المصرع التاسع
من مصارع الحسين عليه السلام
ضعوا أقدام التوكل في ركاب اليقين ، واثنوا أعنّة التأمل على قرابيس الحقيقة والتعيين ، وامتشقوا لوامع الثكل من أجفان الأسف والتهوين ، وأسرعوا وثبة الوجل واستحضروا نوائي الحنين ، وأغرخوا شكائم النياحة والزجل في مضامير الوصب والأنين ، وتصوروا أقدام الغطارفة الكمّل والأماجد الميامين ، على مشتبكات الوشيج الأسل والتثام كلّ باتر سنين وشاركوهم في المقام الأنبل والمسكن الأمين ، فلقد والله فازوا بغاية الأمل ، وجادوا بالنفيس الثمين ، تجرّعوا كاساة حرارة النكل فبردت غللهم من ضرام التوهين ، وصبروا على اقتحام لجج الخوف والوجل ، واطمأنّوا في القرار المكين ، ولله در من قال من الأبدال ولقد أجاد :

قوم كأولهم في الفضـل آخرهـم * والفضل أن يتساوى البدء والعقب
فمنذر مصطفى بالوحـي منتجب * ومرتضى مجتبى بالهدي منتخب
الواهبون لدى البأساء مـا وجدوا * والطالبون بصدر الرمح ما طلبوا
والمدركــون إذا ما أزمة بخلت * بصرفهـا وتخلت عندها الصحب
وكم لهم حين جد الخطب مـن قدم * رست عُلا والجبال القود تضطرب
ولا كيومهـم فـي كربلاء وقــد * جدّ البلا وارجحنّت عندهـا الكرب
وفتيــة وردوا ماء المنـون بها * ورد المضاضة ظمآن الحشا سغب
من كل ابيض وضّاح الجبيـن له * نوران من جانبيه الفضل والنسب
تجلو العفاة لهم تحت القنا غـررا * تلاعب البيـض فيها والقنا السلب


( 120 )

أمة ! أميّة أن تعلـو لهـا شـرف * ويصبـح الرأس مخدومـا له الذنب
ودون مـا يممّت هنـد وجارتهـا * هنـد السيوف وحرب دونه الحرب
جاءت ليستعبد الحر اللئيــم وفي * عود العلا عند عجم الضيم مضطرب
فشمّرت للوغــى فرسانهـا طربا * وامتـاز بالسبك عن ما دونها الذهب

روي في كتاب « الملهوف على قتلى الطفوف » : أنه لما استشهد الحر رضي الله عنه برز من بعده برير بن خضير الهمداني ، فلما حاذ الحسين عليه السلام قال : السلام عليك يا ابن رسول الله ، أستودعك الله .
فأجابه الحسين : « وعليك السلام ، ونحن خلفك » . وقرأ عليه السلام : ( فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا ) (1) .
ثم نادى برير : اقتربوا مني يا قتلة المؤمنين ، اقتربوا مني يا قتلة أولاد البدريين ، اقتربوا مني يا قتلة أولاد رسول رب العالمين وذريته الباقين .
وكان برير زاهدا عابدا ، وكان أقرأ أهل زمانه ، فحمل على القوم وهو يقول :

أنا بريــر وأبو خضيــر * ليث يروع الأسد عن الزير
يعرف فينا الخير أهل الخير * ذلك فعل الخيــر من برير

فلم يزل يقاتل حتى قتل عشرين فارسا وثلاثين راجلا ، فخرج إليه يزيد بن معقل واتفقا على المباهلة إلى الله تعالى بأن يلعن الكاذب منهما وأن يقتل المحقّ المبطل منهما ، فتلاقيا فقتله برير وقتل معه عدّة من الرجال ، فتكاثروا عليه فقتلوه رحمة الله عليه ، فلما قتل برير عظم ذلك على الحسين عليه السلام (2) .
قال : فخرج من بعده وهب بن حباب الكلبي ، فأحسن في الجلاد وبالغ في الجهاد ، وكانت امرأته ووالدته معه ، فقالت له أمه : جاهد بين يدي ابن بنت
____________
(1) سورة الأحزاب : 33 : 23 .
(2) رواه السيد مختصرا في الملهوف : ص 160 .
ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 432 مع إضافات ، وابن الأثير في الكامل : 4 : 66 ، والمجلسي في البحار : 45 : 15 .

( 121 )

رسول الله . فقال : أفعل يا أماه ولا أقصّر .
ثم إنه شدّ على قلب الجيش واقتحم المعمعة وهو يقول :

إن تنكروني فأنا ابن الكلــب * سوف تروني إذ ترون ضربي
وحملـني وصولتي في الحرب * أدرك ثـاري بعد ثار صحبي
ليس جهادي في الوغى باللعب * وأدفــع الكرب أمام الكرب

فلم يزل يقاتل حتى قتل عشرين فارسا ، ثم رجع إلى أمه وامرأته فقال : يا أماه ، ارضيت عنّي بنصرتي للحسين ؟
فقالت له : والله ما أرضي عنك إلا أن أراك قتيلا بين يدي الحسين .
فقالت له امرأته : بالله لا تفجعني بنفسك .
فقالت له أمه : يا بنيّ ، اعزب عن قولها وارجع فقاتل بين يدي ابن بنت نبيك تنل شفاعته يوم القيامة .
فرجع فلم يزل يقاتل حتى قطعت يداه ، فلما رأته زوجته أخذت عمودا وأقبلت نحوه وهي تقول : قاتل يا وهب فداك أبي وأمي ، قاتل دون الطيبين ، قاتل دون حرم رسول ربّ العالمين .
فاقبل كي يردّها إلى النساء ، فأبت وقالت : لن أعود حتى أموت معك . فاستغاث زوجها بالحسين ، فأتاها الحسين عليه السلام وقال لها : « جزيتم من أهل بيت خيرا ، ارجعي رحمك الله » .
فقاتل بعلها حتى قتل ـ على ما نقل ـ من القوم خمسين رجلا ما بين فارس وراجل ، ثم قتل رحمه الله ، فجاءت إليه إمرأته وجعلت تمسح الدم عن وجهه ، فأمر عمر بن سعد غلاما له فضربها بعمود من حديد ، فشدخ راسها فماتت رحمة الله عليها ، وكانت أول امرأة قتلت في عسكر الحسين عليه السلام (1) .
ثم برز خالد بن عمر وقاتل قتال المشتاقين إلى لقاء رب العالمين ، ثم كرّ على
____________
(1) رواه السيد في الملهوف : ص 161 مع إضافات .
ورواه المجلسي في البحار : 45 : 16 .

( 122 )

القوم كرة الليث الجريء وهو ينشد ويقول :

صبرا على الموت بني قحطان * كيما تكونوا في رضى الرحمان
ذي المجد والعـزة والبرهـان * وذي العلا والطـول والإحسان
يا أبتا قد صـرت للجنــان * في قصر فضـل حسن البنيان

ولم يزل يحمل فيهم حتى قتل ، رحمة الله عليه (1) .
ثم برز من بعده عمر بن خالد الأزدي وقاتل قتال الأبطال وجدّل بسيفه الرجال وهو يقول :

إليك يا نفسي إلى الرحمـان * وأبشـري بالروح والريحان
اليوم تجزين على الإحسـان * ما كـان منك غابر الأزمان
ما خطّ في اللوح لدى الديان * لا تجزعــي فكل حي فان

ثم قاتل حتى قتل رحمة الله عليه(2) .
وبرز من بعده سعد بن حنظلة التميمي ، فودّع الحسين عليه السلام وحمل على القوم وهو ينشد ويقول :

صبرا على الأسياف والأسنّة * صبـرا عليهـا لدخول الجنة
وحور عين ناعمات هنّــة * لمن يريد الفــوز لا بالظنّة

ثم اقتحم القلب وقاتل قتالا شديدا حتى قتل رحمة الله عليه (3) .
ثم برز من بعده مسلم بن عوسجة فبالغ في قتال الأعداء ، وصبر على أهوال البلاء ، وهو يرتجز يقول :

إن تسألوا عنّي فإنّي ذو لبـد * من فرع قوم من ذرى بني أسد

____________
(1) ورواه الخوارزمي في المقتل 2 : 14 .
(2) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 14 مع اختلاف قليل في بعض ألفاظ الأبيات ، وأضاف :

ما خط باللوح لدى الديّان * فاليـوم زال ذاك بالغفـران
لا تجزعي فكل حيّ فان * والصبر أحضى لك بالأمان

(3) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 14 مع إضافة بيت :

يا نفس للراحة فاطرحنّة * وفي طلاب الخير فارغبنّه

( 123 )

فمن بغانا حائدا عن الرشد * وكافرا بدين جبــار صمد

فقاتل حتى سقط عن فرسه إلى الأرض وبه رمق فمشى إليه الحسين ومعه حبيب بن مظاهر ، فقال له الحسين : « رحمك الله يا مسلم » . ثم قال عليه السلام : ( فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا ) (1) ، ودنا منه حبيب وقال : يعزّ عليّ مصرعك يا مسلم ، فأبشر بالجنة .
فقال له قولا ضعيفا : بشرّك الله بخير .
فقال له حبيب : لولا أعلم أني في الأثر لأحببت أن توصي إليّ بجميع ما أهمّك .
فقال له مسلم : إني أوصيك بهذا خيرا ـ واشار بيده إلى الحسين عليه السلام ـ فقاتل دونه حتى تموت .
فقال له حبيب : لأنعمنّك عينا . ثم مات رحمه الله .
قال : وصاحت جاريته : يا سيّداه ، يا ابن عوسجاه . فنادى أصحاب ابن سعد مستبشرين : قتلنا مسلم بن عوسجة . فقال شبث بن ربعي لبعض من حوله : ثكلتكم أمهاتكم ، أما إنكم تقتلون أنفسكم بأيديكم وتذلّون عزّكم ، أتفرحون بقتله ؟ ولقد رأيته يوم آذربيجان قتل ستة من المشركين قبل أن تلتئم خيول المسلمين (2) .
ثم برز من بعده عمرو بن قرظة الأنصاري واستأذن الحسين عليه السلام ، فأذن له فقاتل قتال المشتاقين إلى الجزاء ، وبالغ في خدمة سلطان السماء ، حتى قتل جمعا كثيرا من اللعناء ، وجمع بين سداد وتقى ، وكان لا يأتي إلى الحسين عليه السلام سهم إلا اتّقاه بصدره ، ولا سيف إلا تلقّاه بنحره ، فما وصل إلى الحسين سوء حتى أثخن
____________
(1) سورة الأحزاب : 33 : 23 .
(2) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 15 مع اختلاف في بعض الألفاظ .
ورواه الطبري في تاريخه : 5 : 435 ، وابن الأثير في الكامل : 4 : 68 ، والسيد في الملهوف : ص 161 .

( 124 )

بالجراح ، فالتفت إلى الحسين عليه السلام وقال : أوفيت يا ابن رسول الله ؟
قال : « نعم ، أنت أمامي في الجنة ، فاقرأ رسول الله مني السلام وأعلمه أني في الأثر » . ثم قاتل حتى قتل ، رحمة الله عليه (1) .
ثم تقدم جون مولى أبي ذر الغفاري ، وكان عبدا أسودا ، فقال له الحسين عليه السلام : « أنت في حلّ من بيعتي ، فإنما تبعتنا طلبا للعافية ، فلا تبتلي ببلائنا » .
فقال : يا ابن رسول الله ، أنا في الرخاء ألحس قصاعكم وفي الشدة أخذلكم ؟! والله إن ريحي لنتن ، وحسبي للئيم ، ولوني لأسود ، فتنفّس عليّ بالجنة ، حتى يطيب ريحي ، ويشرف حسبي ، ويبيضّ وجهي ، والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود بدمائكم . فلم يزل كذلك حتى أذن له الحسين ، فبرز للقتال وهو يقول :

كيف ترى الفجار ضرب الأسود * بالمشرفــي القاطــع المهند
بالسيف ذدنا عـن بنــي محمد * أذبّ عنهــم بالسنـان واليـد
أرجو بذاك الفوز عنــد المورد * من الإلـه الأحــد الموحــد
إذ لا شفيــع عنــده كأحمد

فقاتل حتى قتل (2) . فوقف عليه الحسين عليه السلام . وقال : اللهم بيّض وجهه ، وطيّب ريحه ، واحشره مع الأبرار ، وعرف بينه وبين محمد وآله الأطهار » (3) .
____________
(1) ورواه السيد في الملهوف : ص 162 ، وعنه المجلسي في البحار : 45 : 22 .
ورواه ملخصا الخوارزمي في المقتل : 2 : 22 ، والطبري في تاريخه : 5 : 434 ، والسماوي في كتاب ابصار العين في أنصار الحسين : ص 92 .
(2) ورواه السيد في الملهوف : ص 163 ، والخوارزمي في المقتل : 2 : 19 ، والسماوي في إبصار العين في أنصار الحسين : ص 105 .
ورواه المجلسي في البحار : 45 : 22 نقلا عن محمد بن أبي طالب .
(3) ورواه السيد في الملهوف : ص 163 ، والخوارزمي في المقتل : 2 : 19 ، والسماوي في إبصار العين في أنصار الحسين : ص 105 .
ورواه المجلسي في البحار : 45 : 22 نقلا عن محمد بن أبي طالب .

( 125 )

وروي عن الباقر عليه السلام ، عن علي بن الحسين عليهما السلام : « أن الناس كانوا يحضرون المعركة ويدفنون القتلى ، فوجدوا جونا بعد عشرة أيام يفوح منه رائحة المسك والعنبر ، رضوان الله عليه » (1) .
قال : وبرز من بعده عمرو بن خالد الصيداوي (2)وقال للحسين عليه السلام : يا أبا عبدالله جعلت فداك ، قد هممت بأن ألحق بأصحابي وكرهت أن أتخلّف وأراك وحيدا من أهلك أو قتيلا .
فقال له الحسين : « تقدم فإنا لاحقون بك بعد ساعة » .
فتقدم وقاتل حتى قتل ، رحمة الله عليه (3) .
قال : وجاء حنظلة بن سعد الشامي (4) ووقف بين يدي الحسين عليه السلام يقيه السهام والرماح والسيوف بوجهه ونحره ، وأخذ ينادي : ( يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب * مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد * يا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد ) (5) ، يا قوم لا تقتلوا حسينا فيسحتكم بعذاب منه وقد خاب من افترى (6) .
ثم التفت إليه الحسين عليه السلام وقال له : « يا ابن سعد رحمك الله ، إنهم قد استوجبوا العذاب حين ردّوا عليك ما دعوتهم من الحق ونهضوا إليك يشتمونك وأصحابك ، فكيف بهم الآن وقد قتلوا إخوانك الصالحين » ؟
____________
(1) ورواه السماوي في إبصار العين : ص 105 ، والمجلسي في البحار : 45 : 23 عن محمد بن أبي طالب .
(2) هذا هو الظاهر ، وفي النسخة : « خالد بن عمر الصيداوي » .
(3) رواه السيد في الملهوف : ص 164 ، وعنه المجلسي في البحار : 45 : 23 .
ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 24 ، والسماوي في إبصار العين : ص 66 .
ورواه مختصرا الطبري في تاريخه : 5 : 446 .
(4) في الإرشاد : 2 : 105 وتاريخ الطبري : 5 : 443 : « الشبامي » . وهم بطن من همدان .
(5) سورة الغافر : 40 : 30 ـ 32 .
(6) اقتباس من سورة طه : 20 : 61 .

( 126 )

فقال للحسين عليه السلام : أفلا نروح إلى ربنا ونلحق بإخواننا ؟
فقال : « بلى ، رح إلى ما هو خير لك من الدنيا وما فيها وإلى ملك لا يبلى » .
فتقدم فقاتل قتال الأبطال وصبر على احتمال الشدائد والأهوال حتى قتل ، حرمة الله عليه (1) .
قال الراوي : وحضرت صلاة الظهر ، فأمر الحسين عليه السلام زهير بن القين وسعيد بن عبدالله الحنفي أن يتقدما أمامه بنصف من تخلف من رجاله ، ثم صلى بهم صلاة الخوف ، فوصل إلى الحسين سهم فوقاه سعيد بن عبدالله بنفسه ، فما زال لا يتخطّاه حتى سقط إلى الأرض وهو يقول : اللهم العنهم لعن عاد وثمود ، اللهم أبلغ نبيك محمدا عني السلام وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح ، فإني أردت ثوابك في نصرة ذرية نبيك . ثم قضى نحبه ، رحمة الله عليه ، فوجد به ثلاثة عشر سهما سوى النبل بالأحجار والسيوف والرماح (2) .
ثم برز من بعده سويد بن عمرو بن أبي مطاع وتقدم أمام الحسين عليه السلام واستأذنه إلى الحرب ، فخرج فقاتل قتال الأسد الباسل ، وصبرعلى مصالات نار الخطب النازل ، حتى أثخن بالجراح وسقط بين القتلى ، فلم يزل كذلك وليس به حراك حتى سمعهم يقولون : قتل الحسين ، فتحامل وأخرج سكّينا من خُفّه وجعل يقاتلهم بها حتى قتلوه ، رحمة الله عليه (3) .
قال : وخرج شابّ قتل أبوه في المعركة وكانت أمه معه ، فقالت له : اخرج يا بنيّ وقاتل بين يدي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله . فخرج ، فقال الحسين عليه السلام : « هذا شابّ قتل أبوه ، ولعلّ أمه تكره خروجه » .
____________
(1) ورواه السيد في الملهوف : ص 146 ، وعنه وعن المناقب المجلسي في البحار : 45 : 23 .
ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 24 مع اختلاف في الألفاظ ، والطبري في تاريخه : 5 : 443 ، والمفيد مختصرا في الإرشاد : 2 : 105 .
(2) رواه السيد في الملهوف : ص 165 .
ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 17 ، والطبري مختصرا في تاريخه : 5 : 441 .
(3) الملهوف : 165 ـ 166 .

( 127 )

فقال الشاب : أمي أمرتني بذلك ، فبرز وهو يقول :

حسين أميري ونعم الأميـر * سرور فؤاد البشيـر النذير
علـيّ وفاطمـة والــداه * فهل تعلمون لـه من نظير
له طلعة مثل شمس الضحى * له غــرّة مثـل بدر منير

وقاتل حتى قتل ، واحتزوا رأسه ورموا به إلى نحو عسكر الحسين ، فأخذت أمه رأسه وقالت : أحسنت يا ولدي ، ويا سرور قلبي ، ويا قرة عيني . ثم رمت برأس ولدها فأصابت رجلا فقتله ، وأخذت عمودا وحملت عليهم وهي تقول :

أنا عجوز سيدي ضعيفة * خاويــة باليـة نحيفـة
أضربكم بضربة عنيفة * دون بني فاطمة الشريفـة

وضربت رجلين فقتلتهما ، فأمر الحسين بصرفها ودعا لها (1) .
قال : وبرز من بعده زهير بن القين وهو يرتجز ويقول :

أنا زهيــر وأنا ابن القيـن * أذود بالسيف عـن الحسيــن
إن حسينــا أحد السبطيـن * من عترة البرّ التقي الزّيــن
أضربكم ولا أرى من شيــن * يا ليت نفسي قسّمت قسمين (2)

فقاتل قتالا يشيب الوليد ، ويرعب من هوله قلب الصنديد ، حتى قتل كما روي مئة وعشرين فارسا وستين راجلا ، فشدّ عليه كثير بن عبدالله ومهاجر بن أوس التميمي فقتلاه ، فقال الحسين عليه السلام حين صرع زهير : « لا أبعدك الله يا زهير ، ولعن الله قاتلك ، لعن الذين مسخوا قردة وخنازير » (3) .
ثم برز من بعده حبيب بن مظاهر الأسدي فشدّ شدّة السرحان وأدخل نفسه
____________
(1) ورواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 21 ـ 22 .
(2) زاد في المقتل للخوارزمي :

ذاك رسول الله غير المين * أضربكم ولا أرى من شين

(3) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 20 .
وانظر وقعة الطف لأبي مخنف : ص 232 .

( 128 )

في حلق الطعان ، وهو ينشد مرتجزا ويقول :

أنا حبيب وأبي مظاهر * وفارس قوم ونار تسعر
وأنتم عند العديـد أكثر * ونحن أعلى حجة وأظهر
وأنتم عند الوفاء أغـدر * ونحن أوفى منكم وأصبر

فلم يزل يقاتل حتى شد عليه رجل من تميم فطعنه ، فذهب ليقوم فضربه الحصين بن نمير لعنه الله على رأسه بالسيف فوقع ونزل التميمي فاحتزّ رأسه (1) .
____________
(1) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 18 .
وروى أبو مخنف في وقعة الطف : ص 230 ، وعنه الطبري في تاريخه : 5 : 439 وفيه : فلا يزال الرجل من أصحابه الحسين قد قتل ، فإذا قتل منهم الرجل والرجلان تبيّن فيهم ، وأولئك كثير لا يتبيّن فيهم ما يقتل منهم .
قال : فلما رأى ذلك أبو ثمامة عمرو بن عبدالله الصائدي قال للحسين : يا أبا عبدالله ، نفسي لك الفداء ، أرى هؤلاء قد اقتربوا منك ، ولا والله لا تقتل حتى أقتل دونك إن شاء الله ، وأحبّ أن القى ربّي وقد صلّيت هذه الصلاة التي دنا وقتها .
قال : فرفع الحسين رأسه ثم قال : « ذكرت الصلاة ، جعلك الله من المصلين الذاكرين ، نعم هذا أوّل وقتها » . ثم قال : « سلوهم أن يكفّوا عنا حتى نصلّي » . فقال لهم الحصين بن تميم : إنها لا تقبل ! فقال له حبيب بن مظاهر : لا تقبل زعمت ! الصلاة من آل رسول الله صلى الله عليه وآله لا تقبل وتقبل منك يا حمار ؟!
قال : فحمل عليهم حصين بن تميم ، وخرج إليه حبيب بن مظاهر فضرب وجه فرسه بالسيف ، فشبّ ووقع عنه وحمله أصحابه فاستنقذوه ، وأخذ حبيب يقول :

أقسم لو كنّا لكم أعدادا * أو شطركم ولّيتم الأكتادا
يا شرّ قوم حسبا وآدا

قال : وجعل يقول يومئذ :

أنـا حبيب وأبـي مظاهـر * فارس هيجاء وحرب تسعر
أنتـم أعد عـدة وأكثــر * ونحن أوفى منكم وأصبـر
ونحن أعلـى حجة وأظهـر * حقا وأتقى منكــم وأعـذر

وقاتل قتالا شديدا ، فحمل عليه رجل من بني تميم فضربه بالسيف على رأسه فقتله ، وكان يقال =



( 129 )

ثم برز من بعده غلام تركي للحسين عليه السلام وكان قارئا للقرآن ، موحدا للعلي الديّان ، فبرز وهو ينشد ويقول :

البحر من طعني وضربي يصطلي * والجو من سهمـي ونبلـي يمتلي
إذا حسامي في يمينـي ينجلــي * ليشف قلـب الماجـد المبجّــل

فقتل جماعة منهم ثم خرّ صريعا ، فشدّ الحسين على قاتله وقال له : « قتلني الله إن لم أقتلك » . فضربه بالسيف على هامته أخرجه من شرايف صدره (1) ، ثم وقف على الغلام وبكى ، ووضع خدّه على خدّه ، ففتح الغلام عينيه فرأى الحسين عليه السلام
____________
=
له : « بديل بن صُرَيم » من بني عُقفان ، وحمل عليه آخر من بني تميم فطعنه فوقع ، فذهب ليقوم فضربه الحصين بن تميم على رأسه بالسيف فوقع ، ونزل إليه التميمي فاهتزّ رأسه ، فقال له الحصين : إني لشريكك في قتله . فقال الآخر : والله ما قتله غيري . فقال الحصين : أعطنيه أعلّقه في عنق فرسي كيما يرى الناس ويعلموا أني شركت في قتله ، ثم خذه أنت بعد فامض به إلى عبيدالله بن زياد ، فلا حاجة لي فيما تعطاه على قتلك إياه .
قال : فأبى عليه ، فأصلح قومه فيما بينهما على هذا ، فدفع إليه رأس حبيب بن مظاهر فجال به في العسكر قد علّقه في عنق فرسه ، ثم دفعه بعد ذلك إليه ، فلما رجعوا إلى الكوفة أخذ الآخر رأس حبيب فعلقه في لبان فرسه ، ثم أقبل به إلى ابن زياد في القصر ، فبصر به ابنه القاسم بن حبيب وهو يومئذ قد راهق ، فأقبل مع الفارس لا يفارقه كلما دخل القصر دخل معه ، وإذا خرج خرج معه ، فارتاب به فقال : ما لك يا بُنيّ تتبعني ؟ قال : لا شيء . قال بلى يا بُنيّ ، أخبرني . قال له : إن هذا الرأس الذي معك رأس أبي ، أفتعطينيه حتى أدفنه ؟ قال : يا بُنيّ ، لا يرضى الأمير أن يدفن وأنا أريد أن يصيبني الأمير على قتله ثوابا حسنا . قال له الغلام : لكنّ الله لا يثيبك على ذلك إلا أسوأ الثواب ، أما والله لقد قتلت خيرا منك . وبكى .
فمكث الغلام حتى إذا أدرك لم يكن له همة إلا اتّباع أثر قتل أبيه ليجد منه غِرّة فيقتله بأبيه ، فلما كان زمان مصعب بن الزبير وغزا مصعب باجُميرا ، دخل عسكر مصعب ، فإذا قاتل ابيه في فسطاطه ، فأقبل يختلف في طلبه والتماس غِرّته فدخل عليه وهو قائل نصف النهار ، فضربه بسيفه حتى برد .
قال أبو مخنف : حدثني محمد بن قيس قال : لما قتل حبيب بن مظاهر هدّ ذلك حسينا وقال عند ذلك : « أحتسب نفسي وحماة أصحابي » .
(1) الشراسيف : أطراف أضلاع الصدر التي تشرف على البطن . ( لسان العرب )

( 130 )

فتبسم ثم صار إلى ربه (1) .
قال : وجعل أصحاب الحسين عليه السلام يتسارعون إلى القتل بين يديه ويبذلون الأرواح لديه ، ولله درّ من قال :

يبرزون الوجوه تحت ظلال * الموت والموت منهـم يستظلّ
كرماء إذ الضبا غشيتهــم * منعتهم أحسابهـم أن يولّــوا

فوا لهف نفسي لتلك الأقمار المنيرة على التراب ، كيف كسفتها مواضي السيوف والحراب ، ولتلك الأنوار الساطعة كيف طمست أشعتها أكف النصّاب ، وواحرّاه لهاتيك الأجسام الزاكيات ترضّ متونها سنابك العاديات ، والجثث الصاحيات تعفّرها فراعل (2) الفلوات ، وواكرباه لتلك الرؤوس القمرية تشال على اليعاسيب القعضبيّة ، ولتلك النفوس الشريفة تزهقها الأبدان الخبيثة ، فالأمر لله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، أو لا تكونون يا أولى النهى ، كمن أورثه مصابهم الأرزا داء الوجد والأسى (3) ، فرثاهم بما أحرق الضمائر ، وأشجى ، وهو من بعض شيعتهم الأتقياء .
____________
(1) رواه الخوارزمي في المقتل : 2 : 24 .
(2) الفرعل : ولد الضبع ، والجمع : فراعل وفراعلة .
(3) الوجد والأسى : الحزن . ( المعجم الوسيط )