مناظرات المستبصرين ::: 271 ـ 285
(271)
مفتي دمشق في هذا المسجد ، وكان برفقتي المهندس عبد الحكيم السلوم ، لأسأله عن حديث الفرقة الناجية والخلفاء الاثني عشر من هم ؟
    فأجابني بكلمة : آسف.
    وكرَّرت السؤال ، وقال لي : آسف .. وكرَّرته ثالثاً وقال لي : آسف. بصوت عال.
    فخرجت مخذولا .. لماذا لم يردَّ على أسئلتي ؟

    حوارٌ مُحرج
    صديقي الشيعي : وهل هذا عالم ؟ العالم متواضع ، ليِّن ، لا يكون فظّاً غليظ القلب ، يردُّ على أسئلة الناس ، يجب أن يستقطب الناس من حوله .. لأنه إذا صلح العالِم صلح العالَم ، وإذا فسد العالِم فسد العالَم ، هؤلاء علماء الأمّة هم القدوة ، والأسوة الحسنة في المجتمع الإسلاميّ.
    ولكن نحن الشيعة عندنا مسألة مهمّة ، وهي الدليل في النقاش والحوار ، والدليل يجب أن يكون من القرآن والسنّة ، ونحن أبناء الدليل ، أينما مال نميل.
    فأجبته : هل نحن على الباطل حتى تقول لي : دليلكم القرآن والسنة ؟
    ونحن ماذا عندنا ؟ أليس القرآن والسنة ؟
    صديقي الشيعي : يا أخي ! نفترض جدلا هذا الكتاب كتاب ضلال ، لماذا لا يردُّ عليه علماؤكم السنة ؟
    قلت له : يردّون على شخصيّة خياليّة موهومة ، مع الأسف عليك أيُّها الصديق ، إذا إنه إنسان خياليٌّ غير موجود فكيف يردُّون عليه ؟
    صديقي الشيعي : سؤال ، نفترض أن التيجاني شخصيّة خياليّة وهميّة غير


(272)
موجودة ، فهل الأدلّة الموجودة في كتابه أيضاً خياليّة موهومة وغير موجودة ؟ أجبني على ذلك.
    فأحرجت أمامه ؛ لأني لا أعرف مضمون كتاب ( ثم اهتديت ) ، ومن ثمَّ حذَّرني منه الشيخ طارق وقال لي : احرقه ، فوقعت بين نارين ، بين إحراج الصديق الشيعي : لماذا لا يردُّ عليه علماؤكم ؟ وبين تحذيرات الشيخ طارق : إيَّاك أن تقرأه ، فأحرقه ! يا إلهي ! خلِّصني من هذا المأزق الشديد ، الله أكبر !
    لماذا ؟ لماذا البحث والعناء ؟ ما هذه القصّة ؟ من أين جاءني هذا الشيعي ليشوِّش عليَّ أفكاري ، وينغِّص حياتي ، وأنا رجل الآن أعمل بالإسمنت والأعمال الشاقّة المتعبة المجهدة ؟ فعشت في صراع حادٍّ مع عقلي ونفسي ، عقلي يقول لي : اقرأ كتاب ثمَّ اهتديت واعرف ما فيه ، ونفسي قتلها الخوف والتحذير من الشيخ طارق.
    نهاراً محرج من الصديق الشيعي ، يقول لي : أنت متعصِّب ، ولا تأتي بالدليل ، ألم تسمع بالبخاري ومسلم ؟ فكتاب ثم اهتديت كل أدلّته من البخاري ومسلم.
    فقلت له : هناك طبعات للبخاري ومسلم مزوَّرة ومدسوسة ، فما بالك يا صديقي ؟ إن التيجاني شخصيّة موهومة كما يقول علماؤنا ، وأتى بأدلّة مزوَّرة من البخاري ومسلم.
    فأين أصبح يا صديقي ؟! دعني في حالي وعملي ، وكلُّنا إن شاء الله مسلمين ( تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ ) (1) ، وكلَّما أصبحنا وأتانا
1 ـ سورة البقرة ، الآية : 134.

(273)
يوم جديد يقول لي : فكِّر بمذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فكِّر لتنقذ نفسك بموالاة علي بن أبي طالب ( عليه السلام ).
    قلت له : أنا وأنت متفقان على حبِّ عليٍّ ( كرَّم الله وجهه ) لكن مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) هذا مصطلح جديد لأوَّل مرَّة يطرق ذهني ، قلت له : وماذا تقصد من كلمة موالاة علي ( عليه السلام ) ؟

    حول حديث ( عمار تقتله الفئة الباغية )
    سألني الشيعي قائلا : ألم تقل : عندكم سيِّدنا معاوية قتل سيِّدنا الحسن ( عليه السلام ) ؟
    قلت له : نعم ، يقول علماؤنا ذلك ، بأن سيِّدنا معاوية اجتهد فأخطأ فله نصف الأجر.
    الشيعي : وما تقول في البخاري ؟
    المحاور : أصدق كتاب عندنا ، وهو لا يقبل الشك.
    الشيعي : ينقل لنا البخاري في صحيحه حديثاً مشهوراً ومتواتراً ـ اسأل عنه علماؤكم ـ : يا عمَّار ! تقتلك الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار (1).
    أليس الفئة الباغية هي فئة معاوية من خلال الحديث ؟ وهي التي قتلت
1 ـ صحيح البخاري : 3/207 ، صحيح مسلم : 8/186 ، مسند أحمد بن حنبل : 3/91 ، صحيح ابن حبان : 15/553 ـ 555 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3/149 ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ، فتح الباري ، ابن حجر : 1/451 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 43/46 ، البداية والنهاية ، ابن كثير : 3/264.

(274)
عمّاراً ، ألم يقل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) في عمار : إن عمّاراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه ؟ (1)
    قلت له : نعم.
    قال : فمن أين جاء ؟ فأين له وجه الاجتهاد كي يحصل على نصف الأجر ، وهو قد قتل الصحابي الجليل عمار بن ياسر الذي قال فيه رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : صبراً صبراً آل ياسر ، فإن موعدكم الجنة (2) ؟ فأين له من عمار بن ياسر ؟
1 ـ روى الواحدي النيسابوري في أسباب نزول الآيات : 190 عن النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إن عماراً ملئ إيماناً من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه.
وروى ابن أبي شيبة بالإسناد عن هانئ بن هانئ ، قال : كنّا جلوساً عند علي ( عليه السلام ) ، فدخل عمّار فقال : مرحباً بالطيِّب المطيب ، سمعت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يقول : إن عماراً ملئ إيماناً إلى مشاشه.
راجع : المصنّف ، ابن أبي شيبة الكوفي : 7/217 ح 7 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 43/391 ـ 392 ، تهذيب الكمال ، المزي : 21/222 ، سير أعلام النبلاء ، الذهبي : 1/413 ، تهذيب التهذيب ، ابن حجر : 7/358 ، الإصابة ، ابن حجر : 4/473 ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 11/724 ح 33540.
وعن عمرو بن شرحبيل قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إن عماراً ملئ إيماناً إلى مشاشه. المصنف ابن أبي شيبة الكوفي : 7/217 ح 6.
وفي شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : 10/103 روى الحديث مثله وقال : ويروى إلى أخمص قدميه.
قال ابن حجر في فتح الباري : 7/72 : وقد جاء في حديث أن عماراً ملئ إيماناً إلى مشاشه. أخرجه النسائي بسند صحيح ، والمشاش بضمِّ الميم ومعجمتين الأولى خفيفة ، وهذه الصفة لا تقع إلاَّ ممن أجاره الله من الشيطان.
وقال المناوي في فيض القدير : 4/473 ح 5604 : ( عمار ملئ إيماناً إلى مشاشه ) بضمِّ الميم بضبط المصنّف ؛ أي ملأ الله جوفه به حتى تعدَّى الجوف ووصل إلى العظام الظاهرة ، والمشاش رؤوس العظام ، وفي رواية أبي نعيم أيضاً : عمار ملي إيماناً من قرنه إلى قدمه قال : يعني مشاشه. ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ( صلى الله عليه وآله وسلم )
2 ـ المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3/383 و388 ـ 389 ، وقال : صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 1/161 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 3/249 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 24/303 ، المعجم الأوسط : 2/141 ، مجمع الزوائد ، الهيثمي : 9/293 ، وقال : رواه الطبراني ورجاله ثقات ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 13/255.


(275)
    وجاء الليل وجاء الصراع ، عقلي يقول : هل علماؤنا مضلَّلون عبر التاريخ ؟ هل علماؤنا ضحايا لإعلام مضلِّل ؟ تفكيرهم قائم على الطريقة التقليديّة الموروثة ، لا يقبلون الناش والحوار ، ومن خالفهم في الرأي اتهموه بالكفر وفسّقوه وضلَّلوه ، وأقاموا عليه الدنيا وأقعدوها ، لأنه خالفهم في الرأي ، وأخذوا يشهِّرون به في المجالس ، ويحذِّرون الناس منه لمجرد أنه أثار تساؤلا لا يعرفون الإجابة عليه ، أو لا يريدون الخوض فيه.
    أستاذي العالم ! لا تريد أن تبحث فدعني أبحث ، دعني أقرأ .. دعني أفكِّر ، فإلى متى ( ممنوع أن تقرأ ، ممنوع أن تبحث ، ممنوع أن تفكِّر ) إلاّ بإذن من الشيخ ، وإلاَّ فسَّقني ودمَّرني ، وأقام عليَّ أهل البلد.
    الله أكبر ! ما هذه السلطة المستبدّة ؟ ما هذه الدكتاتوريَّة ؟ نفسي تقول : إيَّاك أن تقرأ ! الرعب مسيطر عليها ، تحذيرات الشيخ في المنطقة والشيخ الدكتور عبد الفتاح صقر ، والتحذيرات الحادّة من الشيخ طارق اللحام ، دوَّامة لا أعرف متى الخروج منها ؟ فاستيقظت ليلا من شدّة الصراع الذي أرهقني وهدَّ كياني ، أفكار هذا الصديق الشيعي وطريقته في الحوار مقنعة ... إذا كان هذا الكتاب على ضلال فليردَّ عليه علماؤكم ، فليحاوروا هذا الكتاب ، وإلاَّ فإن هذا الكتاب كتاب صحيح.
    وكيف تفكِّر وتقول : سيِّدنا معاوية قتل سيِّدنا عمّاراً ( رضي الله عنه ) ، وسيِّدنا معاوية سمَّ أو قتل سيِّدنا الحسن ( عليه السلام ) ، والحسن معروف بسيِّد شباب أهل الجنة ؟ ما هذا


(276)
التناقض الحادّ ؟ هل الدين جاء بالتناقض ؟ لا والله لم يأتِ بالتناقض.

    مع الشيخ صالح عيزوقي
    وفي اليوم الثاني وبعد أن انتهينا من العمل قلت لأخي : ما رأيك في أن تنزل معي إلى بيروت ؟ قال لي : أنا متعب جدّاً هذا اليوم.
    فعزمت أن أنزل لوحدي ، وذهبت إلى مسجد صبرا ، والتقيت بالشيخ صالح عيزوقي ، وبعد أن أدَّيت فريضة صلاة المغرب خلفه قلت له : شيخنا الجليل ! لديَّ بعض الأسئلة ، فسألني : من أين الأخ ؟
    فأجبته : من سوريا.
    فقال لي : أنا درست في دمشق ، وتتلمذت على شيوخ دمشق.
    فقلت له : سماحة الشيخ ! أريدك أن ترشدني إلى كتب الصحاح ، وهل كتب الصحاح كلها صحيحة عندنا أهل السنة ؟
    فأخذني إلى جانب من الناس ، وقال لي : يا بنيّ ! رحم الله من قبلنا ، إن الصحاح عندنا مليئة بالمسيحيّات والإسرائيليّات ، وتغيير بعض الحقائق.
    فقلت له : البخاري ومسلم هل فيه مسيحيّات وإسرائيليات ؟
    قال ، نعم ، كلها جاءتنا عن طريق كعب الأحبار اليهودي ، وتميم الداري المسيحي وغيرهما.
    قلت له : سماحة الشيخ ! ما تنصحني ؟ هناك صديق شيعي نعمل أنا وإيّاه في ورشة عمل في خلدة ، وقدَّم لي كتابين للقراءة ( المراجعات ، ثمَّ اهتديت ) وصار له فترة بعد أن امتنعت عن قراءتهما بسبب فتاوى من علمائنا ، أصبحت محرجاً أمامه في بعض الحوارات.


(277)
    فقال لي : يا أخي ! المذهب الخامس لديهم الاجتهاد مفتوح ، أمَّا قصَّة الحوار فهم أذكياء فيه ، بسبب ظلمهم واضطهادهم عبر التأريخ من السلطات ، فاضطرُّوا بكل السبل وأساليب فنّ الكلام للدفاع عن أنفسهم ، ممَّا جعلهم يغربلون الصحاح عندنا وكتب التأريخ ليثبتوا أنفسهم ، لأن علماءنا علماء المذاهب الأربعة لم يعترفوا بهم كمذهب قائم ، لكن أنصحك بعدم الخوض في حوارات مع صديقك هذا ؛ لأن القضية شائكة ، والبحث طويل ، وطريق صعب ومتعب ، هم لديهم أدلّة مقنعة ، ونحن لدينا أدلّة مقنعة ، فاتركه يا أخي.
    فودَّعت الشيخ صالح ، ورجعت إلى مكان عملي ، أفكِّر بكلمات الشيخ صالح ، وجاء الليل ، وجاء التفكير ، لديهم أدلّة مقنعة ، ولدينا أدلّة مقنعة ، فقلت : ما دام لديهم أدلة مقنعة ـ كما قال لي الشيخ ـ ما المانع من أن أقرأ كتاب المراجعات ، وكتاب ثمَّ اهتديت ، وأقف على هذه الأدلّة ؟

    مع الشيخ إسماعيل عرناسي
    وقعت في تناقض حادّ ، الشيخ المصري حذَّرني !! والشيخ طارق حذَّرني !! والشيخ فتح الباب ولكن في مصراع واحد ، لماذا لا أكمل رحلة البحث ؟ فسألت أحد أصدقائي من الذين يعملون معنا في الورشة ، فقلت له : من يصلّي عندكم إماماً للجماعة ؟
    فقال لي : نحن في برج البراجنة عندنا شيخ كبير اسمه : الشيخ إسماعيل عرناسي ( جامع العرب ) ، وفي اليوم الثاني وبعد الانتهاء من العمل ذهبت إليه ، حيث انتظرت في المسجد موعد صلاة المغرب ومجيء الشيخ ، فجاء الشيخ وصلَّينا خلفه جماعة ، وعندما انتهى صافحته واقتربت منه ، فقلت له : سماحة


(278)
الشيخ ! أنا شابٌّ سوريٌّ ، وأعمل في ورشة في منطقة خلدة ، وأشتغل مع صديق شيعيٍّ ، وكل ساعة يحاورني في الدين ، ويسألني ويحرجني ، فما تنصحني بالله عليك أيُّها الشيخ وتريحني ؟!!
    فقال لي : يا بنيَّ ! صار لي أكثر من أربعين سنة في هذا المسجد ، ولم اختلط مع واحد شيعيٍّ ، والكل يعلم ذلك ، لكن أنصحك هؤلاء الشيعه يقولون في آخر الصلاة : تاه الوحي ثلاث مرَّات ، وينسبون أقوالا للرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويقولون : قال الإمام علي ( عليه السلام ).
    فقلت له : شيخنا الجليل ! أنا قرأت في كتيِّب لتعليم الصلاة عندهم ، حيث يقولون آخر الصلاة ثلاث مرَّات : الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر.
    فردَّ عليَّ : يا بنيَّ ! ماذا تعرف من دهاء هؤلاء الشيعة ؟ إنهم يستعملون التقيَّة ، وإمامهم الصادق ( عليه السلام ) يقول : ( التقيّة ديني ودين آبائي ).
    فرجعت إلى مكاني مخذولا تائها محتاراً ، وأوشكت من أن أصاب بأزمة نفسيَّة ، وسيطر عليَّ القلق ، بحيث لم أعد أستطيع العمل ، أصبت برجفة حادّة وقشعريرة ، فأخذني أخي إلى الدكتور ، وقال لي الدكتور : جسميّاً لا يوجد فيك شيء ، فأنت مرهق نفسيّاً وفكريّاً ، يا أخي ! بماذا تفكر ؟ هذه الدنيا لا تستحقّ التفكير ، خذ إجازة من العمل وسافر إلى البلد.
    فنمت يومين في الفراش ، محاولا التخلُّص من التفكير ، وصرت أجلس مع أصدقائي ، أشاهد برامج التلفزيون والمسلسلات لأروِّح عن نفسي التعب والإرهاق.
    وبعدها عزمت أن أكمل قراءة كتاب المراجعات ، وقلت لصديقي الشيعي : إذا سمحت ، غداً اجلب لي معك كتاب المراجعات.


(279)
    ففرح صديقي وقال : أين أنت هذين اليومين ؟
    فقلت له مكابراً : والله إن أعصابي وجسمي مرهقان ، وأخذني أخي دحام إلى الدكتور ، وقال لي : تحتاج إلى إجازة وراحة من العمل.

    العودة إلى كتاب المراجعات
    وفعلا في اليوم الثاني أتاني صديقي الشيعي بكتاب المراجعات ، وبدأت بالقراءة فيه حتى وصلت إلى ص 71 ، فاستوقفني مقال للشيخ الأنطاكي الحلبي المتشيِّع ( الاختلاف بين المذاهب الأربعة ) ، واستوقفتني أقوال للإمام عليٍّ ( كرَّم الله وجهه ) ، ما أقواها وأشدَّها وطأ وأثراً على النفس ! في ص 75 قوله : ( نحن الشعار والأصحاب ، والخزنة والأبواب ، ولا تؤتى البيوت إلاَّ من أبوابها ، فمن أتاها من غير أبوابها سمِّي سارقاً ).

    حديث الثقلين في كتب السنة
    ثمَّ قال في ص 82 : وإليك بيان ما أشرنا إليه من كلام النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، إذ أهاب بالجاهلين وصرخ في الغافلين ، فنادى : ( يا أيُّها الناس ! إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلُّوا : كتاب الله ، وعترتي أهل بيتي ) ، وقال ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي : كتاب الله ، حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ).
    فسجَّلت مصادر الحديث الذي ينقلها العالم الشيعي في كتابه ( المراجعات ) ، وبعد يومين نزلت إلى مكتبة دار الفتوى ( عائشة بكار ) لأفتِّش


(280)
عن المصادر ، لأرى مدى صدق الشيعة في أقوالهم ، وفعلا عندما أتيت بسنن الترمذي فوجدت الحديث (1) ، فشعرت بالانتصار النفسي ، وفرحت فرحاً شديداً ، وتابعت المصادر فأنزلت تفسير ابن كثير فوجدت فيه الحديث (2).
    الله أكبر ! الله أكبر !! صرت أصيح ما هذا الانتصار ؟ اصبر اصبر ، أحدِّث نفسي ، تابع البحث ، لا تيأس ، أشجِّع نفسي ، الآن وليس غداً يجب الذهاب إلى الشيخ عبد الفتاح صقر لأناقشه في هذا الحديث الذي سجَّلت مصادره عندي بورقة وضعتها في جيبي ، وأغلقت عليها كأني عثرت على كنز !! أحدِّث نفسي : اصبر ، تابع البحث ، فصبَّرت نفسي على فرحها الشديد.
    ورجعت أتابع القراءة ، وأيُّ شيء كان يثيرني كنت أسجِّله ، وأنزل إلى المكتبة فقط ، أنزل إلى مكتباتنا حذراً من الصحاح الموجودة عند الشيعة ، كما يقول علماؤنا السنة : أغلبها مزوَّرة ومحرَّفة !!

    ولاية علي بن أبي طالب ( عليه السلام )
    وأثارني حديث آخر استغربت منه أشدَّ الاستغراب : عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( من يريد أن يحيى حياتي ، ويموت موتي ، ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي ، فليتولَّ عليَّ بن أبي طالب ، فإنه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم في ضلالة ) ، فسجَّلته وسجَّلت مصادره وتابعت القراءة إلى أن وصلت ص 137 ، حيث جاءت آية قرآنية تقول : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ
1 ـ سنن الترمذي : 5/329.
2 ـ تفسير ابن كثير : 4/123.


(281)
وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (1) (2) ، وأخرج النسائي في صحيحه نزولها في عليٍّ ( عليه السلام ) عن طريق رواية عبدالله ابن سلام ، وأخرج نزولها صاحب الجمع بين الصحاح الستة في تفسير سورة المائدة ، وأخرج الثعلبي في تفسيره الكبير نزولها في أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ، فراجعت المصادر ووقفت عليها.
    واستدلَّ العالم الشيعي على أن الولاية بعد الله ورسوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لعليِّ بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، وتابع القول في آية أخرى : ( يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ) (3) ، ويقول : ألم يصدع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بتبليغها عن الله يوم الغدير حيث خطب خطابه ، وعبَّ عبابه ، فأنزل الله يومئذ : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً ) (4) ألم تر كيف فعل ربك يومئذ بمن جحد ولايته علانية ، وصادر بها رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جهرة ، فقال : اللهم إن كان هذا هو الحق فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ، فرماه الله بحجر من سجّيل ، كما فعل من قبل بأصحاب الفيل ، وأنزل في تلك الحالة : ( سَأَلَ سَائِلٌ
1 ـ سورة المائدة ، الآية : 55.
2 ـ قال هشام قطيط معلِّقاً في الهامش : وقفت على صحّة هذه الأقوال ، يقول العالم الشيعي : أجمع المفسِّرون ـ كما اعترف به القوشجي الأشعري ، وهو من فطاحل علماء السنة ، في مبحث الإمامة من شرح التجريد ـ على أن الآية نزلت في علي ( عليه السلام ) عندما تصدَّق بخاتمه وهو راكع.
3 ـ سورة المائدة ، الآية : 67 ، نزلت هذه الآية يوم 18 من ذي الحجة سنة 10 من الهجرة ، في حجّة الوداع ، في رجوع النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من مكة إلى المدينة ، في مكان يقال له : غدير خم ، فأمر الله نبيَّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أن ينصب علياً ( عليه السلام ) إماماً وخليفة من بعده.
4 ـ سورة المائدة ، الآية : 3.


(282)
بِعَذَاب وَاقِع * لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ) (1).
    وهنا جاء التأمُّل والصراع ، والمسألة مع النفس ومع الذات ، فراجعت المصادر ، ووقفت عليها ، ووجدت صدق ما يأتي به العالم الشيعي ، فاستغربت من قوّة استدلال هذا العالم ، وإحاطته الدقيقة بالتأريخ والسيرة والصحاح ، واستهواني الكتاب بأسلوبه الجذّاب ، وثوبه الناعم المزركش ، وصرت أفكِّر ، يا إلهي ! أين كنت أنا ؟ أين علماؤنا من هذه الكتب ؟ فهل يعرف علماؤنا ما في هذه الكتب من أدلّة ويتعمَّدون طمس هذه الحقائق عنّا ؟ لأنه ليس من اختصاصنا البحث في الدين وإنما هو حكر على الشيوخ والعلماء فقط ، أم أنهم لا يعلمون حقيقة هذه الكتب ؟!

    حول الخطبة الشقشقية واحتجاجات الإمام علي ( عليه السلام )
    وتابعت القراءة إلى أن وصلت إلى الخطبة الشقشقية : ص 680 من المراجعات ، فاستوقفتني خطب ومناشدات للإمام علي ( عليه السلام ) ، وشدَّت انتباهي ، وأسرت تفكيري ؛ لما فيها من البيان والتصريح عن مظلوميّته بعد النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، حيث كان يبثُّ شكواه من خلال هذه الخطب والمناشدات ، فيقول إمامنا علي ( عليه السلام ) أيام خلافته متظلِّماً ، يبثُّ آلامه متألِّما منها ، حتى قال :
    أما والله لقد تقمَّصها فلان وهو يعلم أن محلّي منها محلُّ القطب من الرحى ، ينحدر عنّي السيل ، ولا يرقى إليَّ الطير ، فسدلت دونها ثوباً ، وطويت عنها
1 ـ سورة المعارج ، الآية : 1 ـ 2 ، نزلت هذه الآيات في النعمان الفهري لمَّا شك في تنصيب النبي لعلي ( عليهم السلام ) الخلافة فوقع عليه العذاب. راجع : شواهد التنزيل للحسكاني الحنفي : ج2 ، ص 286 حديث : 1030 ـ 31 ـ 32 ، تذكرة الخواص للسبط بن الجوزي الحنفي : ص 30.

(283)
كشحاً ، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذَّاء ، أو أصبر على طخية عمياء ، يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدح فيها مؤمن حتى يلقى ربَّه ، فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ، وفي الحلق شجا ، أرى تراثي نهباً ... إلخ الخطبة (1).
    وكم وقف متظلِّماً من القوم ، يبثُّ شكواه قائلا : اللهم إني أستعينك على قريش ومن أعانهم ، فإنهم قطعوا رحمي ، وصغَّروا عظيم منزلتي ، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي ، ثمَّ قالوا : ألا إن في الحق أن تأخذه ، وفي الحق أن تتركه (2).
    يا الله !! ما أعظم هذه الكلمات ! إنها تخرق الحجر ، وليس الدم واللحم ، فيتابع قوله : فنظرت فإذا ليس لي معين إلاَّ أهل بيتي ، فضننت بهم عن الموت ، أغضيت على القذى ، وشربت على الشجا ، وصبرت على أخذ الكظم ، وعلى أمرَّ من طعم العلقم (3).
    فصرت أتساءل : ما ذنب عليٍّ ( عليه السلام ) في التاريخ ؟ الله أكبر ! وأتابع البحث من جديد ، وأشحذ همّتي كي أستطيع التأمُّل والتفكُّر في مناشدات وخطابات سيِّدي وإمامي علي ( عليه السلام ) روحي فداه .. ما قرأت مقطعاً من كلماته إلاَّ وانهمرت دموعي !!
    ومرَّة أخرى يبثُّ شكواه بمرارة : فجزت قريشاً عنّي الجوازي ، فقد قطعوا
1 ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي ( عليه السلام ) : 1/30 ـ 31 ، خطبة رقم : 3.
2 ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي ( عليه السلام ) : 2/85 ، خطبة رقم : 172 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 4/103 ـ 104 و6/96 و9/305 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1/176.
3 ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي ( عليه السلام ) : 1/67 ، خطبة رقم : 26 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 2/20 ، الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة : 1/176.


(284)
رحمي ، وسلبوني سلطان ابن أمّي (1).
    أين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا ، كذباً علينا وبغياً ، أن رفعنا الله ووضعهم ، وأعطانا وحرمهم ، وأدخلنا وأخرجهم ، بنا يستعطى الهدى ، ويستجلى العمى ، إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ، لا تصلح على سواهم ، ولا تصلح الولاة من غيرهم (2).
    وقوله أيضاً في خطبة له خطبها بعد البيعة له : لا يقاس بآل محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من هذه الأمة أحد ، ولا يسوَّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً ، هم أساس الدين ، وعماد اليقين ، إليهم يفيء الغالي ، وبهم يلحق التالي ، ولهم خصائص حقّ الولاية ، وفيهم الوصيّة والوراثة ، الآن إذ رجع الحق إلى أهله ، ونقل إلى منتقله (3).
    فكلمات الإمام بعد البيعة تؤكِّد على صدق ما ذهبنا إليه ، فكلَّما وصلت إلى مقطع يزداد ألمي.
    هذه الكلمات القويّة لا تخرج من إنسان عاديٍّ ، كلمات بحدِّ ذاتها معجزة ، يتدفَّق الإشعاع منها إلى أعماق قلبي ، عبارات رصينة ، أدلّة قوية تسيطر على القارئ المتدبِّر.
1 ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي ( عليه السلام ) : 3/61 ، خطبة رقم : 36 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16/148.
2 ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي ( عليه السلام ) : 2/27 ، خطبة رقم : 144 ، مناقب آل أبي طالب ، ابن شهر آشوب 1/245 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9/84 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1/207 ح 7.
3 ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي ( عليه السلام ) : 1/30 ، خطبة رقم : 2 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 1/138 ـ 139 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1/83 ح 23.


(285)
    وحسبك قوله في خطبة أخرى : رجع قوم على الأعقاب ، وغالتهم السبل ، واتّكلوا على الولائج ، ووصلوا غير الرحم ، وهجروا السبب الذي أمروا بمودّته ، ونقلوا البناء عن رصّ أساسه ، فبنوه في غير مواضعه ، معادن كل خطيئة ، وأبواب كل ضارب في غمرة ، قد ماروا في الحيرة ، وذهلوا في السكرة ، على سنة من آل فرعون ، من منقطع إلى الدنيا راكن ، أو مفارق للدين مباين (1).
    فما تمالكت من نفسي إلاَّ والدموع تعاودني بالانهمار ، فوقفت مبهوتاً من هذه الأمّة ، وهؤلاء القوم الذين يدّعون الإسلام ، ما أقوى هذه الكلمات ! تركت نفسي تقرأ بكل ما أمتلك من تركيز ؛ لأني أقرأ كلمات من سيِّد الوصيين ، وخليفة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وكل ذلك لم أكن أعلم بعد صدق هذه الخطب ، ولكنها هزَّت مشاعري ، وسيطرت عليَّ ، وصرت أتساءل : هل هذه الكلمات تصدر من الإمام علي ( عليه السلام ) ؟
    هل غصبت الخلافة من عنده ؟ هل هذه الكلمات لها سند معتبر ؟ فبدأت تنهال عليَّ موجات عارمة من الأسئلة ، وتابعت البحث حتى عثرت على مناشدة للإمام علي ( عليه السلام ) يوم الشورى (2) ، وما أدراك ما يوم الشورى ؟!!
    وساق الحديث إلى أن قال : بداية الحيرة والشك والتساؤل :
    بعد تأثّري الشديد بخطب ومناشدات علي ( عليه السلام ) الذي أوردها صاحب كتاب المراجعات في الصفحة 680 طبع ( الدار الإسلامية ) عام 1986 ، صحيح أني تأثَّرت وصدمت إثر قراءتها ، ولكن بدأت بالبحث للتأكُّد من صحّة ما يذهب
1 ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي ( عليه السلام ) : 2/36 ، خطبة رقم : 150 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9/132.
2 ـ راجع : المناقب ، ابن المغازلي الشافعي : 222.
مناظرات المستبصرين ::: فهرس