .
لذلك نميل الى أن اللغة العربية ـ دون سواها من لغات العالم ـ تتميز بخصائص بلاغية ، والبلاغة العربية ـ وهي الأصل في البلاغة العالمية دون تأثير إغريقي أو أجنبي ـ تتمتع بخصائص فنية ، والمجاز في صيغيته البيانية يحتضن كلا من الخصائص في اللغة والبلاغة معا ، لأن أصل البلاغة المجاز ، واللغة العربية لغة المجاز ، فصغروية المقارنة بكبرويتها أوصلت الى هذه النتيجة البديهية ضرورة كما هو تعبير المناطقة في استخلاص الحقائق وبرمجتها منطقيا في شؤون الاستدلال قياسيا أو بديهيا .
ولا غرابة في هذا الملحظ الاستقرائي لطبيعة الأشياء ، فالمجاز فن أصيل في لغة العرب ، له مقاييسه الفنية ، ومعاييره القولية عند العرب بخاصة ، لأنه يعنى بإرادة المعاني المختلفة ، وهم يميلون الى هذا الموروث الحضاري ، وهو يعنى أيضا بتقليب وجوه اللفظ الواحد لا في الأشياء والنظائر بل في المعاني الثانوية ، فينتقل باللفظ من وضعه الأصلي المحدد له مركزيا ، الى وضع جديد طارىء عليه تجدده العلاقات الفنية ، وهذا من أهم الخصائص التي يمتاز بها المجاز ويؤهله للتوسع في اللغة ، وذلك بإضافة المعاني الجديدة الى نفس اللغة بنفس الألفاظ مرتبطة بأصول بلاغية لا تخرجها عن دلالتها الأولى في جذورها اللغوية في أصل الوضع ، بل تضيفها اليها توسعا بإرادة المعاني الثانوية هذه ، ولا تكون هذه الإرادة إلا بمناسبة ، ولا المعاني المستحدثة إلا بقرينة ، وبذلك يتحدد الاستعمال المجازي وتحدد دلالته أيضا بضوابط أساسية تدفع عنه النبو والارتجال ، وتحفظه من الأغراب والابتعاد عن الذائقة الفطرية عند المتلقي ؛ فقد يكون القمر وجها ، والجبل وقارا ، والغصن اعتدالا ، والبان قواما ، ولكن لا
____________
(1) عباس محمود العقاد ، اللغة الشاعرة : 40 .
( 87 )

القمر يدا ، ولا الجبل وجها ، ولا الغصن عينا ، ولا البان فما ، مراعاة المناسبة ـ إذن ـ ووضوح القرينة ، مانعان من الخلط المرتجل ، وضابطان من المجاز المشوه .
لهذا كثر استعمال المجاز في لغة العرب شعرا ونثرا وصناعة من أجل توظيفه في شؤون الحياة الاجتماعية من جهة ، ومن أجل إضافة مخزون تراثي متطور الى لغتهم المتطورة من جهة أخرى فعمدوا الى المعاني الرائعة فنظموها في معلقاتهم قبل الإسلام ، ووقفوا عند الأغراض القيمة فصبوها بخطابتهم في الأسواق الأدبية الشهيرة ، فكان للمجاز أثره في الإبداع ، وللانتقال به الى المعاني الجديدة بادرته في التجديد اللغوي والبلاغي في فن القول ـ حتى عاد المجاز بحق معلما بارزا في تراثهم ، بل ظلا شاخصا في حياتهم الأدبية ، فهو عندهم معني بالثروة الاحتياطية للمعاني ، والثورة الاحترازية للألفاظ . فالمجاز على هذا بخصائثه الفنية ثروة لغوية ، وثورة فنية ، هذه الثروة وتلك الثورة فيهما إشاعة روح اليسر والمرونة والسماح لتجاوز حدود الحقيقة اللغوية الى ما يجاورها ويقاربها ، أو ما يضاف اليها إمعانا في الابتكار ، وصيانة للتراث من التدهور والضياع . ولقد كانت النقلة في خصائص المجاز الفنية ، نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ، وأوجز لفظا ، والألفاظ هي هي دلالتها الأولية .
هذه الحقائق متوافرة السمات في كلام العرب منذ عهد مبكر ، ومصنفات الأعلام في المعلقات والأمالي والمنتخبات والحماسة غنية بأصول هذا الفن وبشائره الأولى في عصر ما قبل الإسلام وصدر الإسلام والعصر الأموي في الصناعتين .
فإذا وقفنا عند هذا المعلم في القرآن العظيم وجدناه من خلاله : يشيع الحياة في الجماد ، والبهجة في الأحياء ، والحسن إلى الكائنات ، ويحدب أيضاً على سلامة الألفاظ في المؤدى ، وتهذيب العبارة في الخطاب ، وتنزيه الباري عن الأنداد ، وصيانة ذاته عن الجوارح ، وعلوه عن الحركة المجيء والانتقال والتشبيه .
وهنا يقترن الغرض الفني بالغرض الديني ، وذلك من خصائص التعبير المجازي في القرآن ، فغذا استدرجه تذوقاً نطقياً ، أو تجاوباً سمعياً ، علمت


( 88 )

مدى تعلقه بتهذيب المنطق ، وإصلاح الأداء فلا زلل في اللسان ، ولا فهاهة في النطق ، ولا خشونة في الألفاظ .
خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم تنطلق من مهمته الإبداعية ، ومن مهمته الإضافية للتراث ، ومن مهمته التهذيبية للنفس ، ومن مهمته التنزيهية للباري .. هذه المهمات وظائف أساسية في منظور المجاز القرآني ، وهو مؤشرات صلبة تحدد لنا تحرير الألفاظ ، وتوجيه المعاني في خصائص المجاز القرآني التي لمسناها في الأسلوب والنفس ، ومظاهر الاستدلال العقلي ، وعلى هذا فسنقف عند الخصائص الأسلوبية ، والنفسية ، والعقلية للمجاز القرآني فحسب ، فهي بعمومها تشكل المناخ الفني لخصائص هذا المجاز ، ذلك من تتبع مجالات الاستعمال في الأعم الأغلب من مجاز القرآن .
2 ـ الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن
خصائص المجاز اللغوية في القرآن الكريم ، فضلا عن كونها خصائص فنية من وجه ، ومؤشرات إعجازية من وجه آخر ، فهي بمفهوم غير اعتباطي خصائص أسلوبية متطورة للموروث اللغوي . في المجاز تدرك مركزيا أن اللفظ هو اللفظ ، لم يتغير ولم يتبدل حروفا وأصواتا وهيأة ، والمعنى لهذا اللفظ ذاته هو المعنى نفسه لم ينقص عنه شيئا ، إلا أنه قد ازداد معنى غير المعنى الاولي في دلالته الثانوية الجديدة حينما يراد به الاتساع الى الاستعمال المجازي ، وبتطور ذهني ، وتصور متبادر إليه ، من خلال السياق والإرادة والمغادرة المعنوية لأي لفظ من الألفاظ موقعة الى موقع أرق ، وحدث أكبر ، فهو في حالته المثبتة في معجمه الأجتماعي لم يتغير معناه الحقيقي في استعماله الحقيقي ، وإنما بقي على ماهو عليه ، وقد كانت القرينة الدالة على المعنى الإضافي هي الصارفة عن المعنى الأولي الى سواه في الاستعمال المجازي ، سواء أكانت القرينة حالية أم مقالية .
هذا التركيب الجديد في العبارة في الألفاظ المفردة في المجاز اللغوي وفي العلاقات بين الألفاظ في المجاز العقلي ، يستغين بها المتلقي


( 89 )

عن كل التراكيب المماثلة أو المخالفة في المعاني المرادة في البنية اللغوية ، فالإيجاز خصيصة أسلوبية في هذا الملحظ ، والتطوير خصيصة ثانية في هذا الأسلوب ، فلا حاجة الى إسناد جملي جديد يسد مسد التركيب المجازي في اللفظ المفرد الموضوع لأصل ويقل عنه تفريغا وتنويعا الى معان مبتكرة ، يستغنى بذكرها مفردة مجازية منها عن إنشاء آخر للدلالة على تلك المعاني .
وقد يقال : وما هذا الالتواء في اصطياد المعاني المستحدثة من ذوات الكلم وأنفس الألفاظ ، ولماذا لا نغير العبارة ونأتي بها على صيغتها في الأصل للدلالة على المعنى الأصل دون تجوز ومغادرة للدلالة المركزية في هذا اللفظ أو ذاك . وللإجابة عن هذه المقولة لا بد من التنويه بالحقائق المنهجية لمسيرة لغة القرآن العظيم ، وهي لغة غير جامدة ، تستمد معينها الثر مواصفات أكثر عمقا من سطحية التقول والأفتراض الذي قد يجانب الواقع اللغوي لطبيعة هذه اللغة الكريمة .
كان العرب بفطرتهم النقية أئمة بيان لا شك في هذا ، والبيان العربي ذو جذور معرفة في القدم والأصالة يتكون مجموعه من عشرات الآلاف من الألفاظ ، ولو كررت الألفاظ نفسها لكان الكلام واحدا ، والتفاوت في الجودة والامتياز متلاشيا ، وإذا كان الكلام واحدا والتفاوت بين أبعاده مفقودا ، لذهبت خصائص البيان الأسلوبية ، ولأصبحت حالته متفردة ، غير قابلة للتفاضل ، واذا تحقق هذا ، فقد فقدت البلاغة العربية موقعها ، والبيان العربي مميزاته ، وحينما يكون المنظور الى الفن القولي متساويا ، فما معنى الإعجاز البياني واللغوي والبلاغي في القرآن الكريم ، وما هي عائدية قوله تعالى في التحدي للبشرية جمعاء حينما يصرخ :
( وإن كنتم في ريب ممّا نزّلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين * )(1) .
هذا التحدي قائم منصلتا على الإعجاز في القرآن ويعني هذا عجز الكائنات البليغة عن الإتيان ولو بسورة واحدة من جنس هذا البيان ، وعدم
____________
(1) البقرة : 23 .