محاضرات عقائدية ::: 151 ـ 160
(151)
ولا تصحّ الصلاة إلاّ أن تقولوا : باركت على إبراهيم وآل إبراهيم.
    وأنا ألفتُ نظركم إلى هذا التوجيب ، تعالوا إلى الآيات القرآنية في سورة النساء في قول ربّنا تعالى : « أَمْ يَحسُدونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَد آتَيْنَا آلَ إبرَاهِيمَ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلكاً عَظيماً * فَمِنهُمْ مَن آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَن صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً » (1) .
    القرآن يقول : آتينا آل إبراهيم ، ما هي حقوقهم من غير أن تحسدهم؟ آل إبراهيم آتيناهم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكاً عظيماً.
    واسأل نفسك بعد أن تستوعب هذه العطايا الربّانية لآل إبراهيم ، وهل آل محمّد أقلّ بالقربة من آل ابراهيم؟ وتجيب البديهية والمنطق والإيمان والنقل والعقل : أنّ آل محمد أفضل من آل إبراهيم ، وذلك لأنّهم أرفع شأناً من آل إبراهيم.
    القرآن يقطع بأن أهل البيت أئمة الأمة الله جعلهم عدل الكتاب ، والكتاب بأيدي الناس كلّهم ، وآلاف المصاحف تطبع ، وكلّ بلد يعمل على طبعه ، فلا معنى للكتاب بغير الحكمة ، والحكمة هي فهم عين مراد الله من الكتاب : « آتَيْنَا آلَ إبراهيمَ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ » (1) .
1 - النساء : 54 ـ 55.

(152)
    إذن ما معنى وما فائدة وما نتيجة أن يكون أهل البيت أئمة الأمة وعندهم الكتاب وعندهم الحكمة أي معرفة معنى الكتاب ثم يبقوا معزولين عن القيادة والسلطان؟
    إذن ، لا يكمل حكم الله!

    كنت عضواً في مجلس الشعب المصري ، ووقعت واقعة استدعت الإحتجاج بفكر آل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : فقد غرقت عبّارة في البحر تنقل العمّال المصريين من جدّة إلى السويس ، اسمها « سالم اكسپريس » ، ولعلّ بعضكم قرأ الخبر من أربع سنين ، وهلك في الحادثة قرابة 1200 نفس ، إذ أُنتشلوا من البحر 500 جثة ولم تنتشل 700 جثة وأصبحت في حكم المفقود.إنّ الشركة المالكة للباخرة عليها التزام قانوني بدفع التأمين لورثة الركاب ، وقد أعلنت في الصحف المصرية أنها تستدعي الورثة للمجيء وأخذ الحقوق ، وحدّدت يوماً لصرفها ، فتوافد الناس من كل أنحاء مصر لأخذ التعويضات ، وقبل أن تصرف الشركة التعويض تنبّه أحد محامي الشركة وقال : حسب مذهب أبو حنيفة أن المفقود لا يعتبر ميّت حتى يمضي عليه مدّة ستون عاماً!!
1 - النساء : 54.

(153)
ولذا يجب أن يصدر بموته حكم ينصّ على أنّه فقد في سنة كذا وبعد مضي ستون عاماً يقبض الورثة التعويض.
    إن القانون المصري لا يعطّل الشريعة مباشرة ، ولكنّه يستنبط قوانين لا تتلائم معها!!
    لم يرق لرجال القانون في مصر حكم أبو حنيفة ـ بالرغم من أنّ الفقه في مصر على مذهب أبي حنيفة ـ فأخذوا يبحثون عن فقيه آخر يخرجهم من هذا المطب! ففي فقه أحمد بن حنبل حكم المفقود 15 سنة ، ولا أعرف من أين جاءوا بمدّة 15 سنة و 60 سنة ، فوجدوا أنّ ابن تيمية ـ وهو فقيه حنبلي ـ وعليه العمدة عندهم قد أنقص المدّة إلى خمس سنوات ، ومعروف عن ابن تيمية أنّه يخرج أحياناً على المذهب الحنبلي ولا يلتزم بقواعده ـ وهذا ممّا يصنعه الله لكي يتنبّه الناس إلى الحقّ كإبطاله الطلاق باللفظ الواحد ثلاثاً بل يبني على أنّه واحد رغم أنّه قول المذاهب الأربعة ـ فمحامي الشركة طلب الإنتظار خمس سنين ، فنشأت جراء ذلك مظاهرة ضخمة جدّاً أمام مجلس الشعب المصري ، فقد خرج آلاف الناس للمطالبة بالتعويضات. ورفض ممثل المتظاهرين قرار الشركة وطالب بقرار شرعي آخر يضمن للناس حقوقهم.
    وكلّف مفتي مصر الشيخ محمّد سيد طنطاوي بإيجاد منفذ


(154)
للخروج من هذا المأزق ، فجاءني بعد الفجر وقبل طلوع الشمس في بيتي وقال لي : ألا يوجد عندك حلّ؟! لعلّ ما قرأته من تآليف أصحابك يرشد إلى مدّة أقلّ من الخمس سنوات.
    فدعوته للتذاكر وقلت : تعال نقرأ سويّة ـ وفي الحقيقة كنت على بينة ـ فتعال نقرأ سوياً كتاب لمحمد جواد مغنية « فقه المذاهب الخمسة ».
    وطالعنا مسألة المفقود ، فقرأ بنفسه عن الإمام الصادق صلوات الله عليه ـ صاحب البيان والعلم لسنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ـ : أنّ المفقود إذا فقد في حال لا تتصوّر معها بقاء الحياة عُد ميتاً ولو بعد ساعة ، كأن يكون قد دخل في النهر ولم يخرج أو ابتلعه حوت فلم يخرج.
    قال المفتي : يعد ميتاً ولو بعد ساعة ، فأخذ نفساً عميقاً وقال : والله هذا الكلام المعقول!
    فقلت له : لأنّ الشيخ محمد جواد مغنية جاهل بالحكم ، فقد رجع كعادته إلى منبع العلم ، فانّه يأتي للأحكام من غير تقصير ولا جدل.
    وأضفت : ماذا سيكون رأيك لو علمت أنّ هذه المسألة كانت محل حوار بين الإمام الصادق صلوات الله عليه وبين أبي حنيفة.
    قال المفتي : سأكتب فتوى بهذا المعنى ستقرأ على أعضاء


(155)
مجلس الشعب.
    وكانت هذه فرصة لأن يطلّعوا فيها على مصدر الشيعة الإمامية على سبيل القطع في مسألة حقوق الناس ، ففوجئت بأنّه كتب الفتوى وقال فيها : يقول بعض أهل العلم!!!
    يا مولانا : أليس من الأصول العلمية والأمانة في النقل أن تذكر المصدر؟
    فلمّا تليت الفتوى في مجلس الشعب وفيها كلمة « يقول بعض أهل العلم » اعترض أربعة من كبار الأعضاء ومنهم وزير الأوقاف السابق ، فوقف يقول : من أين جاء المفتي بهذا الكلام؟ هذا كلام ليس له أساس ، أين أهل العلم هؤلاء؟!
    كانت وجوه الأعضاء ورئيس مجلس الشعب متجهة نحوي ، فأرسل إليّ ورقة صغيرة مكتوب فيها : أنا أعرف ما تقول!
    فكتبت على نفس الورقة : ولكن غيرك من الأعضاء لا يعرف ما أقول ، فإمّا أن تقول أو أقول.
    فإذا به ينطقه الله ويقول للأعضاء : فضيلة المفتي واسع الإطلاع ، لابدّ وأنّه اطّلع على رأي الشيعة الإمامية وهو يقول : إنّ المفقود يُعد ميّتاً ولو بعد ساعة إن كان خبر موته يكفي العلم.
    نصف من أعضاء المجلس قالوا : هذا هو الكلام الصحيح ، فهذا كلام الإمام جعفر الصادق.


(156)
    إنّ التصميم على إبعاد أنوار مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) تسبب تعطيل الشريعة كلّها طالما كان القانون مسنداً إلى الطاغوت ، دون أن يسند الى مذهب آل محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ).

    إذن ، فالإمامة أوتيت الكتاب والحكمة ، ولا تستفيد الأمة من الكتاب والحكمة إلاّ إذا كان القرار بيد الأئمّة.
    وقوله تعالى : « وآتَيْنَاهُمْ مُلكَاً عَظِيماً » (1) وذكره للملك بفعل مستقل « وَآتَيْنَاهُمْ » ألم يكن اختيار؟ فقد أفردهم للتأكيد : « وَآتَينَاهُمْ مُلكاً عَظِيماً » ، ثمّ أنزل من لا يسلّم بهذه الحقيقة منزلة الكافر بحيث يستحق جهنّم : « فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ » به هنا ضمير عائد على أقرب مدخول مفرد وهو الملك ، « فَمِنهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنهُمْ مَنْ صَدَّ عَنهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعيراً » (2) ، فالصدّ عن حقّ الإمامة الثابت في كتاب الله أدخل الأمة في هذه المتاهة!
    وأستأذنكم بأن أطالب نفسي وأيّاكم وكل شيعي بصيانتنا للمذهب من بعض الانتقادات المخطئة أو من بعض المتّجرين ،
1 - النساء : 54.
2 ـ النساء : 55.


(157)
فالكتب مليئة بالكلام.
    لنجعل الميزان والبرهان لما نُسب للأئمّة المعصومين ( عليهم السلام ) كتاب الله ، احتجاجاً بحديث الثقلين وأنّ أحدهما يصدّق الآخر ، نعرض مالدينا ـ وهو كثير ـ على كتاب الله ، فالنصّ الذي نجده متفق مع كتاب الله نواجه به الدنيا ونحن على يقين أنّه من أنوار الأئمّة ( عليهم السلام ) ، وأمّا النصّ الذي يصادم كتاب الله نؤخره وننحيه حتى يحكم فيه صاحب الحق وهو الإمام عجّل الله فرجه الشريف.
    فالنصوص التي محلّ ظنّ بأنّها تتصادم مع القرآن تنتظر القطع من صاحب الحق ( عليه السلام ) ، في حين أن النصوص المتّفقة مع القرآن نضعها على العين والرأس.

    بالمناسبة يا أحباب ، إنّ حالة الإنتظار التي نحن فيها للفرج الشريف ولّدت سؤالا مطروحاً عند المثقفين الماديين الذين يحب أحدهم أن يبحث التشيع فيقول : اقتنعت بأنّ الله ربّنا وأنّ ربّنا تعالى أرسل رسلا وأنّه ختمهم بمحمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأنّ محمداً ( صلى الله عليه وآله وسلم ) نصّ على الأئمّة الأوصياء من بعده ، فكلّ هذا يدخل في دائرة العقل ، لكن ما الحكمة من غياب آخرهم؟


(158)
    يا أخي الحبيب ، قلت لكم : إنّ عبادة الانتظار فرضت على الأنبياء انتظاراً لمحمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهي مفروضة على مَن بعد الرسول انتظاراً للإمام الغائب ، والدنيا تموج بالمذاهب الفاسدة ، وبجنب كل يوم انتظار أراد الله تعالى أن يعطي البشرية فرصة تجرب فيها كل باطل.
    فتميل مرةً إلى الرأسمالية ومرةً إلى الاشتراكية وتظنّ تارةً أنّها بعلومها المادّيّة قد استغنت عن الوقت الإلهي!
    هذا الاستغناء الذي ورد في سورة والليل إذا يغشى ووارد في سورة العلق لمّا قال تعالى : « عَلَّمَ الإنْسَانَ مَالَمْ يَعلَمْ » (1) أردف قائلا : « كَلاّ إنَّ الإنسَانَ لَيَطْغَى * أنْ رَآهُ اسْتَغْنَى » (2) ، أي أنّ الإنسان إذا استكمل العلم بما علّمه الله أخذ يعصي الله بعلومه ظنّاً منه أنّه استغنى عن الله!!
    فلابدّ للبشرية أن تأخذ فرصة تتصوّر فيها أنّها استغنت بعلومها ، حتّى إذا بلغت ذلك المبلغ وهي توشك أن تبلغه ، يأتي فرج الله عزّ وجلّ لظهوره الشريف على إثر استعلاء أهل الأرض باسم العلم ، فيقهر كل إمكانيات الأرض.
    إنّ هذا النصر للإمام القائم ( عليه السلام ) سيكون آخر براهين الله على
1 ـ العلق : 5.
2 ـ العلق : 6 ـ 7.


(161)
البشر ، على أنّ الله يفعل ما يشاء.

    أسأل الله تبارك وتعالى أن يقيمنا في حضرة المعصوم ، وأن يرزقنا أخوةً صادقةً فيما بيننا يا أحباب.
    إنّ قلباً يعتمر بحبّ محمّد وآل محمّد ثم يطفيء سراج المودّة لإخوانه أو يصعّر الخد لإخوانه يعدم حبّ محمّد وآل محمّد بلا ريب.
    إننا مستهدفون الآن من الاستكبار العالمي ، ومن الصهيونية العالميّة ، ومن بقايا الأنظمة العفنة عبّاد المنافع.
    أيّها الأحباب ، علينا في هذه الفترة أن نزيد من أُخوتنا ، وأن نجتهد في هزيمة إبليس في كلّ الدنيا : بأن يستبصر على أيدينا أكبر عدد ، سواءاً من غير المسلمين أم من عامّة المسلمين ، لأنّ لا شيء أغلى عند الله عزّ وجلّ من أن يأتي مؤمن وفي يمينه سفر سُجّل فيه أنّه كان سبباً في عتق نفس من النار ، لئن يهدي الله بك رجلا واحداً خير لك ممّا على الأرض.
    يا أحباب ، نوثّق أُخوتنا .. نعمّق دورنا في التبليغ .. ونبارك جهود إخواننا الذين يضربون في الأرض ابتغاء تقديم الحقيقة للأُمم الأُخرى.


(160)
    يا أحباب ، إنّ الله أراد منكم أن لا تجعلوا للناس حجّة على الله ، وذلك جميل فضله تعالى : « لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ » (1) ، كيف يكون للناس حجّة؟
    كونوا أنتم الحجة على العالمين .. نقّوا سرائركم .. طهّروا جوانحكم .. وثّقوا أخوّتكم .. إدعموا دوركم في التبليغ للمذهب في مشارق الأرض ومغاربها حتى يكون لكم يوم القيامة شرف الوقوف خلف الأئمّة الأطهار .. خلف أصحاب الأعراف الذين يعرفون كُلا بسيماهم .. أئمّتنا الأطهار الذين لا يجتاز عبد الجنّة إلاّ إذا عرفوه فقبّلوه ، وما يدخل عبد النار إلاّ إذا عرفوه فرفضوه ، وهناك سيكون الرفض القاطع.
    إعلم يا أخي ، إنّ أيّ جهد تقدّمه لنشر الحقيقة والتوعية للمذهب هو جهد يلحقك بركب الشهداء على الناس يوم القيامة ، فلا تبخل بجهدك.
    أيّها الاحباب ، في ختام كلمتي أسأل الله وأسألكم أن تدعوا لي أن يجعلني أهلا لشرف هذه الوقفة بين أيديكم ، لأنّي أخشى أن لا أكون أهلا له.
    والله المستعان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
1 ـ النساء : 165.
محاضرات عقائدية ::: فهرس