( 4 )
لماذا هذه المذاهب الأربعة ؟

تمهيد :
لقد اختلف أهل السنة إلى مذاهب كثيرة في الفروع والأصول ، كمذهب سفيان بن عيينة بمكة ، ومذهب مالك بن أنس بالمدينة ، ومذهب أبي حنيفة وسفيان الثوري بالكوفة ، ومذهب الأوزاعي بالشام ، ومذهب الشافعي والليث بن سعد بمصر ، ومذهب إسحاق بن راهويه بنيسابور ، ومذهب أحمدبن حنبل وأبي ثور ببغداد... وغيرها.
إلا أن أكثر تلك المذاهب انقرض بين الناس ، وظلّت آراء أصحابها مدوَّنة في بطون الكتب عند أهل السنة ، وبقيت من تلك المذاهب : الأربعة المعروفة ، وهي مذهب أبي حنيفة النعمان ، ومذهب مالك بن أنس ، ومذهب محمد بن إدريس الشافعي ، ومذهب أحمد بن حنبل.
وهذه المذاهب صارت هي المذاهب التي عليها أهل السنة في كافة الأمصار منذ أن حُصر التقليد فيها إلى عصرنا الحاضر.
وهنا نسأل : هل يجوز التعبّد بهذه المذاهب الأربعة ، وهل تبرأ الذمة باتباع واحد منها أم لا ؟
هذا ما سنكشف عنه النقاب في البحوث الآتية إن شاء الله تعالى :


( 119 )

نشأة المذاهب الأربعة :
كان الناس في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلجأون في معرفة أمور دينهم إليه صلى الله عليه وآله وسلم وإلى مَن جعلهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قِبله كأمراء أو رُسُل إلى البلاد الأخرى ، وبقي الحال على ذلك إلى أن قُبِض النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
وأما بعد زمانه صلى الله عليه وآله وسلم فكان الناس يسألون الخلفاء خاصة والصحابة عامة لمَّا تفرَّقوا في سائر البلدان ، لأنهم كانوا أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأعرفهم بأحكام دينه.
ولما جاء عصر التابعين وتابعي التابعين انقسم العلماء إلى قسمين : أهل الحديث ، وأهل الفتوى. وكثر المفتون في المدينة ومكة والشام ومصر والكوفة وبغداد وغيرها من بلاد الإسلام ، فكان العامة يسألون مَن يظهر لهم علمه ومعرفته ، دون أن يتمذهبوا بقول واحد بعينه.
إلا أن المهاترات التي وقعت بين أهل الحديث وأهل الفتوى وبالأخص أهل الرأي منهم من جهة ، مضافاً إلى تقريب الخلفاء لبعض العلماء دون البعض الآخر من جهة أخرى ، وَلَّد روح التعصّب عند الناس لبعض الفقهاء ، والحرص على الالتزام بآرائه الفقهية وطرح آراء غيره.
ولما ظهر أبو حنيفة كفقيه له آراؤه الفقهية ، استطاع أن يستقطب له تلاميذ صار لهم الدور الكبير بعد ذلك في نشر تلك الآراء ، ولا سيما القاضي أبو يوسف (1) الذي نال الحظوة عند الخلفاء العباسيين ، فتولى منصب القضاء
____________
(1) هو يعقوب بن إبراهيم الأنصاري ، ولد في الكوفة سنة 113هـ ، ونشأ فيها ،وكان فقيراً معدما ً ، اتصل بأبي حنيفة وتتلمذ على يديه ، وفأولاه أبو حنيفة عناية خاصة ، فكان ينفق عليه وعلى عياله ، إلى أن مات أبو حنيفة سنة 150 هـ ، فأستقل برئاسة المذهب ، وتولى القضاء ، وحظي بمكانة عظيمة عند هارون الرشيد ، وهو أول من لقب بقاضي القضاة ، ونشر مذهب أبي حنيفة في الآفاق ، توفي سنة 182 هـ ، وعمره 69 سنة.
( 120 )

لثلاثة من الخلفاء : المهدي والهادي والرشيد ، فنشر مذهب أبي حنيفة بواسطة القضاة الذين كان يعيّنهم هو وأصحابه.
ولما بزغ نجم مالك بن أنس أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس على العمل بما في الموطأ ، وأمر من ينادي في الناس : « ألا لا يُفتينَّ أحد ومالك بالمدينة ». وحظي مالك بمكانة عظيمة عنده وعند مَن جاء بعده من أبنائه الخلفاء ، كالمهدي والهادي والرشيد ، فسبّب ذلك ظهور أتباع له يروّجون مذهبه ، ويظهرون التعصب له.
ثم تألَّق الشافعي وبرز على علماء عصره ، وساعده على ذلك تتلمذه على مالك في المدينة ، ونزوله ضيفاً لما ذهب إلى مصر عند محمد بن عبد الله بن الحكم الذي كانت له في مصر مكانة ومنزلة علمية ، وكان مقدَّماً عند أهل مصر، فقام هذا الأخير بنشر علم الشافعي وبث كتبه ، مضافاً إلى ما لقيه الشافعي في بادئ الأمر من المالكية في مصر من الإقبال والحفاوة ، بسبب كثرة ثنائه على الإمام مالك ، وتسميته بـ ( الأستاذ ).
ولما وقع الإمام أحمد بن حنبل في محنة خلق القرآن ، وضُرب وحُبس ، مع ما أظهر من الصبر والتجلد ، جعل له المكانة عند الناس ، ولا سيما بعد أن أدناه المتوكل العباسي وأكرمه وعظَّمه ، وعني به عناية فائقة.
هكذا نشأت هذه المذاهب وانتشرت دون غيرها.
ثم إن الأغراض السياسية والمآرب الدنيوية كانت وراء دعم الخلفاء لهذه المذاهب ، فإن خلفاء بني العباس أرادوا أن يلفتوا الناس إلى علماء من أهل السنة ، لتكون لهم المكانة السامية عند الناس ، باعتبارهم أئمة في الدين ، ليصرفوا الأنظار عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ، الذين كانت نقطة التوتر بينهم هي الأولوية بالخلافة.
ولهذا كان شعراء بني العباس يثيرون هذه المسألة في مناسبات كثيرة ، يُعرِّضون فيها بأبناء علي وفاطمة عليهم السلام ، ويحتجون بأن الخلافة ميراث النبي


( 121 )

صلى الله عليه وآله وسلم ، وعلي عليه السلام ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والعباس عمّه ، وابن العم لا يرِث مع وجود العم.
ومما أنشده مروان بن أبي الجنوب للمتوكل :

مُلْكُ الخليفـــــةِ جعفرٍ * للدينِ والدنيــا سلامــهْ
لكـمُ تُراثُ محمـــــدٍ * وبِعَدْلِكم تُنفــَى الظُّلامـهْ
يرجـــو التراثَ بنو البنا * تِ و ما لهم فيهـا قُلامـهْ
والصِّهـــرُ ليس بوارث * والبنتُ لا ترِثُ الإمـامـهْ
مـا للذين تنحّلـــــوا * ميراثَكـم إلا الندامــــهْ
أخَذَ الـــــوِراثةَ أهلُها * فعَلامَ لومُكـمُ علامـــهْ
لو كان حقَّكمُ لَمَـــــا * قامتْ على النـاسِ القيامهْ
ليـــس التراثُ لغيركـٍم * لا والإلهٍ ، و لا كـرامـهْ
أصبحت بين مُحِبّكــــم * والمبغضين لكـم علامـهْ

قال مروان : فعَقَد لي على البحرين واليمامة ، وخلع لي أربع خلع ، وخلع عليَّ المنتصر ، وأمر لي المتوكل بثلاثة آلاف دينار ، فنُثرت عليّ (1).
قال ابن حزم في كتابه الإحكام في أصول الأحكام :
وليعلم مَن قرأ كتابنا أن هذه البدعة العظيمة ـ نعني التقليد ـ إنما حدثت في الناس وابتُدئ بها بعد الأربعين ومائة من تاريخ الهجرة ، وبعد أزيد من مائة عام وثلاثين عاماً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه لم يكن قط في الإسلام قبل الوقت الذي ذكرنا مسلم واحد فصاعداً على هذه البدعة ، ولا وجد فيهم رجل يقلد عالماً بعينه ، فيتبع أقواله في الفتيا ، فيأخذ بها ولا يخالف شيئاً منها.
ثم ابتدأت هذه البدعة من حين ذكرنا في العصر الرابع في القرن المذموم ، ثم لم تزل تزيد حتى عمَّت بعد المائتين من الهجرة عموماً طبق الأرض ، إلا من عصم الله عز وجل وتمسك بالأمر الأول الذي كان عليه الصحابة والتابعون
____________
(1) الكامل في التاريخ 7|101.
( 122 )

وتابعو التابعين بلا خلاف من أحد منهم.
نسأل الله تعالى أن يثبِّتنا عليه ، وأن لا يعدل بنا عنه ، وأن يتوب على من تورَّط في هذه الكبيرة من إخواننا المسلمين ، وأن يفيء بهم إلى منهاج سلفهم الصالح (1).
وسواء كانت هذه المذاهب سبقت هذا الزمان قليلاً أو كثيراً فهي على كل حال لم تكن في زمن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإنما استُحدِثت بعد أكثر من قرن من وفاته صلى الله عليه وآله وسلم.

فرض المذاهب الأربعة مذاهب رسمية :
بقي العمل بالمذاهب المتعدّدة عند أهل السنة ، الأربعة وغيرها ، إلى أن جعل الخلفاء المدارس وقصروا التدريس في هذه المذاهب ، كما أن مناصب القضاء حُصرت أيضاً في القضاة الذين يقضون بفتاوى الأئمة الأربعة ، واستمر الحال على ذلك إلى أن أمر السلطان الظاهر بيبرس الذي كان له النفوذ والسلطان على مصر والشام وغيرهما من بلاد الإسلام بجعل قضاة أربعة في مصر : لكل مذهب قاض خاص ، وكان ذلك في سنة 663هـ ، ثم جعل بعد ذلك بعام في بلاد الشام قضاة أربعة أيضاً، وعلى ذلك استمر الحال، فانحصرت المذاهب عند أهل السنة في هذه الأربعة منذ ذلك الوقت إلى زماننا الحاضر.
قال المقريزي : فلما كانت سلطنة الظاهر بيبرس البندقداري ولَّى بمصر أربعة قضاة ، وهم شافعي ومالكي وحنفي وحنبلي ، فاستمر ذلك من سنة 665هـ ، حتى لم يبق في مجموع أمصار الإسلام مذهب يُعرف من مذاهب الإسلام سوى هذه المذاهب الأربعة ، وعملت لأهلها مدارس والخوانك والزوايا والربط في سائر ممالك الإسلام ، وعُودي مَن تمذهب بغيرها ، وأُنكر عليه ، ولم يولَّ قاضٍ ولا قُبِلت شهادة أحد ، ولا قُدِّم للخطابة والإمامة من لم يكن مقلِّداً لأحد هذه المذاهب ، وأفتى فقهاء الأمصار في طول هذه المدة
____________
(1) الإحكام في أصول الأحكام 6|126.
( 123 )

بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها (1).
قال ابن كثير في البداية والنهاية : ثم دخلت سنة أربع وستين وستمائة ، استهلَّت والخليفة : الحاكم العباسي ، والسلطان : الملك الظاهر ، وقضاة مصر أربعة ، فيها جعل بدمشق أربعة قضاة من كل مذهب قاض كما فعل بمصر عام أول... وقد كان هذا الصنيع الذي لم يسبق إلى مثله قد فعل في العام الأول بمصر كما تقدم ، واستقرت الأحوال على هذا المنوال (2).
وذكر ذلك أيضاً : الذهبي في كتابه « العبر » في حوادث سنة 663هـ. وابن العماد الحنبلي في شذرات الذهب ، وتغري بردي في النجوم الزاهرة وغيرهم (3).
وقال السيد سابق : وبالتقليد والتعصب للمذاهب فقدت الأمة الهداية بالكتاب والسنة ، وحدث القول بانسداد باب الاجتهاد ، وصارت الشريعة هي أقوال الفقهاء ، وأقوال الفقهاء هي الشريعة ، واعتُبر كل من يخرج عن أقوال الفقهاء مبتدعاً لا يوثق بأقواله ، ولا يُعتد بفتاويه.
وكان مما ساعد على انتشار هذه الروح الرجعية ما قام به الحكام والأغنياء من إنشاء المدارس ، وقصر التدريس فيها على مذهب أو مذاهب معينة ، فكان ذلك من أسباب الإقبال على تلك المذاهب ، والانصراف عن الاجتهاد ، محافظة على الأرزاق التي رُتّبت لهم !
سأل أبو زرعة شيخه البلقيني قائلاً : ما تقصير الشيخ تقي الدين السبكي عن الاجتهاد وقد استكمل آلته ؟ فسكت البلقيني. فقال أبو زرعة : فما عندي أن الامتناع عن ذلك إلا للوظائف التي قُدّرت للفقهاء على المذاهب الأربعة ، وإن خرج عن ذلك لم ينله شيء ، وحُرم ولاية القضاء ، وامتنع الناس عن
____________
(1) المواعظ والاعتبار ( خطط المقريزي ) 3|390.
(2) البداية والنهاية 13|260.
(3) العبر في خبر من غبر 3|307. شذرات الذهب 5|312. النجوم الزاهرة 7|121.

( 124 )

إفتائه ، ونُسبَتْ إليه البدعة. فابتسم البلقيني ووافقه على ذلك (1).

أصحاب المذاهب الأربعة :
1 ـ أبو حنيفة النعمان :
هو النعمان بن ثابت بن زوطي ، مولى بني تيم الله بن ثعلبة ، أصله من كابل ، وُلد بالكوفة سنة 80هـ ونشأ فيها ، رأى أنس بن مالك ، وكان يبيع الخز ويطلب العلم في صباه ، ثم انقطع للتدريس والإفتاء ، وهو إمام أهل الرأي.
روى له الترمذي والنسائي في سُنَنهما ، من أشهر تلاميذه القاضي أبو يوسف ، ومحمد بن حسن الشيباني ، له كتاب « المسند » في الحديث ، جمعه تلاميذه ، و « المخارج » كتيب صغير في الفقه ، رواه عنه تلميذه أبو يوسف.
ضربه أمير العراقين عمر بن هبيرة ليتولّى قضاء الكوفة فامتنع ، وأراده أبو جعفر المنصور بعد ذلك للقضاء ببغداد ، فامتنع أيضاً ، فحبسه إلى أن مات ببغداد سنة 150هـ ، وله مزار معروف بالقرب من بغداد في محلّة تعرف بالأعظمية نسبة إليه ، وقد بنى ذلك على قبره محمد بن منصور الخوارزمي مستوفي مملكة السلطان ملك شاه السلجوقي سنة 459هـ (2).

*****

____________
(1) فقه السنة 1|10.
(2) له ترجمة في الأنتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ، ص 121 ـ 175 ، ميزان الاعتدال 4|265. تقريب التهذيب ، ص 563 ت 7153. سير أعلام النبلاء 6|390 ت 163. تهذيب التهذيب 10|401 ت 819. التاريخ الكبير 8|81 ت 2253. الجرح والتعديل 8|449 ت 2062. تاريخ بغداد 13|323. الطبقات الكبرى 6|368. طبقات الحفاظ ، ص 80 ت 156. شذرات الذهب 1|227. تاريخ الثقات ، ص 450 ت 1694. البداية والنهاية 10|110. تذكرة الحفاظ 1|168 ت 163. العبر في خبر من غبر 1|164. تهذيب الأسماء والصفات 2|216. النجوم الزاهرة 2|12. وفيات الأعيان 5|405 ت 765. مفتاح السعادة 2|174. الأعلام 8|36.

( 125 )

2 ـ مالك بن أنس :
هو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي الحميري ، أبو عبد الله المدني. ولد سنة 93هـ ، وقيل غيرها ، وقيل : حملت به أمّه سنتين ، وقيل : ثلاث سنين ، لُقِّب بإمام دار الهجرة.
روى عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ونافع وابن المنكدر وغيرهم ، وروى عنه الإمام الشافعي والسفيانيان والأوزاعي وغيرهم.
له كتاب الموطأ في الحديث. قال الشافعي : ما في الأرض كتاب أكثر صواباً من موطأ مالك ، وقال البخاري : أصح الأسانيد : مالك عن نافع عن ابن عمر. مات بالمدينة سنة 179هـ وعمره تسعون سنة ، وقيل : خمس وثمانون، ودُفن بالبقيع (1).

3 ـ محمد بن إدريس الشافعي :
هو أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب القرشي المطلبي المكي. وُلد في غزة بفلسطين سنة 150هـ ، وقيل : باليمن ، مات أبوه وهو صغير وحملته أمّه إلى مكة وهو ابن سنتين. فنشأ بمكة، ثم انتقل إلى المدينة وقرأ الموطأ على مالك.
روى عن ابن عيينة ومالك وغيرهم ، وروى عنه أحمد بن حنبل وأبو ثور والمزني وغيرهم. اعتبره بعضهم هو المجدد على رأس المائتين ، له كتاب « الأم » وفيه آراؤه الفقهية الجديدة ، وكتاب « المسند » في الحديث ،
____________
(1) له ترجمة في البداية والنهاية 10|180. تذكرة الحفاظ 1|207 ت 199. شذرات الذهب 1|289. تهذيب الأسماء والصفات 2|75. تهذيب التهذيب 10|5. طبقات الحفاظ ، ص 96 ت 189. تقريب التهذيب ، ص 516 ت 6425. حلية الاولياء 6 |316 ت 394. صفة الصفوة 2|177 ت 189. العبر في خبر من غبر 1|210. النجوم الزاهرة 2|96. وفيات الاعيان 4|135 ت 550. الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ، ص 9 ـ 63. التاريخ الكبير 7|310 ت 1323. الجرح والتعديل 8|204 ت 902. سير أعلام النبلاء 8|48. مفتاح السعادة 2|195.
( 126 )

و«أحكام القرآن » وغيرها ، وله شعر جيد ، ومنه :

ما حَكَّ جلدَك مثلُ ظفركْ * فتولَّ أنت جميعَ أمرِك
وإذا بُليتَ بحاجــــةٍ * فاقصد لمعترِفٍ بفضلكْ

وله أشعار جيدة في حب أهل البيت عليه السلام ، زار بغداد سنة 195هـ فاجتمع به أحمد بن حنبل وأبو ثور وغيرهما، وأقام بها حولين وصنف بها كتابه القديم ، ثم عاد إلى مكة ، ثم رجع إلى بغداد سنة 198هـ ، ومكث فيها شهراً ، ثم قصد مصر سنة 199هـ ، وصنف بها كتبه الجديدة كالأم ، والأمالي الكبرى ، ومختصر البويطي ، ومختصر المزني ، ومات فيها سنة 204هـ وعمره 54 سنة ، وقبره معروف بالقرب من المقطم (1).

4 ـ أحمد بن حنبل :
هو أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني المروزي البغدادي ، صاحب المسند. خرجت به أمه من مرو حملاً ، ووُلد في بغداد سنة 164هـ ، ونشأ بها ، وتوفي أبوه وهو ابن ثلاث سنين ، طلب الحديث سنة 179هـ ، وقيل : 187هـ ، وطاف بالبلاد ، ودخل الكوفة والبصرة والحجاز واليمن والشام والجزيرة ، سمع من هشيم عن الشافعي وسفيان بن عيينة وغيرهم ، وروى عنه البخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم، وروى عنه الترمذي والنسائي وابن ماجة بواسطة رجل واحد.
____________
(1) له ترجمة في الأنتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ، ص 65 ـ 119. طبقات الحفاظ ، ص 157 ت 336. البداية والنهاية 10|262. شذرات الذهب 2|9. تاريخ بغداد 2|56. تهذيب الأسماء واللغات 1|44. تذكرة الحفاظ 1|361 ت 354. تهذيب التهذيب 9|23. العبر في خبر من غبر 1|269. حلية الأولياء 9|63 ت 451. وفيات الأعيان 4|163 ت 558. تقريب التهذيب ، ص 467 ت 5717. سير أعلام النبلاء 10|5. طبقات الحنابلة 1|280. الجرح والتعديل 7|201 ت 1130. النجوم الزاهرة 2|176. الوافي بالوفيات 2|171. صفة الصفوة 2|248 ت 220. مفتاح السعادة 2|199. الأعلام 6|26.
( 127 )

دُعي إلى القول بخلق القرآن في زمن المأمون العباسي سنة 218هـ ، ثم في زمن المعتصم ، فأبى وامتنع ، فحُبس نحواً من ثمانية وعشرين شهراً ، أو 28 يوماً على اختلاف النقل ، وضُرب ، فثبت على قوله ، فأطلقه المعتصم سنة 221هـ ، وبقي مدة في منزله ، وفي سنة 237هـ استقدمه المتوكل العباسي إليه وأكرمه وقرّبه.
مات ببغداد سنة 241هـ ، وعمره سبع وسبعون سنة (1).

أقوالهم في عدم جواز التقليد في الدين :
لقد تطابقت كلمات أعلام أهل السنة على عدم جواز تقليد الرجال في الدين ، وقد ذكر ابن القيم في كتابه أعلام الموقعين ثمانين دليلاً على عدم جواز التقليد في أحكام الله ، وعدم جواز الالتزام باتباع واحد من أصحاب المذاهب وغيرهم.
وإليك بعض كلماتهم :
قال ابن حزم : التقليد حرام ، ولا يحل لأحد أن يأخذ قول أحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا برهان ، لقوله تعالى ( اتّبعوا ما أُنزل إليكم من ربكم ولا تتّبعوا من دونه أولياء ) (2).
وقال : ويكفي في إبطال التقليد أن القائلين به مقِرّون على أنفسهم
____________
(1) له ترجمة في طبقات الحفاظ ، ص 189 ت 417. شذرات الذهب 2|96. تذكرة الحفاظ 2|431 ت 438. سير أعلام النبلاء 11 |177. العبر في خبر من غبر 1|342. التاريخ الكبير 2|5 ت 1505. الطبقات الكبرى 7|354. تهذيب الاسماء واللغات 1|110. طبقات الحنابلة 1|4. البداية والنهاية 10|340. تهذيب التهذيب 1|62 ت 126. تقريب التهذيب ، ص 84 ت 96. تاريخ بغداد 4|412. حلية الأولياء 9|161 ت 453. صفة الصفوة 2|336 ت 262. وفيات الاعيان 1|63 ت 20. النجوم الزاهرة 2|304. مفتاح السعادة 2|208.
(2) الرد على من أخلد ألى الارض ، ص 131.

( 128 )

بالباطل، لأن كل طائفة من الحنفية والمالكية والشافعية مقرّة بأن التقليد لا يحل، وأئمتهم الثلاثة قد نهوا عن تقليدهم ، ثم مع ذلك خالفوهم وقلّدوهم، وهذا عجب ما مثله عجب، حيث أقرّوا ببطلان التقليد، ثم دانوا الله بالتقليد (1).
وقال ابن القيم في أعلام الموقعين : إن العالِم قد يَزِلّ ولا بد ، إذ ليس بمعصوم ، فلا يجوز قبول كل ما يقوله ، ويُنَزَّل منزلة قول المعصوم ، فهذا الذي ذمَّه كلُّ عالِم على وجه الأرض ، وحرّموه وذمّوا أهله ، وهو أصل بلاء المقلِّدين وفتنتهم ، فإنهم يقلِّدون العالِم فيما زلَّ وفيما لم يزِلّ فيه ، وليس لهم تمييز بين ذلك ، فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد ، فيُحِلُّون ما حرَّم الله ، ويُحرِّمون ما أحلَّ الله ، ويشرِّعون ما لم يشرِّع ، ولا بد لهم من ذلك إذا كانت العصمة منتفية عمن قلَّدوه ، فالخطأ واقع منه ولا بد (2).
وقال المعصومي : لمَّا غيَّر المسلمون أوامر رب العالمين ، جازاهم الله تعالى بتغيير النعمة عليهم ، وسلب عنهم الدولة ، وأزال عنهم الخلافة ، كما تشهد به آيات كثيرة. فمِن جملة ما غيَّروا : التمذهب بالمذاهب الخاصة ، والتعصّب لها ولو بالباطل ، وهذا [ بدعة ] لا شك فيه ولا شبهة ، وكل بدعة تُعتَقد دِيناً وثواباً فهي ضلالة (3).
وقال ابن حزم أيضاً : فليعلم مَن أخذ بجميع أقوال أبي حنيفة أو جميع أقوال مالك ، أو جميع أقوال الشافعي ، أو جميع أقوال أحمد رضي الله عنهم ، ولم يترك من اتبع منهم أو من غيرهم إلى قول غيره ، ولم يعتمد على ما جاء في القرآن والسنة ، غير صارف لذلك إلى قول إنسان بعينه ، أنه خالف إجماع الأمة كلها ، أولها عن آخرها بيقين لا إشكال فيه ، وأنه لا يجد لنفسه سلفاً ولا
____________
(1) المصدر السابق ، ص 133.
(2) أعلام الموقعين 2|192.
(3) هدية السلطان ، ص 47.

( 129 )

إنساناً في جميع الأعصار المحمودة الثلاثة ، نعوذ بالله من هذه المنزلة (1).
إلى غير ذلك مما يطول ذكره ، وفيما ذكرناه كفاية.

نهي الأئمة الأربعة عن تقليدهم :
إن أئمة المذاهب الأربعة نهوا الناس عن تقليدهم واتّباعهم ، وقد نُقل ذلك عنهم ، وهو محفوظ من أقوالهم وكلماتهم :
قال ابن القيم في أعلام الموقعين : وقد نهى الأئمة الأربعة عن تقليدهم ، وذمّوا مَن أخذ أقوالهم بغير حُجّة (2).
وقال ابن حزم : وقد ذكرنا أن مالكاً وأبا حنيفة والشافعي لم يُقلِّدوا ، ولا أجازوا لأحد أن يقلِّدهم ، ولا أن يقلِّد غيرهم (3).
وقال أبو حنيفة : لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه (4).
وقال : لا يحل لمن يفتي من كتبي أن يفتي حتى يعلم من أين قلت (5).
وروى ابن حزم بسنده عن المازني ، عن الشافعي أنه نهى الناس عن تقليده وتقليد غيره (6).
ونقل السيوطي عن الإمام أبي شامة أنه قال : نهى إمامنا الشافعي عن تقليده وتقليد غيره (7). وذكر المزني صاحب الشافعي ذلك في مقدمة مختصره (8).
____________
(1) الرد على من أخلد إلى الارض ، ص 132.
(2) أعلام الموقعين 2|200.
(3) الإحكام في اصول الأحكام 6|314.
(4) أعلام الموقعين 2|200.
(5) الانتقاء ، ص 145.
(6) الإحكام في أصول الأحكام 6|174.
(7) الرد على من أخلد الى الارض ، ص 141.
(8) مختصر المزني ، ص 1. ونقل ذلك عنه السيوطي في المصدر السابق ، ص 142.

( 130 )

وقال أحمد بن حنبل : لا تقلدني ولا تقلد مالكاً ولا الثوري ولا الأوزاعي ، خذ من حيث أخذوا. وقال : من قلة فقه الرجل أن يقلد في دينه الرجال.
وقال : لا تقلّد دينك أحداً (1).
قال ابن القيم : ولأجل هذا لم يؤلف الإمام أحمد كتاباً في الفقه ، وإنما دوّن أصحابه مذهبه من أقواله وأفعاله وأجوبته وغير ذلك.
ثم إن كل واحد من الأئمة الأربعة نهى أن يؤخذ بقوله إذا كان مخالفاً لما هو مروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فالمعتمد هو قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا أقوالهم :
قال أبو حنيفة : إذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس ، وإذا جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نختار من قولهم ، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم... (2)
وقال الشافعي: كل ما قلت وكان عن النبي صلى الله عليه وسلم خلاف قولي مما يصح ، فحديث النبي صلى الله عليه وسلم أولى ، فلا تقلدوني (3).
وقال مالك بن أنس : إنما أنا بشر أخطئ وأصيب ، فانظروا في رأيي ، فكل ما وافق الكتاب والسنّة فخذوا به ، وما لم يوافق الكتاب والسنّة فاتركوه (4).
وبعد هذا كله هل يجوز لمؤمن أن يتَّبع إماماً نهى عن تقليده واتّباعه ، وأمر الناس بعرض أقواله على كتاب الله وسُنة نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم ، وأمر بطرح كل ما
____________
(1) أعلام الموقعين 2|211.
(2) الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ، ص 144 ، 145.
(3) آداب الشافعي ومناقبه ، ص 68. حلية الاولياء 9|106 ، 107. توالي التأسيس ، ص 107. مناقب الإمام الشافعي ، ص 359. أعلام الموقعين 2|285. البداية والنهاية 10|265. تذكرة الحفاظ 1|362. سير أعلام النبلاء 10|33 ، 34 ، 35.
(4) الإحكام في أصول الأحكام 6|294. تهذيب التهذيب 10|8.

( 131 )

خالفهما، وعلى ذلك يكون كل مَن لم يفعل ذلك فهو مخالفاً لهم وهو يزعم أنه يتّبعهم ، ولعلهم يتبرّؤون من كل أولئك الذين اتبعوهم يوم العرض على الله.
( إذ تبرَّأ الذين اتُّبِعُوا من الذين اتَّبَعُوا وَرَأَوْا العذاب وتقطعت بهم الأسباب * وقال الذين اتَّبَعُوا لو أن لنا كرَّة فَنَتَبَرَّأَ منهم كما تبرّأوا منا كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار ) (1).
قال ابن حزم : هكذا والله يقول هؤلاء الفضلاء الذين قلَّدهم أقوام قد نهوهم عن تقليدهم ، فإنهم رحمهم الله قد تبرأوا في الدنيا والآخرة من كل من قلَّدهم ، وفاز أولئك الأفاضل الأخيار ، وهلك المقلِّدون لهم ، بعدما سمعوا من الوعيد الشديد ، والنهي عن التقليد (2).
وقال : ووالله لو أن هؤلاء [ الأئمة ] وَرَدُوا عرصة القيامة بملء السماوات والأرض حسنات ، ما رحموه ـ يعني مَن قلَّدهم ـ بواحدة ، ولو أنه المغرور وَرَدَ ذلك الموقف بملء السماوات والأرض سيئات ، ما حطُّوا منها واحدة ، ولا عرَّجوا عليه ، ولا التفتوا إليه ، ولا نفعوه بنافعة (3).

أحاديث ضعيفة وأحلام سخيفة :
لقد رووا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم روايات في فضل بعض هؤلاء الأئمة، وهي إما ضعيفة من جهة السند ، أو ضعيفة من ناحية الدلالة.
وإليك بعضاً منها :

1 ـ ما رووه في فضل أبي حنيفة :
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يكون في أمتي رجل اسمه النعمان ، وكنيته أبو
____________
(1) سورة البقرة ، الآياتان 166 ، 167.
(2) الإحكام في أصول الأحكام 6|276.
(3) المصدر السابق 6 |281.

( 132 )

حنيفة ، هو سراج أمتي ، هو سراج أمتي ، هو سراج أمتي (1).
وهذا الحديث موضوع.
قال الخطيب : وهو حديث موضوع تفرد بروايته البورقي ، وقد شرحنا فيما تقدم أمره وبينّا حاله (2).
وذكره السيوطي في الموضوعات ، ونقل تضعيفه عن الخطيب والحاكم (3).
وقال الشوكاني : هو موضوع ، وفي إسناده وضَّاعان : مأمون بن أحمد السلمي ، وأحمد بن عبد الله الجويباري (4).
ومنها : عن أنس مرفوعاً قال : سيأتي من بعدي رجل يقال له : النعمان ابن ثابت ، ويكنى أبا حنيفة ، ليُحيِيَنّ دين الله وسُنّتي على يده.
قال الخطيب : باطل موضوع ، محمد بن يزيد متروك الحديث ، وسليمان وشيخه مجهولان ، وأبان يُرمى بالكذب (5).
وعن أنس أيضاً مرفوعاً : يكون في أمتي رجل يقال له النعمان ، يُكنّى أبا حنيفة ، يجدِّد الله له سُنّتي على يديه (6).
قال السيوطي : موضوع ، آفته الجويباري (7).
وقال الملا علي القاري في ضمن تعداده للموضوعات في أحاديث المناقب: ومن ذلك ما وضعه الكذَّابون في مناقب أبي حنيفة والشافعي على
____________
(1) تاريخ بغداد 13|335.
(2) المصدر السابق.
(3) اللآلي المصنوعة 1|457.
(4) الفوائد المجموعة ، ص 420 ح 185.
(5) اللآلي المصنوعة 1|458.
(6) الكامل في ضعفاء الرجال 1|178.
(7) اللآلي المصنوعة 1|458.

( 133 )

التنصيص على اسميهما (1).

2 ـ ما رووه في فضل مالك :
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة (2).
قالوا : المراد به مالك بن أنس.
وهذا الحديث وإن حسَّنه الترمذي ، إلا أنه لا دلالة فيه على أن عالم المدينة هو مالك بن أنس ، لأن المدينة ضمَّت رجالاً أفذاذاً قبل أحمد وفي زمانه وبعده ، وحسبك أن منهم : علي بن الحسين زين العابدين ، وابنه الإمام محمد ابن علي الباقر ، وابنه الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهم السلام ، وغيرهم من العلماء البارزين ، ومالك لم يسبق هؤلاء ولا غيرهم في نسب ولا فضل ولا علم ولا غير ذلك ، بل نصَّ بعضهم على أن غيره أفضل منه (3) ، فكيف يتعيَّن أن يكون هو عالم المدينة.
____________
(1) الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة ، ص 455.
(2) سنن الترمذي 5|47 ح 2680. مسند أحمد 15|135 ح 7967.
(3) ذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء 8|156 عن الشافعي أنه قال : الليث أفقه من مالك ، ولكن الخطوة لمالك رحمه الله. وعن الشافعي : الليث أتبع للأثر من مالك. وفي تاريخ بغداد 2|298 عن أحمد بن حنبل قال : كان أبن أبي ذئب ثقة صدوقاً ، أفضل من مالك بن أنس. وفي 2|175 عن يحيى بن صالح قال : محمد بن الحسن فيما يأخذه لنفسه أفقه من مالك. وفي 9|164 عن علي بن المديني قال : سألت يحيى بن سعيد قلت له : أيما أحب إليك ، رأي مالك أو رأي سفيان ؟ قال : سفيان لا يشك في هذا... سفيان فوق مالك في كل شيء ، يعني في الحديث وفي الفقه وفي الزهد. وفي 2|302 أن شامياً سأل الإمام أحمد : من أعلم ، مالك أو أبن أبي ذئب ؟ فقال : أبن أبي ذئب في هذا أكبر من مالك ، وأبن أبي ذئب اصلح في دينه وأورع ورعاً ، وأقوم بالحق من مالك عند السلاطين.

( 134 )

ثم إن الظاهر من الحديث هو الدلالة إلى علماء المدينة ، وأن العلماء في غيرها من البلدان لا يقاسون بهم ، لا أن المراد به الدلالة على عالم مخصوص ، حتى يقع الكلام في أنه مالك بن أنس أو غيره. ولهذا قال : «فلا يجدون أحداً أعلم من عالم المدينة » ، أي من جنس العالم الذي بالمدينة ، ولم يقُل : فلا يجدون أحداً أعلم من عالمٍ بالمدينة. حتى يكون المراد به عالماً مخصوصاً.
ولو سلَّمنا أن المراد به عالم مخصوص فلم يحصل اتفاقهم على أنه مالك بن أنس ، فإن الترمذي في السُّنَن ذكر في رواية عن سفيان بن عيينة أنه قال : إنه مالك ، وفي رواية أخرى قال : إنه العُمَري (1).
وقال أحمد في المسند : وقال قوم : هو العمري ، قال : فَقَدَّموا مالكاً (2).
وذكر الخطيب أن أبا موسى سأل سفيان : أكان ابن جُرَيْج يقول : نرى أنه مالك بن أنس ؟ فقال : إنما العالم من يخشى الله ، ولا نعلم أحداً كان أخشى لله من العمري (3).

3 ـ ما رووه في فضل الشافعي :
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : عالم قريش يملأ طباق الأرض علماً. يعني الشافعي.
أورده الشوكاني في الموضوعات ، وقال : هو موضوع. قاله الصغاني (4).
ومع ضعف الحديث فإنه لا يدل على خصوص الشافعي ، وما قلناه في ( عالم المدينة ) يأتي هنا أيضاً ، فإن عالم قريش لا يدل على رجل مخصوص ، وأئمة العترة النبوية الطاهرة عليهم السلام كلهم من قريش ، وهم أفقه من الشافعي وغيره ، وهذا لا نحتاج فيه إلى مزيد بيان.
____________
(1) سنن الترمذي 5|47 ح 2680.
(2) مسند أحمد 15|135 ح 7967.
(3) تاريخ بغداد 13|377.
(4) الفوائد المجموعة ، ص 420 ح 186.

( 135 )

وأما الأحلام التي أيَّدوا بها مذاهبهم فهي كثيرة ، ولا يحسن بنا إضاعة الوقت بذكرها ، لأن الأحلام ليست حُجة في بيع حزمة بقل فما دونها ، فكيفتكون حجة في إمامة الدين والعلم ، وهو واضح لا يحتاج إلى إطالة الكلام فيه.
ولكن لا بأس أن نذكر بعضاً منها للدلالة على مبلغ سخافتها :
1 ـ أبو حنيفة : ذكر ابن عبد البر في كتاب الانتقاء وغيره أن أبا حنيفة قال : رأيت في المنام كأني نبشتُ قبر النبي عليه السلام ، فأخرجت عظامه فاحتضنتها، قال : فهالتني هذه الرؤيا ، فرحلت إلى ابن سيرين ، فقصصتها عليه ، فقال : إن صدقت رؤياك لتُحيِيَنَّ سُنّة نبيِّك محمد صلى الله عليه وسلم.
وذكرها بعينها أيضاً عن رجل رأى هذه الرؤيا في أبي حنيفة.
وعن أبي رجاء وكان من العبادة والصلاح بمكان ، قال : رأيت محمد بن الحسن في المنام ، فقلت : ما صنع الله بك ؟ قال : غفر لي. قلت : وأبو يوسف ؟ قال : هو أعلى درجة مني. قلت : فما صنع أبو حنيفة ؟ قال : هيهات، هو في أعلى عليين (1).
2 ـ مالك بن أنس : ذكر أبو نعيم في الحلية عن إسماعيل بن مزاحم المروزي أنه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام ، فقلت : يا رسول الله مَن نسأل بعدك ؟ قال : مالك بن أنس.
وعن محمد بن رمح التجيبي أنه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرى النائم ، فقلت : يا رسول الله قد اختلف علينا في مالك والليث ، فأيهما أعلم ؟ قال : مالك ورث حدي ، معناه أي علمي.
وعن عبد الله مولى الليثيين وكان مختاراً قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد قاعداً والناس حوله ، ومالك قائم بين يديه ، وبين يدي رسول الله
____________
(1) الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء ، ص 145 ـ 146.
( 136 )

صلى الله عليه وسلم مسك ، وهو يأخذ منه قبضة قبضة فيدفعها إلى مالك ، ومالك ينشرها على الناس. قال مطرف : فأُوّلت ذلك العلم واتباع السنّة (1).
3 ـ الشافعي : ذكر الخطيب عن المزي أنه قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فسألته عن الشافعي ، فقال لي : من أراد محبّتي وسُنّتي فعليه بمحمد بن إدريس الشافعي المطلبي ، فإنه مني وأنا منه.
وعن أحمد بن حسن الترمذي قال : كنت في الروضة فأغفيت ، فإذا النبي صلى الله عليه وسلم قد أقبل ، فقمت إليه فقلت : يا رسول الله قد كثر الاختلاف في الدين ، فما تقول في رأي أبي حنيفة ؟ فقال : أف. ونفض يده ، قلت : فما تقول في رأي مالك ؟ فرفع يده وطأطأ وقال : أصاب وأخطأ. قلت : فما تقول في رأي الشافعي ؟ فقال : بأبي ابن عمّي ، أحيى سُنّتي (2).
4 ـ أحمد بن حنبل : ذكر الخطيب في تاريخ بغداد عن أبي الفرج الهندبائي قال : كنت أزوز قبر أحمد بن حنبل ، فتركته مدة ، فرأيت في المنام قائلاً يقول : لمَ تركتَ زيارة قبر إمام السُّنّة ؟ (3)
أقول : لا أدري لِمَ قطع هذا الرجل بأن رؤياه ليست من أضغاث الأحلام ؟ وهلاّ حثّه هذا القائل على زيارة الحسين عليه السلام ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ولا سيما أن المسافة بين قبر أحمد في بغداد وقبر الحسين عليه السلام في كربلاء ليست كثيرة. اللهم إلا إذا كان أحمد ـ بنظر ذلك القائل كما هو الظاهرـ خيراً من سيد شباب أهل الجنة عليه السلام ، وزيارته أفضل وأكثر ثواباً.
وعن يحيى بن أيوب المقدسي، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم وهو نائم، وعليه ثوب مغطّى به، وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين يذبّان عنه (4).
____________
(1) حلية الاولياء 6|317.
(2) تاريخ بغداد 2|69.
(3) تاريخ بغداد 4|423.
(4) البداية والنهاية 10|357.