مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: 361 ـ 375
(361)
الصمت ، وقال : كلّنا نستمع للدكتور التيجاني والإمام شرف الدّين ، فلسنا هنا للخصام ولا للملاكمة ، وإنما نحن نريد الوصول إلى الحقيقة ، وهذه الحقيقة قد تكون مع التيجاني وقد تكون من شرف الدين ، فنحن يجب أن نكون مع الحقّ لا مع الأشخاص.
    أخرج الإمام شرف الدين المصري من حقيبته كتاب النصّ والاجتهاد ، ثم أخرج معه صحيح البخاري وفتح كتاب النص والاجتهاد وأعطاني إيّاه ، وطلب مني قراءة الصفحة المسطرة ، وقرأتها وأنا أعرفها فهي تتعلّق باجتهاد عمر بن الخطّاب عندما جذب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من قميصه وهو يصلّي على عبد الله ابن أبي المنافق وقال له : إن الله نهاك أن تصلي على المنافقين (1).
    قلت : وماذا فيها فالقضيّة معروفة ولا ينكرها أيّ باحث.
    قال : نعم أنا لا أجادل في القضيّة ، وإنما في العالم الشيعي الذي يكذب ويقلّب الحقائق.
    قلت : وكيف ذلك ، ما وجدت في القصّة كذبا ولا تقليباً للحقيقة أعدت القراءة ، خرج رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يصلّى على عبدالله بن أبي ، فجاء عمر فجذبه من قميصه.
    قال : قف هنا واقرأ التعليق الذي كتبته أنا ، فقرأت على الحاشية وقد سطّر كلمة فجذبه بسطرين ، قوله : انظروا إلى هذا الكذّاب الدجّال الذي يحرّف الكلام عن مواضعه ، ثم أولغ سباً وشتماً في المؤلّف وفي الشيعة عامّة.
    فقلت مستغرباً : ما فهمت حتى الآن قصدك ، وأين الكذب والتحريف أنا ما
1 ـ صحيح البخاري : 7/36 ، سنن النسائي : 4/36 ـ 37.

(362)
رأيته.
    قال : إنه هنا يستشهد بالبخاري وها هو البخاري أمامنا ، خذ اقرأ بنفسك ما ذكره البخاري ، وناولني كتاب البخاري فقرأت : فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليصلّي عليه ، فمسكه عمر (1).
    قلت : ما هو الفرق بين هذا وذاك المهمّ أن عمر منع رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) من الصلاة وأنا لا أرى فرقا بين جذبه أو مسكه.
    فصاح قائلا : وهذه مصيبتك ، أنت جاهل باللّغة العربيّة ، ولا تفرّق بين جذبه ومسكه ، فلفظ مسكه تعني اللين واللّطف ، وجذبه تعني الشدّة والعنف ، وسيّدنا عمر كما يقول البخاري : مسك رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) برفق ولطف ، وليس كما يقول عالم الشيعة : جذبه ، وهو يوحي بتحريفه ، هذا على أن سيّدنا عمر كان يستعمل الشدّة والعنف مع حضرة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    ونظرت حولي إلى الحاضرين وقد انتكست رؤوسهم ، وأوجست في نفسي خيفة أمام شرف الدين الذي أخذ يصول ويجول بنخوة الانتصار عليّ أمام الجموع الحاضرة ، لأني تحديته أمامهم إن جاءني بكذبة واحدة فسألعن الشيعة وعلى رأسهم صاحب المراجعات ، وها هي الكذبة واضحة في نظر الحاضرين لأن شرف الدين الموسوي أبدل كلمة مسكه بكلمة جذبه ، وهذه خيانة علميّة.
    وفجأة جاءني الجواب وقرأت من جديد ما كتبه شرف الدين قائلا : وإليك منه ما أخرجه البخاري في كتاب اللباس من صحيحه ، وراجعت كتاب البخاري الذي جاء به الإمام معه فوجدته يستدلّ بغير الكتاب الذي ذكره شرف الدين
1 ـ راجع : صحيح البخاري : 2/100 ، وجاء في ص 206 : فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .. الخ.

(363)
الموسوي ، عند ذلك ، فهمت وقلت لشرف الدين المصري : لا تتسرّع بفرحة الانتصار ، وأنا أتّهمك أنت الآن بالدّس ، فلماذا لم تأت بالجزء المذكور ، والذي فيه كتاب اللباس ، فإن كنت تعلم فتلك مصيبة ، وإن كنت لا تعلم فالمصيبة أعظم.
    قال صائحا يسأل الحاضرين : أهناك كتاب آخر للبخاري غير هذا ؟
    قلت : لا ، أنا أقصد لماذا لم تأت بالأجزاء كلّها وجئت بهذا الجزء فقط ؟ لأني أعرف أن البخاري ينقل الحادثة في عدّة أبواب من صحيحه ، ويتصرّف في الحديث فيغيّر هو معانيه حفاظاً على كرامة الصّحابة ، ولو كان ذلك على حساب رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    فتهلّل وجه صاحب البيت رشيد بدرة وقال : أنا عندي صحيح البخاري هنا بكل أجزائه.
    فقلت : هلم به إلينا ، وفي لحظة جاء الكتاب وأخرجت كتاب اللباس الذي استدلّ به شرف الدين الموسوي وإذا فيه : فجاء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليصلّي عليه فجذبه عمر ، فصاح رشيد بدرة : الله أكبر وتهلل الحاضرون كلّهم ، وانتكس الإمام المصري لأنه أصيب بذهول وتبيّن لي أنه ما كان يعرف بوجود هذا الحديث ، ولكنّه لمجرّد ما فتح البخاري ووجد كلمة مسكه عوضاً عن جذبه ظنّ المسكين أنه اكتشف زيف الشيعة وأكاذيبهم فطأطأ برأسه إلى الأرض ، ولم يزد شيئاً رغم الكلمات النابية التي وجّهها إليه الأخ رشيد بدرة الذي قال له فيها : يا شرف الدين كنّا نظنّك عالما متبحّرا فإذا بك فارغ ، وتتّهم العلماء الأجلاء بالكذب والدّجل ، وتسبّ وتشتم أناساً أبرياء أفضوا أمرهم إلى الله.
    فقام معاونه حسين التونسي لينقذ الموقف ، ويخرج زميله من الورطة التي وقع فيها ، فقال موجّها كلامه إليّ : إن إمامك الذي تدعو إليه عنده شذوذ فهو يجيز


(364)
نكاح المرأة من دبرها ، استغربت منه هذا القول ، وهو الذي لم يتكلّم أبداً ، وكان يمتاز بالسّكوت والاستماع.
    قلت : أي إمام دعوتك إليه ؟
    قال : الإمام الخميني.
    التفت للحاضرين وسألتهم : هل كلّمتكم منذ قدمت إليكم عن الإمام الخميني ؟
    قالوا : ما سمعنا منك إلاّ الكلام عن أئمّة أهل البيت ( عليهم السلام ) ولم نسمعك أبدأ تتكلّم عن الإمام الخميني.
    قلت له : لماذا تتّهمني بشيء لم يقع أبدأ هذا أولا ، أمّا ثانياً فلماذا تنكر على الإمام الخميني ، وتتّهمه بالشّذوذ في مسألة فقهيّة اختلف فيها الصّحابة أنفسهم بين مانع ومكره ومجيز ، وإذا استنكرت ذلك على الإمام الخميني ، الذي قال : بالكراهة ، لماذا لم تستنكره على البخاري الذي قال بجوازه قبل ألف عام.
    فقال : حاشى البخاري من هذه السّفاسف.
    قلت : البخاري بين أيدينا ، وفي لحظة وجيزة أخرجت له وللحاضرين قول البخاري عن عبدالله بن عمر في تفسير قوله تعالى : ( نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) (1) قال يأتيها في ... (2) واستفظع الكلمة فلم يكتبها (3).
1 ـ سورة البقرة ، الآية : 223.
2 ـ صحيح البخاري : 5/160.
3 ـ جاء في كتاب جامع البيان لابن جرير الطبري : 2/535 : بإسناده عن نافع قال : كنت أمسك على ابن عمر المصحف ، اذتلا هذه الآية : ( نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) فقال : أن يأتيها في دبرها. وعن نافع أيضاً عن ابن عمر أن هذه الآية نزلت في إتيان النساء في أدبارهن.


(365)
    فلمّا قرأ الأخ رشيد بدرة هذا الحديث غضب وقال للتّونسي : أنت أيضاً تريد طمس الحقيقة ونصرة الباطل ، غداً خذ أدباشك ، وارجع من حيث أتيت ، فأنا لا أكفلك أبداً ، وانتهى كل شيء بيننا.
    وتبيّن لي أن التّونسي جيء به من باريس ليؤمّ المصلّين في غياب الإمام المصري الذي يتغيّب شهورا عندما يسافر إلى مصر ، ووعد الأخ رشيد بدرة أن يزوّجه من سوّيدية ، ويحضرّ له أوراق الإقامة والمعاملات القانونيّة.
    وحاولت إقناع الأخ الجزائري بإتمام ما وعده به فرفض قائلا : أنا لا أعين الباطل ، ولا أكون للظّالمين ناصرا ، وقد تبيّن لي أن هؤلاء فارغين ونحن كنّا غافلين (1).
1 ـ كتاب فسيروا في الأرض ، الدكتور التيجاني : 287 ـ 291.

(366)
    المناظرة الخامسة والستون
مناظرة
الدكتور التيجاني مع بعض السلفيين
في مسألة التوسّل والاستشفاع بالنبي
( صلى الله عليه وآله وسلم )
    قال الدكتور التيجاني : أعلمني صديقي الأستاذ التونسي بأنّ صديقه السعودي سيأتي في الغد لإجراء محاورة علمية معي ، وقال : بأنه استدعى لذلك مجموعة من الأساتذة ليشاركوا في الحوار ليستفيد الجميع ، وقال : بأنّه هيأ الغداء ، فاليوم هو يوم عطلة الأسبوع ، وعندنا الوقت الكافي ، وكم نحن مشتاقون لمثل هذه المجالس ، ثم أضاف : ونحن نريدك منتصراً فلا تخجّلنا ، لأنّ هذا السعودي « ما كِلْنَا بقرعة » (1).
    وفي الساعة الموعودة توافد على البيت الأساتذة ومعهم العالم الوهّابي ، وكان مجموعهم سبعة ، أضف إليهم صاحب البيت ، وشخصي الحقير ، فصار المجلس يضمّ تسعة أشخاص.
    بعد أكل سريع ودردشة أثناء الأكل ، قد لا يخلو منها مجلس بدأنا الحوار ،
1 ـ جاء في الهامش : هو تعبير شائع عند العامة في تونس ومعناه يتكلم وحده ولا يترك لنا فرصة للكلام.

(367)
وكان موضوعه المطروح التوسّل والوساطة بين العبد وربّه.
    كنت من القائلين بالتوسّل إليه سبحانه وتعالى بأنبيائه ورسله وأوليائه الصّالحين ، وأن الإنسان قد يحجب دعاءه كثرة الذنوب والإنشغال بالدنيا فيستشفع إلى الله سبحانه بأوليائه وأحبابه.
    قال : هذا شرك ، وأن الله لا يغفر أن يشرك به ..
    قلت : وما دليلك على أنه شركٌ بالله ؟
    قال : ( وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ) (1) ، هذه آية صريحة في تحريم الدعاء لغير الله ، فمن دعا غير الله فقد جعل له شريكاً ينفع ويضرّ ، والنّافع والضّار هو الله وحده.
    إستحسن بعض الحاضرين كلامه وأراد تأييده فاستوقفه صاحب البيت قائلا : مهلا ، مهلا ، لقد دعوتكم لا للجدال ولا للمباراة ، وإنّما دعوتكم للإستماع لهذين العالمين ، فهذا التونسي عرفته من قديم ولكنّي فوجئت بأنه شيعي يتبع أهل البيت ، ( عليهم السلام ) وهذا صديقنا السعودي ، وكلّكم تعرفونه وتعرفون عقيدته ، فما علينا إلاّ الاستماع إليهما ، وإلى ما يدليان به من حجج إلى أن يفرغا من بحثهما ويستوفيا ما عندهما ، بعد ذلك نفسح المجال للنقاش ليشارك فيه كل من أراد.
    شكرناه على هذا الأسلوب وهذا اللطف ، وواصلنا الحديث فقلت : أنا أوافقك على أنّ الله سبحانه هو وحده النّافع والضارّ ولا أحد غيره ، ولا يخالفك أحدٌ من المسلمين في ذلك ، إنّما اختلافنا في التوسّل ، فالذي يتوسّل برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مثلا يعرف أنّ محمّداً لا ينفع ولا يضرّ ، ولكنّ دعاءه مستجاب عند الله ،
1 ـ سورة الجن ، الآية : 18.

(368)
فإذا سأل محمّدٌ ربّه قائلا : اللهم ارحم هذا العبد ، أو اغفر لهذا العبد ، أو اغني هذا العبد ، فإنّ الله سبحانه يستجيبُ له ، والرّوايات الصحيحة الواردة في هذا المعنى كثيرة جداً ، منها : أنّ أحد الصحابة كان أعمى فجاء إلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وطلب منه أن يدعو الله له ليفتح بصره ، فأمره الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأن يتوضّأ ويصلّي لله ركعتين ، ثم يقول : اللهم إني أتوسّل إليك بحبيبك محمّد إلاّ ما فتحت بصري ففتح الله بصرهُ (1).
    وكذلك ثعلبة ذلك الصحابي الفقير المعدوم الذي جاء للنبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وطلب منه أن يسأل الله له الغنى لأنه يحبّ أن يتصدّق ، ويكون من المحسنين ، وسأل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ربّهُ فاستجاب له ، وأغنى ثعلبة ، فأصبح من الأغنياء حتّى ضاقت بأنعامه أرجاء المدينة فلم يعد يحضر الصّلاة ، ومنع إعطاء الزكاة. والقصة
1 ـ روى الترمذي في السنن : 5/229 ح 3649 بالإسناد عن عثمان بن حنيف : أن رجلا ضرير البصر أتى النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فقال : ادع الله أن يعافيني ، قال : إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت فهو خير لك ، قال : فادعه ، قال : فأمره أن يتوضأ فيحسن وضؤه ويدعوه بهذا الدعاء : اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمّد نبي الرحمة ، إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضي لي ، اللهم فشفعه في. قال : هذا حديث حسن صحيح.
    ورواه ابن ماجة في السنن : 1/441 ح 1385 وقال : قال أبو إسحاق : هذا حديث صحيح ، ومسند أحمد بن حنبل : 4/138 ، السنن الكبرى ، النسائي : 6/169 ح 10494 ـ 10496 ، أسد الغابة ، ابن الأثير : 3/371 ، تأريخ دمشق ، ابن عساكر : 6/24 ، المستدرك ، الحاكم النيسابوري : 1/313 ، وقال : هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ورواه أيضاً في ص 519.
    ورواه في ص 526 وجاء في الحديث بعد الدعاء : فدعا بهذا الدعاء فقام وقد أبصر ، ورواه أيضاً ثانية في نفس الصفحة وجاء في آخره : قال عثمان : فو الله ما تفرقنا ولا طال بنا الحديث حتى دخل الرجل وكأنه لم يكن به ضر قط ، ثم قال الحاكم : هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه.


(369)
معروفة ومشهورة عند النّاس كافة (1).
    كذلك كان النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يوماً يصف لأصحابه نعيم الجنّة ، وما أعدّه الله سبحانه لسكّانها ، فقام عكاشة فقال : يا رسول الله أدعو الله أن يجعلني منهم ، فقال رسول الله : اللهمّ اجعله منهم ، فقام آخر فقال : وأنا يا رسول الله ، فقال : لقد سبقك بها عكاشة (2).
    ففي الرّوايات الثلاثة دليل قاطع على أنّ رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) جعل نفسه واسطة بين الله والعباد.
    قاطعني الوهابيّ بقوله : أنا أستدل عليه بالقرآن الكريم ، وهو يستدل عليَّ بالأحاديث الضعيفة التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
    قلت : القرآن الكريم يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ) (3).
    قال : الوسيلة هي العمل الصالح !
    قلت : آيات العمل الصالح كثيرة ومحكمة ففيها يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) (4) ولكن في هذه الآية قال : ( وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ )
1 ـ أسباب النزول ، الواحدي : 170 ـ 172 ، تفسير القرطبي : 8/209 ، الدر المنثور ، السيوطي : 260 ـ 261 ، تفسير ابن كثير : 2/388 ، في تفسير قوله تعالى : ( وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ) سورة التوبة ، الآية : 75 ، أسد الغاية ، ابن الأثير : 1/237.
2 ـ مسند أحمد بن حنبل : 1/420 ، صحيح البخاري : 7/40 ، صحيح مسلم : 1/136 ، المستدرك ، الحاكم : 3/228.
3 ـ سورة المائدة ، الآية 35.
4 ـ سورة البقرة ، الآية : 25.


(370)
وفي آية أخرى قال : ( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ) (1).
    وهاتان الآيتان تفيدان البحث عن وسيلة يتوسل بها إليه سبحانه ، وذلك مع التقوى والعمل الصالح ألم تر أن الله قال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ ) (2) فقدّم الإيمان والتقوى على ابتغاء الوسيلة ؟
    قال : أكثر العلماء يفسّرون الوسيلة بالعمل الصالح.
    قلت : دعنا من التفسير وأقوال العلماء ، ما رأيك لو أثبت لك الوساطة من القرآن نفسه ؟
    قال : مستحيل إلاّ أن يكون قرآن لا نعرفه !
    قلت : أعرف ماذا تقصد ، سامحك الله ، ولكنّي سوف أثبت ذلك من القرآن الذي نعرفه جميعاً ، ثم قرأتُ ( قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (3) فلماذا لم يقل سيدنا يعقوب نبي الله ( عليه السلام ) لأولاده : استغفروا الله وحدكم ، ولا تجعلوني وسيطاً بينكم وبين خالقكم ، بل أقرّهم على تلك الوساطة فقال : ( سوف أستغفر لكم ربّي ) فجعل نفسه بذلك وسيلة إلى الله لأولاده ؟!
    أحسّ الوهّابي بحرج لدفع هذه الآيات البيّنات التي لا مجال للتشكيك فيها ، ولا لتأويلها فقال : ما لنا وليعقوب ( عليه السلام ) وهو من بني إسرائيل ، وقد نُسخت شريعته بشريعة الإسلام.
    قلت : سأعطيك الدليل من شريعة الإسلام ، من شريعة نبي الإسلام محمّد
1 ـ سورة الإسراء ، الآية : 57.
2 ـ سورة المائدة ، الآية : 278.
3 ـ سورة يوسف ، الآية : 97 و 98.


(371)
رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    قال : نستمع إليك.
    فقلت : ( وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللّهَ تَوَّاباً رحِيماً ) (1).
    فلماذا يأمرهم الله بالمجيء إلى الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ليستغفروا عنده ، ثم يستغفر لهم الرّسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهذا دليل قاطع على أنّه ( صلى الله عليه وآله وسلم ) هو واسطتهم إلى الله ولا يغفر الله لهم إلاّ به.
    فقال الحاضرون : هذا دليل ما بعده دليل ، وأحسّ الوهابيّ بالهزيمة فاستطرد يقول : ذاك صحيح عندما كان حيّاً ، ولكن الرّجال مات منذ أربعة عشر قرناً.
    قلت مستغرباً : كيف تقول عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رجّال مات ؟! رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) حيّ وليس بميّت.
    فضحك من قولي مستهزءاً قائلا : القرآن قال له : ( إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ ) (2).
    قلت : والقرآن نفسه يقول : ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) (3) وقال : ( وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ ) (4).
1 ـ سورة النساء ، الآية : 64.
2 ـ سورة الزمر ، الآية : 30.
3 ـ سورة آل عمران ، الآية : 169.
4 ـ سورة البقرة ، الآية : 154.


(372)
    قال : هذه الآيات تتكلّم عن الشهداء الذين يقتلون في سبيل الله ، ولا علاقة لها بمحمّد.
    قلت : سبحان الله ، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله ، أأنت تنزل بمرتبة النبي محمّد حبيب الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) إلى درجة هي أقل من رتبة الشهيد ، وكأنّك تريد أن تقول بأن أحمد بن حنبل مات شهيداً ، فهو حيّ عند ربّه يرزق ورسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ميّتٌ كسائر الأموات ؟!
    قال : هذا ما يقوله القرآن الكريم.
    قلت : الحمد لله أن كشف لنا عن هويّتكم ، وعرّفنا على حقيقتكم بألسنتكم ، وقد حاولتم جهودكم طمس آثار الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووصل الأمر بكم أن حاولتم إعفاء قبره ، كما أعفيتم البيت الذي ولد فيه.
    وهنا تدخَّل صاحب البيت ليقول لي : لا نخرج عن دائرة القرآن والسنّة وهذا ما اتفقنا عليه.
    اعتذرت وقلت : المهمّ أنّ صاحبنا اعترف بالوسيلة في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ونفاها بعد وفاته.
    فقال الحاضرون جميعاً : وهو كذلك ، وسألوه من جديد : أنت وافقت بأنّ الوساطة كانت جائزة في حياة النبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ؟
    أجاب : كانت جائزة في حياته وهي غير جائزة الآن بعد وفاته ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    فقلت : الحمد لله ، لأول مرّة تعترف الوهابيّة بالوسيلة وهذا فتح كبير.
    واسمحوا لي بأن أضيف أنّ الوسيلة جائزة حتى بعد وفاة الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ).
    قال الوهّابي : والله لا يجوز ، ذلك من الشرك.
    فقلت : مهلا ، ولا تتسرّع وتقسم فتندم على ذلك.


(373)
    قال : هات الدليل من القرآن.
    قلت : أنت تطلب المستحيل لأنّ نزول الوحي انقطع بوفاة محمّد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فلا بد من الإستدلال من كتب الحديث.
    فقال : نحن لا نقبل الحديث إلاّ إذا كان صحيحاً ، أمّا ما يقوله الشيعة فلا نعتبره شيئاً.
    قلتُ : هل تثق في صحيح البخاري ، وهو أصح الكتب عندكم بعد كتاب الله ؟
    قال مستغرباً : البخاري يقول بجواز الوسيلة ؟!
    قلتُ : نعم يقول بذلك ، ولكن مع الأسف لا تقرأون ما في صحاحكم ، ورغم ذلك تعاندون تعصّباً لأرائكم فقد أخرج البخاري في صحيحه أنّ عمر بن الخطاب كان إذا قحطوا استسقى بالعبّاس بن عبد المطّلب فقال : اللهمّ إنّا كنّا نتوسّل إليك بنبيّنا ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فتسقينا وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا فاسقنا ، قال : فيسقون » (1).
    ثم قلت له : هذا عمر بن الخطّاب وهو عندكم أعظم الصّحابة ولا شك عندك في إخلاصه ، وقوة إيمانه ، وحسن عقيدته ، فإنكم تقولون : لو كان نبي بعد محمّد لكان عمر بن الخطاب (2) ، وأنت الآن بين أمرين لا ثالث لهما ، إمّا أن
1 ـ صحيح البخاري : 2/16 ، 4/209 ، السنن الكبرى ، البيهقي : 3/352 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 1/72 ح 84 ، الطبقات الكبرى ، ابن سعد 4/28 ـ 29 ، تاريخ دمشق ، ابن عساكر : 26/355 ، ذخائر العقبى ، الطبري : 198 ـ 199.
2 ـ راجع : مسند أحمد بن حنبل : 4/154 ، المعجم الكبير ، الطبراني : 17/180 ، شرح نهج البلاغة ، ابن أبي الحديد : 12/178 ، تذكرة الموضوعات ، الفتني ، 94 ، فيض القدير ، المناوي : 5/414 ح 7469 ، كشف الخفاء ، العجلوني : 2/154 ح 2094.


(374)
تعترف بأنّ التوسل هو من صميم الدين الإسلامي ، وقول عمر بن الخطّاب : إنّا كنا نتوسل إليك بنبيّنا ، وإنا نتوسل إليك بعمّ نبيّنا ، هو إقرارٌ بالتوسّل في حياة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وبعد حياة النبيّ ، وإمّا أن تقول : بأنّ عمر بن الخطاب مشرك ، لأنه جعل العبّاس بن عبد المطلب وسيلته إلى الله ، والعبّاس كما هو معلوم ليس بنبيّ ولا إمام ، وليس هو من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرّجس وطهّرهم تطهيراً.
    أضف إلى ذلك أنّ البخاري وهو إمام المحدّثين عندكم الذي أخرج هذه القصة معترفاً بصحّتها ، ثم أضاف بقوله : كانوا إذا قحطوا استسقوا بالعبّاس فيسقون ، ويعني بذلك أن الله يستجيب لهم.
    فالبخاري والمحدّثين من الصحابة الذين رووا هذا وكل أهل السنة والجماعة الذين يعتقدون صحة البخاري كلّهم عندكم مشركون ؟!
    قال الوهّابي : لو صحّ هذا الحديث فهو حجّة عليك.
    قلت : وكيف يكون حجّةً عليَّ ؟!
    قال : لأن سيدنا عمر لم يتوسّل بالنبيّ ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لأنه ميّتٌ ، وتوسل بالعباس لأنه حيّ.
    قلت : إنّ عمل وقول عمر بن الخطّاب ليس عندي بحجة ، ولا أقيم له وزناً ، وإنّما استعرضت هذه الرواية للإستدلال بها على موضوع البحث ، وهو إنكارك وإنكار كل علمائكم التوسّل ، واعتباره شركاً بالله.
    وإني أتساءل لماذا لم يتوسّل عمر بن الخطاب أثناء القحط بعلي بن أبي طالب ( عليه السلام ) الذي هو من محمّد كمنزلة هارون من موسى ، ولم يقل أحدٌ من المسلمين بأنّ العبّاس أفضل من عليّ ، ولكن هذا موضوع آخر لا يهمّنا في هذا


(375)
البحث ، ونكتفي بالقول : بأنكم الآن تعترفون بالوسيلة بالأحياء ، فهذا بالنسبة إليَّ انتصارٌ كبير أحمد الله عليه أن جعل حجتنا هي البالغة ، وجعل حجتكم هي الباطلة (1).
1 ـ كل الحلول عند آل الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، الدكتور التيجاني : 229 ـ 237.
مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: فهرس