مناظرات المستبصرين ::: 451 ـ 465
(451)
مجالا للشك أن الشيعة هي الطائفة المحقّة ، وغيرها باطل وضلال.
    وهنا تدخَّل الدكتور عمر قائلا : أيّ فرقة في الشيعة تقصد ؟ الزيديّة ، أم الإماميّة ، أم الإسماعيليّة ؟ فالفرق الشيعيّة متعدِّدة ، فأيُّها الحقُّ ؟
    قال الشيخ معتصم : سماحة الدكتور ! بغضّ النظر عن هذه التفاصيل ، فنحن الآن أمام إطار عام وعناوين مجرّدة ، وبعد تجاوزها يكون المجال مفتوحاً لمناقشة التفاصيل ، والإطار العام هو وجوب اتّباع أهل البيت ( عليهم السلام ) والأخذ عنهم ، ويمكننا أن نثبت هذا الإطار بشتّى الطرق ، سواء كان قرآناً أو سنّة ، ويكفيك مفارقة واحدة بين السنّة والشيعة ، وهو أخذ الشيعة بحديث : إني تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلُّوا بعدي أبداً ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي (1) ، وتمسّك أهل السنة بحديث « كتاب الله وسنّتي » وهذا الشاهد كاف في الحكم بأحقّيّة الشيعة ، وبطلان أهل السنّة في هذه الحيثيّة ، وهكذا يمكن أن نتدرَّج في بقيَّة المسائل.
    وهنا واصل الدكتور عمر قائلا : إنّ حديث العترة نؤمن به ، ولكن لا نفهم منه ما فهمته الشيعة ، فإنّ الحديث يدلّ على التمسُّك بالقرآن فحسب.
    قال الشيخ معتصم : قلت : سبحان الله ! إنّ واو العطف في الحديث واضحة « كتاب الله وعترتي » هذا بالإضافة إلى قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : « الثقلين » ، « ما إن تمسَّكتم بهما ».
    عارضني قائلا : ليس كل واو دالة على العطف ، فإن للواو معاني عدَّة ، ولقد كتبت رسالة خاصة في هذا المورد.
1 ـ تقدَّمت تخريجاته في المناظرة الخامسة.

(452)
    قال الشيخ معتصم : لا خلاف في ذلك ، ولكن معنى كل حرف يعرف من خلال السياق العام للجملة ، فسياق الحديث واضح في العطف في قوله « الثقلين » ، و « ما إن تمسَّكتم بهما » كافية لإثبات المدّعى ، وهو وجوب اتباع أهل البيت ( عليهم السلام ).
    قال الدكتور : على العموم ، ليس لنا اعتراض على مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ونحن نعتقد أنّه الحقُّ ، ولكنّه لم يتعيَّن لنا ، ولو تعيَّن لكنت أول الناس اتّباعاً له.
    قال الشيخ معتصم : قلت : لماذا تتبعه ؟
    قال الدكتور : لأنّه الحقُّ.
    قال الشيخ معتصم : قلت : وما عليه أنت الآن ؟! فإذا كان مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) فقد تعيَّن لك ، وإن كان لا ، فإذن أنت على ضلالة ، بحكمك على نفسك.
    قال : هذه سفسطة !
    وفي هذه الأثناء استأذن الدكتور أبشر ، وأخذ يتحدَّث مع الدكتور عمر في موضوع جانبيٍّ ، فاستأذنته وخرجت ؛ لعلمي أنّه ليس هناك فائدة (1).

    كلمة في صلح الإمام الحسن ( عليه السلام ) وشروطه
    إن الذي يعتقد بأن الإمام الحسن ( عليه السلام ) إمام معصوم مفترض الطاعة يحكم بلا شك أن الإمام ( عليه السلام ) لا يفعل إلاّ الصواب ، وليس للعبد إلاّ التسليم لإمامه ومولاه ، هذا وقد بين الإمام الحسن ( عليه السلام ) من خلال كلماته الشريفة الأسباب التي
1 ـ ( حوارات ) للكاتب السوداني المستبصر ، الفاضل الشيخ معتصم السيّد أحمد السوداني : 95 ـ 100.

(453)
دعته إلى الصلح ، فهو ( عليه السلام ) الإمام المفترض الطاعة سواء كانت بيده الخلافة أم لم تكن ، وليس له غرض في الخلافة إلاّ إصلاح الناس ، ما أمكنه ذلك ، وهو نفس أبيه بين جنبيه ، وكما قال أبوه علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) لابن عباس كما في نهج البلاغة ، لما دخل عليه وهو يخصف نعله قال له : ما قيمة هذا النعل ؟ فقال له ابن عباس : لا قيمة لها ، فقال ( عليه السلام ) : والله لهي أحب إلي من إمرتكم إلاّ أن أقيم حقاً أو أدفع باطلا (1) وقال ( عليه السلام ) : لا تزيدني كثرة الناس حولي عزة ولا تفرقهم عني وحشة (2).
    فأهل البيت ( عليهم السلام ) ليسوا كسائر الناس الذين يقاتلون في سبيل الحكم ، والخلافة حتى ولو تعرض الناس إلى سفك دمائهم وانتهاك حرماتهم ، وهدر كرامتهم ، وإليك هنا بعض كلماته ( عليه السلام ) في أسباب الصلح.
    روى الشيخ الصدوق عليه الرحمة عن أبي سعيد عقيصا قال : قلت للحسن ابن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : يا ابن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته ، وقد علمت أن الحق لك دونه وأن معاوية ضال باغ ؟
    فقال ( عليه السلام ) : يا أبا سعيد ألست حجة الله تعالى ذكره على خلقه ، وإماما عليهم بعد أبي ( عليه السلام ) ؟ قلت : بلى ، قال : ألست الذي قال رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لي ولأخي : الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ؟ قلت : بلى ، قال : فأنا إذن إمام لو قمت ، وأنا إمام إذا قعدت ، يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لبني ضمرة وبني أشجع ، ولأهل مكة حين انصرف من الحديبية ، أولئك كفار بالتنزيل ، ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل ، يا أبا سعيد إذا كنت إماما من
1 ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي ( عليه السلام ) : 1/80 ، رقم : 33.
2 ـ نهج البلاغة ، خطب الإمام علي ( عليه السلام ) ، رقم : 36.


(454)
قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة ، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبسا ، ألا ترى الخضر ( عليه السلام ) لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى ( عليه السلام ) فعله ، لا شتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي ، هكذا أنا سخطتم علي بجهلكم بوجه الحكمة فيه ، ولولا ما أتيت لما ترك من شيعتنا على وجه الأرض أحد إلاّ قتل (1).
    وروي أنه قال ( عليه السلام ) أيضاً لما عاتبه بعضهم : ما أنا بمذل المؤمنين ولكني معز المؤمنين ، إني لما رأيتكم ليس بكم عليهم قوة سلمت الأمر لأبقى أنا وأنتم بين أظهرهم ، كما عاب العالم السفينة لتبقى لأصحابها وكذلك نفسي وأنتم لنبقى بينهم (2).
    وعن أبي العريف قال : كنا في مقدمة الحسن بن علي ( عليه السلام ) اثني عشر ألفا مستميتين حرصاً على قتال أهل الشام ، فلما جاء الحسن الكوفة أتاه شيخ منا يُكنى أبا عمر وسفيان بن أبي ليلى فقال : السلام عليك .. فقال ( عليه السلام ) : لا تقل يا أبا عمرو ، فإني لم أذل المؤمنين ، ولكن كرهت أن أقتلهم في طلب الملك. خرجه أبو عمر (3).
    وعن جبير بن نفير قال : قدمت المدينة فقال الحسن بن علي ( عليه السلام ) : كانت جماجم العرب بيدي يسالمون من سالمت ، ويحاربون من حاربت ، فتركتها
1 ـ علل الشرائع ، الصدوق : 1/211 ح 2 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 44/1 ح 2.
2 ـ تحف العقول ، ابن شعبة الحراني : 308 ، بحار الأنوار ، المجلسي : 75/287.
3 ـ ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 139 ، تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي : 10/305 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 3/175 ، تاريخ مدينة دمشق ، ابن عساكر : 13/279 ، تهذيب الكمال ، المزي : 6/250.


(455)
ابتغاء لوجه الله تعالى ، وحقن دماء المسلمين. خرجه الدولابي (1).
    وروى الدينوري عن علي بن محمّد بن بشير الهمداني ، قال : خرجت أنا وسفيان ابن ليلى حتّى قدمنا على الحسن المدينة ، فدخلنا عليه ، وعنده المسيب بن نجبة وعبدالله بن الوداك التميمي ، وسراج بن مالك الخثعمي ، فقلت : ( السلام عليك ... قال : وعليك السلام ، اجلس ، لست مذل المؤمنين ، ولكني معزهم ، ما أردت بمصالحتي معاوية إلاّ أن أدفع عنكم القتل عندما رأيت من تباطؤ أصحابي عن الحرب ، ونكولهم عن القتال ، ووالله لئن سرنا إليه بالجبال والشجر ما كان بد من إفضاء هذا الأمر إليه (2).
    وجاء في شرح النهج لابن أبي الحديد : التفت حجر بن عدي إلى الحسن ( عليه السلام ) ، فقال : ... إنا رجعنا راغمين بما كرهنا ، ورجعوا مسرورين بما أحبوا. فتغير وجه الحسن ( عليه السلام ) ، وغمز الحسين ( عليه السلام ) حجرا ، فسكت ، فقال الحسن ( عليه السلام ) : يا حجر ليس كل الناس يحب ما تحب ، ولا رأيه كرأيك ، وما فعلت إلاّ إبقاء عليك ، والله كل يوم في شأن (3).
    وجاء في كتاب الإمامة والسياسة من كلام له ( عليه السلام ) في ذلك : ... ولكني أشهد الله وإياكم أني لم أرد بما رأيتم إلاّ حقن دمائكم ، وإصلاح ذات بينكم ، فاتقوا الله وارضوا بقضاء الله ، وسلموا لأمر الله ، والزموا بيوتكم ، وكفوا أيديكم (4).
    فالخلاصة نستفيد من مجموع هذه الكلمات الشريفة أن الأمور في زمانه
1 ـ ذخائر العقبى ، أحمد بن عبدالله الطبري : 139.
2 ـ الأخبار الطوال ، الدينوري : 220 ـ 221.
3 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16/15.
4 ـ الإمامة والسياسة ، ابن قتيبة الدينوري : 1/186.


(456)
وصلت حدا لا يمكن معها أن يزج بجيش أهل العراق في حرب مع معاوية مع كثرة المتخاذلين ، وتفشي الخلاف عليه ، وقلة الأنصار ، فكان حاله مختلف عما كان عليه الحال في زمن أبيه أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ولهذا وجد ( عليه السلام ) أن يصونهم عن سفك دمائهم ، والإبقاء عليهم خير من أن يعرضهم لأمر لا منفعة فيه ، وضرره بيِّن ، وقد أغرى معاوية ضعاف النفوس ، وشرى منهم أديانهم ، والناس تبع الدنيا أين ما مالت مالوا معها ، وكما قال سيد الشهدا أبو عبد الله الحسين ( عليه السلام ) : إن الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم يحوطونه مادرت معائشهم ، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون (1).
    والإمام الحسن ( عليه السلام ) صالح ولكن بشروط ومواثيق أخذها على معاوية ، وهي كفيلة أن تعيد الحق إلى نصابه لو التزم معاوية بالوفاء بها ، ولكنه الغدر الذي ما نفك عن معاوية ابن آكلة الأكباد ؟
    قال العلاّمة الأميني عليه الرحمة : وأمَّا جنايات معاوية على ذلك الإمام المطهَّر فقد سارت بها الركبان ، وحفظ التاريخ له منها صحائف مشوّهة المجلى ، مسودّة الهندام ، فهو الذي باينه وحاربه ، وانتزع حقَّه الثابت له بالنصِّ والجدارة ، وخان عهوده التي اعترف بها عندما تنازل الإمام ( عليه السلام ) له بالصلح حقناً لدماء شيعته ، وحرصاً على كرامة أهل بيته ، وصوناً لشرفه الذي هو شرف الدين. إلى أن قال :
    فعهد إليه ( عليه السلام ) أن لا يسبَّ أباه ( عليه السلام ) على منابر المسلمين ، وقد سبَّه وجعله سنّة متبعة في الحواضر الإسلاميّة كلِّها ، وعهد إليه أن لا يتعرَّض بشيعة أبيه الطاهر بسوء ، وقد قتلهم تقتيلا ، واستقرأهم في البلاد تحت كل حجر ومدر ، فطنَّب عليهم الخوف في كل النواحي ، بحيث لو كان يقذف الشيعيُّ باليهوديَّة
1 ـ تحف العقول ، الحراني : 245.

(457)
لكان أسلم له من انتسابه إلى أبي تراب سلام الله عليه.
    وعهد إليه أن لا يعهد إلى أحد بعده ...
    ولمَّا تصالحا كتب به الحسن ( عليه السلام ) كتاباً لمعاوية صورته : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما صالح عليه الحسن بن علي ( عليهما السلام ) معاوية بن أبي سفيان ، صالحه على أن يسلِّم إليه ولاية المسلمين ، على أن يعمل فيها بكتاب الله تعالى وسنَّة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وسيرة الخلفاء الراشدين المهديين ، وليس لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً ، إلى أن قال : وعلى أنَّ الناس آمنون حيث كانوا من أرض الله تعالى ، في شامهم وعراقهم وحجازهم ويمنهم ، وعلى أن أصحاب عليٍّ وشيعته آمنون على أنفسهم و أموالهم ونسائهم وأولادهم حيث كانوا ، وعلى معاوية بن أبي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه ، وأن لا يبتغي للحسن بن علي ولا لأخيه الحسين ولا لأحد من بيت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) غائلة سرّاً وجهراً ، ولا يخيف أحداً منهم في أفق من الآفاق ، أشهد عليه فلان ابن فلان وكفى بالله شهيداً (1).
    فلمَّا استقرَّ له الأمر ودخل الكوفة وخطب أهلها فقال : يا أهل الكوفة ! أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج ؟ وقد علمت أنكم تصلُّون وتزكُّون وتحجُّون ، ولكنني قاتلتكم لأتأمَّر عليكم وعلى رقابكم ( إلى أن قال ) : وكل شرط شرطته فتحت قدميَّ هاتين (2) (3).
1 ـ الصواعق المحرقة ، ابن حجر : 209 ـ 210 ، ينابيع المودّة ، القندوزي الحنفي : 2/425 ـ 426 ح 193 ، كشف الغمّة ، الإربلي : 2/193.
2 ـ شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 16/14 ـ 15 ، مقاتل الطالبيين ، الإصبهاني : 45.
3 ـ الغدير : الأميني : 11/5.


(458)
    أقول : كل إناء بما فيه ينضح ، فهل بعد هذا كله أترى عذراً لأُولئك الذين يدافعون عن معاوية ويلتمسون له الأعذار ، أو حينما يعدونه في جملة الصحابه الذين يُترضى عنهم ، وأنه أحد النجوم الذين ( بأيهم اقتديتم اهتديتم ) ومن كان هذا حاله في عدم الوفاء بالعهود ، واتخاذه الغدر سنة وعداوته لعترة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهل يرتجى منه الهداية أو يهتدى به ؟!


(459)
مناظرة
أم محمّد علي المعتصم السودانيّة
مع خالها وقصّة تشيُّعها
    وطرق التشيُّع بابنا
    الأستاذة السيِّدة أم محمّد علي المعتصم السودانيّة تحكي عبر هذا الحوار العلميِّ والموضوعيِّ والشيِّق مع خالها الشيعي قصة تشيُّعها وأخذها بمذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، حاكية في بداية البحث ما انتابها من الهواجس والتفكير والحيرة في شأن التعرُّف على العقيدة الحقّة واتّخاذ القرار.
    قالت في كتابها القيِّم ( من حقّي أن أكون شيعيّة ) : وفي غمرة تلك الهواجس التي تتزاحم على خاطري كان في بيتنا ازدحام من نوع آخر ، فقد بدأ الأهل بحزم أغراضهم بقصد السفر إلى قريتنا في شمال السودان ، فهناك مناسبة زواج ابن عمّي ، وفي تلك المناسبة تجتمع كل العائلة قادمة من كل مدن السودان ، فظروف العمل تفرّق البيت الواحد ، وتفصل الأحبّة عن الأحبّة ، خاصّة أن المسافات في السودان بين المدن كبيرة ، ويتعسّر على الأهل مقابلة بعضهم إلاَّ في بعض المناسبات.
    ففرحة اللقاء بالأهل والأقارب أسكنت ذلك البركان الذي يتنفّس في


(460)
أعماقي ، وأزهرت الحياة من جديد في ناظري ، وفي طول الطريق لم أفكِّر إلاَّ في أخوالي وأعمامي وخالاتي وعمَّاتي ، لعلَّ بين أحضانهم الدافئة أطفي آلام الألم والشك والحيرة ، ولعلَّ ذكريات الطفولة بين بيوتات القرية االقديمة الواقعة بين ضفاف النيل وخضرة النخيل ، وبين السلسلة الجبليّة كأنه عقد التفَّ حول عنقها ليجعل منها عروساً للنيل ، أو يجعلها آية لسحر الطبيعة الفاتنة التي تجلَّى الباري في صنعها ، فلعل روحي تعشق جمال الخالق ، وتسرح به بعيداً فتنتابها جذبة صوفيٍّ تنكشف معه الحقيقة.
    ثمَّ جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن ، وانكسرت تلك الريشة التي كادت أن ترسم لي عطلة بعيدة عن كل ما يهيج نفسي ، فصراع الأديان وصراع النفس مع الاختيار لم أكن أتوقَّع أن يلحقني في تلك القرية النائية ويطرق باب بيتنا ، ومن الطارق ياترى ؟ شيء غير مألوف .. وشخص غير معروف .. من .. ؟ الشيعة .. نحن في السودان ، ليس في النجف أو طهران ... أم مع تغيُّر الزمان تتغيَّر أيضاً البلدان ؟
    لا .. لم تتغيَّر البلدان ، والطارق من السودان ، فهو خالي ، ومجموعة أخرى من أقاربي ، فقد كان صادق إحساسي ، فالتغيُّر الذي لا حظته في خالي في سلوكه وكلامه لم يكن معهوداً ، فقد كان شابّاً عصريّاً منفتحاً على الحياة ، كل ما كان يشغله دراسته الجامعيّة ، فتبدّلت تلك الصورة بهذه الصورة ناسكاً عابداً ، لا يتحدَّث إلاَّ في أمر الدين.
    فقلت : أصدقني القول يا خالي ، أهو الدين الذي غيَّر ذاك الحال ؟
    قال : الشيعة.
    قلت : ماذا ؟
    قال : الشيعة.


(461)
    نعم. الشيعة .. فكانت تلك الكلمات هي صوت دقَّات الباب.

    من هم الشيعة
    استرسل خالي في الحديث مبِّيناً من هم الشيعة ، واضعاً إصبعه على أسس الخلاف بينهم وبين أهل السنّة ، ومدى أحقّيّتهم في هذا الخلاف ، فقد كنت لا أعرف عنهم إلاَّ أنهم هم الذين يدّعون بأن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بعد وفاته لم يترك الأمر شورى ، وإنّما قام بتعيين الإمام علي ( عليه السلام ) الشرعي.
    فقد أكَّد خالي أنّ الخلاف المذهبي هو خلاف في عمق آليات الفهم الدينيِّ ، ولذا كان إيمان الشيعة بأهل البيت ( عليهم السلام ) كمرجعيَّة معصومة لقطع الطريق أمام دواعي الخلاف الدينيِّ ، فالضرورة العقليّة قاضية بأن وحدة المرجعيَّة هي كفيلة بجمع الصفوف وحلِّ التباين ، فإذا كان الله حريصاً على هداية الناس ـ وهو كذلك ـ فقد أرسل الأنبياء والرسل وأيَّدهم بمعجزاته حرصاً على هداية الناس ، فلمَّا تجاهل هذه الحقيقة العقليَّة الحاكمة بضرورة وجود مرجعيَّة معصومة ، ألا يكون لنا حجَّة يوم القيامة إذا سألنا عن سبب تفرُّقنا إلى مذاهب ؛ بأن نقول : لم تجعل لنا علماً هادياً نقتدي به ونلجأ إليه ، كما كان يفعل الصحابة في عهد رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟

    رأي الشيعة في منصب الإمامة
    فجوهر الخلاف بين السنّة والشيعة في هذه النقطة المحوريّة ، حيث يدّعي الشيعة أن حكمة الله تقتضي أن ينصب لنا الله إماماً من بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    ألا تجدين في نفسك إن كان هناك ـ مثلا ـ عشرة أشخاص ينوون القيام


(462)
بعمل ما ، فإن كان هناك قائد من بينهم يلجأون إليه ، ويأتمرون بأمره ، ألا يكفل ذلك وحدتهم ، وجمع صفِّهم ؟ أمَّا إذا كان كل واحد منهم يعمل برأيه فسوف ينقلب جميعهم إلى عشرة طرق ، كل فريق بما لديه فرح.
    فنقطة بداية الخلاف بين السنّة والشيعة في هذا الأمر تمسُّك الشيعة بضرورة حكم العقل ، ولم يعترف السنّة بذلك الحكم.
    ولا تعتقدي أن هذا الحكم العقليَّ بعيد عن الحكم الشرعيِّ ، فالقرآن قاض بهذا الحكم ، ألا يكفيك في هذا الأمر أن الله لم يوكل للبشر اختيار أنبيائهم ، بل هو الذي ينتجب ويصطفي من عباده ما يشاء ، فإن لم يكن للبشر خيرة في تنصيب من يخصّة الله بالنبوَّة والرسالة ، كذلك ليس لهم الخيرة في تعيين من يقوم بأمر دينه ، ألم يقل تعالى : ( وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا ) (1) ؟ فالجاعل هو الله ، فهذه هي سنَّة الله ولن تجد لسنّته تحويلا.
    ثم إنّ أساس الخلاف في هذه الأمَّة هو فيما بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فأهل السنّة والشيعة متفقون بشكل ما على الإيمان بالله والرسول ، والخلاف كل الخلاف فيما بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد ذكرت لك أن الضرورة العقليَّة حاكمة في هذا الحال بأن يكون لنا إمام من بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وقد حكم القرآن أيضاً بهذه الضرورة في قوله تعالى ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ) (2) ، فقد بيّنت هذه الآية ثلاثة محاور أساسيَّة وهي : الله ، والرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ووليُّ الأمر ، فلم تستثنِ هذه الآية موضوع الإمامة ، ممّا يعني أن الدين لا يكتمل إلاَّ بهذه المحاور الأساسيَّة ،
1 ـ سورة الأنبياء ، الآية : 73.
2 ـ سورة النساء ، الآية : 59.


(463)
وإذا تدبّرت في هذه الآية بشكل أعمق تكتشفين حقائق أكثر بعداً.
    فإذا نظرنا إلى لفظة ( أَطِيعُواْ ) نجد أنها تكرَّرت في الآية مرَّتين ؛ المرَّة الأولى توجب الطاعة ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ) من غير لفظة ( طاعة ) جديدة ، ويتحقّق بذلك المعنى ، ولكن هذه دلالة على الفرق بين الطاعتين ، فطاعة الله عبادة ، وطاعة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) امتثال لأوامره ، هذا ما يقودنا إلى الاستفسار عن عدم تكرار لفظة الطاعة مرَّة ثالثة في أولى الأمر ، فلو استخدم القرآن لفظة ثالثة ( أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ ( وأَطِيعُواْ ) أُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ ) لدلّل على الفرق بين الطاعتين ، وحين لم يستخدم ذلك بل عطف طاعة أولي الأمر على طاعة الرسول علمنا أن طاعة أولي الأمر هي عين طاعة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهي طاعة على سبيل الجزم ، والحتم ، هذا ما يقودنا إلى حقيقة عميقة وهي عصمة أولي الأمر ، وإلاَّ كيف يأمرنا الله بالطاعة المطلقة لمن هو يرتكب المعاصي فيكون أمراً من الله بالمعصية التي نهى عنها ، فيجتمع بذلك الأمر والنهي في موضع واحد وهو محال ؟
    فتعيَّن بذلك عصمة أولي الأمر ، وبذلك يكون رسم الله لنا معياراً نتعرَّف به على ولاة أمورنا وهو العصمة ، وبهذا تسقط خلافة كل إمام ادّعى الخلافة وهو غير معصوم ، فالخلفاء الراشدون لم يدّعوا العصمة لأنفسهم فضلا على ادّعاء الآخرين ، فمن هذه النقطة الجوهرية انطلق الفهم الشيعيُّ يبحث عن ولاة الأمر الذين عصمهم الله من الخطأ ، ولم يجد الشيعة بنص القرآن غير أهل البيت ( عليهم السلام ) الذين طهّرهم الله من الرجس ، وقال تعالى في حقّهم : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ ) (1) فقد حصر الله في هذه الآية أهل البيت ( عليهم السلام ) وخصّهم بالطهارة من كل
1 ـ سورة الأحزاب ، الآية : 33.

(464)
رجس ودنس ، أو بمعنى آخر عصمهم من الخطأ.
    وبمعرفة المعصومين نكون قد عرفنا من هم أئمتنا ، وولاة أمورنا في تلك الآية ، فتكون الطاعة واجبة على كل مسلم لله تعالى وللرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولأهل البيت ( عليهم السلام ) ، وبذلك رسم لنا القرآن طريقنا من بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهو موالاة أهل البيت ( عليهم السلام ) ومودّتهم كما أمر الله بقوله : ( قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (1) ، ومن هنا جاءت الأحاديث متواترة عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) توجب اتّباع أهل البيت ( عليهم السلام ) ، كقوله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : إنّي تارك فيكم ما إن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبداً ، كتاب الله حبل ممدود ما بين السماء والأرض ، وعترتي أهل بيتي ، إنّ العليم الخبير أنبأني أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض .. (2) فحصر هذا الحديث مسار الأمَّة من بعد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وهو في اتّباع الكتاب والعترة ، فعندما رأى الشيعة هذه النصوص تشيَّعوا لأهل البيت ( عليهم السلام ) وتابعوهم ، فالتشيُّع يعني اتّباع أهل البيت ( عليهم السلام ).
    ولا تتصوَّري أن الفكر الشيعي وليد ذهنيّة ابتكرت فكرة الإمامة في ظروف تأريخيّة معيَّنة ، وإنّما هو امتداد طبيعيٌّ لحركة الرسالة الإسلاميَّة ، وقد كان الصحابة الذين يوالون الإمام عليّاً ( عليه السلام ) ـ أمثال : أبي ذر وسلمان والمقداد رضي الله تعالى عنهم ـ يسمُّونهم بشيعة عليٍّ ( عليه السلام ) ، كما أكَّد الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هذا المفهوم ، وجذّر هذا المصطلح في عقليَّة الأمَّة الإسلاميَّة بمجموعة أحاديث بشّر
1 ـ سورة الشورى ، الآية : 23.
2 ـ الطبقات الكبرى ، ابن سعد : 2/194 ، كتاب السنة ، عمرو بن أبي عاصم : 629 ـ 630 ، السنن الكبرى ، النسائي : 5/45 ح 8148 ، المستدرك ، الحاكم : 3/109 ، وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، وقد تقدَّم المزيد من تخريجات هذا الحديث الشريف.


(465)
بها شيعة عليٍّ ( عليه السلام ) بالفوز بالجنّة ، وأكَّدت أنّهم هم الفرقة الناجية ، كقول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : من أراد أن يحيى حياتي ، ويموت مماتي ، ويدخل جنَّة عدن التي وعدني ربّي ، فليوال عليَّ بن أبي طالب من بعدي ، ويوال وليَّه ، ويقتدِ بأهل بيتي ، فإنّهم خلقوا من طينتي ، ورزقوا فهمي وعلمي ، ويل للقاطعين فيهم صلتي ، لا أنالهم الله شفاعتي (1) ، وقول الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : يا علي ! أنت وشيعتك على منابر من نور ، مبيضّة وجوههم حولي في الجنّة ، يا علي ! أنت وشيعتك هم الفائزون (2).
    وغيرها من الأحاديث التي رسمت للأمَّة طريقها.
    فهذا هو التشيُّع باختصار ، وأنا أدعوك إلى التأمُّل فيما قلته لك ، ويكون الحوار بيننا ممتدّاً.

    كلمات في الصميم وأدلة مقنعة
    توقَّف الزمن أمامي وأنا أستمع إلى هذا الكلام .. ارتسمت على محيَّاي الدهشة .. وبدا عليَّ السّكون .. ولكنّه في الواقع هزّ نفسي بعنف ، وكأنّه اقترب بأنامله حول عنقي ليحبس بكلماته أنفاسي ، فهل سحب خالي بهذا الكلام البساط من تحت أقدام كلِّ المذاهب ... لكنّه بدأ من النقطة التي وقفت عندها في
1 ـ تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 42/240 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 9/170 ، عن حلية الأولياء لأبي نعيم الإصبهاني ، كنز العمال ، المتقي الهندي : 12/103 ح 94198 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 1/379 ـ 380 ح 2.
2 ـ راجع : مناقب أميرالمؤمنين ( عليه السلام ) ، الكوفي : 249 ـ 250 ح 167 ، المناقب ، الخوارزمي : 129 ح 143 ، ينابيع المودة ، القندوزي الحنفي : 391 ـ 392 ح 4.
مناظرات المستبصرين ::: فهرس