كتاب ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم السلام ::: 1 ـ 10
ملامح المنهج التربوي
عند أهل البيت عليهم السلام
السيد شهاب الدين العذاري
تحظى إصدارات المركز
بالمتابعة والتقويم والإشراف العلمي
مركز الرسالة


(3)
بسم الله الرحمن الرحيم


(4)

(5)
مقدمة المركز
    الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمّد وآله الطاهرين .. وبعد ..
     يثير الحديث عن مقومات المنهج التربوي السليم الذي تحتاجه الأُمّة ، ودور المبادىَ والخلفيات الفلسفية للمناهج التربوية السائدة في واقعنا أسئلة شتّى ، لأنّ ما أفرزته تجارب الفكر المعاصر في الحقل التربوي من مشاكل ، وما طرحه التطبيق الفعلي لبرامجه التربوية من أسئلة عديدة ونقاط فراغ لم تُملأ إلى الآن ، وما قُدِّم على هذا الصعيد من حلول .. أدلة كافية على مرحلية تلك المناهج ، وعدم صلاحيتها للامتداد وإثراء المسيرة الإنسانية بما ينسجم وفطرة الإنسان وتطلعه نحو الكمال ، وعدم كفائتها في اكساب الواقع الاجتماعي قدرة على النمو والتطور ، مما أدّى إلى ظهور أصوات عديدة تدعو إلى ضرورة إعادة النظر في تلك البرامج ولزوم تعديلها.
     وللأسف الشديد إن حال المناهج التربوية السائدة في المجتمعات الإسلامية لا سيما التي تُدرّس على مستوى الجامعات لم تكن بأوفر حظاً من تلك المناهج ، لأنها ما بين مجرّد تغطية للفكر العلماني باعتماد اُطر منهجية في ترسيخه على حساب الفكر الإسلامي ، وما بين كونها محدّدة بقرارات سياسية صارمة لا تتيح لأفراد الأمة حرية النقد والاختيار ، خدمة لأهداف أيديولوجية معينة تسعى السلطة لتحقيقها ، حتى عاد المنهج التربوي في أكثر البلاد الإسلامية حارساً للنظام القائم في هذا القطر أو ذاك.
     وهكذا أهملت المقومات الحقيقية للمنهج التربوي ، فطبيعة الإنسان ، وفطرته ، وميوله ، وغرائزه ، وحبّه لذاته ، وما يعتريه من أدوار مختلفة من الطفولة إلى الهرم ، ونوع ارتباطه مع العالم الخارجي ، وفلسفته في الوجود ، أمور خطيرة تفرض نفسها على واقع كل عملية تربوية ، الأمر الذي يُفترض معه امتلاك المُقَنِّن التربوي الصورة الواضحة للنفس البشرية ، وتشخيص مشاكلها بدقّة ، مع الاحاطة بسائر العوامل الأساسية والثانوية المؤثرة في البناء التربوي ، لتكون برامجه ناجعة ومتينة ، وإلاّ صارت مواقع الكيان التربوي ساحة لتخبط العاملين فيها ، خصوصاً إذا ما كانت تلك المناهج قائمة على مفاهيم فلسفية أجنبية مبتنية على أساس فصل الدين عن الدولة.
     والمنهج الذي لا يمتلك من سعة الأهداف الخيرة ما ينبغي ، ولا من دقّة التشخيص ما يكفي ، ولا من وضوح الرؤية لحياة الفرد والمجتمع ما يجب ، فكيف ينفذ إلى أعماق النفس البشرية حتى يصير لها خلقاً وملكة ، وهو لم يتفاعل مع وجدانها ولم يتّحد مع وجودها. والمنهج الذي ينطلق من تنمية الاحساس بالقومية أو الطائفية ولم يرتكز على روحانية الإسلام ، أو من الاحتفاء بالسلطة تارة ، أو المادة أخرى مع تهميش دور القيم الإنسانية النبيلة ، ولا يضع في حساباته دور المنظومة الأخلاقية في البناء التربوي ، كيف يخلق من الأمة شخصية متزنة قادرة على تشخيص أخطائها وتصحيح مسيرتها وتحمل مسؤوليتها في حاضرها ومستقبلها ؟
     وفي ضوء ما تقدم يتضح أنّ المنهج التربوي الصحيح هو ما تجاوز حدود الزمان والمكان ،


(6)
مستمداً نقطة انطلاقه من الخبير العارف بما يصلح الناس جميعاً ، منسجماً مع فطرتهم وتطلعاتهم وغاية وجودهم ، لكي تتوفّر القناعة الشعبية العارمة في تطبيق برامجه بلا حاجة إلى تطبيقها قسراً من سلطة أعلى.
     وعلى هذا الأساس فإن صياغة المنهج التربوي في مجتمعنا المسلم يجب أن تنطلق من مسلمات ايمانية ، وأسس عقلانية راسخة ليتشكل بمجموعها الاطار الأساسي لذلك المنهج. وبعبارة أدق .. إن اختيار المنهج التربوي لتطبيقه على واقع المجتمع المسلم يجب أن يلحظ مسألة التعبد بالنص المتجذرة في أعماق الأمة المسلمة ، مما يعني هذا ضرورة استنطاق النص في صياغة كل منهج ، لا سيما التربوي الذي يهدف إلى حراسة الأمة وحفظها من الانهيار ، والقضاء على كل ما من شأنه أن يفسد على الناس فطرتهم أو يبعث على انحراف سلوكهم ، أو يساعد على التواء سليقتهم ، أو يعكر نظرتهم وتفكيرهم ، لكي تُربى الأمة ـ حينئذٍ ـ على عقيدة التوحيد الخالصة ، وتكون حركة المجتمع كلها باتجاه الحق المطلق ، وبهذا ينسجم المنهج التربوي مع فطرة الله التي فطر الناس عليها جميعاً.
     ولا شك أنّ تطبيق مثل هذا المنهج سيحقق أعلى درجات الموازنة بين حب الذات كغريزة وحب الغير كضرورة إنسانية ، بين حب البقاء والتضحية في سبيل العقيدة والمبدأ ، وبين حب الدنيا والعمل للآخرة. وسيغرس بذور الشعور بالمسؤولية في ذهن الأمة وتكون أفعالها وأقوالها مستندة على أساس مقبول. وهذا ـ في الواقع ـ هو منهج الإسلام بخطوطه العريضة الواسعة ، الذي يسلّم بأهمية الفرد وأسبقيته الوجودية في المجتمع من جهة ، ولكنه من جهة أخرى يعطي للمجتمع عناية خاصة مركزة باعتباره الأساس الذي تجري عليه السنن التاريخية في نشوء الحضارات وفنائها ، وفي بقاء الأمم وهلاكها.
     وحقيقة كون الإسلام صالحاً لكل عصر وجيل هي التي تبرر لنا التأكيد على منهج أهل البيت عليهم السلام في التربية ، لأن ما تعنيه تلك الحقيقة في قيمومة الإسلام وديمومته هو استنطاق القرآن الكريم وتحكيمه في مناحي الحياة ومناهجها ، الأمر الذي يلزم تحديد المرجعية العلمية للأمة ، وقد حصرها النص ـ والتعبّد به لازم لكلّ مسلم ـ بثلة طاهرة ، وجعلها قريناً للقرآن وحليفاً له وسمّاهما ثقلين هاديين إلى الحق ، عاصمين من الضلالة ، مع بقائهما عمر الدنيا وعدم افتراقهما حتى يردا على النبي صلى الله عليه وآله الحوض يوم القيامة.
     ومَن يكون قرين القرآن فمنهجه في بناء الإنسان أحقُّ بأن يُتَّبع ، وأولى بالعناية ، وأجدر بالتطبيق ، وإلاّ فلن يكون استنطاق القرآن وإهمال نظيره كافياً في طرح المنهج التربوي البديل عن المناهج المستوردة السائدة في مجتمعنا المسلم!
     ومن هنا انطلق الكتاب الماثل بين يدي القراء لتوضيح معالم هذا المنهج الربّاني الذي لم يبتنِ على أساس مرحلي مؤقت ليسدل التاريخ عليه ستاره بعد حين ، وإنما جاء إلينا على أساس كونه الحقيقة الربّانية الصالحة لجميع العصور ، والامتداد الطبيعي لرسالة السماء. مـسـلطاً بذلك الضوء على ملامحه الأساسية ، ممهداً الطريق إلى دراسات علمية تربوية أوسع في غمار هذا المنهج .. والله الهادي إلى سواء السبيل.
مركز الرسالة


(7)
المقدّمة
     الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمّد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين.
     من الحقائق الثابتة انّ التربية العشوائية أو العفوية تبدّد الطاقات والجهود ، وتخلق الاضطراب والبلبلة في المجال النفسي والسلوكي ، وتحرف الأهداف والغايات التربوية عن مسارها الحقيقي ، ومن هنا كانت الحاجة إلى منهج تربوي ثابت في اُصوله واضح في مقوماته وموازينه ضرورة من ضرورات الحركة التربوية ، فهو الذي يرسم للتربية مسارها السليم المتوازن ، ويحدد لها معالم طريقها ، ويوجه الجهود والنشاطات والبرامج التربوية لتقرير المفاهيم والقيم الصالحة والسامية في الواقع الانساني.
     وقد بذل العلماء والباحثون والمتخصصون في شؤون التربية جهوداً كبيرة ومتواصلة للتوصل إلى منهج تربوي يستندون إليه في انطلاقاتهم نحو تربية الانسان والمجتمع على اُسس سليمة وصالحة ، ولم تتوقّف هذه الجهود قديماً وحديثاً ولا زالت مستمرة ، إلاّ انها لم تتفق على نقاط مشتركة يمكنها أن تكون ميزاناً ومعياراً للجميع ، لاختلاف العلماء والباحثين في متبنياتهم العقائدية والفكرية ، ولاختلافهم في معرفة القوى المؤثرة في حركة الكون والحياة والمجتمع والتاريخ.
     وفي واقعنا الإسلامي اختلفت البحوث والدراسات أيضاً ، فمنها ما اعتمد على الدراسات الغربية النظرية والميدانية ، دون بذل جهد للبحث عن منهج يعتمد على الأسس والمفاهيم والقيم الإسلامية. ومنها ما هذّب وشذّب لكي يرتدي مظهراً شرقياً وإسلامياً ، دون الرجوع إلى أهل الاختصاص في العلوم الإسلامية ، ومنها ما زاوج بين الدراسات الغربية والدراسات الشرقية النظرية والميدانية بما يلائم النظرة الشرقية للحياة والمجتمع.
     واعتمدت بعض الدراسات على خبرات أساتذة الجامعات في المجالين : النظري والتطبيقي ، فخرجت بنتائج ايجابية لاعتمادها على الواقع الإسلامي ولكنها ليست بمستوى الطموح.
     وهنالك دراسات قام بها متخصصون في العلوم الإسلامية جمعت بين الدراسات الحديثة الغربية والشرقية وبين الدراسات الإسلامية ، ولكنّها لم تبحث المنهج التربوي بشكل مستقل وبمستوى الطموح. وجزى الله الجميع خيراً مادامت نواياهم منصبة على رفد الساحة التربوية بدراسات تسهم في البناء التربوي السليم.


(8)
     وقد فات الكثير من الدراسات الرجوع إلى عدل القرآن وهم أئمة الهدى من أهل بيت النبوة ، فانّ أحاديثهم وارشاداتهم ووصاياهم وسيرتهم العملية كفيلة بتحديد معالم متكاملة وشاملة لمنهج تربوي يصلح أن يكون مرجعاً لجميع العلماء والباحثين والمتخصصين بشؤون التربية وعلم النفس على اختلاف متبنياتهم العقائدية والفكرية ، لأنّه المنهج الذي لا يتقيد بزمان أو مكان بل يصلح لكل زمان ومكان ، لأنّه صادر عن أئمة الهدى وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لا ينطق عن الهوى ، ومرجعه إلى الله تعالى المحيط بسكنات الإنسان وحركاته ، فهو من وضع خالق الإنسان لا من وضع الإنسان المحدود في فكره والمحدود في قواه العقلية والعلمية ، وهو منهج واقعي يراعي واقع الإنسان فلا يحمّله ما لايطيق ، وهو منهج شمولي لايتحدد بجانب معين ، ولا يبحث مجالاً دون آخر.
     وفي بحثنا عن ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم السلام نضع بعض القواعد التأسيسية في هذا المجال لتكون عوناً لمن يرغب أن يتوسّع في البحث والكتابة ، وقد اعتمدنا على أحاديث أهل البيت عليهم السلام وسيرتهم في التوصل إلى معالم المنهج التربوي ، مع الاستفادة من الشواهد والدراسات العلمية الحديثة ، ومن التجربة الشخصية من خلال متابعة عينات من الظواهر التربوية والنفسية.
     ووزّعنا البحث على فصول : تناولنا في الفصل الأول : أثر الوراثة والمحيط في البناء التربوي ، ثم عرضنا في الفصل الثاني دور القيم المعنوية والنفسية في المجال التربوي ، وتناولنا في الفصل الثالث خصائص المربين وأساليب التربية ، وأخيراً تناولنا في الفصل الرابع خصائص ومميزات المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم السلام.
     وقد اخترنا الأسلوب الميسر في طرح الآراء والمتبنيات ، متجنبين استخدام المصطلحات الغامضة والعبارات المبهمة ، لتكون الاستفادة عامة وشاملة لجميع المستويات.
     نسأل الله تعالى أن يوفقنا لخدمة دينه ومنهجه ومن أمرنا بطاعتهم انّه نعم المولى ونعم النصير.


(9)
الفصل الأوّل
أثر الوراثة والمحيط في البناء التربوي
     أثبتت الدراسات التربوية والاجتماعية المستفيضة الأثر الواضح للوراثة والمحيط الاجتماعي في تكوين شخصية الإنسان ، حيث تنعكس على جميع جوانبها الجسدية والنفسية والروحية ، فأغلب الصفات تنتقل من الوالدين والأجداد الى الأبناء ، إما بالوراثة المباشرة أو بخلق الاستعداد والقابلية للاتصاف بهذه الصفة أو تلك ، ثم يأتي دور المحيط التربوي ليقرر النتيجة النهائية للشخصية.

أولاً : دور الوراثة
     من الحقائق الثابتة أنّ الأبناء يرثون الوالدين في خصائصهم وصفاتهم الجسمية والعقلية والنفسية ، وكذلك يرثون أجدادهم في بعضها.
     وقد دلت الروايات على أنّ الانسان يرث الخصائص والصفات الجسمية من جميع آبائه وأجداده ، ورد ذلك عن الامام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام : « انّ الله تبارك وتعالى إذا أراد أن يخلق خلقاً جمع كل صورة بينه وبين أبيه الى آدم ، ثم خلقه على صورة أحدهم ، فلا يقولنّ أحد هذا لا يشبهني ولا يشبه شيئاً من آبائي » (1).
1 ـ علل الشرايع / الشيخ الصدوق : ص 103 ، المكتبة الحيدرية ، النجف 1385هـ.

(10)
    وقد أثبت العلم الحديث هذه الحقيقة من أنّ (وراثة المولود لا يحددها أبواه المباشران فقط ، بل هو يرث من جدوده وآباء جدوده وجدود جدوده وهكذا ... وبديهي أنّ معظم وراثة الانسان تنحدر اليه من آبائه الأقربين وأنّ أثر الجدود الأباعد يقل كلما زاد بعدهم ، وعلى هذا نستطيع القول : بأنّ نصف الوراثة من الأبوين ، وربعها من الجدود ، وثمنها من آباء الجدود وهكذا) (1).
     والوراثة لها دور أساسي في نقل بقية الصفات ، ولهذا أكّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حسن الاختيار في الزواج فقال : « تخيّروا لنطفكم فانّ العرق دسّاس » (2).
     ومصطلح (العرق) يقابله في الاصطلاح المعاصر مصطلح الجينات genes ، والتي تحملها الصبغيات (الكروموسومات) chromosomes التي تحتويها نواة الخلية الناجمة عن البويضة الانثوية ovum المخصّبة من الحيوان المنوي الذكري sperm (3).
     وتحذير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من العرق الدساس ناظر الى الصفات النفسية والروحية والخلقية التي تنتقل بالوراثة ، أو يكون العامل الوراثي خالقاً للاستعداد في نفس الوليد للاتصاف بصفة من الصفات التي يحملها الوالدان أو الأجداد.
     ويقول بيرون : (ان ابني وهو منسوب اليّ ، ولكنّي أرى أجداده الماضين
1 ـ علم النفس التربوي / الدكتور فاخر عاقل : ص 39 ، دار العلم للملايين ، بيروت ، 1985.
2 ـ المحجة البيضاء / الفيض الكاشاني : 3 / 93 ، جامعة المدرسين ، قم ، ط 2.
3 ـ علم نفس النمو / الدكتور حامد زهران : ص 36 ، عالم الكتب ، القاهرة ، 1982.
ملامح المنهج التربوي عند أهل البيت عليهم السلام ::: فهرس