مُنَاظَراتٌ
في
العَقَائِدِ والأحْكامِ


الجزء الأول


تأليف وتحقيق
الشيخ عبدالله الحسن



بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى :
( وَمَنْ اَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا اِلى اللهِ وَعَمِلَ صَالحِاً وَقَالَ اِنَّني من المُسْلمِينَ )

فصلت : 33


وقال تعالى :
( إنَّ في ذلكَ لذكرى لمن كان لهُ قلبٌ أو ألقى
السمعَ وهو شهيد )

ق : 37


الاهداء

إلى المنتظر لاِقامة الاِمت والعوج والمرتجى لاِزالة الجور والعدوان .
إلى المدّخر لتجديد الفرائض والسنن والمتخير لاعادة الملّة والشريعة .
إلى معز الاَولياء ومذلِّ الاَعداء وجامع الكلمة على التقوى وباب الله الذي منه يؤتى .
إلى صاحب يوم الفتح وناشر راية الهدى ومؤلف شمل الصلاح والرضا.
إلى الحجّة بن الحسن المهدي ... الذي يملاَ الدنيا قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.
بين يديك سيّدي هذا المجهود الضئيل راجياً القبول .

( يَا اَيُّهَا العَزيزُ مَسَّنَا وَاهلَنَا الضُّرُّ وجئنَا ببِضَاعةٍ مُزجاة فَاَوْفِ لنا الكَيلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا اِنَّ الله يَجزِي المُتَصَدِّقينَ ) سورة يوسف آية 88

عبدالله الحسن



تقديم
بقلم فضيلة العلامة المحقّق الكبير البحاثة
الشيخ باقر شريف القرشي ـ حفظه الله تعالى ـ




بسم الله الرحمن الرحيم
إن الطاقات العلمية الهائلة التي فجرها الرسول الاَعظم صلّى الله عليه وآله قد استوعبت جميع لغات الاَرض ، وامتدت موجاتها المشرقة إلى جميع مناحي الفكر الاَنساني، والتي كان منها المناظرات الواقعة بين العلماء في مختلف القضايا العلمية والمذهبية، وكثير منها لا يخلو من الابداع، وهي تحكي قوة الدليل ، وروعة الاحتجاج عند بعض، ووهن الدليل وضعفه عند الطرف الآخر.
وقد كان العصر العباسي مسرحاً للاَحتجاجات والمناظرات في المسائل الكلامية والفلسفية، وقد شهدت أروقة البلاط العباسي أيام الرشيد والمأمون ألواناً ممتعة من المناظرات التي أقامها الخلفاء ووزراؤهم، وفي طليعتها ما تذهب إليه الشيعة في أمر الاِمامة بالنص لا بالانتخاب، وأن الاِمام معصوم من الخطأ، ومحيطٌ بجميع ما تحتاج إليه الاُمة في شؤونها الاَدارية والاَقتصادية والسياسية، وأنه لا بد أن يكون أعلم أهل زمانه، وكل هذه الاُمور كانت موضع جدل وأخذ ورد بين علماء الشيعة وعلماء السنة.
وكان جمع تلك المناظرات في كتاب أو في موسوعة ، ضرورة ملحة لا تستغني عنه المكتبة الاَسلامية لاَنها تلقي الاَضواء على الحياة الفكرية والمذهبية في تلك العصور ... وقد انبرى الاَستاذ الفاضل الشيخ عبدالله الحسن إلى جمعها وتحقيقها في كتابه (مناظرات في الاِمامة) .
ومضافاً لذلك، فقد عرض المؤلّف في كتابه الحديث (مناظرات في العقائد والاَحكام) إلى إبراز القيم الاَصيلة ، والمثل العليا التي تؤمن بها الشيعة، وما اُثير حولها من شبه وأوهام ، قد فندها علماء الاِمامية بصورة موضوعية، وأبرزوا زيفها ، وأنها لا ميزان لها في البحوث العلمية.
وإني أثني على هذه الفكرة، وأبارك له هذا الجهد الخلاق متمنياً له التوفيق، وأن يتحف المكتبة الاِسلامية بالمزيد من البحوث التي تنفع الناس، والتوفيق بيده تعالى يهبه للصالحين من عباده .

باقر شريف القرشي
النجف الاَشرف 16 | ربيع الاَول 1416 هـ





مقدّمة الكتاب

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على أشرف الاَنبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين وبعد :
قد يحسب المرءُ أن ما خالف رأيه عقيدةً وفكراً ـ نتيجةً لتراكم القناعات الموروثة أو لغيرها من الاَسباب ـ أنّه باطلٌ أو شاذٌ لا يُعوَّل عليه ، وهذا خطأٌ محض ، إذ يجب (1) بص أن تُمحّصَ آراءُ الطرفِ الآخر لاحتمال أن يكون الصواب معه، ولولا ذلك لما عَدل أحدٌ إلى الحقّ بعد الاِهتداء إليه .
وإذا كان من الصَعب على المرء أن ينسى ما اعتقده أو يتناساه إذا ما ثبت بطلانه ، فإن في تاريخ الاِسلام العقائدي ما يُثبت أنّ هناك صَفوة من رجاله تركوا ما اعتقدوا به بعد انكشاف الحقّ ، إمّا بدراسة مختلف الاَراء والنظريات في بُطون الكتب والاَسفار وعرضها على المعايير العلمية الدقيقة، أو عن طريق حوار علمي يتناول الموضوع المعني من جميع جوانبه للكشف عن غوامضه ومن ثمّ اتباع الحـق فإنه أحقّ أن يتبـع قال الحقّ تعالى : (الذين يسـتمعون القول فيتبعون أحسنه) (2) ومِن هنا تدخل المناظرة كسبيلٍ مختصرٍ يوفر الطريق الآمن للوصول إلى المحجّة الواضحة ، غيرَ أنّ هذا منوطٌ بطلب الحقّ لا الجدل والمراء والمكابرة .
وَلما كان للمناظرة مثلُ هذه الاَهميةِ البالغةِ لمعرفةِ الحق ، وَلمّا فيها من تأصيل أيضاً على صعيد التراث الاِسلامي ، والذي يُمثّل أفكار وآراء علماء ورجال الاِسلام قديماً وحديثاً على مختلف مذاهبهم ومشاربهم ، وكلٌّ منهم يدعم فكرته ورأيه بالدليل والبرهان ، وحينها تُمحّصُ الآراءُ وتنقحُ الاَفكار ، إذا ما التزمَ فيها بالموضوعية والصراحة الحقّة ، وبالتالي تؤدي إلى إظهار الحقّ واتباعه ونبذ الباطل واجتنابه ـ فقد وجدت نفسي شغوفاً بجمع ما تيسر منها ، وتحقيقها تحقيقاً علميّاً معضداً بمصادر المتناظرين ، وهذا ما سيجده القارىء الكريم وشيكاً في مناظراتنا هذه التي تناولت جلّ عقائد الشيعة وأحكامهم.
وحيث انّه قد ثبت عند الشيعة الاِمامية بالدليل القطعي ـ الذي لا شكّ فيه ـ وجوبُ التمسّك بأهل البيت : ووجوب الاهتداء بهديهم والسير على طريقتهم، كما أمر بذلك النبي صلى الله عليه وآله إذ هم المنبعُ الصافي والمعين الذي لا ينضب ، والامتداد الطبيعي لرسالته ـ لهذا أخذت الشيعة الاِمامية عقائدها وأحكامها الشرعية منهم ، واستمدت من فكرهم الثقافة الاِسلامية ، وقد انعكس ذلك في مؤلّفاتهم ومقالاتهم ، وظهر بشكل واضح على سلوكهم ، وتناولوا بالبحث كلّ ما يتّصل بالاُصول والفروع والتفسير والاَخلاق ، كبحثهم في مسائل التوحيد والنبوة والاِمامة وشؤونها ونحو ذلك ، كما بحثوا أيضاً مسائل الاَحكام الشرعيّة ، والمختلف فيها كمسألة الجمع بين الصلاتين ، والسجود على التربة الحسينيّة ، وزيارة القبور ، والمتعة ، وعشرات غيرها من المسائل التي أثبتوا شرعيتها بالاَدلّة الشرعية والعقلية.
ومِنَ البداهة أن يرى كلٌ من المتناظرين صحّة ما يعتقده أصولاً وفروعاً ، ولمّا كان الحقّ واحداً فلا بدّ حينئذٍ أن يكون حليفاً لاَحدهما دون الآخر ، ومِنْ هنا فالعقل يحكم بضرورة مقابلة ما اختلفت فيه المذاهب الاِسلامية ، لتنقيح الصحيح من غيره ، والتعرف على الحقّ واتباعه ، والذي يحقق للعبد الاَمن من الضرر الاَخروي ، ولذلك كانت المسائل الخلافية محط نظر جميع علماء المذاهب الاِسلامية ومفكريهم للتعرف عليها ، ومِنْ ثمَّ مناقشتها والمناظرة فيها، ثم الحكم عليها بعد ذلك إما بالتأييد ـ وإن كان على خلاف ما يراه سابقاً ـ إذا ما اقتنع بالدليل كما تسنى ذلك لبعضهم ـ ، وإما بالتفنيد إذا استطاع أن يقيم الدليل والبرهان على بطلانها وفسادها .
ومن هنا قلما تجد مسألة لم تقع عرضة للاَخذ والرد ، في ما بين المذاهب الاِسلامية ، وحتى في المذهب الواحد أيضاً ، حرصاً منهم على معرفة ما هو الصحيح من الباطل ، ولذا شكلت هذه المناظرات والمحاورات موسوعةً علميّةً خصبة ينبغي الاهتمام والاعتناء بها ، إذ هي غنيّةٌ بالاَدلّة العلمية والحقائق التاريخية ، التي لا يزال بعضها مجهولاً عند كثير من الباحثين فضلاً عن غيرهم ، أضف إلى ذلك أنّ كثيراً منها يُعدّ من التراث الاِسلامي الذي ينبغي المحافظة عليه وإعدادهُ في المكتبة الاِسلامية.
وامتداداً لموسوعة المناظرات التي ابتدءتها بإعداد وتحقيق ما تعلق منها بالاِمامة والخلافة بعنوان (مناظرات في الاِمامة) فقد أعددت في هذا الكتاب المناظرات التي جرت في العقائد والاَحكام الشرعية وغيرها من المسائل المهمة، التي دارت بين علماء الشيعة الاِمامية وسائر علماء المذاهب الاِسلامية الاَخرى ، كما حوت أيضاً جملة من مناظرات أئمّة أهل البيت ـ صلوات الله عليهم ـ القيمة والتي ينبغي النظر فيها بتأمّل للاِستفادة منها بالشكل المناسب ولا أدعي استيفاء كل ما صدر من المناظرات في هذا الموضوع ، إذ ربما فاتني منها الكثير ، غير أنّي آمل أن يكون عملي هذا قد شغل فراغاً في المكتبة الاِسلامية .
وقد جعلت هذه المناظرات في جزئين ، فقد حوى الجزء الاَول المناظرات في العقائد وما يرتبط بها من المعارف الاِسلامية ، كما حوى الجزء الثاني المناظرات في الاَحكام الشرعية وما يرتبط بها من المسائل الاَخرى .
وتجدر الاِشارة هنا إلى أن بعض المناظرات قد تتداخل في كلا الاَمرين ، إذ قد تلحظ تارة من ناحية عقائدية وأخرى من ناحية شرعية ، فإذا لوحظت المسألة من ناحية الاعتقاد بها وكانت من الضروريات أو المسلمات التي قام الدليل عليها فهي من العقائد التي يجب عقد القلب عليها ، وتارة تلحظ من حيث ارتباطها بأحد الاَحكام الخمسة الشرعية فتكون مسألة فرعية مرتبطة بفعل المكلّف نفسه ، وقد ألحقت كلّ مناظرة بما يناسبها ويغلب عليها في أحد القسمين ، إذ أن بعضها لا يخلو من تشابه ومفارقات ، كما إني قدمت مناظرات الاَئمّة المعصومين : على غيرهم في كلّ باب .
وممّا أودُّ التنبيه عليه ، هو أن الاستفادة من هذه المناظرات ، وما يتعلّق بها من مسائل تخصّ الشيعة الاِمامية ، إنما تتم بالوجه الاَكمل بربطها بما زخرت به المكتبة الشيعية من ذخائر التراث الاِسلامي الخاص بمسائل العقائد والكلام، المبسوطة في ذلك أو المختصرة كـ : الشافي ، وتلخيصه ، وكشف المراد ، ونهج الحق ، وحقّ اليقين في معرفة اُصول الدين ، وأصل الشيعة واُصولها ، وعقائد الاِمامية ، وغيرها من عشرات الكتب التي لا يستغني عنها كلّ باحث في خصوص هذا الموضوع ، أو في ما يتعلّق بمسائل الاَحكام الشرعية الرجوع إلى ما في المكتبة الشيعية من الكتب المبسوطة في الفقه ، كـ : كتاب المبسوط للشيخ الطوسي ، والتذكرة ، وشرائع الاِسلام ، وجواهر الكلام ، ومستمسك العروة الوثقى ، وكتاب مسائل فقهية للسيد شرف الدين ، حيث اعتنى فيه بوجه خاص لمعالجة بعض الفروع الفقهية الخلافية بين الطائفة الاِمامية وغيرها من المذاهب الاِسلامية .
كما أنه من الضروري بمكان لكلّ باحث عن الحقيقة والمعرفة في خصوص التعرّف على عقائد وأفكار الشيعة الاِمامية أن يبحثها بنفسه ، ويطلع عليها من كتب ومصادر الاِمامية المعتمدة الموثوقة عندهم ، لا من كتب ومصادر غيرهم أو ما كتبه عنهم خصومهم ، كما هو الظاهر في أكثر ما تناولته الاَقلام الحديثة من بعض الكتّاب والباحثين ، إذ من الضروري أن يتحلى الباحث بأمانة النقل والتثبت التام قبل الحكم في أيِّ مسألةٍ والتأكد من فهمها فهماً صحيحاً ، فإن مما منيت به الشيعة الاِمامية أنهم اُسيء فهمهم واستغل الحاقدون ذلك في الكيد بهم والوقيعة فيهم على غير بينة وبرهان ، إذ ليس كلّ ما يُنسب إليهم هو من معتقدهم ومعتبراً عندهم ، وليس من الحقّ والاِنصاف أن تُدان طائفةٌ بما ينسبه إليها غيرها ، ولا بما يقوله الشواذ الذين لا وزن لكلمتهم ولا حيثيّة لهم ، بل الصحيح أن تؤاخذ بما هو متّفق عليه عند علمائهم ، أو ما هو متسالم عليه عندهم.
ولذا خفيت على كثير من الباحثين والمحقّقين فضلاً عن غيرهم حقيقة مبادىء وفكر المذهب الشيعي ، وما ذلك إلاّ لعدم التثبّت التام الدقيق والدراسة المستوعبة ، وقد حذر القرآن الكريم من مغبة اتباع هذا النحو ، قال تعالى : (يَا أيُّها الّذين آمنُوا إنْ جاءَكُم فاسقٌ بنبأٍ فتبيّنوا أنْ تُصيبُوا قوماً بجهالةٍ فتُصبِحوا عَلى مَا فَعَلْتُم نادمين) (3) كما حَذرَنا من الاعتماد على الظنّ فقال تعالى : (إنَّ الظَّنَّ لا يُغني مِنَ الحقِّ شيئاً) (4) ، والعاقل المنصف لا يأنف من اتباع الحقّ ، فإن الحكمة ضالة المؤمن ، (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) (5) وأملي أن يتابع القارىء الكريم معي هذه المناظرات ففيها من الحقّ ما يُسمعُ الصُمَ ، ومن النور ما يراه البصير، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، والصلاة على نبيّه المختار وآله الاَطهار ، ما طلع بدر الدُجى ، وسطعت شمس النهار ، إنّه نعم المولى ونعم النصير .

في يوم الجمعة المصادف
ميلاد الاِمام الحجّة بن الحسن عليه السلام
15 | 8 | 1414 هـ



____________
(1) كما يحكم بذلك العقل وذلك للاَمن من الضرر الاَخروي ، حتى ولو كان محتملاً .
(2) سورة الزمر : الآية 18 .
(3) سورة الحجرات : الآية 6 .
(4) سورة يونس : الآية 36 .
(5) سورة يوسف : الآية 108 .