المناظرة الاولى


مناظرات

فـي الإمامـة

تأليف وتحقيق
عبدالله الحسن


بسم الله الرحمن الرحيم

فَبشِّر عبادِ الّذين يَستَمِعُـون القَولَ فَيَتّبِعُـون
أحسَنـهُ أولئِـكَ الّذين هَداهُمُ الله
واُولئـكَ هُـمْ اُولُـوا الالبَـابِ


صدق الله العلي العظيم


الإهــداء :

إلى من قال فيه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ يوم غدير خمّ : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم والِ من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله.
إلى من أحلّه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ محل هارون من موسى ، فقال : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي.
إلى من زوجه رسول الله ـ صلّى الله عليه وآله ـ ابنته ، سيّدة نساء العالمين ، واحلّ له من مسجده ما حلّ له ، وسدّ الابواب إلاّ بابه ، وأودعه علمـه وحكمته ، فقال : أنا مدينة العلم وعليُّ بابها ، فمن أراد الحكمة فليأتها من بابها.
سيدي أهدي إليك هذا المجهود المتواضع راجياً القبول :
( يا ايُّها العَزيز مَسّنَا وأهلَنَا الضُّرُّ وَجِئنَا ببضَاعَةٍ مُزجاةٍ فأوفِ لنا الكَيلَ وتَصَدّق عَلينا إنّ الله يَجزي المتصدّقِين ) سورة يوسف الاية 88. عبدالله الحسن



(1)
لقد أتحفنا الاديب اللامع والشاعر المبدع الاخ الاستاذ فرات الاسدي بهذه القصيدة ومؤرخاً لصدور كتابنا فشكراً له على ماجادت به قريحته.

بسم الله الرحمن الرحيم
الاخ العزيز الحسن ـ رعاه الله ـ.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أقدّم لكم مع الاعتذار ، الابيات التي كنت وعدتكم بها لكتابكم الكريم ، وقد تطرّقت فيها إلى القطيف وبعض مناطقها ثم إلى كتابكم فأرجو القبول.
أخوكم : فرات الاسدي


لاُفْقٍ بـه ناعـسـاتُ الضفــاف‌ِ * يُهَدهِدُها البحرُ.. حسرى غـوافي
يَـمـُدُّ إلـى حُسنـهــا كفَّــه‌ُ * فتشهقُ بالوجـدِ سُمرُ المــرافي
ويهتزُّ نـخـلُ الهوى والشــراع‌ُ * ما مَلَّ مـن لُجَّـةٍ في الطــوافِ
ـ كـأن لــم أُطرّزْ علـى مثلـه‌ِ * دموعيَ ذاهلــةً فـي المنــافي
ولـم أتذكّــرْ بـهـنَّ الفــرات‌َ * منــاديـلَ دامعـةَ الارتجــافِ
تَرُدُّ إلـى فرحتـي لـونَـهــا.. * وتحملني عبـر ذكــرى زفـافِ
زفافِ الـدم المـرِّ في كـربــلاء * وزغردة الجــرح رهْنَ انتـزافِ
ونخـلُ الجـنــوب بـأعذاقــه‌ِ * تَدلّى الردى ، رائعَ الاصطفافِ ! ـ
.. وتصــدحُ أغنـيـةٌ حلــوة‌ٌ * يُرقرقُها لهــبٌ فـي الشغــافِ
فتصبو القـلـوبُ إلـى جمــرها * وتهوي عليها سُكــارى سُـلافِ
ويندى علـى كأسِـهــا دمُهــا * وما دمُها غيـرُ خمـر القطــافِ
بهِ رُوحُـهــا ثمــرٌ والدِّنــان‌ُ

*

مفاتنُهــا.. نهَبـاً لارتشــافي !

لاُفْقٍ بـه ناعـسـاتُ الضفــاف‌ِ * كتبتُ ، وحبـرُ الوريــد القوافـي
و ... تغفــو عـلى عطـرهــا * ليأرق ليــل العـذارى اللهــاف
وحـيـث ... تــأوي القــرون * وأمجادها .. مثل طيــر خـرافي
إلى اليوم في جـانحَيـهِ النبــوغ‌ُ * تــرفُّ قوادمُــه والخـوافـي
على شاطىءٍ من خليج القطيف (1) * نديــان مستهـزيءٍ بالجفــافِ
وما زال يحمـلُ وجـهَ الربيــع‌ِ * ترودُ به البحـرَ سفْنُ اكتشــافِ
ويصـطافُ بـالشـمـسِ نُوتِيُّهـا * وباللؤلؤِ الرطـبِ أيَّ اصطيــافِ
تَحَضّـنَـهُ للـوصـيّ الـــولاءُ * وللناكثـيـن القــلا والتّجــافي
وما راعـَهُ أنَّ هُــوجَ الريــاح‌ِ * ستأتي لهُ بالسنـيــنِ العجــافِ
وأنَّ اللّـظـى شـجــرٌ علقــم‌ٌ * ستـورقـُه عاقــراتُ الفيــافي
بل انثالَ للنبـع يـروي الظِـمــأَ

*

وينهلُ سلســالَه وهو صــافـي

وحـيـثُ رعـى وُدَّهُ مـاجــدٌ * بآبائـهِ ، طاهــرٌ في النطــافِ
علـى العلـم معتكـفٌ لا يحـول‌ُ * فبُوركَ منـهُ طويــلُ اعتكــافِ
وبُـورِكَ فـي يــدهِ مـِزبــرٌ * أبانَ من الحقّ أجـلـى صحــافِ
وسطَّـر في حيــدرٍ مُصحـفـاً * سيُطربُ سمعَ الموالـي المصـافي
ويقرعُ سمعَ الخصــوم الـلّـدودِ * بصوتٍ جريٍ جهيــرِ الهتــافِ
يُناظِـرُ بالحُـجـج الـدامغــات‌ * ويروي عن القـوم كلَّ اعتــرافِ
بأنَّ الامـامــة نـصٌ جـلــي‌ُّ * وحقُّ عليٍّ بها غيـــرُ خــافي
وأبنـاءه الطـاهريــن الهُــداة‌َ * ليسَ بتفضيلِهــمْ مـن خــلافِ
إليهمْ يُشيرُ الدلـيــلُ الصريــح‌ُ * وعنهم بكلّ ( صحيـحٍ ) يُوافــي
فيــاربِّ بـاركْ بهـم عُلقتــي‌ * وأحسِنْ لهُمْ أوبتـي وانصــرافي

وأما تاريخ طبع الكتاب فهو :

أيُّهـا الكـاتـبُ الــذي‌ * هـو للمرتضـى وَلــيْ
لـكَ فيمــا جمعـتَــه‌ُ * خيرُ نـصٍّ بـه جـلـيْ
ناظِر الخصـم واثـقــاً * بكـتــابٍ ومِـقــولِ
وإذا مـا ظفــرتَ فـي‌ * الـرأي منـهُ بمقـتــلِ
قُلْ لهُ الحقُّ تاريخُهُ : ـ * سَلْ بخٍ بخٍ يــا عـلـيْ
1415 هـ
فرات الاسدي
6|جمادى الثانية|1415




(2)
ولقد أتحفنا كذلك الاديب خادم أهل البيت الخطيب الشيخ محمد باقر الايرواني النجفي دام عزه بهذه القصيدة ومؤرخاً لصدور الكتاب فشكراً له على ما تفضل به.

في كتـاب المناظـراتِ نَظرْنــا * نظرة الشَّوق بـدءه وخـتـامَــه
فوجـدنـاه جامعــاً للمغــازي‌ * من بحوثٍ دقيقـةٍ بـاسـتـدامـه
وعـن السنـة المصــادرُ تبـدُو * واضحـاتٍ صريحـةً بصــرامه
ذاك أن النـبــيَّ لمْ يُـوص إلاّ * لعليٍ والله أعــلــى مقـامــه
وإذا الخصم قد تجـاوز ظُلـمــاً * فلقــد بــاءَ وزرَهُ وأثـامــه
إنما الامـرُ والخـلافـةُ خُصَّـت‌ْ * لقرينِ الزهــراء رمـز الكرامـه
هـل سواهُ قد كـان آمـن قبـلاً * أسبق الناسِ معلنــاً إسـلامــه
هل أتى ( هل أتى ) لشخصٍ سواه‌ * ومن الـرّبِ قد حبـاه وسـامــه
حبّهُ واجـبٌ وفــرضٌ أكيــدٌ * وهو للمؤمنيـن أجلى عـلامــه
حربُه حـربُ أحمــدٍ ويقينــاً

*

سلمُه سلمُه ليـوم القـيــامــة

قل لمن أنكــر الحقيقــةَ زوراً * وإلـى الحـق قـد ألدَّ خصـامَـه
لاتكـنْ حاقداً على الحـق واتبـع‌ْ * منهجَ الحق كـي تنـال السلامــه
إن تجاهَلت فالحسـابُ عسيــرٌ * لك ويـلُ الوبــالِ ثـمَّ الملامـه
هذه كتْبُكُم تُـصــرِّحُ جهــراً * فلراوي الحديـث فافهــم كـلامه
لاتكن كالذي عنــاداً وبغضــاً * ضِدَّ آلِ الرَّســولِ سلَّ حُسـامـه
ودعــاه نكـرانُ فضـلِ علـي‌ٍّ * دون جدوى فجدّ يـرمي سهـامـه
أَلزمَ النفسَ بالخـلافِ جـحـوداً

*

ليـس للجاحديــن إلا النـدامــه

فاقْبل النصح من وفيٍ نصــوح‌ٍ * إنّما النصــحُ من وفـاءِ الشهامه
كُـنْ مع المرتضى بقلبٍ سليــم‌ٍ * وعن الفكـر فاطَّــرحْ أَوهـامـه
فاز بالنّصر مَنْ يعـي ويُــراعي‌ * سِـرَّ إرشــاد نفسـه اللَّـوامـه
دربُنا المستقيـمُ لـلحـقِّ يهــدي‌

*

وعلى الحقِّ والهُدَى الاستقـامــه

من كتـاب المنـاظـرات تـزوَّد * تجد الرُّشْـدَ إن أردت اغتِنـامــه
هو نعم الكتـاب أقسمــتُ حقـاً * وبه الكاتبُ استـثــار اهتِمامــه
فاز في النشأتيـن وعيـاً وسعيـاً * وبحبل الولاء نـال اعتصــامـه
وسيحظى بالخير والنصـر دَومـاً * كلما للوصي أبـدى الـتـزامــه
ولمِنْ رام خيـرَ دنيـاً وأُخــرى‌ * فبنهــج الهدى ينــال مـرامـه
ويقيناً أرَّخـتُ : يبقــى بطيـب‌ * لعلــيٍ إثْـبــاتُ حَقّ الامامـة
1415 هـ


محمد باقر الايرواني النجفي


تقـديم :

بقلم العلاّمة المحقق آية الله الشيخ محمد رضا الجعفري ـ حفظه الله تعالى ـ‍

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّد خلقه وخاتم أنبيائه محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العليّ العظيم.
1 ـ طُلب إليّ أن أُقدم لكتاب ( مناظرات في الامامة ) في ظروف لم تكن تحملني على هذا النوع من العمل الفكري إن لم تكن تعوقني ، والله سبحانه هو المرجو في السرّاء والضرّاء وبه المعاذ والملاذ في الشّدة والرخاء ، قلت هذا كي يغفر لي القاريء الكريم إن لم يجد في تقديمي هذا كلّ ما كان يأمل أن يقرأ حول الكتاب وموضوعه.
ولا يعنيني هنا أن أتكلّم عن مدلول ( المناظرة ) لغوياً بعد أن اصطلح عليها على أن تؤدّي معنى الجدل الكلامي المباشر ، القائم على المواجهة واستماع كلّ من المتجادلَيْنِ كلام الاخر والردّ عليه في محضر المواجهة ، فتكون قسماً من أقسام ( الردّ ) و ( النقض ).
2 ـ وإذا كان أوّل خلاف وقع بين الامّة الخلاف في الامامة والامام ، وإذا كان الجدل والنقاش وعرض وجهات النّظر ، والردّ على الرأي المخالف من طريق الكلام والمواجهة أسبق وقوعاً من الردّ كتابة وتأليفاً ـ‍ وهذا واضح ـ فبهذا تكون ( المناظرة ) والجدل عن طريق الحوار قد سبقت سائر أنواع الجدل والنقاش الفكري سبقاً زمنيّاً ، فلابد لنا من القول بأن المناظرة حول الامامة قد سبقت كلّ مناظرة كلامية تدور حول الصراع الفكري الذي حدث بين المسلمين في شتى نقاط الخلاف العقائدي والمذهبي بينهم.
وإن كانت المناظرة حول الامامة والخلافة في أشكالها الاُوَل قد تأطَّرَت بإطار ( الاحتجاج ) من المعارضين على الفائزين في الصراع السياسي حول قيادة الامة ، وقد أعطي لها هذا العنوان : ( الاحتجاج ) إلاّ أنّه لا يخرجها عن شمول عنوان ( المناظرة ) لها ، فإنّ الاحتجاج في نفسه هو نوع من أنواع المناظرة ، ويعتمد على إدلاء الحجج واعتماد الادلّة والاعتبارات المناسبة لتصحيح المعارضة وعدم الخضوع لموقف الفئة الحاكمة أو التي تحاول أن تكسب الحكم ، ولا تسلب من الخصم إمكانية الدفاع عن نفسه وعن وجهات نظره ونقض حجج من يحتج عليه.
بل وإنّ الغلبة في الحجة والفوز في الخصومة الكلامية إن كانتا في جانب المعارضين ، فإنّ ذلك يدلّ دلالة أقوى وآكد على أنّ الحق معهم ، إذ أنّ خصومهم الذين يعتزّون عليهم بما كسبوه من القدرة السياسية والعسكرية لا يأنفون أن يدلوا بحججهم ونقض حجج معارضيهم ، فإن سكتوا هنا أمام معارضيهم ، فستكون له دلالة أقوى من سكوت أحد المتناظرين.
ومن الواضح الذي لا يخفى على أحد ، لا هو ولا الاسباب والعوامل الموجبة له ، أنّ المناظرات حول الامامة تشكّل القسم الاكبر والاوسع من المناظرات الكلامية لعلماء الامامية ومتكلّميهم أعلى الله درجتهم ورضي عنهم وأرضاهم.
3 ـ وهذا الكتاب أوّل محاولة مستوعبة تجمع كلّ صورة من صور المناظرة حول الامامة ، أمكن للمؤلف ـ حفظه الله ـ أن يصل إليها ، وشيخنا الطبرسي رحمه الله وإن كان قد سبقه إليه في كتابه الشهير ( الاحتجاج ) لكنّه لم يخصّ موضوع كتابه بالامامة وحدها ، وقد انتهى به إلى عصره وهو القرن السادس ، وقد نَظَم المؤلف مادة الكتاب حسب التسلسل الزمني ، وهذه حسنة أخرى.
والمناظرة حيث أنّها تقوم على الحوار المباشر بين المتناظِرَيْن وَجْهاً لوَجْهٍ ، فلا يكون أحدهما هو المدلي بحجّته والداخل إلى مجلس القضاء وحده كي يقال : من كان في مثل حاله سيكون هو الفائز بحجته والمنتصر على خصمه الغائب عنه ، وهذه بعض السمات الخاصة للمناظرات والتي تمتاز بها عن بقية أنواع النقاش والردّ.
وهناك شكل آخر من أشكال المناظرة اصطلح عليه بعنوان ( الردّ ) و ( النّقض ) ويقوم على الاستعانة بالكتابة وتأليف الرسائل والكتب ، وإن كان هذا العنوان لا يختص به من حيث المدلول اللغوي ، وقد أكثر منه علماؤنا الابرار أيضاً وحسبك أن ترجع إلى الذريعة ج 10 ص 174 ـ‍ 237 ، 354 ـ 751 فيما جاء بعنوان ( الرّدّ ) و ج 24 ص 283 ـ 292 ، 459 ـ‍ 516 فيما جاء بعنوان : ( النقض ) عدا ماكان له اسم خاص ، فلم يذكر إلاّ حسب وقوع اسمه في موقعه الخاص من سلسلة الحروف العربية.
وإذا أضفنا إلى هذين القسمين قسماً ثالثاً لم يظهر إلا في العصور الحديثة وهو المقالات التي لا تنشر إلا في الصحف والمجلات والدوريّات ، ويشكّل كميّة ضخمة لا يستهان بها حجماً وعطاءً ، وأرجو أن يقيض الله سبحانه من يتولّى جمعها أو فهرستها ، لادركنا مدى غزارة هذا التراث الثر المعطاء الذي لايسعنا أن نفرط به.
وقد أحسن المؤلف صُنعاً حينما نظم هذه المناظرات حسب التسلسل الزمني لوقوعها ، وبهذا مكّن الدارسين من متابعة دراستها للكشف عن نقاط القوة والضعف فيها وفي خلفياتها من حيث قدرة المتناظرين وضعفهما ، وازدهار الثقافة الدينية والتمكن العلمي وضمورهما ، حسب مختلف العصور ، والله سبحانه أسأل أن يجعل عمله هذا خالصاً لوجهه الكريم وأن يوفقه إلى أن تكون أعماله الاتية ـ سواءً التي ترجع إلى كتابه هذا أو إلى غيره ـ أوسع وأكمل ، إنّه نعم المولى ونعم النصيـر.
محمد رضا الجعفري
3|11|1414 هـ



المقـدمـة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الانبياء والمرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين.
وبعد :
فإن مسألة الخلافة بعد الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلَّم ـ هي أهم المسائل التي دارت عليها رحى الخلاف بين المسلمين قديما وحديثا ، واحتدم فيها الصراع الفكري بينهم وكانت النتيجة الطبيعية لذلك الصراع انقسام الامة الاسلامية إلى فرق متعددة (2) إلا أن أبرز هذه الفرق فرقتان : السنة الاشاعرة والشيعة الامامية وإن كانت هناك فرق أخرى برزت في فترات من التاريخ كالمعتزلة وغيرها ولسنا في مقام التصدي لاستعراض أدلة كل فريق وتقييمها فإن مجاله علم الكلام وإنما نشير إجمالاً إلى رأي ذينك الفريقين :
فذهبت العامة إلى أن الخلافة لا نص عليها بل هي موكولة إلى الامة ، فهي التي تختار الخليفة بعد الرسول ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ ، واختلفوا في كيفية انعقادها بين قائل بالبيعة ، وقائل بالشورى ، وآخر بالاجماع حتى صرح بعضهم بانعقادها بشخصين (3).
وأما الامامية فذهبت إلى أن الخلافة لا تكون إلا بالنص انطلاقا من نظرتها الخاصة في مسألة الخلافة باعتبارها منصباً إلهياً وأمره ليس بيد البشر ، وترى لزوم توفر مواصفات معينة في خليفة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ من قبيل نزاهة الباطن ، التي لا يطلع عليها إلا علاّم الغيوب.
فتؤكد من هذا المنطلق أنه يجب (4) على الله تعالى أن يختار للامة خليفة للنبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ لتناط به مسؤولية الامة بعده مباشرة ، ويعيِّنه من خلال نص النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ عليه بكل صراحة ووضوح.
ومن هذا المنطلق تحركت الشيعة الامامية لاثبات نظريتها في الامامة ووضعت النقاط على الحروف وساقت الكثير من الادلة والبراهين العقلية والنقلية من خلال الايات القرآنية والاحاديث النبوية المتفق عليها عند جمهور المسلمين لاثبات الامرين معا :
الامر الاول : أن الخلافة والامامة منصب إلهي وعهد رباني لا يناله إلا ذو حظ عظيم يمتاز عن سائر أفراد الامة بعلمه الجمّ وفضائله الفائقة وعصمته ونزاهة باطنه.
الامر الثاني : أنه بالفعل تمَّ التعيين بأمر من الله تعالى ، وبنص صريح وواضح جلي في مواقف عديدة ومناسبات كثيرة من النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ على أمير المؤمنين علي بـن أبي طـالب ـ عليه السلام ـ ابتداءً بالانذار يوم الدار وانتهاءً بالساعات الاخيرة من حياة النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ فكان لايدع فرصة يمكنه الاشارة فيها أو التصريح بإمامة علي ـ عليه السلام ـ من بعده إلا وبين فيها أمر الامامة والامام من بعده ، ولعل أبرز تلك المناسبات قضية الغدير وهي أشهر من أن تذكر ، ولا يختلف في تواترها أحد من المسلمين وإن اختلفوا في دلالة الولاية المنصوص عليها في هذا الحديث المتواتر ، وقد أثبت علماؤنا دلالتها على الاولى بالتصرف.
وانطلاقا من هذا الامر أخذت الشيعة الامامية تحتج لاحقية أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ وأبنائه الاحد عشر ـ عليهم السلام ـ في الخلافة ، ـ مستخدمين في ذلك البراهين النقلية والعقلية ـ وأثبتوا ذلك في مؤلفاتهم الكثيرة (5) في هذا الشأن قديما وحديثا ، وفي خطبهم وشعرهم وأدبهم فإن أدب الغدير ، وأدب الامامة والخلافة يحتلُ جانبا كبيرا من الادب الاسلامي خصوصا في القرون الاولى.
ومن أقدم تلك الاحتجاجات التي بدأت منذ الساعات الاولى من ارتحال النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ إلى الرفيق الاعلى ، المحاورات والمناظرات حول هذه المسألة التي كانت تدور بين الحين والاخر واستمرت مع التأريخ وتطورت فيها أساليب النقاش ووسائل الاثبات مع اختلاف المناسبات.
ومما لا يخفى أن أسلوب المناظرة من أحسن الاساليب إقناعا ، ومن أسهلها استيعابا ، وأوقعها في النفس ، حيث يتفاعل معها الادراك من خلال الاخذ والرّد ، ويستفيد منها عامة الناس مع اختلاف مستوياتهم الفكرية.
ومن ناحية أخرى ان طرح موضوع الخلافة كمسألة علمية في اطار المناظرات والتي احتوت على كثير من الحقائق التاريخية والعلمية مما يؤدي الى عمق اكثر في التعرف على نظريات وادلة كل من المذاهب الاسلامية في شؤون الخلافة الاسلامية وخصوصاً الشيعة الامامية والوقوف على نظرياتها في هذه المسألة.
ومن هنا رأيت ان أجمع بعض تلك المحاورات والمناظرات التي جرت في مسألة الخلافة بالذّات ، والتي أثبتوا فيها بالادلة دلالة النصوص المتظافرة على خلافة أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ ، مع احتوائها لكثير من الاستدلالات المختلفة المتنوعة ، كما أضفت إليها بعض المناظرات المخطوطة في هذا الباب وقد اعتمدت في إخراجها على المصادر الموثوقة والمعتمدة مع تخريج مصادرها من كتب الجمهور.
وسيلاحظ القارئ الكريم لهذه المناظرات أن وسائل الاثبات في بعضها مرتكزة على الايات الشريفة ، والنصوص المأثورة عن النبي ـ صلى الله عليه وآله وسلّم ـ المتفق عليها بين الفريقين ، وأخرى على الشواهد والوقائع التاريخية ، وتارة يستدل من خلال بعض الممارسات والمقارنة بينها وبين ممارسات النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ في نظائر تلك الوقائع ، كما أن للادلة العقلية دوراً كبيراً في هذا المجال.
وسيُلاحظ أيضا أن بعض الاستدلالات بالايات أو الاحاديث أو غيرهما قد تكررت في بعض المناظرات ، إلا أن المتأمل فيها يجدُ أنَّ كلَّ مناظر له أسلوبه الخاص المتميز في الاستدلال ، وربما تناول فيها جانبا أغفله الاخر ، وإن تكررت فيها نفس النصوص.
وقد آثرنا في فهرسة وترتيب المناظرات الاعتماد على التسلسل التاريخي لوقوعها ، ليتسنى للقارئ الكريم الاطلاع على سيرها في حقل الامامة في أحقاب زمنية متوالية ، ابتداءً من الصدر الاول وإلى وقتنا الحاضر.
وبالامكان الوقوف ـ من خلال هذا التسلسل لهذه المناظرات ـ على وسائل الاستدلال لدى الطرفين عبر عصورها المختلفة ، ومدى تطورها.
وهذا الكتاب ليس هو الاول في هذا الباب بل هناك الكتب الكثيرة التي حوت مثل هذه المناظرات والمحاورات مثل : كتاب الفصول المختارة للشيخ المفيد ـ أعلى الله مقامه ـ وكتاب الاحتجاج للشيخ الطبرسي ـ أعلى الله مقامه ـ ، فقد جمع فيه مناظرات واحتجاجات النبي ـ‍ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ والزهراء والائمة ـ عليهم السلام ـ مع اليهود والنصارى والزنادقة والملاحدة ومع مختلف المذاهب ، والبحار للشيخ المجلسي ـ أعلى الله مقامه ـ في بعض أجزائه ، والمراجعات للسيد شرف الدين ـ قدَّس الله سره ـ ، والغدير للاميني ـ طاب ثراه ـ في الجزء الاول ، وغيرها.
إلا أننا اقتصرنا في هذا الكتاب على المناظرات التي جرت بشأن الخلافة والامامة فقط ، كما مرت الاشارة إليه آنفا.
هذا وباب المناظرات في الخلافة بابٌ لا يسع استيفاؤه ولا يمكن استيعابه ، وعسى أن يكون فيما ذكرناه كفاية لمن طلب الحق في هذا المجال.
وقد رأيت من الضرورة بمكانٍ أن أُصدِّر الكتاب ـ بمناسبة موضوعه ـ ببيانٍ لحكم المناظرة في الشريعة الاسلامية وآدابها وتاريخها في الخلافة ومتى بدأت.
وأخيرا أرجو من القارئ الكريم أن تكون قرأتُه بدقة وتمعن بالغين ، وبكل موضوعية بعيدا عن التعصب ، ومما لا يخفى على كل باحث أن ترك التعصب وتحكيم العقل يؤدي إلى رؤية الحقيقة بأجلى مظاهرها وأصدق معانيها ، هذا والحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها.
والله تعالى أسأل في هذه الظروف العصيبة أن يلم شمل المسلمين جميعا ويوحد كلمتهم على الحق ليكونوا يدا واحدة على أعدائهم قال تعالى : ( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون ) (6) وقال تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرَّقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حُفرةٍ من النَّار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) (7) ولا يفوتني أن أقدم جزيل الشكر والامتنان لكل من ساهم في مراجعة وإبراز هذا الكتاب راجياً لهم التوفيق ، وإياه تعالى أسأل أن ينفع بهذه المناظرات إخواني المؤمنين ويجعلها ذخراً ليوم لاينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ، والله من وراء القصد والهادي الى سواء السبيل ، وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين.

عبدالله الحسن
يوم الجمعة 29|11|1413 هـ‍


____________
(1) القطيف : قال ياقوت : القطيف : هي مدينة بالبحرين ، وهي اليوم قصبتها وأعظمم مدنها ، وكان قديما اسما لكورة هناك غلب عليها الآن اسم هذه المدينة ، وقال أيضاً : القطيف قرية لجذيمة عبد القيس ، وقال عنها ابن بطوطة في رحله : ثم سافرنا إلى مدينة القطيف ـ كأنها تصغير قطف ـ وهي مدينة كبيرة ذات نخل كثير يسكنها طوائف من العرب.
وقد جاء ذكرها في الشعر العربي ، قال عمر العبدي :

وتركن عنتر لا يقاتل بعدها * أهل القطيف قتال خيل تنفع

وقال حمل بن المُعنِّي العبدي :

نصحن لعبد القيس يوم قطيفهـا * فما خير نصح قيل لم يتقبّــل
فقد كان في أهل القطيف فوارس * حماة إذا ما الحرب القت بكلكل

وقد ذكرها ابن المقرب الاحسائي كثيرا في شعره ، ومن ذك قوله :

ومن نسـل عبـد فتية أي فتيــة * يجل المعادي بأسها فيهابهــا
وإن صاح داعي حيها في محارب * أتت تتلظى للمنايــا حرابهـا

معجم البلدان ج4 ص378 ، مراصد الاطلاع ج3 ص1110 ، رحلة ابن بطوطة ص280.
(2) ولعل الحديث الوارد عن النبي (ص). ستفترق أمتي بعدي على ثلاثة وسبعين فرقة... الخ إشارة إلى ذلك. انظر : احقاق الحق ج 7 ص 185 ، نفحات اللاهوت ص 114 ـ 115.
(3) راجع الاحكام السلطانية للماوردي ص 4.
(4) وجوب نصب الامام على اللّه تعالى هو بمقتضى قاعدة اللطف بالعباد إذ لايمكن ان يوجب العبد شيئا على مولاه ، وهناك من المذاهب من يرى وجوبها شرعا ، راجع شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج2 ص308.
(5) راجع : الشافي في الامامة للسيد المرتضى ، الالفين للعلامة الحلي ، تلخيص الشافي للشيخ الطوسي ، دلائل الصدق للمظفر ، المراجعات لشرف الدين ، الغدير للاميني ، وغيرها.
(6) سورة الانبياء : الاية 92.
(7) سورة آل عمران : الاية 103.