محاضرات عقائدية ::: 76 ـ 90
(76)
فالحداثة المعاصرة كالانترنت وما شابه ذلك أبعدت الإنسان عن الله ، فكيف نعترض على ذلك؟
     ( ج ) : هذه إشكالية بديعة تفتح أبواب المحاضرة من جديد ، جزاك الله خيراً يا ولدي.
    كما قدّمت في تلاوة سورة الشورى قلت أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جُمِعَ فيه هدى كل النبيين ثم جُمع له علم ما بعده إلى يوم القيامة ، وهو لا يبث من العلم إلاّ ما يناسب مرحلة وجوده على الأرض ، يعني الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وكل إمام على علم بحقائق الأشياء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، ولكن غير مأذون بأن يبث من هذا العلم إلاّ ما يناسب حال الناس وتصديقاً لقوله تعالى : « عِبَادٌ مُكْرَمونَ * لاَ يَسبِقُونَهُ بِالقَولِ وَهُمْ بِأمرِهِ يَعمَلُونَ » (1) ، يعني رغم العلم الكامل لكنّهم يتصرّفون في ما لديهم من علوم بما يناسب حال العصر الذي يعيشون فيه. تتقدّم الإنسانية والإمام القائم ( صلوات الله عليه ) معجزته الكبرى ـ اجيب على الشبهة الوسطى ـ إنّ التقدّم المادي والحضاري رغم أنّه قد يكون فيه سواقط أخلاقية ، لكنّه ليس شرّاً كلّه ، بل هو نعمة إذا شُكرت ، فهو يفتح على الناس عبادة لم تكن مفتوحة قبل ذلك ، كيف؟
    أجيبك يا أخي : ها أنا ذا العبد الفقير أتحدث الآن وأنت تأتي
1 - الأنبياء : 26 ـ 28.

(77)
إلى هذه القاعة ، خرجت من بيتك وسلكت الطريق ووصلت وعانيت من الزحام ، هب أن هذه المحاضرة أو غيرها من المحاضرات الأخرى تبث على الانترنت ، فرآها عبد من عبيد الله وهو جالس على سريره فاستبصر بها وقال : الحمد لله ، أليس في هذه النعمة ما يدلّ على أنّ الحضارة المادية قدمت للإنسانية سلّماً إلى الله عزّ وجلّ؟
    المسيح ( عليه السلام ) له كلمة في إنجيل مرقص : كلّ ما يعمل يعمل للخير إذا صلحت نيّة ابن آدم ، إذا صلحت نية ابن آدم أصبح الخير في كل ما ترى ، يعني التلفاز كما يبث برامج وزراء الثقافة العرب وغيرهم الذين يريدون أن يحلّلوا الأمة ، ممكن أن يبث الخير.
    هل تعلم يا سيدي أنَّ برنامجاً زراعياً ناجحاً في الإرشاد الزراعي لو تمّ بثه على مستوى العالم واستطاعت الإنسانية أن تضاعف إنتاجها من المحاصيل الزراعية لوجود الإرشاد في وقته ـ لأنّ من بين عناصر الإنتاج الزراعي الإرشادي الصحيح في الوقت المناسب ـ أليست هذه نعمة لو أهتبلها الإنسان لانبثق من النمو الحضاري نمو روحاني؟
    الإسلام لا يمكن أن يفصل التسامي الروحي عن التقدّم المادّي أبداً ، بدليل أنّه اعتبر الكفر والفقر قرينان ، والإمام علي ( عليه السلام ) هو الذي قال : « لو تمثّل لي الفقر رجلا لقتلته » لأنّه قرين الكفر


(78)
، والله تبارك وتعالى وهو يمنّ على المخلوقات ليس على البشر فقط ، بالخلق جعل منّته مقرونة بتقدير الأقوات وهي السبب الموجب لعبادة الله.
    يعني نحن نقول : الحمد لله ربّ العالمين ، ومعنى الربّ الذي يربّي ويقوت ، فإذا وجدت نعم مادية تسهّل على الإنسانية معاشها وتحسّن الإنسانية توظيفها ولا يمتطيها إبليس ، فالحضارة الماديّة تكون مركباً للخير تتقدّم بها الروح.
    فعلم الأئمّة شامل لما كان ولما يكون ، وهم لا يبدون من العلوم إلاّ ما يناسب عصرهم.
    وأسأل الله أن يجعلنا من عبيد إمامنا صلوات الله عليه ، لنستمتع بالتقدم العلمي الذي سيعطيه دفعةً قويةً جداً إن شاء الله ربّ العالمين.
     ( س ) : نعلم بأنّ الملائكة تنزل على الإمام في ليلة القدر ، فهل تختلف ليلة القدر من مكان إلى مكان لأجل اختلاف الآفاق؟
    اللّهمّ صلّ على محمد وآل محمد ، ليلة القدر ليلة كونية ، وتكون مع الامام حيث يكون ، ونسأل الله أن يسعدنا فنظفر بكينونة إمامنا بيننا في ليلة قدر إن شاء الله.


(79)
المحاضرة الثالثة :
« الإمام الحسين ( عليه السلام ) في سفر الشهداء »


(80)

(81)
بسم الله الرحمن الرحيم
    الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله ، وأفضل الصلاة وأزكى السلام على مَن اجتباه ربّه فزكّاه وتولاّه أبي القاسم محمّد بن عبد الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، صلاة زاكيةً ناميةً ما بقي الليل والنهار.
    أيها الأحبة ، إذ أمثل بين أيديكم فرداً من أفراد مصر لأُشرَّف بالوقوف على هذه الأرض الطاهرة في ذكرى سيدي الإمام الحسين صلوات الله عليه ، فأحب بادئ ذي بدء أن أذكّر أهل إيران أنّهم وأهل مصر شركاء في نسب آل البيت ، شركةً قديمةً أرادها الله ، فعبّر عنها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في حديثه الذي وردت به صحاح الأخبار : « إذا افتتحتم مصر ، فالله الله في أهل الذمة أهل المدرة السوداء والسحم الجعاد ، فإن لهم نسباً وصهراً » (1) .
    مصر التي تعطرت بأوّل جدّة من جدّات رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، بهاجر أم إسماعيل ، التي غرس الله بها في أمّ القرى وفي الواد
1 - معجم البلدان للحموي : 1 / 249 ، وانظر : سيرة النبي لابن هشام : 1 / 3.

(82)
المقدّس النبتة الأولى للشجرة المباركة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء.
    أريدكم أيها الأحباب أن تتذاكروا نسب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) المتّصل بإبراهيم ( عليه السلام ) ، لتعلّموا أنّ إبراهيم الذي خرج مهاجراً إلى الله ومعه زوجته المؤمنة سارة الطاهرة ، خرج مهاجراً وعلى لسانه دعوة لا يفتأ يردّدها : ربّ هب لي من الصالحين .. ربّ هب لي من الصالحين .. ربّ هب لي من الصالحين ..
    وامتد العمر بإبراهيم ، وجاوز الثمانين ، دون أن يرى الإستجابة بإنجابه ولداً ، حتى إذا دخل مصر هيّأ الله له بتقدير إلهي عجيب! أن تُضم إلى ركبه الطاهر فتاة مصرية ، يقول اليهود في مدوّناتهم أنّها جارية ، ويقول التاريخ الصحيح : أنّ هاجر أميرة فرعونية من آباء بدأوا يفكّرون بعقولهم في توحيد المعبود ، فكان منهم الموحّد إخناتون الذي له في جدران معابد مصر أدعية موحدة لله عزّ وجلّ.
    إخناتون هذا تنتسب إليه هاجر ، وإخناتون هذا ملك مصر ، وهاجر أميرة وقعت في أسر الهكسوس الذين غزوا مصر ، فكانت تبكي ليلها ونهارها وهي ترى الهكسوس يعبدون الأصنام والنجوم ، وتدعو الواحد أن يخلّصها من أسرهم.
    في هذه الظروف دخل إبراهيم ( عليه السلام ) مصر ودخلت معه سارة ،


(83)
واستضاف ملك الهكسوس سارة لرغبة شيطانية في نفسه! فلمّا عصمها الله منه وشُلّت يده ـ على ما يقول الخبر ـ كلّما مدّ إليها يداً بالسوء ، فقال لها : أنت إمرأة مباركة ، وخيّرها أن تطلب شيئاً منه ، فطلبت أن يهبها الجارية المأسورة هاجر! لأنّها سمعتها بالليل تبكي وتدعو الله الواحد.
    من هاجر هذه تحدّر إسماعيل ( عليه السلام ) ، وهاجر هذه هي التي يشير إليها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنّ لها في مصر نسباً وصهراً ، لمّا تزوج بمارية القبطية أمّ ولده إبراهيم الذي اشتد حزنه على موته.
    ومن إيران .. ومن أرض فارس تلقّت الشجرة الإلهية المباركة ، الرحم الطاهر أمّ الإمام زين العابدين علي بن الحسين ( عليه السلام ) ، ولذلك فإن ذرية الأئمة بعد زين العابدين ( عليه السلام ) تحمل روح مصر وروح إيران.
    ويستطيع الباحث المدقّق أن يقول : إنّ الله تعالى لأنه أراد للأئمة أن يكونوا حججاً على الناس كافّة فقد جمع في أعراقهم أنساب الأمم الأساسية على الأرض.
    إعلم يا أخي ، إنّ محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليس عربياً بالمفهوم القبلي ، بمعنى أنه من العرب العاربة ، بل هو ابن إسماعيل ـ من العرب المستعربة ـ فجدّه إبراهيم البابلي ، وجدته هاجر المصرية ، وزوج إسماعيل من جرهم العربية.


(84)
    ولمّا تمّ نسب الإمام السجاد ( عليه السلام ) بأمّه بنت كسرى اجتمع في أصلاب الأئمة كل دماء أهل الأرض ، ليكونوا حججاً على أهل الأرض.

    أيّها الأحباب ، ونحن نعطّر أنفاسنا ونملأ أفئدتنا وندعم إيماننا بالشخوص وبالسمع والبصر والفؤاد في ذكرى الإمام الحسين ( عليه السلام ) ، أحب أن أحدثكم عن السنن القرآنية التي كان من الحتم أن تؤدي إلى استشهاد الإمام الحسين ( عليه السلام ).
    إنّ الحسين ( عليه السلام ) ولد ليستشهد! إنّما ولد ليكون شهيداً ، ولم يولد ليعيش حياةً ماديةً بدنيةً يتآكل فيها الجسد بتآكل الشهوة ، إنّما ولد وأُعد ليكون شهيداً.
    ومن أول يوم بُعث فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) والرسول مخبراً ومنبأ بأنّ ذريته ليس لها في جاه الأرض ـ جاه الدنيا ـ الذي وصفه الحق تبارك وتعالى بقوله : « زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النّساءِ وَالبَنينَ وَالقَناطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالخَيلِ المُسوَّمَةِ وَالأنْعَامِ وَالحرثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَياةِ الدُّنيا وَاللهُ عِندَهُ حُسنُ المَآبِ » (1) .
    رسول الله الذي يعلم علم اليقين بإعلام ربّه له ، أنّ الله اختار
1 ـ آل عمران : 14.

(85)
له ولأهل بيته الآخرة ، ولهذا فإن استشهاد الإمام الحسين ( عليه السلام ) هو السير الطبيعي للأحداث وهو سُنة من سنن الله.

    إنّ أنبياء الله عز وجل شهوده على خلقه وتحكمهم القاعدة الآتية في سورة الزخرف ، نقرأ أنّ سيدنا رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد جابهته قريش من أول يوم .. يا محمد أما وجد الله أحداً غيرك؟! أيّها اليتيم الفقير .. أمّا وجد الحقّ أحداً غيرك ينزّل عليه هذا القرآن ، « وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذا القُرآنُ عَلَى رَجُل مِنَ القَريَتينِ عَظيمٌ » (1) .
    هذا القول منهم لمّا عجزوا أن يجادلوا في وجود الله ربّاً وخالقاً ، لأنّ قريش ـ كما استفاضت الأخبار ـ كانت تعلم أنّها بعبادة أصنامها لا تعبد معبوداً حقيقياً ، وإنّما تتاجر في عقائد العرب وتنصب لهم أصناماً وأزلاماً حول الكعبة ، لكي تتاجر فيها لا لكي تعبدها!
    واسمع هذا الحوار بين أبي جهل ـ بين من دُعي في الجاهلية بأبي الحكم وكشف رسول الله عن حقيقته وأنّه أبا جهل ـ وبين أبي سفيان والأخنس بن شريق ، الذين كانوا يتحاورون بشأن النبي وسحر القرآن وفي أنّه كتاب لا يمكن أن يقوله بشر ، فما هو بسحر
1 - الزخرف : 31.

(86)
ولا بشعر ولا بكهانة!
    ويبدي كل منهم رأيه ، ثم يقول أبو جهل ـ وأبو جهل من بني مخزوم ـ : « تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف ، أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنّا كفرسي رهان ، قالوا : منّا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه؟! » (1) .
    إذن الحسد الذي أخرج إبليس من الجنّة .. الحسد الرهيب .. هذه الشجرة الملعونة ، عندما يشير الحقّ إلى الشجرة الملعونة لأنّها شجرة إبليس .. نطق أبو جهل بما نطق به إبليس : « أنَا خَيرٌ مِنهُ خَلَقتَني مِنْ نَار وَخَلَقتَهُ مِنْ طِين » (2) .
    بدأت قريش ترسم مسارها مع الدعوة الإسلامية على محورين :
    المحور الأول : إمّا أن تستطيع قتل رسول الله وإطفاء الشعلة في أولها.
    المحور الثاني : أو تحتال فتخترق الصف الإسلامي وتهدم الدعوة من داخلها ، وهذا هو موقف قريش من أول يوم ، وقد أخبر الوحي الصادق عن مكرها الأول : « وَإذْ يَمكُرُ بِكَ الَّذينَ كَفَروا
1 - البداية والنهاية : 3 / 83 ، السيرة النبوية : 1 / 506 ، وانظر : سبل الهدى والرشاد : 2/352.
2 ـ الأعراف : 12.


(87)
لِيُثبِتُوكَ أوْ يَقتُلوكَ أوْ يُخرِجُوكَ وَيَمكُرُونَ وَيَمكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيرُ المَاكِرينَ
» (1) .
    إذن ، المكر الأوّل هو الحبس أو القتل أو النفي؟
    فلمّا نجّى الله عبده ورسوله محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكانت قصّة نجاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوم الهجرة الشهادة المعلنة على ولاية أمير المؤمنين علي ( عليه السلام ) ، شهادةً دامغةً ساطعةً قويةً على أنّه لا عدل لمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلاّ علي ( عليه السلام ) ولا كفؤ له إلاّ أبا الحسن.
    كانت هذه الشهادة يوم الهجرة ، لأنّه يوم الفداء الأكبر ، يوم النصرة الحقيقية ، إذ طلب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الإمام علي ( عليه السلام ) أن يبيت في فراشه وأن يؤدّي عنه ودائع القوم (2) .
    ما هي وظيفة الإمامة في الحقيقة؟
    وظيفة الإمامة هي الأداء الأمين عن صاحب الرسالة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وما هو أعظم اختبار في الأداء؟
    ردّ الأمانات الذي يدلّ على النبل والشرف والصدق والإستقامة وعدم الخيانة .. وكل هذه الصفات المعصومية تدل على
1 - الأنفال : 30.
2 ـ أُنظر : البداية والنهاية : 7 / 270 ، التنبيه والأشراف : 200 ، المستدرك على الصحيحين : 3 / 4 ، شواهد التنزيل : 1 / 123 ـ 131 ، مسند أحمد : 1 / 348 ، تفسير الطبري : 9 / 301 وغيرها.


(88)
أحقية الإمام : ( ردّ عني الودائع! ).
    أيّها الأحباب ، إنّ الله لمّا فضّل علياً وآله ( عليهم السلام ) على جميع أنبيائه بعد محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كشف عن أفضلية آل البيت ( عليهم السلام ) وقد كشف القرآن الكريم عن ذلك.
    ففي مسألة هجرة رسول الله وردّ الودائع اتضحت أفضلية آل البيت ( عليهم السلام ) على واحد من أفضل أنبياء الله قبل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهو موسى ( عليه السلام ) :
    موسى كليم الله المخاطب بقول ربّه : « إنّي اصطَفَيتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرينَ » (1) .
    موسى ( عليه السلام ) واجه موقفاً في خروجه من مصر مع بني إسرائيل كموقف خروج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مكّة.
    موسى ( عليه السلام ) طلب من قومه أن يعدّوا أنفسهم للخروج معه ليلا ، فقالوا له : نردّ ودائع القوم ، وكان أهل مصر يستودعون نفائسهم وحليّهم وجواهرهم عند بني إسرائيل ، وليس معنى هذا أنّ أهل مصر كانوا أهل خير في هذه الفترة وأنّهم يثقون ببني إسرائيل ثقةً إيمانيةً ، لا بل كان أهل مصر يستضعفون بني إسرائيل ، وبما أنّهم مستكبرون فلو وضعوا الوديعة عند أحد الضعفاء لا يستطيع أن ينكرها ، إذ ليس له قوّة على ذلك ، فكانت ودائعهم عند بني إسرائيل.
1 - الأعراف : 144.

(89)
    فحمل اليهود ودائع المصريين معهم وعبروا بها البحر ، وهذا هو الذي يشير إليه القرآن الكريم لمّا أراد السامري أن يفتن بني إسرائيل عن موسى ( عليه السلام ) حسداً منه ، وأراد أن يضلّهم بقوله : وما موسى؟! موسى هذا أمركم بخيانة الودائع فلا تصدّقوه.
    فقد انتهز السامري فرصة غياب موسى ( عليه السلام ) ، عندما قال لقومه كما أمره الله إنّي ذاهب لميقات ربّي وسأغيب عنكم ثلاثين يوماً « وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً » (1) ، فلّما ذهب للميقات ـ وهذا هو البداء في كتاب الله بشكل صريح ـ فلّما ذهب إلى ميقاته مع ربّه واقتربت نهاية الموعد أتمّها الله بعشر فأصبحت أربعين « وَأَتمَمْنَاهَا بِعَشر فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّه أربَعينَ لَيلَةً » (2) ، فبنوا إسرائيل لا يعرفون بهذا التمديد للموعد وظنّوا أنّ موسى ( عليه السلام ) أخلف موعده معهم ، فقالوا : يخلف الموعد وهو يقول إنّه نبي!
    فانبرى السامري يقول : وأكثر من هذا ألم يأمركم بسرقة الودائع؟ ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « حُمِّلنَا أَوْزَارَاً مِنْ زِينَةِ القَوْمِ فَقَذَفنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِريُّ » (3) ، لأنّ السامري قال لهم : أخرجوا هذه الزينة التي حملتموها.
    الشاهد في هذا الأمر أيّ شيء؟
1 ـ الأعراف : 142.
2 ـ الأعراف : 142.
3 ـ طه : 87.


(90)
    الشاهد هو أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كان في وسعه أن يقول : قريش التي عذبتنا واضطهدتنا وألجأتنا إلى الهجرة .. فنأخذ أموال أهل مكّة ونستعين بها على ما نحن في سبيله.
    لكن هذه الإمامة .. هذه النبوة الخاتمة ، تأبى ذلك ، فتندب الإمام لردّ الودائع وهو القصد الأساسي ، لأنّ نجاة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من قبضة الكفار كان من اليسير أن تتمّ بغير نوم أمير المؤمنين ( عليه السلام ) في فراشه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، لكن الأهم ردّ الودائع ، وهذه عملية مادية ، فنهض أمير المؤمنين بردّ الودائع ، ليكون في ذلك برهان ساطع على أنّ منهج محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقرآن محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مصدّق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه.

    كفّار مكّة بعد أن نجا منهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وبعد أن حاربوه في بدر وأُحد والأحزاب ـ وكلّها مشاهد ما جلاّها ولا كشف غمّتها عن وجه رسول الله إلاّ سيف أمير المؤمنين علي ـ بعد أن يئست قريش من أن تهدم الإسلام من خارجه ، رأت أن تهدمه من داخله ، واستغلّت الخُلُق العظيم للنبي الكريم الرؤوف الرحيم ـ لأنّه ليس نبي انتقام ـ فجاؤوا يوم فتح مكة وشهدوا على أنفسهم وشهد عليهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بأنّهم ما دخلوا الإسلام وإنّما أخذوا عفواً نبويّاً ، عفو
محاضرات عقائدية ::: فهرس