معرفة النفس ::: 136 ـ 150
(136)
مختلفة تدمر حياته .. والاسلام الذي جاء لاسعاد البشرية كان له موقف حازم من اولئك الذين يحاولون ان يكبتوا غرائزهم وقد نقل لنا التاريخ قصة ثلاثة اشخاص حاولوا ان يسيروا على هذا المنوال فمنعهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ). فقد جاء ثلاثة رهط بيوت الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فسألوا عن عبادته ، فلما اخبروا كأنهم تطاولوها : فقالوا : « واين نحن من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ». اما احدهم فقال : « اني اقوم الليل كله » واما الثاني فقال : « اصوم الدهر ولا افطر » واما الثالث فقال : « لا اتزوج النساء » فلما حضر الرسول ( صلوات الله عليه وآله ) واخبر بما قالوا ، جمع المسلمين في المسجد وخطب فيهم فقال :
    « ما بال اقوام قالوا كذا وكذا والله اني لاقر بهم الى الله واخشاهم له ولكني اصوم واصلي وارقد واتزوج النساء. فمن رغب عن سنتي فليس مني » (1).
    وقد جاء في كتب الاحاديث ان امرأة سألت ابا جعفر الباقر ( عليه السلام ) :
    فقالت : اصلحك الله اني متبتلة.
    فقال لها : وما التبتل عندك ؟
    قالت : لا اريد التزويج ابداً.
    قال : ولم ؟
    قالت : التمس في ذلك الفضل.
    فقال : انصرفي فلو كان في ذلك فضل لكانت فاطمة ( عليها السلام )
1 ـ قبسات من حياة الرسول : ص 122.

(137)
احق به منك ، انه ليس احد يسبقها الى الفضل » (1).
    ويقول الرسول ( صلى الله عليه وآله ) « لا رهبانية في الاسلام » ومن هذه الاحاديث والروايات وامثالها نستشف حقيقة ظاهرة وهي ان كبت الغرائز مخالف للشرع ومتعارض مع الصحة والسلوك السوي.
    وعلى الرغم من ان الغرائز تعتبر من المحفزات الاساسية لتطور البشرية وبعث النشاط والحيوية في نفوس الشعوب الا ان مثلها كما يعبر عنه احد العلماء كالنهر الجاري العاتي الي يمكن ان يدمر المدن والقرى والارياف حينما يتجاوز القنوات التي تعمل على تصريفه بالشكل المفيد. فكما النهر الذي يعتبر عاملاً رئيسياً لسعادة الشعوب القائمة على ضفافه حينما لا يتجاوز حده كذلك الغرائز تمد الانسان بطاقة كبيرة حينما يتم الاستفادة منها بالشكل المعقول والسليم.
    اما اطلاق العنان للغرائز فهو يدعو الانسان للافراط وهذا الافراط لا يقتصر ضرره على الشخص وحده بل يؤثر على مجتمعه فالافراط في الطعام والشراب مثلا يؤدي الى امراض جسدية ونفسية لذلك يقول الله تعالى :
    ( وكلوا واشربوا ولاتسرفوا انه لايحب المسرفين ) (2) وكذلك الافراط في الغريزة الجنسية وغريزة التملك وحب الذات والزعامة .. كلها حالات تدمر كيان الفرد والمجتمع على السواء حينما لاتوضع رقابة عليها تحذو بها نحو الاتزان والاعتدال وتوجهها في قنواتها الصحيحة .. وهذا ماحدث فعلا في المجتمعات الغربية حينما اطلق العنان لشهوات الانسان وغرائزه حيث تحولت الحياة هناك الى جحيم من المآسي والمشاكل وفقدت الحياة قيمتها وهدفها.
1 ـ ميزان الحكمة : ج 4 ص 274.
2 ـ سورة الاعراف : ـ 36.


(138)
والمشاكل وفقدت الحياة قيمتها وهدفها.
    ومن اجل ان نعرف فداحة ما حدث في الغرب جراء اطلاق العنان للشهوات دون قيود وضوابط نستعرض الحقائق التالية :
    ـ ارتفاع معدلات الجريمة في بريطانيا :
    كشفت احصائية اصدرتها « الاسكتلنديارد » البريطانية عن ارتفاع كبير في نسبة الجرائم في بريطانيا خلال الاشهر الثلاثة الاولى من عام 1990 م عما كانت عليه في عام 1989 م ، فقد زادت نسبة جرائم الاغتصاب بمعدل 24 % اي نحو خمسة الآف جريمة عن عام 1989 م في وقت ارتفعت نسبة الجرائم الاخرى مثل العنف والسرقات والسطو بمعدل 10 % واوضحت الشرطة بأنه منذ مطلع العام الحالي 1990 م ولغاية نهاية مارس من العام نفسه شهدت العاصمة لندن وحدها ( 770 ) الف و ( 500 ) من انواع الجرائم.
    واذاعت وزارة الداخلية البريطانية في احدث تقاريرها عن معدلات الجريمة في الربع الاول من العام الحالي 1990 م ابرز ما وصفته بأكبر زيادة سجلتها ملفات الشرطة عن وقوع الجرائم في مقاطعة لندن الكبرى وقد بلغت الزيادة نسبة 15 % وبمعدل وقوع 75 جريمة في الدقيقة الواحدة ، وبمجموع مليون جريمة خلال الاشهر الثلاثة من العام 1990 م ، وقد سجلت ملفات الشرطة في بريطانيا في الربع الاول من العام 1990 م وقوع ( 000 ، 180 ، 1 ) مليون جريمة تحتل فيها جرائم السرقة والسطو المسلح على الممتلكات العقارية نسبة 94 % فيما شكلت جرائم النشل والاغتصاب والاعتداء على الافراد 5 %.
    وابرزت احدث احصائية اذيعت في لندن مؤخراً ، ان اكثر من ربع عدد المواليد في بريطانيا غير شرعيين ، وان انخفاض هيكل الحياة التقليدي برز


(139)
من خلال ارقام نشرها مكتب الاحصاء الحكومي.
    ـ الجرائم والفساد الاجتماعي في امريكا :
    تحاول جهات عديدة في امريكا حل لغز انتحار المراهقين والمراهقات والذي يصل الى خمسة الآف ينتحرون سنوياً ، وقد زادت نسبة الوفيات بين سن الخامسة عشر والرابعة والعشرين والسبب هو الانتحار الذي وصل بنسبة 136 % كما ان 90 % من المراهقين الذي يحاولون الانتحار من الاناث.
    اما عن الخيانة الزوجية فقد قال ثلاثة ازواج امريكيين من بين كل اربعة ازواج شملهم البحث بشأن مواقفهم تجاه الزوج انهم متأكدون من ان زوجاتهم غير فارغات لهم على الاطلاق ولكن نحو 35 % من النساء الذين تم استطلاع ارائهن فقلن انهم خدعن ازواجهن بالفعل.
    واظهرت الدراسة اتي تنشر في كل شهر يونيو في مجلة « ايسكوايرا » ايضا ان 50 % من الرجال الذي شملهم الاستطلاع قالوا : ان لهم علاقات مع نساء غير زوجاتهم في حين قالت 65 % من السيدات انهن مقتنعات بأن ليس لازواجهن علاقة مع احد غيرهن.
    واظهرت احصاءات امريكية في واشنطن ان جرائم القتل في الولايات المتحدة الامريكية تؤيدي كل عام الى مصرع ( 4000 ) شخصاً ، واكدت الاحصائيات الى ان الولايات المتحدة الامريكية بالمقارنة مع الدول الاخرى تأتي في الدرجة الاولى بمعدل 9 ، 21 جريمة لكل 100 الف نسمة ، وان معظم الدول الاخرى يتراوح فيها معدل جرائم القتل ما بين ثلاثة لكل 100 الف نسمة.
    وذكرت الانباء ان عدد حوادث القتل في العاصمة الامريكية ( واشنطن ) قد وصل الى رقم قياسي جديد بزيادة عدد الاشخاص الذين لقوا مصرعهم


(140)
في الاحد عشر شهراً الاولى من العام 1990 م عن عددهم طوال سنة ( 1989 م ) كلها وقد وصلت الى 436 قتيلاً.
    وتوصف واشنطن التي يعيش فيها 617 الف نسمة بأنها عاصمة القتل لان نسبة حوادث القتل بالنسبة لعدد السكان هي اعلى نسبة عن اي مدينة اخرى امريكية.
    اما نيويورك فقد اصبحت مدينة الالفي جريمة سنويا (1).
    المذهب الثالث : تنظيم وضبط الغرائز ..
    وهذا المذهب يرفض كلا المذهبين ، وهو المذهب الاسلامي الذي يرى ان الغرائز ليست شياطيناً يجب ان تكسر رؤوسها وليست الهة يصح ان تعبد وتلبى لها كل رغباتها وانما يعتبر الغرائز هي نعمة من نعم الله على الانسان ينبغي ان يعي الطريقة المثلى في التعامل معها حتى يستفيد منها في تطوير ذاته وكيانه وبناء حضارته ولكنها قد تتحول الى وحش كاسر يدمر كل من يقف امامه اذا ما اسيء التعامل معها او يتحول الانسان حينما يقعمها الى كيان آخر مآله الفناء والاندحار.
    وقد اعطى الاسلام تشريعات واضحة للتعامل مع الغرائز من منطلق الاعتراف بها فالله سبحانه وتعالى الذي خلق الانسان واوجده علىهذه البسيطة ويعلم ما يدور في كل خلية من خلايا جسمه المليونية ، هو ذاته الذي ارسل رسالة الاسلام وجعلها تتناسب تناسباً اصيلا مع كيانه ، وحينما خلق في الانسان الغرائز اراد للانسان ان يستفيد منها ويستغلها في العمل الخير.
1 ـ جميع الاحصائيات من كتاب ( حقائق وارقام لعامي 1989 / 1990 ) للمؤلف : صراع شبيب الدهيم.

(141)
    ان غريزة حب الذات والتي هي مجال حديثنا غريزة متجذرة في نفس الانسان لايمكن انكارها او التنكر لها بل ربما تكون هي اصلا واما لبقية الغرائز الاخرى رغم ان النظرية الماركسية تتنكر لها.
    التعامل مع غريزة حب الذات
    اذن تجاه غريزة حب الذات كيف يجب ان يكون موقفنا ؟ هل نطالب الانسان ان يتنكر لها ويفكر في مجتمعه فقط ، ام يطلق العنان لها ؟
    لقد اودع الله هذه الغريزة في الانسان وعن طريق هذه الغريزة يحمي الانسان نفسه ويخاف على حياته ، فاذا لم يحب نفسه فلن يحب الخير لذاته ولن يدفع الشر عن نفسه ، واذا افرط الانسان في حب ذاته فانه يضر نفسه ومجتمعه فيستعمر الاخرين ويستثمر جهودهم ويعتدي على ممتلكاتهم وحقوقهم ، هذا شيء طبيعي حتى قال الشاعر :
والظلم من شيم النفوس فان تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
    فلأن الانسان عنده غريزة حب الذات فانه يتحين الفرص ليأخذ من الاخرين لذاته.


(142)
    فليس من المعقول ان نفتح المجال ونطلق العنان للانسان حتى يمارس هذه الغريزة كيفما يشاء.
    اذن ما هو الطريق ؟
    الطريق الصحيح ما اختاره الاسلام للبشرية ، انظروا الى الحل الرائع الذي يقدمه الاسلام لهذه المشكلة المستعصية في حياة الانسان ، الاسلام يقول يجب ان نطور مفهوم حب الذات عند الانسان ، بعبارة اخرى : الاسلام يرشد الانسان الى الطريقة الصحيحة لحب ذاته وخدمة نفسه. كيف ؟
    الانسان لديه نظرة : انه يمتلك فرصة واحدة في الحياة الدنيا ولا يوجد فرصة سواها ، كل واحد يعيش فترة في هذه الحياة ثم تنتهي مدته وينتهي كل شيء.
    حينما تتمكن هذه الفكرة من الانسان ويتصور ان حياته فقط في الدينا ، فانه يبنى حساباته على هذا الاساس ، فما دامت الفرصة الوحيدة امامي هذه الدنيا ، وانا احب ذاتي ، وفي الدجنيا شهوات ولذات ، ومتع واهواء ومصالح ، فالنتيجة الحاصلة هي ان امتع نفسي ، واوفر لها كل ما تحتاج من الشهوات واللذات ولو كانت على حساب الاخرين.
    ولذا الاسلام يوجه الانسان ويقول له : انتبه ان هذه الفكرة هي مكمن خطأك ومصدر شقائك ، من قال لك انك تعيش سنوات ويأتي الموت ويسدل الستار على مسرحية الحياة ؟
    هل الله يوجد الحياة من اجل ان يعيش الانسان ثم يمضي وكأنه لم يكن شيء ؟
    ( افحسبتم انما خلقناكم عبثاً وانكم الينا


(143)
لا ترجعون ) (1).
    الاسلام يخاطب الانسان ويقول : ايها الانسان وجودك في هذه الحياة ما هو الا وجود مؤقت ؛ ما هو الا مرور سريع في هذه الدنيا ، امامك حياة اخرى وما دامت تحب نفسك فيجب ان تخدمها في الدارين ، في هذه الدنيا تعيش خمسين او ستين او سبعين سنة ولكنك في الاخرة ستعيش دار الخلود ملايين السنين. فاذا كنت تحب نفسك هل من العقل في شيء ان تسعد مئة سنة وتشقى مليون سنة ؟؟
    واذا كنت في الدنيا تريد ان ترتاح وتأكل وتشرب وتمارس الغريزة الجنسية وتمتلك. افلا تريد مثل هذه الامور في الاخرة ؟ فاذا كنت تريدها فلماذا لاتعمل من اجلها ؟ وهذا يستدعي من الانسان ان يؤطر غرائزه بالاطر التي امر بها الاسلام ، وتصب في القنوات التي سمح بها الاسلام ، فالغريزة الجنسية يجب ان يكون مصرفها الزواج المشروع وحب التملك يجب ان يحدث عن طريق الكسب الحلال والمشروع .. على ان لاتكدس تلك الاموال والاملاك دون ان تفيد منها المجتمع ..
    هذا المفهوم من حب الذات مفهوم شامل يوسع مدارك الانسان ويسير به نحو التقدم والتخلص من الاخطار والمشاكل والتوازن بين الحياتين مصداقاً للدعاء الوارد في القرآن الحكيم.
    ( ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ) (2).
    فانك في هذه الدنيا لاتقبل لنفسك ان تأكل القاذورات ، لكنك حينما تسرف في هذه الغرائز وتشبع رغباتك الشهوانية بالحرام ، فانك في الواقع
1 ـ سورة المؤمنون : ـ 115.
2 ـ سورة البقرة : ـ 201.


(144)
تمهد الطريق لنفسك لاكل القاذورات التي هي اقذر مما في الدنيا انها قاذورات الاخرة التي يصفها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم بقوله :
    ( ليس لهم طعام الا من ضريع ) (1).
    ( فليس له اليوم ههنا حميم ، ولا طعام الا من غسلين ) (2).
    ( ان لدينا انكالاً وجحيماً وطعاماً ذا غصة وعذاباً اليما ) (3).
     ( كالمهل يغلي في البطون كغلي الحميم ) (4).
     ( هذا فليذوقوه حميم وغساق ) (5).
    والغساق هي فضلات اهل النار التي تخرج من اجسامهم تعاد لهم ثانية فيأكلونها ، فهل يرتاح الانسان لاكل مثل هذه القاذورات ؟!
    فلماذا اذن يجرى البعض كجري النهر الغاضب وراء الشهوات والملذات دون ان يتطلع الى الاخرة ويكون له مستقبلاً سعيداً هناك ان مثل هؤلاء يخاطبهم القرآن الكريم ويقول :
    ( ويوم يعرض الذين كفروا على النار اذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الارض بغير الحق وبما كنتم تفسقون ) (6).
    ومن ناحية ثانية فان الاسلام يوجه نظر الانسان الى نوعية اللذات التي
1 ـ سورة الغاشية : ـ 6.
2 ـ سورة الحاقة : ـ 36.
3 ـ سورة المزمل : ـ 13.
4 ـ سورة الدخان : ـ 46.
5 ـ سورة ص : ـ 57.
6 ـ سورة الاحقاف : ـ 20.


(145)
يكسبها الانسان في هذه الحياة ، فهناك لذات مادية واخرى معنوية واللذات المعنوية لاتقل اسعادا للانسان حينما يمارسها عن اللذات المادية بل قد تفوقها حينما يفهم الانسان الممارسة للملذات المعنوية فقد فطر الله الانسان وخلق فيه استعدادات وميول للذات المادية الجسمية والمعنوية.
    فعلى سبيل المثال خدمة الوطن حينما يخدم الفرد وطنه فانه لا يستحصل من ذلك لذة مادية وانما لذة معنوية لانه قد يضحي بماله وباهله وبنفسه في سبيل حماية وطنه وتقدمه فهل هذه لذة مادية ان يقتل الشخص في سبيل حماية وطنه ؟ كلا.
    ولان الاسلام ينسجم مع فطرة الانسان وقائم على المعرفة الكاملة بطبيعة الانسان فقد وجه الانسان الى لذاته المعنوية واطر نظرته للذات المادية لكي لا ينساق الانسان مع القسم الاخر من طبيعته المادية ويترك الطبيعة المعنوية التي هي ايضا جزء رئيسي من كيانه اذا فقده انسانيته واصبح كسائر المخلوقات الحيوانية.
    من هنا فالاسلام يحث المؤمن على التضحية والعطاء وخدمة الاخرين وعلى الجهاد والايثار.
    والانسان حينما يمارس هذه الاعمال التي تشكل عطاء من ذاته وليس اخذاً لذاته وهو عارف بقيمتها فانه يشعر بلذة عميقة تغمر كيانه الى الاعماق ، اين منها لذات اصحاب الشهوات والاهواء.
    كمثال على ذلك لو ان شخصاً في يوم من الايام ذهب الى عمله وحصل على 1000 دينار من تجارته لاريب انه سوف يفرح كثيراً وفي المقابل لو ان مؤمناً انفق في سبيل الله 1000 ديناراً بشرط ان يكون عارفاً بقيمة ما ينفقه فلا ريب ان لذته سوف تكون اعمق من لذة ذلك الانسان الاول.


(146)
والاسلام حينما يحث على الايثار لا يقصد جلب الالم في نفس المؤثر بل جلب الراحة خصوصاً حينما يرى اولئك الذين انفق امواله عليهم يعيشون في سعادة فانه يرتاح الى هذه السعادة بشكل كبير ، ويلفتنا القرآن الكريم الى صفة من صفات المؤمنين المخلصين ويقول :
    ( ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة ) .
    فعلى الرغم من حاجة المؤمن في بعض الاحيان الا انه يتنازل عن هذه الحاجة في سبيل اغناء الاخرين المحتاجين ، كيف يرضى الانسان بنفسه ان يترك حاجته ويتوجه الى سد حاجات الاخرين ؟ لايفعل ذلك الا من ايقن بدور هذه العطاء فلانه يحب ذاته حباً حقيقياً اعطى الاخرين مما عنده وآثرهم على نفسه لانه يعتقد ان هذا الايثار ينفعه يوم القيامة يقول الله سبحانه وتعالى :
    ( من عمل صالحاً فلنفسه ومن اساء فعليها ) (2).
    ان ذلك الشخص الذي يعطي طعامه للآخرين وهو جائع لم يخسر ابداً وانما ربح ، فهو يشبه الى حد بعيد التاجر الذي يضع رأس ماله في مشروع ليستلم ارباحه فيما بعد.
    واهل البيت ( عليهم السلام ) خير قدوة لنا في الايثار ففيهم نزل قوله تعالى في سورة الدهر :
    ( ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً واسيراً انما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءاً ولا شكوراً انا نخاف من ربنا يوماً عبوساً
1 ـ سورة الحشر : ـ 9.
2 ـ سورة فصلت : ـ 46.


(147)
قمطريراً ) (1).
    « وعن ابن عباس ان الحسن والحسين مرضا ن فعادهما رسول اله في ناس معه ، فقالوا : يا ابا الحسن لو نذرت على ولديك ، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما ، ان برئا مما بهما ان يصوموا ثلاثة ايام فشفيا ، وما معهم شيء ، فاستقرض عي من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة اصوع من شعير ، فطحنت فاطمة صاعاً ، واختبزت خمسة اقراص على عددهم ، فوضعوها بين ايديهم ليفطروا ، فوقف عليهم سائل فقال : السلام عليكم اهل بيت محمد ، مسكين من مساكين المسلمين ، اطعموني اطعمكم الله من موائد الجنة ، فآثروه ، وباتوا ولم يذوقوا الا الماء ، واصبحوا صياماً ، فلما اسموا ووضعوا الطعام بين ايديهم ، وقف عليهم يتيم فآثروه ، ووقف عليهم اسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك.
    فلما اصبحوا اخذ علي بيد الحسن والحسين واقبلوا الى رسول الله ، فلما ابصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع ، قال : ما اشد ما يسوؤني ما ارى بكم ، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها ، قد التصق بطنها بظهرها ، وغارت عيناها ، فساءه ذلك ، فنزل جبرائيل وقال : خذها يا محمد هناك الله في اهل بيتك ، فأقراه السورة » (2).
    هذا هو المفهوم الصحيح لحب الذات ، فالانسان الذي يحب ذاته يجب ان يعرف انه بالعطاء يحب ذاته ويخدمها ويوفر لها سعادة هانئة في المستقبل جربوا ايها الاخوة اللذة المعنوية ، لذة العطاء ان تأكل او ان تعطي ، قد يبدو للواحد منا انه عندما يأكل يلتذ اكثر لكنه لو جرب ان يعطي لاكتشف ان عطاءه يوفر له لذة اكثر.
1 ـ سورة الانسان : 7 ـ 10.
2 ـ اخلاق اهل البيت (ع) : ص 79.


(148)
    ان الانسان يخطئ في حبه لذاته حينما يدرك الفهم الاسلامي الصحيح لحب الذات ، فهو يريد ان ينفع نفسه فيضرها ، يريد ان يحب ذاته فيؤذيها.
    الانانية مرض خطير يصيب الانسان فهي تعني حب الذات بطريقة معكوسة هل رأيت حب الذات بطريقة معكوسة ؟
    نعم ان من يحصر اسعاد الذات بالملذات الدنيوية المادية وينسى اللذات المعنوية فهو يضر ذاته ولا ينفعها ، وعنهم قال الله تعالى :
    ( الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون انهم يحسنون صنعاً ) (1).
1 ـ سورة الكهف : ـ 104.

(149)


(150)
معرفة النفس ::: فهرس