الرجل المؤمن أو العبد المؤمن ، ولما كانت الرقبة جزءا من هذا الكل ، وكان الاستعمال جاريا على هذا السنن في القرآن وعند العرب ، وذلك بدلالة الرقبة على النسمة ، كان ذلك مجازا لهذه العلاقة .
وفي قوله تعالى : ( واضربوا منهم كلّ بنان )(1) فإن المراد ضرب الأيدي بما فيها البنان والرسغ والمعصم ، ولما كان البنان جزءا منها عبر به للدلالة عليها بهذه العلاقة .
وأمثال هذا كثير في التعبير القرآني ، وهو باب متسع فيه .
2 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( يجعلون أصابعهم في ءاذانهم من )(2)
ب ـ ( والسّارق والسّارقة فاقطعوا أيديهما )(3)
نلمس مجازا مرسلا ، ولو تأملت فيه لوجدت علاقته عكسية بالنسبة للنماذج السابقة ، لأن المراد بجعل الأصابع ، هو وضع الأنامل في الآذان ، وهو القدر الذي تستوعبه ، وهي جزء من كلي الأصابع .
والمراد بالأيدي جزءا منها لا كليّها ، لأن حدود القطع معروفة ومحددة عند الفقهاء ، ولا تشمل كلي الأيدي ، بل المقصود جزءا من هذه العلاقة كانت ( أصابعهم ) و ( أيديهما ) من الآيتين الكريمتين ، على سبيل من المجاز اللغوي المرسل ، وذلك بإطلاق اسم الكل على الجزء ، وإرادة الجزء ذاته فحسب .
3 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم )(4)
ب ـ ( وجزاؤا سيّئةٍ سيئةٌ مثلها )(5)
____________
(1) الأنفال : 12 .
(2) البقرة : 19 .
(3) المائدة : 38 .
(4) البقرة : 194 .
(5) الشورى : 40 .

( 158 )

ج ـ ( ونبلوا أخباركم )(1)
نقف على حدود مجاز لغوي مرسل على الوجه الآتي :
ففي الآية (أ) أطلق الاعتداء على الجزاء ، وواضح أن الاعتداء الثاني في الآية غير الاعتداء الأول ، لأن الاعتداء الأول جرم ، والثاني جزاء ، وفرق بين الجرم والجزاء ، فلا يراد به الاعتداء حقيقة بالمعنى الأول ، بل المراد المجازاة فقط ، إذ لا يأمر الله بالاعتداء قطعا ، وإنما سمي كذلك لأنه مسبب عن الاعتداء الحقيقي ، فكان التعبير عنه بالاعتداء مجازا لأنه حصل بسبب الاعتداء وإن كان جزاء في واقعه .
قال القزويني ( ت : 739 هـ ) « وإنما سمي جزاء الاعتداء اعتداءً لأنه مسبب عن الاعتداء »(2) .
في الآية (ب) عبّر سبحانه عن الاقتصاص بلفظ السيئة ، والسيئة الثانية في الآية غير السيئة الأولى ، لأن السيئة الأولى ذنب والسيئة الثانية مقاصة ، وفرق بين الذنب والاقتصاص ، إذن فليس الاقتصاص سيئة ، ولكنه مسبب عنها ، فسمي باسمها ، وهذا المعنى هو المعني بقولهم : تسمية المسبب باسم السبب ، وذلك بأن يطلق لفظ السبب ويراد به المسبب كما في الآية (جـ) إذ أطلق تجوزا اسم البلاء على العرفان ، وليس البلاء عرفانا ، ولكنه مسبب عنه ، فكأنه تعالى قد أراد : ونعرف أخباركم ، لأن البلاء الاختبار ، وفي الاختبار حصول العرفان ، فعبر رأسا عن العرفان بالبلاء كما هو ظاهر في الاستعمال عند العرب ، فإنهم يقولون : رعينا الغيث ، والغيث هو المطر ، والمطر لا يرعى ، ومرادهم النبات والأعشاب لأنه سببهما الغيث .
ويحمل على هذا قول عمرو بن كلثوم في معلقته(3) .

ألا لا يجهـلـن أحـد عليـنـا * فنجهـل فـوق جهـل الجاهلينـا

____________
(1) محمد : 31 .
(2) القزويني ، الإيضاح في علوم البلاغة : 400 تحقيق الخفاجي .
(3) ظ : الزوزني ، شرح المعلقات السبع : 178 .

( 159 )

فالجهل الأول جار على وجهه الحقيقي ، والجهل الثاني محمول على الوجه المجازي ، لأنه ناجم عن الجهل الأول ، فعبر بالجهل مجازا عن مقابلة الجهل وصدّه ، وليس صدّ الجهل جهلا بل هو مكافأة له .
وكذلك الحال فيما حمل عليه قوله تعالى : ( ومكروا ومكر الله )(1) من الاستعمال المجازي ، إذا أريد به العقوبة ، لأن المكر سببها ، وقيل : « ويحتمل أن يكون مكر الله حقيقة ، لأن المكر هو التدبير فيما يضر الخصم ، وهذا محقق من الله تعالى ، باستدارجه إياهم بنعمه مع ما أعدّ لهم من نقمة »(2) .
4 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وينزل لكم من السّماء رزقا )(3)
ب ـ ( إنّ الّذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنّما يأكلون في بطونهم نارا )(4)
ج ـ ( وكم من قرية أهلكناها فجآءها بأسنا بياتا أو هم قآئلون * )(5)
نرصد مجازا لغويا مرسلا ، أريد به عكس ما أريد في النوع السابق في علاقته ، وهو المعني بقولهم : تسمية السبب باسم المسبب ، وذلك بأن يطلق لفظ المسبب ويراد به السبب بالذات .
ففي الآية (أ) أطلق لفظ الرزق على الغيث أو المطر تجوزا ، لأن الرزق لا ينزل من السماء بهيئته وكيفيته المركزية المتبادرة الى الذهن ، وإنما ينزل الله المطر ، ولما كان المطر سببا في الرزق عبر عنه سبحانه بالرزق باعتبار السببية .
وفي الآية (ب) عبر سبحانه عن أكل المال الحرام بأكل النار ،
____________
(1) آل عمران : 54 .
(2) القزويني ، الإيضاح : 400 تحقيق الخفاجي .
(3) غافر : 13 .
(4) النساء : 10 .
(5) الأعراف : 4 .

( 160 )

باعتباره يكون سببا لدخول النار واستحقاقها ، لا أنهم حقيقة يتناولون النار بالأكل ، ولما كان أكل أموال اليتامى ظلما يسبب دخول النار كان التجوز بالتعبير عنه بالنار ناظرا الى هذه الحقيقة .
وفي الآية (ج) عبر عن إرادة الإهلاك بالإهلاك تجوزا ، وذلك بقرينة « فجاءها بأسنا » إذ لا معنى لوقوع الإهلاك ، ومجيء البأس بعده ، وإنما يأتي البأس فيحدث الإهلاك عنده ، وإنما عبر عنه بالإهلاك رأسا ، لأنه سبب الإرادة المقتضية للإهلاك ، فكان ذلك من باب تسمية السبب باسم المسبب على ما يذهبون إليه .
5 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( وءاتوا اليتامى أموالهم )(1)
ب ـ ( إنه من يأت ربّه مجرما )(2)
مجاز لغوي مرسل ، أريد به تسمية الشيء باسم ما كان عليه ، ففي الآية (أ) المراد باليتامى الذي كانوا يتامى ، وإعطاء أموالهم وإيتاؤها إنما يكون بعد البلوغ ، ولا يتم بعد البلوغ ، فسماهم يتامى باعتبار ما كانوا عليه قبل البلوغ .
وفي الآية (ب) سمى هذا الإنسان مجرما لا في حالته تلك يوم القيامة ، بل باعتبار ما كان عليه حاله في الحياة الدنيا من الإجرام ، فنظر الى ما كان عليه في السابق ، وأطلقه هنا تجوزا ، وألا فالمجرم يوم القيامة ذليل متهافت واهن لا يقوى على التمتع يومئذ بأية صفة من صفات الإجرام الدنيوية كمظاهر الجبروت والطغيان والعناد والإصرار والقوة ، بل وحتى إرادة المعصية صغيرة أو كبيرة ، وما أشبه ذلك ، إذ ليس هو هناك في مثل تلك الحال ، وإنما نظر إليه في تعبير الإجرام باعتبار ما كان عليه من الإجرام في الدنيا .
____________
(1) النساء : 2 .
(2) طه : 74 .

( 161 )

وقد يرد المجاز اللغوي المرسل بعكس هذا الملحظ ، فينظر إليه باعتبار ما سيكون عليه ، فيسمى باسم ما سيؤول إليه مستقبلا ، كما في قوله تعالى :
( إني أراني أعصر خمرا * )(1) .
فالتجوز هنا في العصر بالنسبة الى الخمر ، أو الخمر بالنسبة الى العصر ، والخمر لا يعصر فهي سائل قد عصر وانتهي منه ، وإنما العنب المتحول خمرا الذي يعصر ، فإطلاق الخمر وإرادة العنب منه هنا ، جاء على سبيل الاتساع ، باعتبار ما سيؤول إليه العنب بعد العصر ، وصيرورته خمرا .
6 ـ وفي كل من قوله تعالى :
أ ـ ( فليدع ناديه * )(2)
ب ـ ( وسئل القرية )(3)
ج ـ ( يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم )(4)
مجاز لغوي مرسل ، ذكر فيه لفظ المحل ، وأريد به الحال فيه ، وهو المعني بقول الخطيب القزويني ( ت : 739 هـ ) تسمية الحال باسم محله .(5)
ففي الآية (أ) تجوز بالدعوة للنادي ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل النادي والحالين به والمجتمعين فيه من الوجوه والأعيان وسراة القوم ، إذ لا تصح دعوة النادي لعدم قبوله الاستجابة والدعاء والتلبية أو الرفض ، وإنما دعي أهله وأصحابه .
____________
(1) يوسف : 36 .
(2) العلق : 17 .
(3) يوسف : 82 .
(4) آل عمران : 167 .
(5) القزويني ، الإيضاح : 403 تحقيق الخفاجي .

( 162 )

وفي الآية (ب) تجوز بالسؤال للقرية ، والمراد ـ والله أعلم ـ أهل القرية والساكنين فيها ، إذ لا يصح سؤال الأبنية والجدران بل الأهل والسكان .
وفي الآية (ج) تجوز بإطلاق الأفواه لإرادة الألسن ، لأن القول لا يصدر إلا عن اللسان ، ولما كان موقع اللسان هو الفم ، عبّر بالأفواه تجوزأ عن الألسن الحالة فيه .
وقد يرد المجاز اللغوي المرسل على عكس هذا الأمر ، فيما ذكر فيه لفظ الحال وأريد به المحل ، وذلك نحو قوله تعالى :
( وأمّا الّذين ابيّضّت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون * )(1) .
فقد تجوز بالرحمة وأراد بها الجنة ، لأن الخلود إنما يتم فيها ، ولما كانت الجنة محلا ومقاما للرحمة ، والرحمة حالة بها ، عبر عنها بما هو حال فيها ، وهو الرحمة والمراد الجنة .
وهكذا تجد علاقة المجاز اللغوي المرسل متعددة ، ووجوه ارتباطاته متشابكة ، واكتفينا بهذا القدر الجامع في الإيراد ، عما توسع به البلاغيون من الأصناف .
السبب في هذا أن البلاغيين قد أغاروا في جملة من الأصناف على علم المعاني كما نذهب إليه جزء لا يتجزأ من علم النحو العربي ، أهمل النحاة جانبه ، فأكد البلاغيون التقليديون صلته بالبلاغة(2) .
على أن في المعاني لمسات بلاغية ، وشذرات بيانية ، ولكن رأينا أنه بالنحو ألصق . فإذا رأينا جملة من البلاغيين قد بحثوا المجاز اللغوي المرسل ، وعددوا أصنافه ، أشتاتا من مفردات علم المعاني ، فهذا ما لا يتفق مع منهجنا .
لقد أطنب الزركشي ( ت : 794 هـ ) في ذكر جملة من الأصناف
____________
(1) آل عمران : 107 .
(2) ظ : المؤلف ، علم المعاني بين الأصل النحوي والموروث البلاغي .

( 163 )

العديد للمجاز اللغوي المرسل ، وادعى ورودها في كتاب الله(1) .
وقد تفنن ابن قيم الجوزية ( ت : 751 هـ ) فاعتبر خروج الخبر الى الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر ، والتقديم والتأخير من المجاز ، وهي مباحث علم المعاني(2) .
وقد عدّ التفتازاني ( ت : 791 هـ ) استعمال أدوات الاستفهام في غير الاستفهام من المجاز(3) .
وقد ذهب بهاء الدين السبكي ( ت : 773 هـ ) الى تداخل علم البيان وعلم المعاني في هذا الباب وعد بعض أنواع البديع كالمشاكلة والتورية والاستخدام من المجاز(4) .
وقد عدّ السيوطي ( ت : 911 هـ ) خروج الخبر الى الإنشاء ، والإنشاء الى الخبر من المجاز ، وأشار الى أن بعضهم يرى التقديم والتأخير والالتفات والتغليب من المجاز(5) .
هذه بعض معالم التوسع في علاقة المجاز اللغوي المرسل عند جملة من البلاغيين التقليديين ، وهذا التوسع لم يعدم أن يجد له نصيرا عند طائفة من المحدثين ، يقول الدكتور أحمد مطلوب :
« ونحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن ندخل فيه هذه المسائل ، لأنها شديدة الصلة به ، بل لأنها ألوان بديعة من فنونه ، ونرى أن تدخل في المجاز المرسل ، لأنه واسع الخطو فسيح المدى ، وله علاقات كثيرة يمكن التوسع فيها »(6) .
ونحن نخالفه في هذا الرأي بنفس المنظار لديه ، ولكن من وجهة نظر متقابلة ، فنحن حينما نعيد تصنيف المجاز ينبغي أن نستبعد من هذه
____________
(1) ظ : الزركشي ، البرهان 2 : 258 ـ 299 .
(2) ابن قيم الجوزية ، الفوائد : 82 .
(3) التفتازاني ، المطول : 235 .
(4) السبكي ، عروس الأفراح 1 : 493 .
(5) السيوطي ، الأتقان في علوم القرآن : 2/36 .
(6) أحمد مطلوب ، فنون بلاغية : 120 .

( 164 )

التقسيمات الأجنبية ، وهذه التدقيقات الفلسفية لأنها بعلمي المنطق والفلسفة أولى ، وحيما نريد أن نبني البلاغة العربية علينا التهذيب والتشذيب ، لا الإضافات والزيادات ، لتخامر البلاغة ذهنية العربي المعاصر ، بدلا من هروبه عنها ، لأن المراد هو التيسير ، وأما كثرة الأصناف وتوالي التقسيمات ، فمما يدعو الى التعقيد في نظر إنسان اليوم الذي يريد الزبدة التطبيقية والتنظيرية ، لا الرسوم والتفريعات .
وفي هذا الضوء استبعدنا جملة من التخريجات المطولة للمجاز اللغوي المرسل في وجوه علاقاته ، ناظرين الى هذا المدرك الذي يدعو الى صيانة البلاغة العربية من الإضافات المتكررة ، أو الزيادات الوهمية .
على أننا لا نغالي إذا قلنا أن مجالات المجاز اللغوي المرسل تتسع الى مئات الأصناف والأنواع ؛ لأنها ميدان العواطف في التجوز ، ومضمار المشاعر في التنقل ، وساحة اللغة في الأتساع ، ومرونة العربية في التخطي من أفق الى افق ، ولكن هذا لا يمانع من نفي الشوائب ، وتحاشي الفضول ، وغربلة التراث ، والله المستعان .


( 165 )

« خاتمة المطاف »

بعد هذه الجولة المفعمة بالاهتمامات البلاغية الدقيقة في القرآن الكريم ، ومن خلال هذه المسيرة المثيرة للاستنتاج والتطلع البياني المتطور ، يمكن أن نشير بإيجاز كبير الى أهم ما توصلنا إليه من نتائج في أرقام :
1 ـ في الفصل الأول رصدنا مجاز القرآن عند الرواد الأوائل منصبا حول لغة القرآن ، ومعاني مفرادته ، وسيرورة ألفاظه ، وكان عطاء هذا المناخ متقاربا في مصنفات « معاني القرآن » و « غريب القرآن » و« مجاز القرآن » وإرادة مؤدى الألفاظ منها في حنايا الذهن العربي ، دون إرادة الاستعمال البلاغي ، أو التأكيد على « المجاز » و « المعاني » في الصيغة الإصطلاحية لدى علماء المعاني والبيان ، كان هذا أولا .
ثانيا : ـ وقفنا عند مجاز القرآن بإطاره البلاغي العام ، فكان دالا على جميع الصور البيانية في البلاغة تارة ، أو على المعنى المقابل للحقيقة تارة أخرى ، سواء أكان مجازا أو استعارة أو تمثيلا أو تشبيها بليغا ، وناقشنا من أعتبر المجاز أمرا حادثا ، أو فنا عارضا لم يتكلم به الأوائل ، ورصدنا مفهومه عند المعتزلة وتطويرهم له من خلال هدف ديني لا غرض فني ، وانتهينا أن الاستعمال المجازي بمعناه العام ، وبإطاره البلاغي المتسع معرف بالأصالة منذ عهد مبكر .
ثالثا : ـ وحللنا مجاز القرآن في مرحلة التأصيل ، فكان ابن قتيبة ( ت : 276 هـ ) والشريف الرضي ( ت : 406 هـ ) وعبد القاهر الجرجاني ( ت : 471 هـ ) وجار الله الزمخشري ( ت : 538 هـ ) أقطاب هذه المرحلة ، وقادة هذا الفن ، فلمسنا ابن قتيبة صاحب مدرسة اجتهادية في استنباط مجاز القرآن لتحقيق مذهبه الكلامي في رد الطاعنين بوقوع المجاز في القرآن .


( 166 )

ورأينا أبا الحسن الشريف الرضي عالما موسوعيا في المجاز بعامة ، والمجاز القرآني والنبوي بخاصة ، ووجدنا كتابه « تلخيص البيان في مجازات القرآن » سبقا فريدا ، لم يشاركه فيه أحد قبله باعتباره أول كتاب كامل ألف لغرض واحد ، وهو تتبع مجازات القرآن في سوره كافة ، فكان حجر الأساس لهذا المعلم ، في استقلالية الفكر والمنهج والتأليف ، وفي التورع عن القطع في الآراء ، وفي العبارة البلاغية المشرقة ، التي تريك علم اللغوي الى جنب الحسّ البلاغي ، وصفاء العبقري بإزاء علم البيان ، ورقة الشاعر ممزوج بدقة الناثر .
واعتبرنا الشيخ عبد القاهر مطور البحث البلاغي ، وواضع أصوله الفنية في كتابيه الدلائل والأسرار ، وأول من خطط المجاز في قسمين : عقلي ولغوي ، وتتبعه لذلك في الإثبات والمثبت ، وإدراكه لهما في التركيب ، فكان الوعي المجازي عنده من أبلغ ما توصل إليه الفهم البياني ، ومن أفضل ما أنتجه النقد الموضوعي في صياغة المنهج المحدد الوثيق لدقائق المصطلح المجازي في القرآن .
وإذا جئنا الى دور جار الله الزمخشري وجدنا له اليد الطولى في تطوير نظرية المجاز القائمة في القرآن بحدود مما أفاده من تجارب الرضي ، وما استقاه من ينبوع عبد القاهر ، فدأب في « أساس البلاغة » الى تتبع مجاز المفردات ، وعمد في « الكشاف » الى استقراء جمال القرآن المجازي . ولم ننس شذرات ما كتب في المجاز القرآني هنا وهناك فأشرنا الى السيد المرتضى والشيخ الطوسي وأبي علي الطبرسي وفخر الدين الرازي ، وسواهم من المفسرين والبلاغيين .
رابعا : ـ وتتبعنا مجاز القرآن في دراسات المحدثين من الجامعيين بخاصة ، فكان لتعيين العلامة أمين الخولي استاذا للدارسات القرآنية والبلاغية في جامعة القاهرة الأثر المهم في قلب المفاهيم التدريسية ، ونقد المناهج العلمية ، فجمع بين أصالة القديم ، ومنهج التجديد في العطاء الحديث ، فألف بينهما في نسق متكامل أثمر الدراسات القرآنية الموضوعية ، والبحوث البلاغية المتنوعة في إدخال القرآن عنصرا في رسائل الماجستير والدكتوراه فكان هذا أول الغيث ، وقد فتح بهذا الباب مغالق البلاغة الحقة


( 167 )

في القرآن الكريم ، وأطلق منافذ الإعجاز الفنية من أسر النظرات القديمة ، فالإعجاز ليس هي وحدها بل هي وغيرها من مجموعة الصور الجمالة في القرآن .
هذه الجهود أثمرت أكلها حينما وجدت آذانا واعية ، وأسماعا مصغية لدى الشباب المتحفز في جامعات الوطن العربي ، فاتسمت بحوثهم بإشارات قيمة لجملة من صنوف البيان القرآني تعتمد المنهج البلاغي روحا ومسلكا في الكشف عن وجوه الإعجاز تارة ، وبالدعوة الى خوض عباب القرآن ، وكشف كنوزه وأسراره بالتدريس تارة أخرى .
2 ـ في الفصل الثاني وقفنا عند مجاز القرآن وأبعاده الموضوعية فبحثنا بتركيز ما يأتي :
أولا : ـ حقيقة المجاز بين اللغة والاصطلاح فكان المعنى الاصطلاحي لحقيقة المجاز مستمدا من الأصل اللغوي ، إذ كشف عبد القاهر العلاقة بين اللغة والاصطلاح في اشتقاق لفظ المجاز في مجانسة المعنى المنقول له اللفظ في دلالته على المعنى الثانوي من المناسبة فيه للمعنى الأولي ، وهذا يعني وجود علاقة متينة بين التعريف للمجاز لغة واصطلاحا لتقارب الأسر اللغوي للمعنى الاصطلاحي ، وانبثاق الحد الاصطلاحي من المعنى اللغوي ، فالاجتياز هو الأصل للمعنيين ، فكما يجتاز الإنسان من موضع الى موضع ، كذلك تجتاز الكلمة موقعها الأصلي وتتخطاه الى موقع جديد .
ثانيا : ـ ووجدنا مجاز القرآن في الذروة من البيان العربي ، وثبت لنا وقوعه دون أدنى شك في كوكبة كبيرة من ألفاظه وتراكيبه تعد في قمة الاستعمال البياني ، ورددنا الحمل على الظاهر في جملة صالحة من التعبير القرأني المتوالي في مجالات متعددة من نصوصه الكريمة ، وحققنا القول في مقولة إنكار المجاز القرآني ، والتطرف في حمل ما ورد في القرآن على المجاز وإن كان حقيقة لا تجوز معها ، ولاحظنا الخلاف التقليدي في هذا الملحظ ، وتحقق لنا من خلال مناقشة الآراء ، والاستناد الى التعبير النصي للقرآن أن المورد المجزي في القرآن جاء لتحقيق المعنى المراد ، فأضاف


( 168 )

الى الحقيقة في الألفاظ إضاءة جديدة ، لولاه لم تكن متميزة بهذا الشكل البياني الأصيل .
ثالثا : ـ وبعد هذه الحقيقة الفنية ، وجدنا أن مجاز القرآن لا يختلف عن المجاز العربي بعامة ، فهو في القرأن نوعان :
مجاز عقلي ومجاز لغوي ، بغض النظر عن التفريعات الأخرى التي لا تتعدى حدود التقسيم العام ، أو هي جزئيات تابعة لكليّ المجاز باعتباره عقليا ولغويا . وبحثنا بعض الإضافات في المسميات عند القدامى ، وبعد جهد جهيد أرجعناهما الى هذين الأصلين في دور النضج البلاغي ، وكان ذلك جهدا فريدا قائما على أساس الاستدلال البديهي تارة والقياس المنطقي تارة أخرى ، مستندا في كل ذلك الى التعبير القرآني ليس غير .
رابعا : ـ انتهينا أن مجاز القرآن : عقلي ولغوي ، فاللغوي ما استفيد فهمه عن طريق اللغة وأهل اللسان ، بما يتبادر إليه الذهن العربي عند الإطلاق في نقل اللفظ من معناه الأصل الى المعنى الجديد . والعقلي ما استفيد فهمه عن طريق العقل ، وسبيل الفطرة في الذائقة من خلال جملة من الأحكام الطارئة التي تجري على الجملة ويحكم بها العقل عند الإسناد . والقرآن قد استوعب نماذج النوعين حينما نحاول استخراجهما من بحره المحيط .
3 ـ في الفصل الثالث : أقمنا عند مجاز القرآن وخصائصه الفنية فكان فصلا متميزا يستند الى الكشف المضني ، والاستقراء الدقيق ، والملاحظة السليمة النافذة ، بدأناه بخصائص المجاز الفنية في مراعاة المناسبة المانعة من الخلط المرتجل تارة ، والضابطة من المجاز المشوه تارة أخرى ، فكانت النقلة في خصائص المجاز نقلة حضارية وإنسانية الى مناخ أوسع شمولا ، وأبلغ تعبيرا ، إذ تشيع هذه النقلة في النص القرآني : الحياة في الجماد ، والبهجة في الأحياء ، وتضيف الحسّ الى الكائنات ، فيصورها القرآن جميعا : ناطقة تتكلم ، ورائدة تتصرف ، فضلا عن سلامة الألفاظ في المؤدى ، وصيانة الذات القدسية عن الجوارح ، وتعاليه عن الحركة والانتقال . ولدى اقتران الغرض الفني في القرآن بالغرض الديني ، لمسنا خصائص المجاز الفنية في القرآن الكريم فكانت :


( 169 )

أولا : ـ الخصائص الأسلوبية في إدراك اللفظ بذاته حروفا وأصواتا وهيأة في الشكل ، وإدراكه بمعناه ، فالمعنى هو نفسه لم ينقص منه شيء ، ولكنه أضيف إليه إطار أسلوبي جديد حينما حاول هذا اللفظ مغادرة مناخه الأولي الى مناخ أوسع ، وحينما أريد به الاستعمال المجازي بتطور ذهني نقله من موقع الى موقع آخر ، وزحف بمعجمه من حدث إجتماعي معين له دلالته المركزية في الذهن الى حدث أكبر ، هذه التركيبة الجديدة يستغني بها المتلقي عن كل التركيبات المعقدة الأخر في لغات العالم ، فالإيجاز من جهة ، والتطوير من جهة أخرى ، والاكتفاء عن تركيب جديد من جهة ثالثة ، كلها خصائص أسلوبية في مجاز القرآن ، فكان حلقة الوصل بين الذات المعبرة وإرادتها المتجددة في المعاني المستحدثة ، وهذا هو التطور اللغوي في اللغة الواحدة ذات الطابع العالمي في السيرورة والانتشار ، فقد تجيء صفة الأحداث في إسنادها مبنية للمجهول ، مع أن الفاعل الحقيقي معروف وهو الله تعالى ، ولكن النص لا يتعلق بمحدث الأفعال وموجدها ، وإنما العناية متجهة نحو الحدث ، وقد يسند الفعل لغير فاعله الحقيقي ، تأكيدا على هذه الظاهرة ، وكأن الفاعل غير الحقيقي قد توصل اليه ففعله ، وإن لم يكن لهذا الفاعل حول أو إرادة ، هذا وغيره يمثل لنا عمق الخصائص الأسلوبية في مجاز القرآن .
ثانيا : ـ الخصائص النفسية في مسايرة النص القرآني للنفس الإنسانية في مجالي الترغيب والترهيب ، فإن أريدت الصورة وهي متناهية في الجمال والأناقة وجدنا المجاز القرآني يقود اللفظ الى ما هو أرجح معنى ، وأرق حسنا في حالة النقل مما كان عليه قبلها ، وإن أراد صورة متداعية في القبح ساق اللفظ الى ما يمثل تلك الصورة بما هو أردأ منه في صيغته الحقيقية ، فكان ذلك مجالا فريدا ، في تكييف النص الأدبي نحو المراد المولوي .
وحديث النفس في مجاز القرآن ذو أبعاد تشكل جزءا قويما من خصائصه الفنية في عدة نماذج بيانية ، أشار إليها المبحث بتلبث وعلى مكث .
ثالثا : ـ الخصائص العقلية في الإيحاء والتلويح والرصد لما وراء الظاهر ضمن إشارات دقيقة في ألوان وخطوط وظلال تضج بالحركة ،


( 170 )

ولكنها تحمل أكثر من معناها الظاهري في كثير من الأبعاد التي توهم ببعض الشبه لدى الساذجين ، ومهمة المجاز العقلية كفلت درء هذه الشبهات بما تسخره من طاقات بيانية كاشفة ، وبما تستلهمه من مناخ عقلي يقود الذهن الى ميناء سليم . وهكذا الحال فيما شأنه الرصد العقلي ، أو إثارة مكنونات العقل الإنساني بلحاظ ما ، فتثير الحوافز ، وتنبه المدارك ، وتحرك المشاعر ، في نماذج وأمثال قرآنية متعددة تتبعنا أهمها وأعمقها .
4 ـ في الفصل الرابع ، وهو بعنوان المجاز العقلي في القرآن ، بحثنا بإشباع :
أولا : ـ تشخيص المجاز العقلي في القرآن وعند العرب ، ويعود كشف هذا النوع الى عبد القاهر فهو مبتدعه ومبتكره من خلال نظره الثاقب في مجاز القرآن العقلي ، وهو مسميه بأسمائه المختلفة السمات والمتحدة المسميات .
ثانيا : ـ المجاز العقلي في القرآن بين الإثبات والإسناد ، لأن المجاز إذا وقع في الإثبات فهو متلقى من جهة العقل ، وإذا عرض في المثبت فهو متلقى من جهة اللغة . وإنما يصار الى مجاز القرآن العقلي لأن جملة من الملاحظ المجازية لا يمكن أن تنسب الى اللغة في دلالتها لأنها حقيقة الألفاظ ، وإنما يرجع فيها الى العقل في إشارته في الحمل على الإرادة المجازية في الإسناد الحملي ، ولا علاقة لذلك بالألفاظ ذاتها دون إسنادها ، فلا هو من باب اللفظ المفرد فينظر بعين الاستعارة ، ولا في الكلمة نقل عن الأصل اللغوي فينظر له بلحاظ المجاز المرسل ، وإنما يكتشف باعتبار طرفيه في الإسناد وقد يكونان حقيقيين ، وقد يكونان مجازيين ، وقد يكون أحدهما حقيقيا والآخر مجازيا ، ولا يدرك المجاز العقلي إلا من اقتران الطرفين مجتمعين .
ثالثا : ـ قرينة المجاز العقلي في القرآن ، فهو وإن كان متعلقا بالإسناد ، ولكن لا بد له من قرينة دالة عليه لفظية أو غير لفظية ، وقد يعبر عن اللفظية بأنها مقالية ، وعن غير اللفظية بأنها حالية ، وكلاهما مما يدرك بهما العقلي من المجاز . والقرينة غير العلاقة ، فالقرينة دالة على المجاز والعلاقة السبب الداعي الى استعمال المجاز .


( 171 )

رابعا : ـ علاقة المجاز العقلي ، وقد تفنن بتقسيماتها البلاغيون التقليديون مجاراة للمناخ الجغرافي في البيئة المنطقية ، وعصر الفلسفة وعلم الكلام ، ولم نشأ أن نعيد هذا المعجم المشحون بالتفصيلات الأعجمية ، لان القرآن لم يكن ناظرا إليها بل كان متنقلا بالذهن العربي الى آفاق من التعبير الموحي والبيان الطلق بما يلائم الطبيعة الإنسانية ، دون هذه المسميات التي صنعها علماء البلاغة ، فكان عملنا متفقا مع هذه النظرة في مجموعة الممارسات المجازية في القرآن .
5 ـ في الفصل الخامس ، وهو بعنوان : المجاز اللغوي في القرآن تحدثنا عن المجاز اللغوي بين الاستعارة والإرسال وعن انتشار المجاز المرسل في القرآن وكشفنا طبيعة العلاقة في المجاز اللغوي المرسل بالمنهج الذي بحثنا فيه الفصل المتقدم .
كان هذا إيذانا بجملة من نتائج البحث ، الذي وقفنا عنده طويلا ، ولم ننحرف في منهجية عن صلب موضوعه إلا ريثما نعود إليه ، نسأل الله تعالى أن يتقبله منا بأحسن قبوله ، وأن ينفع به الباحثين والدارسين ، وأن يجعله ذخيرة لنا يوم الدين .