معرفة النفس ::: 61 ـ 75
(61)
    7 ـ وكتب الامام علي ( عليه السلام ) الى معاوية بن ابي سفيان قائلاً :
    « فان نفسك قد اولجتك شرا ، واقحمتك غيا ، واوردتك المهالك ، واوعرت عليك المسالك » (1).
    وذلك هو مكمن الخلل واصل الضلال والانحراف لدى معاوية.
1 ـ المصدر السابق كتاب : 30.

(62)

(63)


(64)

(65)
    لماذا نردد في صلاتنا مرارا كل يوم ( اهدنا الصراط المستقيم ) ؟. أو لسنا الان باعتبارنا مسلمين مؤمنين نسلك الصراط المستقيم ؟ هل نشك في الخط الذي نسير عليه ونحتمل في انفسنا الضلال ؟ ام ماذا ؟.
    في الواقع : ان الصراط المستقيم ليس طريقاً يبحث عنه الانسان عند مفترق طرق فاذا ما اهتدى اليه سلكه واستمر في السير عليه مرة واحدة الى الاخير ...
    بل ان الانسان في كل لحظة وامام اي موقف او قضية او كلمة يجد امامه طرقا كثيرة وخيارات عدة احدها يمثل الصراط المستقيم بينما البقية طرق ملتوية معوجة ..
    وفي كل لحظة يتعرض الانسان لخطر الانحراف والتنكب عن الصراط المستقيم الذي يسير عليه ولذلك يردد دائماً : ( اهدنا الصراط المستقيم ... ). فالمطلوب ليس مجرد اكتشاف الخط الصحيح في الحياة والبدء باليسير عليه بل المطلوب هو استقامة السير والاستمرار فيه.
    ان الله تعالى يلفتنا ان نطلب منه الوقاية والسلامة من الزيغ والضلال بعد الهداية والصلاح فيعلمنا ان نقول : ( ربنا لا تزغ قلوبنا بعد ان هديتنا وهب


(66)
لنا من لدنك رحمة انك انت الوهاب ) (1).
    وفي مورد آخر يذكرنا الباري جل وعلا بقصة ذلك العالم الاسرائيلي الكبير بلعم بن باعوراء كنموذج سيء للسقوط في اوحال الكفر والضلال بعد ان كان متسنما لذروة الهداية والصلاح يقول عنه تعالى :
    ( واتل عليهم نبأ الذي اتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه اخلد الى الارض واتبع هواه فملثه كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث وان تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص لعلهم يتفكرون ) (2).
    وابليس الم يكن عابداً لله خاضعاً حتى رفعه الله الى درجة الكمال مع انه من الجن كما يقول تعالى : ( ان ابليس كان من الجن ) ولكنه في لحظة انحراف واحدة اصبح رمز الشقاء والضلال الى يوم القيامة « وكان قد عبد الله ستة الاف سنة لا يدري امن سني الدنيا ام من سني الاخرة » (3) كما يقول الامام علي ( عليه السلام ).
    وتحدثنا الروايات عن بعض النماذج التاريخية التي اصابها السقوط والانحراف بعد ان قطعت شوطاً طويلاً من السير على خط الهداية والصلاح ، فمثلاً ( برصيصا ) ذلك العابد الزاهد الذي كان قدوة في الخشوع والخضوع لاحد مجتمعات بني اسرائيل ولفضله ومكانته عند الله كان مستجاب الدعاء يؤتى بالمجانين والمرضى فيدعو لهم ويعوذهم فيطيبون على
1 ـ سورة آل عمران : ـ 8.
2 ـ سورة الاعراف : 175 ـ 176.
3 ـ نهج البلاغة خطبة : 192.


(67)
يديه.
    وذات مرة جيء له بأمرأة جميلة ذات شرف قج اصابها الجنون وتركها اخوتها في صومعته ليشفيها الله ببركة انفاسه ودعائه ...
    وفي لحظة سيئة واذا بذلك العابد الزاهد يمارس الجريمة مع تلك المريضة المجنونة !!!
    وانتبه على نفسه بعد الجريمة فلعل المرأة قد حملت منه !!!
    يا للفضيحة والعار ...
    وهنا قرر ان يقتلها ويدفنها في الصحراء ليتخلص من الفضيحة !!!
    ولكنها فضيحة مكشوفة وجريمة ثابتة لا يمكن التنصل منها فقد اضطر للاعتراف بذلك امام السلطة وحكم عليه بالاعدام مصلوباً بعد ادانته بجريمتين الزنا والقتل ...
    فأتى الشيطان وهو مصلوب على الخشبة ينتظر لحظة الموت ليستريح من حياة الخزي والعار فوسوس اليه الشيطان قائلاً : انا الذي القيتك في هذا فاسجد لي سجدة واحدة حتى اخلصك ...
    قال العابد ( المجرم الشقي ) مستجيبا لطلب الشيطان كيف اسجد لك وانا على هذه الحالة ؟
    فأجابه الشيطان اكتفي منك بالايماء.
    فأومأ بالسجود للشيطان ... وبعدها مباشرة لفظ آخر نفس من انفاس حياته ... (1)
    لقد انتهت حياته ويداه ملطختان بأبشع الجرائم فقد مارس جريمة الزنا
1 ـ سفينة البحار : ج 1 ص 71.

(68)
ثم قام بجريمة القتل ثم كفر بالله وسجد للشيطان ... بعد ان كان عابداً مستجاب الدعوة عند الله ...
    هكذا يكون الانسان مهما كان درجة ايمانه معرضاً لخطر السقوط والانحراف في كل لحظة من لحظات حياته يقول الرسول الاعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « لا يزال المؤمن خائفاً من سوء العاقبة لا يتيقن الوصول الى رضوان الله حتى يكون وقت نزع روحه » (1).
    بل ان هناك نصوصاً واحاديث تشير الى ان المؤمن ليس معرضاً لخطر الضلال والانحراف كسائر الناس بل ان وضعه اخطر وتعرضه لمحاولات الانحراف والضلال اكثر من الاخرين ...
    يقول امامنا جعفر الصادق ( عليه السلام ) في اول وصيته لعبد الله بن جندب : « يا عبد الله لقد نصب ابليس حبائله في دار الغرور فما يقصد فيها الا اولياءنا » (2).
    وفي حديث آخر قال ( عليه السلام ) : « ان الشيطان ليأتي الرجل من اوليائنا عند موته يأتيه عن يمنيه وعن يساره ليصده عما هو عليه ... » (3).
    ومرة سئل احد الائمة ( عليهم السلام ) من قبل احد تلامذته المجاهدين : قال : يا بن رسول الله اتخاف علينا من الشيطان ؟
    فأجابه الامام : وهل الخوف من الشيطان الا عليكم اما غيركم فقد خلص منهم ...
    وعن الامام الباقر ( عليه السلام ) : « اذا مات المؤمن خلى على جيرانه من الشياطين عدد ربيعة ومضر كانوا مشتغلين به » (4)
1 ـ المصدر السابق : ج 2 ص 209.
2 ـ بصائر وهدى للمؤلف : ص 85.
3 ـ سفينة البحار : ج 1 ص 699.
4 ـ ميزان الحكمة : ج 5 ص 81.


(69)
    ولكن لماذا يصبح احتمال الانحراف وارداً في حياة الانسان المؤمن ؟
    يبدو ان هناك اسباباً عدة وراء ذلك وخاصة بالنسبة لنا كمؤمنين نعيش في هذا العصر :
    فأولاً : رواسب التربية والبيئة.
    فآباؤنا وعوائلنا وبيئتنا التي نشأنا فيها لمن تكن في المستوى المطلوب من الوعي والالتزام بالقيم الاسلامية الصحيحة ... ان اغلب العوائل في مجتعنا لا تعرف شيئاً عن اساليب التريبة السلمية ولا عن مناهج الاسلام في التربية وتوجيه الاولاد ... وان الثقافة التي يحملها اهالينا والتي يغرسونها في اذهاننا ليست نقية وصافية انها مشوية بالاوهام والخرافات والتزييف ...
    وان الاخلاق وطريقة التعامل التي ننشأ في ظلها ليست وفق ما يريد الاسلام مائة في المائة بل هي مليئة بالاخطاء والانحرافات ...
    وحينما يتربى الانسان في مثل هذه الاوضاع والظروف فانه حتى وان توفق لاصلاح نفسه واهتدى الى الصراط المستقيم في حياته فان رواسب تلك التربية والبيئة قد يبقى بعضها في نفسه ليقذف به مهاوي الانحراف والضلال ...


(70)
    ثانياً : تأثير الأجواء الفاسدة.
    تعالوا لننظر في اية اجواء نحن نعيش ؟ ومن اي هواء نتنفس ؟ اننا نعيش اجواء يسيطر عليها الطاغوت سيطرة تامة كاملة ... فالحكومات التي تحكمنا ونخضع لها حكومات ظالمة طاغية ... والمدارس التي نتخرج منها مناهجنا فاسدة ... وخاطئة ...
    والاعلام الذي نستمعه ونراه من خلال الصحف والمجلات ومحطات الراديو والتلفزيون اعلام مضلل.
    والثقافة المتوفرة ثقافة قشرية ومنحرفة ...
    والقيم السائدة قيم جاهلية ومصلحية ...
    والمجتمع الذي نعيش ضمنه مجتمع متخلف ...
    ان هذا الفساد الذي يغطي اجواءنا ويلف حياتنا قد يترك بعض اثاره على افكارنا وممارساتنا شعرنا بذلك او لم نشعر ...
    ثالثاً : ضغوط الالتزام.
    ففي هذا العصر المادي وفي مثل هذه الاجواء الفاسدة التي نعيش ، يصبح الالتزام بالمبادئ والقيم مصدر مصاعب ومتاعب وضغوط قاسية في حياة الانسان المؤمن ...
    وقد صدق رسولنا العظيم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو الصادق الامين حينما قال : « يأتي على الناس زمان يكون القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر ».
    هذه الضغوط التي يعانيها الانسان المؤمن من قبل سلطات الطاغوت او قطاعات المجتمع المتخلف وحتى قبل اهله وعائلته ... ولتحديه الاجواء


(71)
الفاسدة ومواجهته للواقع السيء ... كل تلك الضغوط تسبب له مضايقة نفسية قد تؤدي الى بعض التراجع والانهزام او سوء الخلق وتعقد النفس ...
    رابعاً وأخيراً : دور الشيطان.
    ان وجود المؤمن في هذا العصر يشكل تحدياً صارخاً وكبيراً للشيطان فكيف اذا ما كان ذلك المؤمن رسالياً يعمل على هداية الاخرين ، ونسف خطط الشيطان ، وتخريب الاجواء عليه ؟
    ان المؤمن الرسالي هو اخطر جبهة يعمل الشيطان على مقاومتها ويوجه جهوده نحوها واقل غفلة تمر على المؤمن الرسالي فان الشيطان مستعد لاغتنامها حيث بالتسرب داخل حياته ولو من ثغرة بسيطة ، وعبر ذنب صغير.
    لذا جاء في الحديث الشريف عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : « والذي نفس محمد بيده العالم واحد اشد على ابليس من الف عابد ، لان العابد لنفسه والعالم لغيره » (1).
    والسبب واضح فألف عابد ليست لهم فطنة وفقه في دينهم لا يجد الشيطان عناءاً كبيراً في اضلالهم والانحراف بهم ومن ناحية اخرى فهم يشكلون خطراً محدوداً لا يتعدى انفسهم لان امتدادهم وتأثيرهم على الاخرين ليس وارداً .. أما مؤمن يفقه دينه ويعيه بمختلف ابعاده فان اضلاله مهمة شاقة وصعبة على الشيطان هذا أولاً وثانياً فانه جبهة قابلة للتوسع والامتداد بواسطة تأثيره واستقطابه للآخرين ...
1 ـ ميزان الحكمة : ج 6 ص 461.

(72)
    من هنا يصب الشيطان كل جهوده واهتمامه على هذه الجبهة الخطيرة وهي : المؤمن الرسالي ...
    وقد جاءت النصوص الدينية عن انبياء الله وائمة الهدى تحذرنا من الغفلة وتؤكد علينا ضرورة استمرار التنبه واليقظة ...
    قال أمير المؤمنين ( عليه السلام ) :
    « ومن غفل غرته الاماني واخذته الحسرة » (1).
    وعن الامام الصادق ( عليه السلام ) :
    « ان كان الشيطان عدوا فالغفلة لماذا ؟ » (2).
    احذروا مؤامرات الشيطان
    وثمة ملاحظة اخرى مهمة جداً في هذا المجال :
    حينما يعمل الشيطان على اضلال المؤمن والانحراف به على جادة الصراط المستقيم فانه قد لا يأتيه من قبل الذنوب الواضحة والمعاصي المكشوفة فيحاول مثلاً ان يقنعه بشرب الخمر او باللواط او ترك الصلاة ... انها حينئذ محاولة مفضوحة ومحكوم عليها بالفشل بالنسبة لمؤمن ملتزم ...
    فلا بد من اختيار الخطة المناسبة التي يمكن ان تنطلي على المؤمن في لحظة غفلة او سهو يقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في وصيته لكميل بن زياد « ان لهم ـ الشياطين ـ خدعاً وشقاشق وزخارف ووساوس وخيلاء. على كل احد قدر منزلته في الطاعة والمعصية فبحسب ذلك يستولون عليه بالغلبة » (3).
    فعن اي طريق اذن يجيء الشيطان ؟؟
1 و 2 ـ سفينة البحار : ج 2 ص 323.
3 ـ بصائر وهدى للمؤلف : ص 62.


(73)
    انه يأتي للانسان المؤمن عن طريق دينه ، فيحيك له مؤامرة يضفي عليها طابع الدين ، وينصب له فخاً عليه مظاهر الطاعة والعبادة وحينما يغيب عن المؤمن وعيه وانتباهه وتيقظه في احدى اللحظات فانه يقع في فخ الشيطان ويتورط في مصيدته !!
    وهذا هو ما حذر منه القرآن الكريم بقوله ( ولا تلبسوا الحق بالباطل ) ويقول أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « فلو ان الباطل خلص من مزاج الحق لم يخف على المرتادين ولو ان الحق خلص من لبس الباطل انقطعت عنه السن المعاندين ، ولكي يؤخذ من هذا ضغث ومن هذا ضغث فيمزجان فنهالك يستولي الشيطان على اوليائه وينجو الذين سبقت لهم من الله الحسنى » (1).
    ومن هذا القبيل ما يصنعه الشيطان في نفوس بعض المؤمنين من تضخيم بعض قضايا الدين على حساب سائر القضايا الدينية.
    يقول الامام زين العابدين علي ابن الحسين ( عليه السلام ) في دعائه : « فلولا ان الشيطان يختدعهم من طاعتك ما عصاك عاص ، ولولا انه صور لهم الباطل في مثال الحق ما ضل عن طريقك ضال » (2).
    فباسم العبادة والاقبال على الصلاة الدعاء يهمل الجهاد في سبيل الله. وتحت عنوان لزوم « التقية » ووجوبها يعيش المؤمن الخضوع والاستسلام للطغيان والباطل ...
    وبحجة اتباع وتقليد احد الفقهاء والمجتهدين يترك الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والعمل على مقاومة الظلم والفساد ...
    وبمبرر التفرغ لا صلاح الذات وبنائها يكون التهرب من النشاط والعمل
1 ـ نهج البلاغة رقم : 50.
2 ـ الصحيفة السجادية دعاء : 37.


(74)
في سبيل الله ...
    ان امثال هذه الموارد غالباً ما تكون مصائد واحابيل للشيطان تنطلي على بعض المؤمنين في لحظات الغفلة وعدم الانتباه.
    وعلينا ان نتذكر احداث التاريخ لنستفيد منها دروساً تجعلنا قادرين على فضح مؤامرات الشيطان ... فالذين اعتزلوا القتال مع أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب ( عليه السلام ) ضد معاوية كانت له امثال هذه التبريرات ... حيث قالوا : انها فتنة وتورط في سفك دماء المسلمين لا نلطخ ايدينا بها ...
    والذين قعدوا عن نصرة الامام الحسين وسكتوا على حكم يزيد كانوا يقولون : مالنا والدخول بين السلاطين او من لا تقية له لا دين له.


(75)
    والان : ما هي الضمانات التي يلجأ اليها الانسان المؤمن لمواجهة اخطار الانحراف والضلال ؟؟؟.
    والجواب : انها المزيد من الوعي واليقظة ومجاهدة النفس ... ولكي يتوفق الانسان لذلك لا افضل من التتلمذ على توجيهات ووصايا ائمة الهدى وجدهم الرسول الاعظم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ...
    تلك التوجيهات التي تنفذ الى اعماق نفس الانسان لتسلط له الضوء على الرواسب المتبقية في نفسه من التربية الخاطئة والبيئة الفاسدة ...
    والوصايا التي تعطي الانسان الثقة بنفسه وترفع معنوياته وتجعله في مستوى التحدي ومواجهة كل دنيا الفساد واجواء علام الانحراف ...
    انها تكشف للانسان عن حقائق الكون والحياة وتجعله ينظر الى ما حوله ببصيرة نافذة وعميقة.
    وتمنح هذه الوصايا الرائعة للانسان قدرة نفسية كبيرة على تجاوز كل الضغوط ومواجهة جميع الازمات والمصاعب التي تعترض طريق المؤمن الملتزم بصدر رحب ونفس مطمئنة راضية مرضية ...
    واخيراً فان هذه التوجيهات العظيمة تفضح امام الانسان كل مخططات الشيطان ومؤامراته وتجعل الانسان يقظاً واعياً مستقيماً على الصراط
معرفة النفس ::: فهرس