المناظرة الحادية والعشرون
بينا عمر بن عبد العزيز جالساً في مجلسه ، دخل حاجبُه ومعه امرأة أدماء (2) طويلة حَسَنَة الجسم والقامة ، ورجُلان متعلِّقان بها ، ومعهم كتابٌ من مَيْمونَ بن مِهران إلى عمر ، فدفعوا إليه الكتاب ، ففضّه فإذا فيه : بسم الله الرحمن الرحيم : إلى أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ، من ميمون بن مهران ، سلام عليك ورحمةُ الله وبركاته ، أمّا بعد ، فإنه وَردَ علينا أمر ضاقت به الصدور ، وعجزتْ عنه الاوْساع (3) ، وهربنا بأنفسنا عنه ، ووكلناه إلى عالمه ، لقول الله عزّ وجلّ : ( ولو ردّوه إلى الرّسول وإلَى أولي الامْرِ منهمْ لِعَلِمَه الّذين يَستنبطُونه منهم ) (4) وهذه المرأة والرجلان أحدهما زوجها والاخر أبوها ، وإنّ أباها يا أمير المؤمنين زَعَم أنّ زوجَها حَلَف بطلاقها أنّ علي بن أبي طالب ـ عليه السلام ـ خير هذه (5) الامة وأولاها برسول الله ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، وإنه يزعم أن ابنته طلقت منه ، وأنه لا يجوز له في دينه أن يتخذه صهراً ، وهو يعلم أنها حرام عليه كأمه ، وإن الزوج يقول له : كذبت وأثمت ، لقد برَّ قسمي ، وصدقت مقالتي ، وإنها امرأتي على رغم أنفك ، وغيظ قلبك ، فاجتمعوا إليَّ يختصمون في ذلك . فسألت الرجل عن يمينه ، فقال : نعم ، قد كان ذلك ، وقد حلفت بطلاقها أن علياً خير هذه الامة وأولاها برسول الله ـ صلى الله عليه وآله وسلّم ـ ، عرَفه من عَرفه ، وأنكَرَه من أنكَرَه ، فليغْضَب من غَضِب ، وليرْضَ من رَضي ، وتَسامعَ الناسُ بذلك ، فاجتمعوا له ، وإن كانت الالسن مجتمعةً فالقلوب شتى ، وقد علمتَ يا أمير المؤمنين اختلافَ الناس في أهوائهم ، وتسرعهم إلى ما فيه الفتنة ، فأحجَمْنا عن الحُكم لِتحكُم بما أراك الله وإنهما تَعلقا بها ، وأقَسم أبوها ألا يَدَعَها معه ، وأقَسم زَوْجُها ألا يفارقَها ولو ضُرِبتْ عُنقُه إلاّ أن يحكْم عليه بذلك حاكم لا يستطيع مُخالَفَته والامتناعَ منه ، فرفعناهم إليك يا أمير المؤمنين ، أحسنَ الله توفيقَك وأرْشَدَك ! وكَتَب في أسفلِ الكتاب :
قال : فجمعَ عمرُ بنُ عبد العزيز بني هاشم وبني أميّة وأفخاذ قُريش ، ثم قال لابي المرأة : ما تقول أيّها الشيخ ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، هذا الرجلُ زوّجْتهُ ابنتي ، وجهّزْتُها إليه بأحَسن ما يُجَهَّز به مِثْلُها ، حتى إذا أمّلت خيرَه ، ورجوتُ صلاحَه ، حَلف بطلاقها كاذباً ، ثم أرادَ الاقامةَ معها . فقال له عمر : يا شيخ ، لعلّه لم يُطلِّق امرأتَه ، فكيفَ حَلَف ؟ قال الشيخ : سبحانَ الله ! الذي حَلفَ عليه لابْيَنُ حِنثاً وأوضَح كذباً من أن يَختَلِج في صدري منه شَك ، مع سِنِّي وعِلْمي ، لانّه زعم أنّ عليَّاً خيرُ هذه الامَة وإلاّ فامرأتُه طالق ثلاثاً . فقال للزوج : ما تقول ؟ أهكذا حَلَفْتَ ؟ قال : نعم . فقيل : إنّه لمّا قال :نَعَم ، كادَ المجلسُ يَرْتج بأهلِه ، وبنو أميّةَ يَنْظُرُون إليه شَزْراً ، إلاّ أنّهم لم ينطقوا بشيء ، كّلُ ينظرُ إلى وجهِ عمر . فأكبَّ عمر مَلِيَّاً يَنْكُتُ الارضَ بيَدِه والقومُ صامِتون ينظُرُون ما يَقُولُه ، ثمّ رفع رأسَه وقال :
ثم قال للقوم : ما تقولون َ في يمين هذا الرجل ؟ فسكتوا . فقال : سبحان الله ! قولوا . فقال رجل من بني أميّة : هذا حكم في فرج ، ولسنا نجترئ على القول فيه ، وأنتَ عالم بالقول ، مؤتمن لهم وعليهم ، قل ما عندك ، فإن القول ما لم يكن يحق باطلا ويبطل حقاً جائز عليَّ في مجلسي . قال : لا أقولُ شيئاً ، فالتفتَ إلى رجلٍ من بني هاشم من وَلد عقيل بن أبي طالب ، فقال له : ما تقول فيما حلف به هذا الرجل يا عقيلي ؟ فاغتنمها ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إن جعلتَ قولي حكماً ، أو حُكمي جائزاً قلتُ ، وإن لم يكن ذلك فالسّكوت أوسَع لي ، وأبقى للمودّة . قال : قل وقولك حُكم ، وحكمك ماض . فلمَّا سمع ذلك بنو أميّة قالوا : ما أنصفتنا يا أمير المؤمنين إذ جعلت الحكم إلى غيرنا ، ونحن من لحمتك وأُولي رحمك ! فقال عمر : اسكتوا أعجزا ولؤماً ! عرضتُ ذلك عليكم آنفاً فما انتدبتم له . قالوا : لانّك لم تُعطنا ما أعطيت العقيلي ، ولا حكّمتنا كما حكّمته . فقال عمر : إن كان أصاب وأخطأتم ، وحَزم وعجزتم ، وأبصر وعميتم ، فما ذنب عمر ، لا أبا لكم ! أتدرون ما مثلكم ؟ قالوا : لا ندري . قال : ليكن العقيلي يدري ، ثم قال : ما تقول يارجل ؟ قال : نعم يا أمير المؤمنين ، كما قال الاوّل :
فقال عمر : أحسنت وأصبت ، فقل ما سألتك عنه . قال : يا أمير المؤمنين ، برَّ قَسَمهُ ، ولم تَطلُق امرأتُه . قال : وأنّى علمت ذاك ؟ قال : نشدتُكَ الله يا أمير المؤمنين ، ألم تعلم أنّ رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ قال لفاطمة ـ عليها السلام ـ وهو عندها في بيتها عائد لها : يا بنية ، ما علتك ؟ قالت : الوعك يا أبتاه ـ وكان علي ـ عليه السلام ـ غائباً في بعض حوائج النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ . فقال لها : أتشتهين شيئاً ؟ قالت : نعم أشتهي عنباً ، وأنا أعلم أنه عزيز ، وليس وقت عنب . فقال ـ صلّى الله عليه وآله ـ : إن الله قادر على أن يجيئنا به ، ثم قال : اللهم ائتنا به مع أفضل أمتي عندك منزلةً . فطرق علي الباب ، ودخل ومعه مكتل قد ألقى عليه طرف ردائه . فقال له النبي ـ صلّى الله عليه وآله ـ : ما هذا يا عليّ ؟ قال : عنب التمسته لفاطمة ـ عليها السلام ـ . فقال : الله أكبر الله أكبر ، اللهم كما سررتني بأن خصصت علياً بدعوتي فاجعل فيه شفاء بنيتي ، ثم قال : كلي على اسم الله يا بنية . فأكلت ، وما خرج رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ حتى استقلت وبرأت . فقال عمر : صدقت وبررت ، أشهدُ لقد سمعته ووعيته ، يا رجل ، خذ بيد امرأتك فإن عرض بك أبوها فاهشم أنفه . ثم قال : يا بني عبد مناف ، والله ما نجهل ما يعلم غيرنا ، ولا بنا عمىً في ديننا ، ولكنّا كما قال الاوّل :
قيل : فكأنّما ألقم بني أمية حجرا ، ومضى الرجل بامرأته . وكتب عمر إلى ميمون بن مِهرانَ : عليك سلامٌ ، فإنّي أحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو ، أمّا بعد ، فإني قد فهمت كتابك ، ووَرد الرجلان والمرأة ، وقد صدق الله يمين الزوج ، وأبرّ قسمه ، وأثبته على نكاحه ، فاستيقن ذلك ، واعمل عليه ، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته (6) . ____________ (1) هو : أبو حفص عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم وُلِّي بعهد من سليمان بن عبد الملك يوم الجمعة لعشرة خلون من صفر سنة 99 هـ ، وبقي والياً إلى أن مات يوم الجمعة لخمس بقين من شهر رجب سنة 101 هـ . انظر : تهذيب الكمال ج21 ص432 ، سير أعلام النبلاء : ج5 ص114 . (2) أدْماء : جمع أدْم ، وهو الاسمر . (3) الاوساع : جمع وسع ، وهو الطاقة . (4) سورة النساء الاية : 83 . (5) كما نص على ذلك النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلّم ـ بقوله : (عليّ خير من أتركه بعدي) . راجع مواقف الايجي ج 3 ص276 ، مجمع الزوائد ج9 ص113 ، الغدير للاميني ج3 ص22 ، وأيضاً روى عنه ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ قال : (علي خير البشر فمن أبى فقد كفر) . راجع : كفاية الطالب للكنجي الشافعي ص 245 ط الحيدرية وص119 ط الغري ، ترجمة الامام علي بن أبي طالب من تاريخ دمشق لابن عساكر الشافعي ج2 ص444 ح 955 ـ 958 ، ينابيع المودة للقندوزي الحنفي ص246 ط اسلامبول وص293 ط الحيدرية وج2 ص71 ط العرفان صيدا ، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ج5 ص 35 ، ميزان الاعتدال للذهبي ج2 ص271 ، كنوز الحقائق ص98 ط بولاق ، احقاق الحق للتستري ج4 ص254 ، تاريخ بغداد للخطيب ج4 ص154 وج7 ص421 ، فرائد السمطين ج1 ص154 ح1160 ، الغدير للاميني ج3 ص22 . (6) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج20 ص222 . |