مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: 571 ـ 585
(571)
لكم مكتبة في الجامعة تفيدك في هذا الأمر كثيراً.
    قلت متعجِّباً : مكتبتنا سنّيّة ، فكيف أبحث فيها عن الشيعة ؟
    قال : من دلائل صدق التشيُّع أنه يستدلُّ على صحّته من كتب وروايات علماء السنة ، فإن فيها ما يظهر حقَّهم بأجلى الصور (1).
    قلت : إذن مصادر الشيعة هي نفس مصادر أهل السنة ؟
    قال : لا ، فإن للشيعة مصادر خاصّة تفوق أضعافاً مضاعفة مصادر السنة ، كلّها مرويَّة عن أهل البيت ( عليهم السلام ) عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولكنّهم لا يحتجُّون على أهل السنة بروايات مصادرهم ; لأنها غير ملزمة لهم ، فلابد أن يحتجُّوا عليهم بما يثقون به ; أي ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم.
    سرَّني كلامه ، وزاد تفاعلي للبحث ، قلت له : إذن كيف أبدأ ؟
    قال : هل يوجد في مكتبتكم صحيح البخاري وصحيح مسلم ومسند أحمد والترمذي والنسائي ؟
    قلت : نعم ، عندنا قسم ضخم لمصادر الحديث.
    قال : من هذه ابدأ ، ثمَّ تأتي بعد ذلك التفاسير وكتب التأريخ ، فإن في هذه الكتب أحاديث دالّة على وجوب اتّباع مدرسة أهل البيت ( عليهم السلام ).
1 ـ وهذه الشهادة من الأستاذ عبد المنعم شهادة حقٍّ ، وقد سمعناها كثيراً ، وإليك كلام بعض المستبصرين الفضلاء ، وهو السيد حسين الرجاء ، إذ يقول عن الشيعة الإماميّة : لقد قرأت بعض كتبهم العقيديّة والجدليّة والتأريخيّة وسيرة الصحابة وغيرها ، فوجدتهم يثبتون صحّة مذهبهم من كتب أهل السنّة ، وبالأخصّ وغيرها ، فوجدتهم يثبتون صحّة مذهبهم من كتب أهل السنّة ، وبالأخص صحيحي مسلم والبخاري وسائر الكتب الستة ، وكذلك يثبتون غلط مذاهب أهل السنّة من كتبهم ، ولقد راجعت الكثير فوجدته كما يقولون ، وكلَّما يزداد شكي في التسنُّن يزداد يقيني في التشيع. راجع كتاب المتحوِّلون ، هشام آل قطيط : 367.

(572)
    وبدأ يسرد لي أمثلة منها ، مع ذكر المصدر ورقم المجلَّد والصفحة ، توقَّفت حائراً أسمع إلى هذه الأحاديث التي لم أسمع بها من قبل ، ممَّا جعلني أشكُّ في كتب السنّة ، ولكن سرعان ما قطع عنّي هذا الشكَّ بقوله : سجِّل هذه الأحاديث عندك ، ثمَّ ابحثها في المكتبة ، ونلتقي يوم الخميس القادم بإذن الله.
    في الجامعة :
    بعد مراجعة تلك الأحاديث في البخاري ومسلم والترمذي في مكتبة جامعتنا تأكَّد لي صدق مقالته ، وفوجئت بأحاديث أخرى أكثر منها دلالة على وجوب اتّباع أهل البيت ( عليهم السلام ) ، ممَّا جعلني أعيش في حالة من الصدمة ، لم نسمع بهذه الأحاديث من قبل.
    فعرضتها على زملائي في الكلّيّة حتى يشاركوني في هذه الأزمة ، فتفاعل البعض ، ولم يكترث لها البعض الآخر ، ولكنّني صمَّمت على مواصلة البحث ولو كلَّفني ذلك كل عمري ، وعندما جاء يوم الخميس انطلقت لعبد المنعم ، فاستقبلني بكل ترحاب وهدوء ، وقال : يجب عليك ألا تتعجَّل ، وأن تواصل البحث بكل وعي.
    ثمَّ بدأنا في بحوث أخرى لم أكن أعرفها ، وقبل رجوعي إلى الجامعة طلب منّي عدّة أمور أبحثها ، وهكذا دواليك إلى مدّة من الزمن ، وكانت طبيعة النقاش بيني وبينه تتغيَّر من فترة إلى أخرى ، فأحياناً أحتدُّ معه في الكلام ، وأحياناً أكابر في الحقائق الواضحة ، فكنت ـ مثلا ـ عندما أراجع بعض المصادر وأتأكَّد من وجودها أقول له : إن هذه الأحاديث غير موجودة ، ولست أعلم إلى الآن ما الذي كان يدفعني إلى ذلك سوى الشعور بالانهزام وحبِّ الانتصار.
    وبهذه الصورة وبمزيد من البحث انكشفت أمامي كثير من الحقائق لم أكن


(573)
أتوقَّعها ، وكنت في طوال هذه الفترة كثير النقاش مع زملائي.
    إلى أن يقول الشيخ معتصم : وبعد قراءتي لكتاب المراجعات ومعالم المدرستين وبعض الكتب الأخرى اتّضح لي الحقُّ وانكشف الباطل ; لما في هذين السفرين من أدلّة واضحة ، وبراهين ساطعة بأحقّيّة مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وازدادت قوَّتي في النقاش والبحث حتى كشف الله نور الحق في قلبي ، وأعلنت تشيعي (1).
1 ـ المتحوِّلون ، الشيخ هشام آل قطيط : 274 ـ 279.

(574)
     المناظرة السادسة والثمانون
مناظرة
الشيخ معتصم السوداني مع الدكتور عمر مسعود
في علم الأصول عند الشيعة
    الجلسة الأولى
    قال الشيخ معتصم السوداني : الدكتور عمر مسعود من البارزين في الساحة السودانيّة ، وخاصة في ولاية نهر النيل في شمال السودان ، وهو يحمل مجموعة من الشهادات في الاقتصاد ، وعلوم الحديث ، ومقارنة الأديان ، بالإضافة إلى تتلمذه على يد مجموعة من المشايخ وعلماء الطرق الصوفيّة ، كما أنّه يمتاز باطّلاعه الواسع في شتّى المجالات ، فله مكتبة ضخمة تحتوي على ( 11 ألف كتاب ) ، وهو يعمل الآن محاضراً في جامعة وادي النيل في كلّيّات متعدِّدة ، مثل : كلية الدراسات الإسلاميّة ، وكلية التربية ، وكلية التجارة ، فهو مدير لقسم التجارة بهذه الكلية.
    هذا الدكتور تربطني به علاقة شخصيَّة ، علاوة على أنَّه أستأذي ثلاث سنوات تقريباً ، ودارت بيني وبينه مجموعة من الجلسات والحوارات الإيجابيّة الهادفة ، في شتّى المجالات التأريخيّة والأصوليّة والعقائديّة ، أسفرت عن


(575)
احترام الطرفين ، وتقدير وجهات النظر.
    وأحبُّ أن أسجِّل هنا بعض هذه الجلسات حتى تعمَّ الفائدة ، لم أتمكَّن من إلحاقها في الكتاب ، ممَّا دفعني أن أقوم بكتابة هذا الكتيِّب حتى يكون مكمِّلا للحقيقة الضائعة ، وأسال الله أن يوفِّقني في تحرّي الدقّة ونقل الواقع كما هو.
    بعد أن دخلت الحرم الجامعي رأيت الدكتور يلقي محاضرة لطلاب قسم التجارة ، وما إن رآني حتى خرج واستقبلني بحفاوة ، ثمَّ طلب منّي أن أحضر إلى مكتبه بعد المحاضرة.
    وبعد المحاضرة ذهبت إليه ، وبعد السلام والسؤال عن الأخبار.
    قال الدكتور : أين كنت خلال هذه الفترة ؟
    الشيخ معتصم : في سوريا عند مقام السيِّدة زينب ( عليها السلام ).
    الدكتور : ماذا كنت تفعل ؟
    الشيخ معتصم : أدرس في الحوزة العلميّة.
    الدكتور : وماذا تدرس ؟
    الشيخ معتصم : فقه ، أصول ، منطق ، عقائد ، نحو ، وغيرها ، فالحوزة هي عبارة عن مقدِّمة للطالب حتى يجتهد في استنباط الأحكام الشرعيَّة ، فباب الفقه عند الشيعة ما زال حيويّاً ومتحرِّكاً ، وهم يعتمدون في ذلك على أصول منضبطة ومحكمة.
    الدكتور : إن أهل السنّة أول من ابتدع علم الأصول ، وتجربتهم أنضج وأكمل ، أمَّا تاريخ علم الأصول عند الشيعة فهو حديث مقارنة بالأصول عند السنّة.
    الشيخ معتصم : هذا اشتباه.


(576)
    أولا : إن الأصول هي عبارة عن قواعد وكلّيّات يستنبط منها المجتهد الجزئيَّات ، وهذه الكلّيّات واضحة في روايات أهل البيت ( عليهم السلام ) ، فالإمام الرضا ( عليه السلام ) كان يقول : علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع (1) ، هذا من ناحية البعد التاريخيِّ ، أمَّا إذا قصدت بلورة الأصول بهذه الصورة الحاليّة ، والكتابة في هذه المباحث ، فإن السنّة يختلفون تماماً عن الشيعة ، ولا وجه هناك للمقارنة ، فمصادر التشريع عند السنّة انقطعت بعد موت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، ولذلك الحاجة التأريخيَّة ألحَّت لتكوين علم أصول يتكفَّل باستخراج الأحكام الشرعيّة ، فالأصول السنّيّة مقارنة مع هذه الحاجة الحتميّة جاءت متأخِّرة جداً ، أمَّا الشيعة فهم ينظرون إلى أهل البيت ( عليهم السلام ) باعتبارهم أنهم الامتداد الطبيعيُّ لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، فكلامهم حجّة ، فلا توجد هناك حاجة لاستنباط الأحكام الشرعيّة مع وجود الأئمّة المصطفين من قبل الله سبحانه وتعالى ، وبعد مضيِّ أحد عشر إماماً وغياب الحجّة المهديِّ ( عليه السلام ) تولَّدت الحاجة لبلورة الأصول بهذه الصورة الحاليّة ، فالنظرة لابد أن تكون نسبيَّة.
    الدكتور : إنّ علم الأصول عند السنّة يمتاز بأنه أكثر مرونة من الأصول عند الشيعة ، فإنّها جامدة ، يصعب على الإنسان أن يستنبط حكماً من خلالها ، فالأصول عند السنّة أبوابها كثيرة ومتعدِّدة ; من قرآن وسنّة وإجماع وقياس وغيرها ، تساعد المجتهد على تتبُّع الحوادث في أيِّ زمن ، واستنباط الحكم الشرعيِّ لأيِّ موضع.
    الشيخ معتصم : هذا الكلام لا يمكن أن يقبل ، أمَّا أنها جامدة فهذا ادّعاء لا
1 ـ وسائل الشيعة ، الحرّ العاملي : 27/62 ح 52 عن السرائر.

(577)
يمكن أن يصدِّقه الواقع ، فالفقه الشيعيُّ الذي يرتكز على هذه الأصول التي تسمِّيها جامدة في غاية الدقّة ; لتتبُّعه للحوادث المتغيِّرة ، وتوضيح الحكم الشرعيِّ فيها ، كما أن الموسوعات الفقهيَّة الاستدلاليّة عند الشيعة تفوق بكثير ـ من غير مقارنة ـ الكتب الاستدلاليّة الفقهيّة عند السنّة ، هذا أولا.
    أمَّا ثانياً ، فالأصول التي ذكرتها هي مشتركة بين الشيعة والسنّة ، وإذا كان هنا مرونة لأصول السنّة فهي راجعة للقياس ، والقياس عندنا لا يعوَّل عليه في استنباط أحكام الشريعة.
    ثالثاً : إن الشيعة ليسوا بحاجة لإعمال القياس ، وذلك لكثرة النصِّ الفقهيِّ ، المرويِّ عن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وأهل بيته ( عليهم السلام ) ، فالوسائل للحرِّ العاملي يتكوَّن من عشرين مجلداً (1) كلُّه أحاديث فقهية ، وكتاب مستدرك الوسائل ثمانية عشر مجلَّداً في نفس الإطار للميرزا النورىِّ ، فليس هناك من داع لهذه الظنّيّات التي اعتمد عليها السنّة لقلّة النص الدينيِّ من روايات وأحاديث في جانب الفقه.
    الدكتور : هذا كلام سطحيٌّ ، إنّ الأصول لم تكن بداعي قلّة النصِّ الدينيِّ كما زعمت ، وما هذه الأصول إلاَّ بمثابة تعليل لهذه النصوص ، فالقياس مثلا لم يكن خارجاً عن إطار النص ، وإنّما هو الطريق الذي من خلاله ينزل النصُّ للحوادث المتغيِّرة ; لأنّ لكل حكم علة ، بعد اكتشاف هذه العلّة تكون بمثابة قاعدة تنطبق على حوادث متعدِّدة ، وهذا هو علم الأصول بعينه.
    الشيخ معتصم : هذا الكلام بصورته العامّة يبدو وجيهاً ، ولكن عندما نفصل المسألة ، وندقِّق أكثر يظهر لنا ضعفه ، وذلك أن القياس كما تفضَّلت هو إرجاع
1 ـ طُبعت محقَّقة في 30 مجلَّداً برعاية مؤسَّسة آل البيت ( عليهم السلام ) في قم المقدَّسة.

(578)
الفرع إلى الأصل إذا اشتركت العلّة بين الأصل والفرع ، وكما هو واضح أن الحكم يدور مدار العلّة وجوداً وعدماً ، ولكن الإشكال كيف تكشف علّة الحكم ؟
    فإذا كانت العلّة منصوصاً عليها من قبل الشارع نفسه ، فمثلا يقول : إنّ الخمر حرام لأنه مُسكر ، فيمكن أن أقيس النبيذ على الخمر إذا كان النبيذ مسكراً ، فأقول : الخمر حرام لأنه مسكر ، والنبيذ مسكر ، إذن النبيذ حرام ، هذا لا إشكال فيه ، رغم أن هذا نفسه لا يسمّى قياساً ; بمعنى أننا لم نقس حكم النبيذ على حكم الخمر ، وإنما اكتشفنا حكم النبيذ من النص مباشرةً ، أي أنّ الخمر والنّبيذ كلاهما يرجعان إلى نصّ واحد ، وهو أنّ كل مسكر حرام.
    أمَّا إذا لم تكن العلّة منصوصاً عليها من قبل الشارع فكيف لنا معرفتها ؟ فكل ما نتوقَّعه لا يخرج عن إطار الظنّيّة ، ولعل الشارع لم يرتِّب الحكم على هذه العلّة التي اكتشفناها ، وإنما لعلّة أخرى باطنيّة ، مثلا : في حكم الصيام في السفر يقول الشارع : ( وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّام أُخَرَ ) (1) ، فالظاهر من هذه الآية هو عدم الصيام في حالة السفر ، فيقول مجتهد : إن العلّة من عدم الصيام في السفر هو الإرهاق والتعب ، وخاصة أنّ السفر في القديم كان عبر الدوابِّ ، والآن اختلف الوضع ، وأصبح السفر مريحاً ، فارتفعت العلّة التي تمنع الصيام في السفر ، فيرتفع معها الحكم ، وعلى هذا الاجتهاد كثير من المسلمين يصومون في حالة السفر ، فهذه مخالفة للنصِّ ، من الذي يقول : إنّ العلة هي التّعب ؟ هل الشارع نصَّ على ذلك ؟! وإن لم ينصَّ فتكون هذه العلّة ظنّيّة ، لا يعوَّل عليها في استخراج الحكم ، وإنما الآية في مقام التشريع ; فكما أنّ الله شرَّع الصيام في شهر
1 ـ سورة البقرة ، الآية : 185.

(579)
رمضان كذلك هو الذي منعه في السفر ، فلا تعارض بين الحكمين ، كما لا تلازم بينهما ، فهذا القياس مرفوض بحكم الشرع والعقل.
    الدكتور : إنّ البحث عن الحكم القطعيِّ من الصعوبة بمكان ، ولو كانت الشريعة تطالبنا بالحكم القطعيِّ لكل واقعة لأصبح الأمر عسيراً ، كما أنّ هذه العلل التي تسمِّيها ظنّيّة هي الطريق الوحيد ، مع أني لا أقول ظنّيّة.
    الشيخ معتصم : عفواً أستاذي ! إنّ الشريعة صالحة لكل زمان ومكان ، ولا يمكن أن تكون الشريعة في زمن الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) كل أحكامها قطعيَّة وواقعيّة ، والآن تكون أحكامها ظنّيّة ، إلاَّ إذا كنت تعتقد أن أحكام الرسول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أيضاً ظنّيّة.
    وإنما المسألة محلولة داخل الشريعة نفسها ، فالأحكام حسب التقسيم الأصوليّ الشيعيّ أحكام واقعيّة وأحكام ظاهريّة ، فالحكم الواقعيُّ هو الذي يستنبط من دليل قطعيٍّ من القرآن والسنّة والعقل ، والدليل القطعيُّ هو الكاشف عن حكم الواقعة.
    أمَّا إذا طرأت علينا حادثة لم نجد لها حكماً في القرآن والسنّة والعقل فهناك أصول ليست أدلّة واقعيّة ، فبالتالي تكون أحكامها ظاهريَّة ، أمَّا حجّيّة هذه الأصول فهي حجج مجعولة ; بمعنى أنّ الشارع جعل لنا هذه الأصول حجّة ، فالحجّة نابعة من نفس هذا الطريق ، وليست ناظرة للحكم بما هو واقعيٌّ أو غير ذلك ، فالاستصحاب مثلا لا يكشف الواقع ، ولكن عندما قال الشارع : لا ينقض اليقين السابق الشك اللاحق ، فيكون بذلك جعل لنا الشارع حجّيّة الاستصحاب رغم أنه لا يكشف الواقع.
    وكل هذا يدلُّ على مرونة الشريعة وتساهلها ، كما يدلُّ على أن الشارع


(580)
جعل لنا طرقاً نلجأ إليها عندما يتعسَّر الدليل الواقعيُّ.
    أمَّا إذا كنت تقصد أن اكتشاف العلل وتوضيحها يجعل الفقه أكثر مرونة وتطوُّراً ، فإن هنالك نظريات شيعيّة عميقة في هذا الجانب ، تنطلق من مفهوم أن الدين ثابت ومتغيِّر ، وقد فصلَّ آية الله محمّد تقي المدرّسي في كتابه التشريع الإسلامي هذا الأمر ، وهو يبني نظريَّته على أن كل النصوص (1) الدينيّة تبيِّن الحكم مع الحكمة ، فيتتبَّع الفقيه هذه الحكم من خلال نصوص القرآن والسنة ، فتشكِّل هذه الحكم مجموعة قواعد كلّيّة يمكن للفقيه أن يرجع إليها الحوادث الجزئيَّة.
    الدكتور : ما أنكرته في أول حديثك أقررت به في هذا الكلام ، فهذه النظريّة التي ذكرتها مؤخَّراً تدلُّ على أن الأصول الشيعيَّة جامدة ، ممَّا دفع المدرِّسي أن ينتهج هذا النهج ، الذي هو أقرب إلى الطرح السنّيِّ ، كما أن المدرِّسي من العلماء المعاصرين ، فتجربته ما زالت حديثة ، لا تحسب ضمن تاريخ المدرسة الأصوليّة الشيعيّة ، بخلاف الأصول عند أهل السنّة ، الذين هم أول من طرق هذا الباب الذي اكتشفه المدرسي مؤخَّراً ، ولعلّه استفاد من الطرح السنّيِّ.
    الشيخ معتصم : إن كلامي غير متناقض ، فإنه يصبُّ في نفس المنحى ، ويؤكِّد أن الأصول الشيعيّة متطوِّرة ، فإن كل فترة زمنيّة لها من الظروف والدواعي التي تحتِّم على الأصول انتهاج نهج جديد ، وهو بالطبع لا يخالف القديم ، وإنما الطرح وبلورة النظريّة وتنقيح الأفكار عادةً ما يضيفان نوعاً من الحداثة ، وإلاَّ
1 ـ النصوص وليست الأحكام ، والفرق كبير. ( الشيخ معتصم ).

(581)
فالكلام عن علل الشرائع قديم عند علماء الشيعة ، فالشيخ الصدوق مثلا عنده كتاب « علل الشرائع » وهو من الكتب القديمة.
    كما أنَّ السيِّد المدرّسي لم يبتدع شيئاً ، وإنّما قام بعمليّة جمع واستخراج القيم والحكم المبثوثة في القرآن والروايات ، وسوف أحضر لك كتاب التشريع الذي طبع منه إلى الآن أربع مجلَّدات (1) حتى تعرف الفرق بين الطرح السنّي وطرح السيِّد المدرسي ، فالفرق عميق بين الطرحين ، فالقياس يعتمد على استخراج علّة الحكم من نفس الحكم ، ثمَّ يقيس عليها الفروع التي تشابهها في العلّة.
    أمَّا الطرح الآخر فهو يبنى على أنّ الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة تطرح مجموعة من الحكم والقيم ، وبعد استخلاصها بطرق قطعيَّة تورث اليقين والاطمئنان تكون هذه الحكم حاكمة على مجموعة من الأحكام التي ترجع إلى هذه الحكم بصورة مستقلّة (2) ، وهذا الطرح لا يوجد له أثر في المدرسة السنّيّة ،
1 ـ طبع الآن الجزء الخامس والسادس والسابع والثامن من التشريع ( الشيخ معتصم ).
2 ـ وليس هذا الاستنباط من نوع القياس الذي يرفضه مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، والسبب هو :
    أولا : أن القياس منهج يختلف جذريّاً مع المنهج القرآني ، وقد ناقشنا ذلك في مناسبة سبقت ...
    ثانياً : أن القياس في المصطلح التعرُّف على حكم النظير من خلال علّة مظنونة في نظيره ، بينما هنا نحن نريد استنباط حكم الفرع من الأصل ، وعلى هذا فإن أساس البصيرة القرآنيّة التي عرفناها بفضل أحاديث أهل البيت ( عليهم السلام ) هو السعي لفهم الحكم العامة في الشريعة عبر التدبُّر في آيات الذكر ، والسلوك عبر المنهج الإلهيِّ الذي بشرَّ به الدين وسبق الحديث عنه ، وإذا تبصَّرنا هذا الحكم جيِّداً ، وعرفناه يقيناً فإننا نستنبط منها حكم المسألة الفرعيّة بلا تردُّد ، ويكون علمنا به علماً يقينياً ، أو على الأقل تطمئنُّ نفوسنا إليه ممّا يكفينا حجّة شرعيّة ، كما سنتحدَّث عنه في مناسبة أخرى.
    وهكذا يرى هذا المنهج أنه لا يجوز الأخذ بالحكمة المظنونة ، ولكن يوصينا بضرورة البحث الجدّيِّ لمعرفة حكمة كل حكم شرعيٍّ من خلال التدبُّر في النصوص ( الآيات والروايات ) فنحن ندعو إلى الحصول على العلم بالحكمة الإلهيّة الموجودة في كل حكم شرعيٍّ ، ولا ندعو إلى العمل بالحكم المستنبطة بالقياس الظنّي ، والفرق بينهما هو الفرق بين العمل بالاستنباط العملي وبين العمل بالقياس الظنّي والله الموفق ... التشريع الإسلامي ، ج1 ، ص 52. ( الشيخ معتصم ).


(582)
هذا من جهة القياس.
    أمَّا الأصول الأخرى مثل الاستحسان وسدّ الذرايع وفقه الصحابي وغيرها ، فإن إثبات حجّيّة هذه الأصول من البعد بمكان ، فالطرح الشيعيُّ في الأصول مغاير للطرح السنّيِّ إجمالا وتفصيلا.
    الدكتور : إنّ هذه الأصول التي ذكرتها ليست العُمدة عند أهل السنة ، وإنّما عمدتهم هو القرآن والسنة والإجماع والقياس ، ثمَّ بعد ذلك الأصول الأخرى ، وفي هذه الأصول لا خلاف بين السنّة والشيعة ، فالخلاف ليس إجمالا ، وإنّما تفصيلا.
    الشيخ معتصم : أمَّا القرآن والسنّة فنعم ، رغم أن الخلاف فيهما موجود ، فبأيِّ كيفية نتعامل مع القرآن ؟ وكيف نفسّره ونستنبط منه الحكم الشرعي ؟ والسنّة هل هي رواياتكم أم رواياتنا ؟ وهل كلام أهل البيت ( عليهم السلام ) حجَّة أم قول الصحابي ؟ فهذه الأسئلة تباعد بيننا وبينكم ، أمَّا بخصوص الإجماع فهو غير حجّة ، فقد ناقشت الكتب الأصوليّة الشيعيّة الإجماع ، وأثبتت عدم حجّيّته ، فالإجماع حجّة إذا كان كاشفاً عن رأي المعصوم ، أو عن دليل شرعيٍّ ، فالحجّيّة لا تكون لذات الإجماع ، وإنّما تكون لرأي المعصوم أو الدليل الشرعيِّ.
    الدكتور : إنكار حجّيّة الإجماع أمر غريب ، فقد تعارف على حجّيّته قديماً وحديثاً ، وبنيت على أساسه كثير من الأبواب الفقهيّة ، بل حتى أن الشيعة


(583)
يستدلّون بالإجماع في مسائل فقهيَّة ، فلماذا هذا التناقض ؟!
    الشيخ معتصم : أولا : إن بحثنا عن حجّيّة الإجماع كان في إطار الحجج القطعيّة الذاتيّة التي تولِّد حكماً واقعيّاً ، فعدم حجّيّة الإجماع بهذا المنظور من البديهيّات ; لأنه ليس كاشفاً عن الواقع (1) ، إلى أن قال : هذا بالإضافة إلى أن معظم المسائل التي استشهد الفقهاء فيها بالإجماع إنما بقصد تعضيد الفتوى ، لا من باب توليدها.
    وعندما وصلنا إلى هذه النقطة اعتذر الدكتور لضيق وقته.
1 ـ فالإجماع بما هو إجماع ليس بحجة ، وإنما يكون حجة إذا كان كاشفا عن رأي المعصوم ( عليه السلام ) فَبالنتيجة تكون الحجية لقول المعصوم ( عليه السلام ) ، وهذا أمر واضح لأنه قام عليه الدليل القطعي.

(584)
     المناظرة السابعة والثمانون
مناظرة
الشيخ معتصم السوداني مع بعض السلفيين في
وجوب اتّباع أهل البيت ( عليهم السلام ) والأدلّة على إمامة أميرالمؤمنين ( عليه السلام )
    قال الشيخ معتصم السوداني تحت عنوان ( الوهّابيّة في أركان النقاش ) : دارت في الساحة الفكريّة في مدينة عطبره أحداث ساخنة ، بعد أن سيطر الطرح الشيعيُّ على مستوى المناظرات وأركان النقاش ، خاصة بين طلبة جامعة وادي النيل ، فكان حديث الساعة : الشيعة والتشيُّع حتى في الأماكن العامة ، هذا ممَّا أشعل نار الحقد الوهّابيّ ، فكثّفوا هجومهم على الشيعة في كل منابرهم ، وعندما علموا أن مصدر التشيّع في المدينة هو جامعة وادي النيل ، عملوا على حجز دار الطلاب ، وهي دار كبيرة تقام فيها نشاطات الطلاب الثقافيّة والسياسيّة ، لمدّة يومين وهما : الخميس والجمعة ، وكان برنامجهم يشتمل على معرض كتاب وملصقات وعرض فيديو ، كلُّها تعرِّض بالشيعة ، بالإضافة إلى محاضرة في اليوم الأول بعنوان : « وجاء دور المجوس » وكان المحاضر مستعاراً من مدينة أخرى وهي ( مدني ) جنوب الخرطوم ، وفي اليوم التالي كان ركن النقاش بعنوان : ( هذا أو الطوفان ) ويختلف ركن النقاش عن المحاضرة بأنّه يغلب عليه طابع النقاش


(585)
والجدال والحدّيّة أكثر من المحاضرة.
    وكان قصدهم من هذا الجهد هو تشديد الضربة على الشيعة ، حتى ينتهي وجودهم في المدينة ، أو على الأقل يحدثوا قطيعة بين الشيعة والمجتمع ، ولذلك عندما فشلوا في الردّ على الشيعة رفعوا شعارات الولاء والبراءة ، وأمروا الناس بمقاطعة الشيعة في كل أمور الحياة.
    وعندما اكتشفنا نواياهم قرّرنا أن يكون ردّنا عليهم وعلى افتراءاتهم قويّاً ومحكماً ، وأن يكون أكثر علميّة ، ولا ننصاع لتهكُّماتهم ومهاتراتهم ، وخاصة أن الجوَّ الذي سوف يكون فيه الحوار هو جوٌّ مثقَّف وواعي بأهمّيّة البرهان والدليل.
    وعندما جاء يوم الخميس زرنا الدار في الساعة الخامسة مساءً حتى نقف على آخر التطوُّرات ، فوجدنا أن الدار كلَّها معدّة لذلك ، فقد حشدوا فيها المعارض والملصقات ومكبّرات الصوت وكراسي ، ولحى طويلة تملأ الدار ، وقد كان الجوُّ مهيباً ، وهم ينظرون إلينا ويتهامزون ويتغازون ، ولكنّا كسرنا حاجز الهيبة ، وتجوّلنا في أجنحته ، نتصفّح عناوين الكتب ، ونقرأ شعاراتهم التي كتبت بخط عريض في كفر الشيعة وبعدهم عن الدين ، فهي تحكم في الواقع على جهالة الوهابيّة ، وبعدهم عن الإسلام الصحيح ، فكان الأصدقاء يضحكون على هذه العقول السخيفة التي سطَّرت هذه الكلمات ، وعندما حان وقت المغرب ذهبنا لنصلّي جماعة ، ثمَّ نأخذ احتياطاتنا اللازمة في تأمين أنفسنا من اعتداءاتهم ، وتوزيع برامج النقاش بيننا ، وكيفيَّة الانتشار ، واتّخاذ المناطق المهمّة في الجلوس وغيرها ، وبالفعل تمَّ ذلك ، واتخذت أنا أول مقعد في مقابل المتحدِّث الوهابي مباشرةً.
    وبعد تلاوة آيات من القرآن الحكيم وتقديم المتحدِّث ، شرع المحاضر في
مناظرات في الامامة الجزء الرابع ::: فهرس