الاتيان من مثله دليل أصالة القانون البديهي بتفاوت درجات الكلام ومنازله ، فكان القرآن أعلاها دون ريب ، وكان معجزا بحق . ولو تساوى الكلام لانتهى الإعجاز ، ولما كان الإعجاز باقيا كان بالضرورة تفاوت الكلام ، وتفاوت الكلام إنما يتحقق بإيراد المعنى في طرق بيانية مختلفة وسبل هذه الطرق واضحة ، وركيزتها الأركان الأربعة : المجاز ، التشبيه ، الاستعارة ، الكناية ، والتشبيه والاستعارة جزءان من المجاز ، والكناية تعني المعاني الثانوية بل معنى المعنى بالضبط ، فأركان البلاغة الأربعة جميعا قائمة على المجاز بمعناه العام ، وهو المراد . إذن الدلالة المجازية في الألفاظ ، منحة إضافية تمثل مرونة اللغة في الانتقال ، وتطورها عند الاستعمال . وهذه الدلالة تقوم بعملية تصوير فني موحية ، بإضافة جملة من المعاني الجديدة التي تدعم الزخم اللغوي ، وتؤنق في عباراته دون تكلف أو تعسف ، أو اقتراض للمفردات من اللغات الأجنبية أو المجاورة ، لأنها تعود بذلك غنية عن أية استدانة معجمية من أية لغة عالمية أو إقليمية ، هذا التأنق في اختيار المعاني ، وهذا الأكتفاء في مفردات الألفاظ ، مما يتماشى مع مهمة البلاغة العربية في مطابقة الكلام لمقتضى الحال ، ومما يتلاءم مع الخصائص الأسلوبية للمجاز في رفد المخزون الدلالي للألفاظ . لهذا فقد كان سليما ما قرره في هذا المجال في صديقنا المفضال الدكتور عبد الله الصائغ من اعتباره المجاز « عبارة عن مغادرة المفردة لدلالتها المعجمية لتموين دلالة جديدة تسهم في الاتساع والتوكيد والادهاش »(1) .

***

والمجاز بعد هذا : هو حلقة الوصل بين الذات المعبرة وإراداتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا بعينه هو التطور اللغوي في اللغة الواحدة ذات المناخ العالمي في السيرورة والانتشار . وهما سمة لغة القرآن .
وهنا يجب أن لا يتطرق في انطباق مفهوم المجاز وحقيقته
____________
(1) عبد الإله الصائغ ، الصورة الفنية معيارا نقديا : 370 .
( 91 )

الاصطلاحية على صنوف التعبيرات اللغوية ، حتى وإن أريد بها معناها الأصل ، لأن ذلك مما يشوه حقيقة البيان ، ودلالته البلاغية ، ومما يحمّل الكلام كثيرا مما لا تحتمل طاقته التي تنهض به الى مستوى التعبير الأدبي ، فيعود ذلك تكلفا دون ضرورة اليه ، وتمحلا ، دون اتكاء البيان عليه ، والتمحل والتكلف وسواهما من التعسف أحيانا مما ترفضه سجية النصوص الأدبية الراقية لا سيما في القرآن العظيم .
إلا أن ظاهرة هذا التكلف شائعة بين النحاة من جهة ، وبين جملة من المفسرين من جهة أخرى ، وقد تكون بينهما معا إذا كان المفسر نحويا أو النحوي مفسرا ، وهذا مما يؤسف الوقوع فيه ، والتمسك به ، لأنه قد يتعارض بشكل وآخر مع الخصائص الأسلوبية لمجاز القرآن .
خذ مثلا قوله تعالى : ( وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم . . . )(1) فقد ذهب بعض الأستاذة المعاصرين : أنهم قالوا أن فيه إطلاق الكل على البعض ، والمراد تعجبك وجوههم ، لأن الأجسام لا ترى كلها ، وإنما يرى الوجه فحسب ، ولا أرى تأويلا أبعد من هذا التأويل عن روح الآية ، فالجسم وإن كان لا يرى كله ، فمن المستطاع أن يدرك الإنسان بنظرة ما عليه الجسم من جمال يبعث على الإعجاب ، وقد لا تريد الآية : تعجبك وجوههم ، ولكنها تريد يعجبك ما عليه أجسامهم من ضخامة ، وما يبدو فيها من مظاهر النماء والقوة ، وما عليه وجوههم من جمال ونضرة(2) .
هذه الملحوظة وما قاربها ، لا تخلو من وجه سديد فيما يبدو ، إذ لا معنى للتكلف المفرط الذي يخرج النص عن ذائقته الفطرية ، تصيدا لمعان قد لا تراد ، ووجوه لا تستحسن ، وعلاقات قد لا تستصوب .
وقد تنبه أستاذنا المرحوم الدكتور أحمد عبد الستار الجواري الى هذا المأخذ فعالجه وأشباهه معالجة فاحصة ، ونقده بأدب واتزان تامين ، فمس النحاة والمفسرين مسا رقيقا ، وعاتبهم عتابا جميلا ، وهو في معرض الحديث عن هذه البادرة مضافا الى الاستعمال القرآني الدقيق فقال : « ومن
____________
(1) المنافقون : 4 .
(2) أحمد أحمد بدوي : من بلاغة القرآن : 224 .

( 92 )

لطائف الاستعمال القرآني كثرة ورود المصدر وصفا إما على سبيل الإسناد خبرا ، أو على سبيل النعت أو الحال . قال تعالى في سورة الإسراء :
( نحن أعلم بما يستمعون به إذ يستمعون إليك وإذ هم نجوى )(1) .
وقال تعالى في سورة الكهف :
( فعسى ربّي أن يؤتين خيرا من جنّتك ويرسل عليها حسبانا من السّماء فبصبح صعيدا زلقا * أو يصبح ماؤُها غورا فلن تستطيع له طلبا * )(2) .
والمصدر في الآية الأولى خبر المبتدأ ، وهم يزعمون أن اسم المعنى لا يخبر به عن اسم الذات فتأمل . وفي الآية الثانية خبر الفعل الناسخ .
وقال تعالى في مورة الفرقان :
( وعباد الرّحمن الّذين يمشون على الأرض هونا )(3) يقول الزمخشري : « هونا حال أو صفة للمشي ، . . . إلا ان وضع المصدر موضع الصفة مبالغة »(4) .
ويعقب المرحوم الدكتور الجواري على هذه الظاهرة بقوله : « وهذا ديدن النحاة إذ أنهم يجنحون إما الى التأويل بتقدير مضاف حتى يكون هو المصدر صالحا لوصف اسم الذات أو الإخبار عنه ، وإما الى تفسيره على صورة المبالغة والمجاز . على أن شيوع هذا الاستعمال ووفرته يشعران بأن التأويل والتقدير وصرف المعنى الى المجاز والمبالغة أمور لا ضرورة لها ولا سبب ، بل أنها قد تخرج العبارة عن المعنى الذي قصدت إليه »(5) .
وقد يقترن الاستعمال الحقيقي بالتعبير المجازي في القرآن ، لتأكيد حقيقة كبرى ، وتصوير معلم بارز من معالم الأحداث المهمة ، يشكل من خلالهما القرآن خصائص أسلوبية مميزة في العرض والأداء والتعبير ، حتى
____________
(1) الإسراء : 47 .
(2) الكهف : 40 ـ 41 .
(3) الفرقان : 63 .
(4) الزمخشري ، الكشاف 3 : 103 .
(5) أحمد عبد الستار الجواري ، نحو القرآن : 69 ـ 70 .

( 93 )

تعود تلك الخصائص ظاهرة لغوية معينة يؤكدها أسلوب القرآن المرة بعد الأخرى ، وتمثلها في كتاب الله تعالى عند الآية ، هذه الخصائص تتجسد بأبرز مظاهرها الفنية في إسناد الحدث الى غير فاعله ، وتحاشي ذكر المسبب في إيجاده ، وكان القرآن في هذا وذاك يريد التوجه الجدي الحثيث منصبا الى الحدث ذاته ، والتفكير منحصرا في أبعاده دون النظر في الفاعل والمبدع له ، أنى كانت نوعيته وكيفيته ، وهذا ما حدب على تصويره القرآن في مظهرين عظيمين حينما يتحدث عن يوم القيامة مثلا . المظهر الأدل في مجاله ، الحقيقي وتعبيره الأستعمالي الأصل :
1 ـ يتحدث النص القرآني عن أحداث الساعة ، والتزلزل الكوني في العالم عندها ، والتغيير المفاجىء لمعالم الدنيا البصرية والحسية ، فتجيء صفة الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول في عشرات الأيات بل مئاتها من القرآن ، ولنقف عند سورة التكوير :
( إذا الشّمسُ كوّرتْ * وإذا النُّجوم انكدرتْ * وإذا الجبال سيّرت * وأذا العشار عطلّت * وإذا الوحوش حشرت * وإذا البحار سجّرت * وإذا النّفوس زوّجت * وإذا الموءودة سئِلت * بأيّ ذنب قتلت * وإذا الصّحف نشرت * وإذا السّماء كشطت * وإذا الجحيم سعّرت * وإذا الجنّة أُزلفت * علمت نفس مّا أحضرت * )(1) .
وباستقراء هذه الآيات الاربع عشرة ، نجد منها اثنتي عشرة أية قد بنيت أفعالها للمجهول ، وطوي ذكر الفاعلى فيها وهي :
كورت ، سيرت ، عطلت ، حشرت ، سجرت ، زوجت ، سئلت ، قتلت ، نشرت ، كشطت ، سعرت ، أزلفت .
والقارىء للقرآن يدرك بالفطرة المودعة لديه ، أن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى بقدرته ، أو بأمره ، أو بإرادته ، أو بتوجيهه لملائكته في تنفيذ ذلك ، فصدوره عنه لا شك في ذلك لأنه الجامع بين هذه الأشتات ، والمنظم لهذه المتفرقات ، أوجدها وسخرها وأنطقها ورتبها ، ولكن
____________
التكوير : ا ـ 14 .
( 94 )

الخصائص الأسلوبية لهذا النص لا تتعلق بمحدث هذه الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة نحو الحدث ، ولفت الأنظار حوله ، والعناية به . لتكون العبرة أشد ، واليقظة أعظم .
2 ـ وفي التعبير المجازي قد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهر ، وكأن الفعل متلبس بالفاعل ، وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل إليه ففعله ، وإن يكن لهذا الفاعل حول أو طول ، أو ليس من شأنه ذلك بل المحدث غيره في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( أقتربت السّاعة وأنشق القمر * )(1) .
ب ـ ( يوم تمور السّماء مورا * وتسير الجبال سيّرا * )(2) .
ج ـ ( اذا السّماء انفطرت * وإذا الكواكب انتثرت * )(3) .
د ـ ( فارتقب يوم تأتي السّماء بدخان مّبين * )(4) .
وواضح أن الساعة لا تقترب تلقائيا ، وأن القمر لا ينشق ذاتيا ، وأن الساء لا تمور إراديا ، وأن الجبال لا تسير اختياريا ، وأن السماء أيضا لا تنفطر من نفسها ، وأن الكواكب لا تنتثر بحالها ، وأن السماء لا تأتي بدخان مبين بإرادتها . وأنما أضيف لها الفعل لتضخيم الحدث ، وليتجه التفكير نحوه ، فالفاعل الحقيقي هو غير ما أسند إليه الفعل وتأتي ، فالساعة تقترب حتما ، والقمر ينشق قطعا ، والسماء تمور وتنفطر وتأتي بالدخان مسخرة ، والجبال تسير لا شك في هذا ، والكواكب تنتثر من تلقاء نفسها ، ولا يحتاج كل هذا الى كبير أمر ، فقد سخرها ربها لتلقي الحدث فهي صاحبته في مناخ قاهر لا عهد لها به ، فتتطوع بهذه الأفعال بذاتيتها دون التلويح الى الفاعل الحقيقي .
ومما يؤسف له حقا أن ينشغل أكثر المفسرين عن هذا الملحظ
____________
(1) القمر : 1 .
(2) الطور : 9 ـ 10 .
(3) الانفطار : 1 ـ 2 .
(4) الدخان : 10 .

( 95 )

الدقيق ، وهذه الظاهرة الأسلوبية النموذجية الى الخوض في تفصيلات الفاعل ، وتأويل صدور الفعل عنه .
تقول الدكتورة عائشة عبدالرحمن ، ونحن نوافقها في هذا العرض ، لأنه من صميم منهجنا البياني :
« وقد شغل أكثر المفسرين والبلاغيين بتأويل الفاعر ، عن الالتفات الى اضطراد هذه الظاهرة الأسلوبية في هذا الموقف ، مع وضوحها الى درجة العمد والإصرار : وسرّها البياني دقيق جليل : فاطراد إسناد الحدث الى غير محدثة ، بالبناء للمجهول ، أو الإسناد المجازي ، أو المطاوعة ، يدل على التلقائية التي يكون بها الكون كله مهيئا للحدث الخطير ، وأن الكائنات مسخرة بقوة لدلك الحدث ، فما تحتاج فيها الى امر ، ولا الى فاعل . . . وفيه كذلك ، تركيز الانتباه في الحدث ذاته ، وحصر الوعي فيه ، فلا يتوزع في غيره »(1) .
3 ـ وإذا جئنا الى الاتساع اللغوي في مجاز القرآن وجدنا ظاهرة أسلوبية شامخة ، وفصل المجاز اللغوي في القرآن يؤكد هذه الظاهرة بجميع أبعادها في التجوز والاتساع والمرونة ، وفيه غنية عن الإفاضة في هذا المدرك لأنه حافل بدلائل سلامة اللفظ اللغوي ، وسيرورته في المعاني الجديدة التي لا تعامل الأصل باعتباره منسوخا أو مستغنيا عنه ، بل هو هو وهو مضاف إليه هذا الاتساع .
تأمل في هوله تعالى : ( والله محيط بالكافرين )(2) فإنك ستجد بيسر وسهولة كلمة « محيط » غير متخلية عن المعنى الأصل ، ولكنها على الصعيد المجازي ، تحمل دلالة بارزة جديدة ، تتعدى معنى الإحاطة التقليدية ، التي اعتاد السامع إدراكها مركزيا من اللفظ ، فليست إحاطته تعالى ههنا إحاطة مكانية ، أو طلية ، أو جسمية ، كإحاطة القلادة بالجيد ، أو السوار بالمعصم ، أو الخاتم بالبنان ، وإنما هي إحاطة مجازية مطلقة عن حدود الإحاطات المتعارفة ، وبديهي أن يراد بها إحاطة ذي القوة بمن ليس له
____________
(1) بنت الشاطىء ، التفسير البياني : 1/85 .
(2) البقرة : 19 .

( 96 )

قوة ، وذي الحول بمن لا حول له ، وكإحاطة ذي الشأن بمن لا يدانيه سيطرة وإعدادا ، إذ لا يمكن أن تفسر هذه الإحاطة بالمكان ، وإن استوعبت حدود كل مكان ، لأن الله تعالى فوق حدود المكان ، وإذا كان الأمر كذلك ، ويبدوا أنه كذلك ، فلا بد من رصد هذه الظاهرة بهذا المدرك الاتساعي في التجوز باللفظ ذاته ، وحمله على المعنى الذي أشار اليه الزمخشري ( ت : 538 هـ ) في قوله : « والمعنى أنهم لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به حقيقة »(1) .
إن الذائقة الفنية في مثل هذه الظواهر تمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن ، إذ تجدد القدرة الخارقة في كل نموذج آنف على استيحاء التلازم الذهني بين الأصل الحقيقي والفرع الاستعمالي لمناسبة ما في تنقله من معنى أولي الى معنى ثانوي ، وهو يهز المشاعر حينا ، ويصون التراث حينا آخر ، ويحدث ذلك عادة في وقت واحد وبتفكير جملي متحد . وهذا من خصائص الأسلوب المجازي في القرآن .
3 ـ الخصائص النفسية في مجاز القرآن
ليس أمرا سهلا ، أن يساير النص الأدبي النفس الإنسانية ، وليس هينا أن تتطلب النفس أيضا نصا أدبيا ، فالنفس جموح لا تهدأ ، وغروف لا تكبح ، وشرود لا يسيطر عليها نص اعتيادي ، أو فن قولي ، دون أن تتمثل به أرقى مميزات الانجذاب التلقائي ، والبعد النفساني المتوازن ، فتقبل عليه النفس اشتياقا أو إيناسا ، وتعزب عن سواه نفورا أو إيحاشا .
النص وجودته وحدهما يهيئان المناخ المناسب في النفس الإنسانية إقبالا على النص أو عزوفا عنه . ومن ثم فالمجاز القرآني وهو ينقل اللفظ من صورة الى صورة أخرى على النحو الذي يريده المصور ، فإن أراد منهها في صيغتها الحقيقية . فأنت تستطيع في المجاز تكييف النص الأدبي نحو المعنى المراد ، دون توقف لغوي أو معارضة من دلالة اللفظ
____________
(1) الزمخشري ، الكشاف 1 : 85 .
( 97 )

المركزي ، وذلك بحسب ما تريده من إثارة النفس ، أو إلهاب العاطفة ، أو إذكاء الشعور في حالتي الترغيب والتنفير ، وهما حالتان متعلقتان بالحس العاطفي لدى الإنسان ، وناظرتان الى الانفعالات الوجدانية في النفس الإنسانية .
أ ـ في توجيه النفس نحو الترغيب تقف على « قاصرات الطرف » في حكايتها المجازية من قوله تعالى :
( وعندهم قاصرات الطرف عين * كأنّهن بيض مكنون * )(1) . والحدث حقيقي الوقوع بأبعاده التصويرية المتأنقة ، ولكنك ترى ما في الوصف ، والتعبير عن النساء بقاصرات الطرف وليس في طرفهن قصور ، من التراصف البياني المرتبط بإثارة النفس للتعلق بمن تنطبق عليه هذه العبارة ، أو تتحقق فيه هذه الأوصاف التي تطمئن اليها الروح الإنسانية وتهش لها الذات البشرية ، ويتطلع اليها الخيال متشوقا مع نقاء الصورة ، ولطف الاستدراج ورقة الترغيب المتناهي ، فقد وصف نساء أهل الجنة بحسن العيون الناظرة الى أزواجها فحسب عفة وخفرا وطهارة ، دون التردد في النظر الى هذا وذاك ، وأضاف الى هذا الملحظ التشبيه الحسي بالبيض المكنون على عادة العرب في وصف من اشتد حجابه ، وتزايد ستره ، بأنه في كن عن التبرج ومنعة من الاستهتار .
ب ـ وأما في التنفير ، فتزداد النفس عزوفا ، وتتوارى عن الصورة المتخيلة أو المتجسدة نفورا ، حتى يبدوا الإشمئزاز منها واضحا ، والاستهانة يوخامتها متوقعا فضلا عن الهلع والرعب في صورة الهلع والرعب ، والخوف والتطير في نموذج الخوف والتطير إذا حققت هذا أو ذاك الصورة الشديدة في التنظير المجازي ، وإن شئت فضع يدك على الدلالة المجازية في إرسال الريح العقيم على عاد وهي ( ما تذر من شيء أتت عليه ) من قوله تعالى : (وفي عاد إذ ارسلنا عليهم الريح العقيم * ما تذر من شيء أتت عليه إلاّ جعلته كالرميم * )(2) .
سترى كيف ازدادت عندك الحالة المتصورة سوءا ، وكيف نفر منها
____________
(1) الصافات : 48 ـ 49 .
(2) الذاريات : 41 ـ 42 .

( 98 )

طبعك فرارا ، فما هو شأن هذه الريح المشومة التي أسند إليها التدمير التام ( ما تذر ) وأسندت إليها الفاعلية في يسر ومطاوعة ( أتت ) حتى جاءت بعذاب الاستئصال . فما هي خصائص هذه الريح بهذه المطاوعة في التسخير للهلاك العام حتى عاد كل شيء ( أتت عليه ) كالورق الجاف المتحطم ، نظرا لشدة عصفها ، وسرعة تطايرها ، وخفة مرورها .
وحديث النفس في مجاز القرآن ذو سيرورة وانتشار حتى عاد جزءا قويما من خصائصه الفنية دون ريب ، وهو يتجلى في عدة مظاهر تقويمية يمكن الإشارة إليها بما يلي :
1 ـ في نماذج المجاز القرآني نجد دلالة ذات أهمية مشتركة بيانية ونفسية في آن واحد ، يعبر في هذه الدلالة عن علاقة اللغة بالفكر ، والفكر بالعاطفة ، والعاطفة بالنفس .
وفي هذا الخصوص كثيرا ما يفجؤك المجاز القرآني وقد تعدى حدود اللغة الى النفس ، ومناخ الاتساع الى الخيال ، فهو طالما تجده يسند الاحساس الى الجماد ، فيصفه بالفاعلية ، لتتوجه النفس اليه وينحصر الحدث به وكأنه فاعله ، ويريك الحركة وهي دائبة في العوالم الصماء ، فكأنها ناطقة تتكلم ، فيصك بذلك أسماعا غير واعية ، وآذانا غير صاغية ويضفي ملامح القوة على ما لا قوة فيه ، وكأنه رائد متمكن . وليس هذا وذاك إلا من مظاهر الخصائص النفسية في الاسلوب الذي يحرك الضمائر حينا ويهز المشاعر حينا آخر ، ويبعث الخواطر سواهما ، ولعله يريد بذلك أن يفجر روافد جديدة ذات إطار تجريبي في محاكاة غير المحسوس للمحسوس ، ومماثلة الإدراك في غير المدرك كما هو في المدركات ، لأن في ذلك انتقالا في الصورة الى داخل النفوس وواقع الخبايا في النفس المعتبرة بما تضفيه المجازات القرآنية من أبعاد جديدة ، ولعل خير مايمثل هذا الاتجاه الحيوي التأمل في كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وضرب الله مثلا قرية كانت ءامنة مّطمئنّة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان . . . )(1) .
____________
(1) النحل : 112 .
( 99 )

ففي هذا الأنموذج الأعلى عدة استعمالات مجازية تدور حول هذا الفلك من البيان العربي الصميم ، ومهمته إذكاء الحفيظة في النفس لتلافي التقصير المتعمد في ذات الله ، فقد وصف القرية بكونها آمنة مطمئنة ، وقد علم بالضرورة أن الأمن والاطمئنان لا تتصف بهما مرافق القرية وجدرانها ، وإنما يتنعم بهما أهلها وسكانها ، فعبر مجازا عن طريق إطلاق أسم المحل وهو القرية على الحال فيها وهم الأهل والسكان .
وعبر عن الرزق بأنه يأتي والرزق ليست له حركة ولا إرادة في التنقل والقصد ، وإنما الله تعالى هو الذي يسخر من يجلب الأرزاق ، ويأتي بها ـ وهو الرزاق ذو القوة المتين ـ من كل مكان الى هذه القرية ، تعبيرا عن تنعمها وعيشها الرغيد ، وذلك ما تهش إليه النفس ، فكان الرزق دون عناء يقصدها سائرا عامدا متوافرا .
وهذا الوصف لهذا الهناء لا يمانع من الوعيد في إفنائه واستبداله بالعناء ، فكلاهما من الصور النفسية :
ب ـ ( مثل الّذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدّت به الرّيح في يوم عاصف . . . )(1) .
فستقف عند حقيقتين مجازيتين يرتبطان بشد النفس إليهما والوقوف بتأمل ويقظة وحذر عندهما :
الأولى : إسناد الاشتداد الى الريح ، لتهيئة المناخ النفسي لتلقي هذه الصورة ، وحصر التفكير في كيفية هذه الريح ونوعيتها ، فهي فاعلة متحركة ، دائبة ، متموجة ، طاغية ، مطاوعة ، وليس للريح حول ولا طول في الملحظ التكويني ، فلا هي مشتدة حقيقة ولا هي جارية واقعا ، وإسناد هذا وذاك إليها كان بسبيل من المجاز ، لأن تسخيرها بالله وحده ، فلا إرادة للريح ولا طواعية ، والمجاز هو الذي طوع هذه الحقيقة اللغوية ، فأعارها مناخا جديدا ، وكأن الريح قائمة ، والجري على أشده ، والحركة ذاتية .
الثانية : إسناد الفاعلية والصفة الثبوتية للزمان لمشابهته الفاعل
____________
(1) إبراهيم : 18 .
( 100 )

الحقيقي ، فقد أسند عصف الريح الى اليوم ، وهو دال على زمان من الأزمان ، ولا تستند إليه الفاعلية حقيقة إلا على نحو المجاز ، وهو كذلك ، وهذا أيضا مما نظر فيه الى النفس ليخلص اتجاهها في تصور شدة ذلك اليوم ، وعصف ذلك اليوم ، وحديث ذلك اليوم ، دون التفكير في الهوامش والجوانب الفائضة ، فكأن المراد هو اليوم فنسب إليه العصف ، فأقام اليوم مقام المضاف المذوف في التقدير اللغوي الأصل ، فهو يوم ذو عصف إن صح ما تأولوه .
وقد يكون هذا الإدارك على سبيل التعبير عن شدة الأمر ، وقيام العصف على أشده في ذلك اليوم ، مما يهم الإنسان ، فارتبط الحدث به نفسيا ، فأسند إليه الفعل كما هي الحال في هوله تعالى :
( فكيف تتّقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا * )(1) .
يقول الدكتور أحمد بدوي معلّلا هذه النسبة نفسيا :
« ولما كان يوم القيامة تملؤه أحداث مرعبة ، تملأ النفوس هولا يتسبب عنها لشدتها الشيب ، وكان هذا اليوم ظرفا لتلك الأحداث ، صح أن يسند الشيب إليه »(2) .
2 ـ وإذ يوصلنا الى يوم القيامة ، فإن التعبير المجازي عن هذا اليوم يزداد جلاء ، فيعكس الحدث مقترنا بذلك اليوم ، ومنسوبا الى عوالمه الصامتة ، وإذا بها ناطقة تتكلم ، ومفصحة تعرب عما في الدخائل ، ويتجلى هذا في كل من قوله تعالى :
( يومئذ تحدّث أخبارها * )(3) .
والضمير عائد الى متقدم لفظا ورتبة كما يقول النحاة ، وتقدير الكلام عندهم : تحدث الأرض أخبارها ، والحقيقة اللغوية أن يتحدث ذو النطق بألته ، وذو اللسان بأداته ، لا الجماد بعجمته ، فهل هو تمثيل يعني : أن ما
____________
(1) المزمل : 17 .
(2) أحمد أحمد بدوي ، من بلاغة القرآن : 223 .
(3) الزلزلة : 4 .

( 101 )

يحدث في ذلك اليوم ، وما يجري فيه من الشدائد الهائلة ، والشدائد تثير الهلع في النفس ، والمنظور هنا نفساني لا شك ، والتغيير الكوني يؤكد الاهتمام المتزايد لدى الإنسان ، بعد زلزلة الأرض ، وإخراج الأثقال ، وذهول الإنسان لتلك الأحداث الجديدة ، فهو يتسائل في حيرة وعجب واستغراب : ( وقال الأنسان ما لها * )(1) فإذا أضفنا إليها السماوات بعوالمها ، والأرض بكل مواقعها :
( يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات وبرزوا لله الواحد القهار ) هذه الكائنات كلها ناطقة بجمهرة من الأحداث ، فهي تتحدث عنها ، وتفصح عن أهوالها ، كما يقال : رزء يعبّر عن كارثة ، وخطب ينبي عن شدة ، وليس الرزء معبرا حقيقة ، ولا الخطب بمنبىء .
هذا المدرك المجازي يميل إليه الزمخشري بقوله : « والتحديث مجاز عن أحداث الله تعالى فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان »(2) . وهو الذي تميل إليه الدكتورة بنت الشاطىء :
« والذي نكمئن إليه ، هو أن تحدث الأرض على الإسناد المجازي ، فيه تقرير لفاعلية تستغني بها عن فاعل ، وتأكيد للظاهرة الأسلوبية المضطردة في حرف النظر عمدا عن الفاعل الأصلي لأحداث البعث والقيامة . ثم لا يغيب عنا ما لهذا الصنيع البياني من قوة إثارة وإيحاء ، فنحن نشهد صورة فنية معبرة ، فنقول في إعجاب : إنها تكاد نتطق ، والبيان القرآني المعجز لا ينطق الجماد فحسب ، بل يجرد منه كذلك شخصية حية ، فاعلة ناطقة مريدة مدركة »(3) .
ب ـ إن ما سبق لنا القول فيه تؤكده أحداث القيامة ، من قول كما في قوله تعالى : ( يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مّزيد * )(4) .
أو فعل وقوة كقوله تعالى : ( إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقا وهي تفور *
____________
(1) الزلزلة : 3 .
(2) الزمخشري : الكشاف : 4 / 276 .
(3) بنت الشاطىء ، التفسير البياني : 1/ 92 وما بعدها .
(4) ق : 30 .

( 102 )

تكاد تميّز من الغيظ * . . . )(1) ، أو شدة ناطقة فاعلة كقوله تعالى :
( يا أيها الناس أتّقوا ربّكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم * يوم ترونها تذهل كل مرضعة عمّا أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكنّ عذاب الله شديد * . . . )(2) وليست جهنم كائنا متكلما فتقول ، وتستمع وتجيب ، وإن كان ذلك غير بعيد إعجازا .
وليست النار جسما مريدا وفاعلا فنستمع لشهيقها أو هي تفور ، أو تتميز من الغيظ .
وليس في القيامة إرضاع حتى تذهل المرضعة عن رضيعها ، وليس هنالك وضع وولادة وإنجاب ، حتى تضع كل ذلت حمل حملها .
إن التعبير بالمجاز بمعناه العام هو الذي صور هذه الأحداث بهذه الصور المثيرة ، وأبانها بهذه الهيأة الناطقة ، وسيّرها بهذه الإرادة التامة تنبيها للضمائر ، وتوجيها للعقول ، وتأثيرا على النفوس حتى تستعد لذلك اليوم الذي تنطق فيه جهنم ، وتفور فيه النار حتى يسمع شهيقها ، وحتى لتكاد تتقد من الغيظ وتنشق ، ذلك اليوم الذي لو أرضعت فيه المرضعة لذهلب عن رضيعها ، ولو توافرت فيه ذوات الأحمال لوضع أحمالها .
إذن هذه خصائص نفسية يحملها المجاز القرآني ونحتضنها تعبيره الفريد من أجل الإنسان . دربة منه على الحذر والاستعداد والتهيؤ التام .
جـ ـ وما يقال في ملحظ النطق والقول والقوة بالنسبة للنار يقال عينه بالنسبة للإيحاء الى الأرض في قوله تعالى : ( بأنّ ربّك أوحى لها * )(3) .
والقضية تصور في مدرك عقلي محض ، فالوحي الإلهي هو الفعل الذي يكشف به الله للإنسان عن الحقائق التي تجاوز نطاق عقله(4) .
____________
(1) الملك : 7 ـ 8 .
(2) الحج : 1 ـ 2 .
(3) الزلزلة : 5 .
(4) ظ : د . جميل صليبا ، المعجم الفلسفي : 2/570 .

( 103 )

وإذا كان الوحي فعلا متميزا ، فهو صادر عن فاعل مريد ، وهذا الفاعل المريد هو الله تعالى ، الى متلق ممتثل ، فتعلقه في الأرض إذن تعلّق مجازي ، إذ طريق الوحي هو التلقي ، والأرض غير قابلة للتلقي . لهذا فالإيحاء في الآية عند الزمخشري مجاز لا يستثني بهذا شيئا قال :
« أوحى لها بمعنى أوحى إليها ، وهو مجاز كقوله تعالى : ( أن نقول له كن فيكون ) وكقول الشاعر : أوحى لها القرار فاستقرت(1) .
وأصل الوحي هو : الإشارة السريعة على سبيل الرمز والتعريض وما مجرى الإيماء والتنبيه على الشيء من غير أن يفصح به(2) .
وقد يكون أصل الوحي في اللغة كلها الإعلام في خفاء(3) . ومؤدى ذلك واحد ، إذ الإشارة السريعة إعلام عن طريق الرمز ، والرمز إيماء يستفيد منه المتلقي أمرا إعلاميا قد يخفى على الآخرين(4) .
ولهذا فقد كان الراغب دقيقا حينما عرض لمصطلح الوحي وقسمه فيما تنبه اليه بين القابل له والمستعصي عليه ، إلا أن يكون ذلك تسخيرا من قبل الله تعالى ، فقال : « فإن كان الموحى إليه حيا فهو إلهام ، وإن كان جمادا فهو تسخير »(5) .
لهذا فقد ذهب الطبرسي ( ت : 548 هـ ) الى أن أوحى لها : أي ألهمها وعرفها بأن تحدث أخبارها . . من جهة تخفى(6) .
والسياق إنما يقوم على قوة هذه الفاعلية في تصوير هول الموقف الذي يدهش له الإنسان فيقول في عجب وقلق ما لها ؟ فاقتضى أن يأتيه
____________
(1) ظ : الزمخشري ، الكشاف : 4/276 .
(2) قارن بين ذلك في : الراغب ، المفردات : 515 . الطبرسي ، مجمع البيان : 5/37 .
(3) ظ : ابن منظور ، لسان العرب 20/258 .
(4) ظ : المؤلف ، ظاهرة الوحي والمستشرقون . « بحث » في كتاب : ( المستشرقون وموقفهم من التراث العربي الإسلامي ) وقائع المؤتمر العلمي الأول لكلية الفقه : مطبعة القضاء ، النجف ، 1986 م .
(5) الراغب ، المفردات : 515 .
(6) ظ : الطبرسي ، مجمع البيان : 5/526 .