كتاب مُسَكِنُ الفُؤادِ ::: 61 ـ 70
(61)
    ومات لعبد الله بن عامر المازني رضي الله عنه ، في الطاعون الجارف ، سبعة بنين في يوم واحد ، فقال : إني مسلم مسلم.
    وعن عبد الرحمن بن عثمان قال : دخلنا على معاذ وهو قاعد عند رأس ابن له ، وهو يجود بنفسه ، فما ملكنا أنفسنا أن ذرفت أعيننا ، وأنتحب بعضنا ، فزجره معاذ ، وقال : مه ، فو الله ليعلم الله برضاي ، لهذا أحب إلي من كل غزوة غزوتها مع رسول الله صلى الله عليه وآله ، فإني سمعته يقول : « من كان له أبن وكان عليه عزيزاً ، وبه ضنيناً ، ومات فصبر على مصيبته واحتسبه ، أبدل الله الميت داراً خيراً من داره ، وقراراً خيراً من قراره ، وأبدل المصاب الصلاة والرحمة والمغفرة والرضوان ».
    فما برحنا حتى قضى ـ والله ـ الغلام حين أخذ المنادي لصلاة الظهر ، فرحنا نريد الصلاة ، فما جئنا إلا وقد غسله وحنطه وكفنه.
    وجاء رجل بسريره غير منتظر لشهود الاخوان ، ولا لجمع الجيران ، فلما بلغنا ذلك تلاحقنا ، وقلنا : يغفر الله لك يا أبا عبد الرحمن ، هلا انتظرتنا حتى نفرغ من صلاتنا ، ونشهد ابن أخينا.
    فقال : أمرنا أن لا ننتظر موتانا ساعة ماتوا بليل أو نهار ، قال : فنزل في القبر ، ونزل معه آخر ، فلما أراد الخروج ناولته يدي لأنتهضه (1) من القبر ، فأبى وقال : ما أدع ذلك لفضل قوتي ، ولكن أكره أن يرى الجاهل أن ذلك مني جزع ، أو استرخاء عند المصيبة ، ثم أتى مجلسه ، ودعا بدهن فأدهن وبكحل فاكتحل ، وببردة فلبسها ، وأكثر في يومه ذلك من التبسم ، ينوي به ما ينوي ، ثم قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، في الله خلف عن كل هالك ، وعزاء من كل مصيبة ، ودرك لكل ما فات.
    وروي : إن قوماً كانوا عند علي بن الحسين عليهما السلام ، فاستعجل خادماً بشواء في التنور ، فأقبل به مسرعاً ، فسقط السفود (2) من يده على ولد علي بن الحسين عليه السلام ، فأصاب رأسه فقتله ، فوثب علي بن الحسين عليهما السلام ، فلما رأى ابنه ميتاً ، قال للغلام : « أنت حر لوجه الله تعالى ، أما إنك لم تتعمده » ثم أخذ في جهاز أبنه (3).
1 ـ في « ش » : لأنشطه.
2 ـ السفود : بفتح السين وضمها ، حديدة ذات شعب معقفة يشوى بها اللحم. « لسان العرب ـ سفد ـ 3 : 218 ».
3 ـ كشف الغمة 2 : 81 باختلاف يسير ، والبحار 82 : 142.


(62)
    وعن الأخنف بن قيس قال : تعلموا الحلم والصبر ، فاني تعلمته ، فقيل له : ممن ؟ قال : من قيس بن عاصم ، قيل : وما بلغ من حلمه ؟ قال : كنا قعوداً عنده ، إذ أُتي بابنه مقتولاً ، وبقاتله مكبولاً ، فما حل حبوته (1) ، ولا قطع حديثه حتى فرغ.
    ثم التفت إلى قاتل ابنه فقال : يا أبن أخي ، ما حملك على ما فعلت ؟ قال : غضبت ، قال : أوكلما غضبت أهنت نفسك ، وعصيت ربك ، وأقللت عددك ؟ إذهب فقد اعتقتك.
    ثم التفت إلى بنيه فقال : يا بني ، اعمدوا (2) إلى إخيكم فغسلوه وكفنوه ، فإذا فرغتم منه فأتوني به لأصلي عليه ، فلما دفنوه قال لهم : إن امه ليست منكم ، وهي من قوم آخرين ، فلا أراها ترضى بما صنعتم ، فأعطوها ديته من مالي (3).
    وروى الصدوق في ( الفقيه ) : انه لما مات ذر بن أبي ذر ـ رحمه الله ـ وقف [ أبو ذر ] (4) على قبره فمسح القبر بيده ، ثم قال : رحمك الله يا ذر ، والله انك كنت بي لبراً ، ولقد قبضت وإني عنك لراض ، والله ما بي فقدك وما علي من عضاضة ، ومالي إلى أحد سوى الله من حاجة ، ولولا هول المطلع لسرني أن أكون مكانك ، ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك ، والله ما بكيت لك ، ولكن بكيت عليك ، فليت شعري ما قلت ، وما قيل لك ؟ اللهم إني قد وهبته ما افترضت عليه من حقي ، فهب له ما افترضت عليه من حقك ، فأنت أحق بالجود والكرم مني (5).
    واسند الدينوري أن ذر بن عمر بن ذر لما مات وقف أبوه على قبره ، وقال : رحمك الله يا ذر ، ما علينا بعدك من خصاصة ، وما بنا إلى أحد مع الله حاجة ، وما يسرني أني كنت المقدم قبلك ، ولولا هول المطلع لتمنيت أن أكون مكانك ، وقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك ، فليت شعري ماذا قلت ، وماذا قيل لك ، ثم رفع رأسه إلى السماء فقال : اللهم إني قد وهبتك له حقي فيما بيني وبينه ، فاغفر له من الذنوب ما بينك وبينه ، فأنت أجود الأجودين وأكرم الاكرمين ، ثم انصرف وقال : فارقناك ، ولو أقمنا
1 ـ الحبوة من الاحتباء : وهو أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره ، ويشد عليها. وقد يكون الاحتباء باليدين عوض الثوب. « النهاية 1 : 335 ».
2 ـ في هامش « ح » : اقصدوا.
3 ـ أخرج نحوه ابن عبد ربه في العقد الفريد 2 : 136.
4 ـ أثبتناه من الفقيه.
5 ـ الفقيه 1 : 117 / 558 ، الكافي 3 : 250 / 4 ، والبحار 82 : 142.


(63)
ما نفعناك (1).
    وروى المبرد قال : لما هلك ذر بن عمر وقف عليه أبوه وهو مسجى ، وقال : يا بني ، ما علينا من موتك غضاضة ، وما بنا إلى ما سوى الله من حاجة ، فلما دفن قام على قبره ، وقال : يا ذر ، غفر الله لك ، قد شغلنا الحزن لك عن الحزن عليك ، لأنا لا ندري ما قلت ، ولا ما قيل لك. اللهم إني قد وهبت له ما قصر فيه مما افترضت عليه من حقي ، فهب له ما قصر من فيه حقك ، واجعل ثوابي عليه له ، وزدني من فضلك ، إني إليك من الراغبين. فسئل عنه ، فقيل : كيف كان معك ؟ فقال : ما مشيت معه بليل قط إلا كان أمامي ، ولا بنهار قط إلا كان خلفي ، وما علا سطحاً قط وأنا تحته (2).
    وقدم على بعض الخلفاء قوم من بني عبس ، فيهم رجل ضرير ، فسأله عن عينيه ، فقال : بت ليلة في بطن واد ، ولم أعلم عبسياً يزيد ماله على مالي ، فطرقنا سيل ، فذهب بما كان لي من أهل ومال وولد ، غير بعير وصبي مولود ، وكان ( بعيراً صعباً فنفر ) (3) ، فوضعت الصبي واتبعت البعير ، فلم أجاوز إلا قليلاً حتى سمعت صيحة ابني ، فرجعت إليه ورأس الذئب في بطنه وهو يأكله ، ولحقت البعير لأحبسه فبعجني (4) برجله على وجهي فحطمه ، وذهب بعيني فأصبحت لا مال لي ، ولا أهل ، ولا ولد ، ولا بصر.
    روي : أن عياض بن عقبة الفهري مات له ابن ، فلما نزل في قبره قال له رجل : والله انه كان لسيد الجيش فاحتسبه ، فقال : وما يمنعني ، وقد كان بالأمس زينة الحياة الدنيا ، وهو اليوم من الباقيات الصالحات ! ؟
    وقال : أبو علي الرازي صحبت الفضيل بن عياض ثلاثين سنة ، ما رأيته ضاحكاً ولا مبتسماً قط إلا يوم مات ابنه علي ، فقلت له في ذلك ، فقال : إن الله سبحانه وتعالى أحب أمراً ، فأحببت ما أحب الله عزوجل.
    واصيب عمرو بن (5) كعب الهندي بتستر (6) ، فكتموا أباه الخبر ، ثم بلغه فلم يجزع ، وقال : الحمد لله الذي جعل من صلبي من اصيب شهيداً. ثم استشهد له ابن آخر
1 ـ عيون الأخبار 2 : 313.
2 ـ أخرج قطعة منه المبرد في الكامل 1 : 140.
3 ـ في « ش » : البعير صعباً فند.
4 ـ البعج : الشق « لسان العرب 2 : 214 ».
5 ـ في « ح » : عمرو.
6 ـ تستر : من مدن خوزستان ، وهو تعريب شوشتر. اُنظر « معجم البلدان 2 : 29 ».


(64)
بجرجان (1) ، فلما بلغه الخبر قال : الحمد لله الذي توفى مني شهيداً آخر.
    وروى البيهقي : أن عبد الله بن مطرف مات ، فخرج أبوه مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادهن ، فغضبوا وقالوا : يموت عبد الله وتخرج في ثياب حسنة مدهناً ؟ ! قال : أفأستكين لها ، وقد وعدني ربي تبارك وتعالى عليها ثلاث خصال ، هي أحب إلي من الدنيا وما فيها ، قال الله تعالى : ( الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون ) (2).
    ودعا رجل من قريش إخواناً له ، فجمعهم على طعام ، فضربت ابناً له دابة لبعضهم فمات ، فأخفى ذلك عن القوم ، وقال لأهله : لا أعلمن صاحت منكم صائحة ، أو بكت منكم باكية ، وأقبل على إخوانه حتى فرغوا من طعامه ، ثم أخذ في جهاز الصبي ، فلم يفجأهم إلا بسريره ، فارتاعوا وسألوه عن أمره فأخبرهم ، فعجبوا من صبره وكرمه.
    وذكر : أن رجلا من اليمامة دفن ثلاثة رجال من ولده ، ثم احتبى في نادي قومه يتحدث كأن لم يفقد أحداً ، فقيل له في ذلك ، فقال : ليسوا في الموت ببديع ، ولا أنا في المصيبة بأوحد ، ولا جدوى للجزع ن فعلام تلومونني ؟
    وأسند أبو العباس عن مسروق عن الأوزاعي ، قال : حدثنا بعض الحكماء ، قال : خرجت وأنا اُريد الرباط (3) ، حتى إذا كنت بعريش (4) مصر إذا أنا بمظلة ، وفيها رجل قد ذهبت عيناه ، واسترسلت يداه ورجلاه ، وهو يقول : لك الحمد سيدي ومولاي ، اللهم إني أحمدك حمداً يوافي محامد خلقك ، كفضلك على سائر خلقك ، إذ فضلتني على كثير ممن خلقت تفضيلاً.
    فقلت : والله لأسألنه ، أعلمه أو أُلهمه إلهاماً ؟ فدنوت منه ، وسلمت عليه ، فردّ فرد علي السلام ، فقلت له : رحمك الله ، إني أسألك عن شيء ، أتخبرني به أم لا ؟ فقال : إن كان عندي منه علم أخبرتك به ، فقلت : رحمك الله ، على أي فضيلة من فضائله
1 ـ جرجان : مدينة مشهورة عظيمة بين طبرستان وخراسان ، فبعض يعدها من هذه ، وبعض يعدها من هذه « معجم البلدان 2 : 119 ».
2 ـ البقرة 2 : 156 و 157.
3 ـ الرباط : ملازمة ثغور البلاد واستعداد للعدو. « القاموس المحيط ـ ربط ـ 2 : 360 ».
4 ـ العريش : مدينة بمصر على ساحل البحر الابيض المتوسط ، في حدود مصر على الشام « معجم البلدان 4 : 113 ».


(65)
تشكره ؟ فقال : أوليس ترى ما قد صنع بي ؟ قلت : بلى ، فقال : والله لو أن الله تبارك وتعالى صب علي ناراً تحرقني ، وأمر الجبال فدمرتني ، وأمر البحار فغرقتني ، وأمر الأرض فخسفت بي ، ما ازددت فيه ـ سبحانه ـ إلا حباً ، ولا ازددت له إلا شكراً ، وإن لي إليك حاجة ، أفتقضيها لي ؟ قلت : نعم ، قل ما تشاء ، فقال : بني لي كان يتعاهدني أوقات صلاتي ، ويطعمني عند إفطاري ، وقد فقدته منذ أمس ، فانظر هل تجده لي ؟
    قال : فقلت في نفسي : إن في قضاء حاجته لقربة إلى الله عزوجل ، فقمت وخرجت في طلبه ، حتى اذا صرت بين كثبان الرمال ، إذا أنا بسبع قد افترس الغلام فأكله (1) ، فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، كيف آتي هذا العبد الصالح بخبر ابنه ؟
    قال : فأتيته ، وسلمت عليه ، فرد علي السلام فقلت : رحمك الله ، إن سألتك عن شيء تخبرني ؟ فقال : إن كان عندي منه علم أخبرتك به ، قال ، فقلت : أنت أكرم على الله عزوجل وأقرب منزلة ، أو نبي الله أيوب عليه السلام ؟ فقال : بل ( نبي الله ) (2) أكرم على الله تعالى مني ، وأعظم عند الله تعالى منزلة مني ، قال : فقلت له : إنه ابتلاه الله تعالى فصبر ، حتى استوحش منه من كان يأنس به ، وكان عرضاً لمُرار الطريق (3) ، واعلم أن ابنك الذي أخبرتني به ، وسألتني أن اطلبه لك افترسه السبع ، فأعظم الله أجرك فيه.
    فقال : الحمد لله الذي لم يجعل في قلبي حسرة من الدنيا ، ثم شهق شهقة وسقط على وجهه ، فجلست ساعة ثم حركته فإذا هو ميت ، فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، كيف أعمل في أمره ؟ ومن يعينني على تغسيله وكفنه وحفر قبره ودفنه ؟
    فبينما أنا كذلك إذ أنا بركب (4) يريدون الرباط ، فأشرت إليهم فأقبلوا نحوي حتى وقفوا علي ، وقالوا : من أنت ؟ ومن هذا ؟ فأخبرتهم بقصتي ، فعقلوا رواحلهم ، وأعانوني حتى غسلناه بماء البحر ، وكفناه بأثواب كانت معهم ، وتقدمت فصليت عليه مع الجماعة ، ودفناه في مظلته.
1 ـ في « ش » : يأكله.
2 ـ في نسخة « ش » : أيوب.
3 ـ عرضاً لمرار الطريق : لعل المراد منه انه كان معروضاً على الطريق يمر به الناس ، لا بيت له يكنه اُنظر « الصحاح ـ عرض ـ 3 : 1082 ».
4 ـ في « ح » : بقفل ، والقفل : الجند إذا رجعوا من معسكرهم ، اُنظر « الصحاح ـ قفل ـ 5 : 1803 ».


(66)
    وجلست عند قبره آنساً به أقرأ القرآن إلى أن مضى من الليل ساعة (1) ، فغفوت غفوة فرأيت صاحبي في أحسن صورة وأجمل زي ، في روضة خضراء عليه ثياب خضر قائماً يتلو القرآن ، فقلت له : ألست بصاحبي ؟ قال : بلى ، قلت : فما الذي صيرك إلى ما أرى ؟ فقال : إعلم أني وردت مع الصابرين على الله عزوجل في درجة لم ينالوها إلا بالصبر على البلاء ، والشكر عند الرخاء ، فانتبهت (2).
    وحكى الشعبيّ قال : رأيت رجلاً وقد دفن ابنه ، فلمّا حثا عليه التراب وقف على قبره ، وقال : يابنيّ ، كنت هبة ماجد ، وعطية واحد (3) ، ووديعة مقتدر ، وعارية منتصر ، فاسترجعك واهبك ، وقبضك مالكك ، وأخذك معطيك ، فأخلفني الله عليك الصبر ، ولا حرمني الله بك الأجر ، ثم قال : أنت في حلّ من قبلي ، والله أولى عليك بالتفضّل مني.
    ولما مات عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز ، وأخوه سهل بن عبد العزيز ، ومولاه مزاحم ـ في أيام متتابعة ـ دخل عليه بعض أصحابه يعزيه ، وقال في جملة كلامه : والله ما رأيت مثل ابنك ابناً ، ولا مثل أخيك أخاً ، ولا مثل مولاك مولى ، فطأطأ رأسه ، ثم قال : أعد علي ما قلت ، فأعاده عليه ، فقال : لا والذي قضى عليهم ، ما أحب أن شيئا كان من ذلك لم يكن.
    وقيل : بينما عمر بن عبد العزيز ذات يوم جالس إذ اتاه ابنه عبد الملك ، فقال : الله الله في مظالم بني أبيك فلان وفلان ، فوالله لوددت أن القدور قد غلت بي وبك فيما يرضي الله ، وانطلق فأتبعه أبوه بصره ، وقال : إني لأعرف خير أحواله ، قالوا : وما خير أحواله ؟ قال : أن يموت فأحتسبه.
    ولما دخل عليه أبوه في مرضه فقال له : كيف تجدك ؟ قال : اجدني في الموت ، فاحتسبني يا أبه ، فإن ثواب الله عزوجل خير لك مني ، فقال : والله يا بني ، لئن تكون في ميزاني أحب إلي من أن أكون في ميزانك ، فقال ابنه : لئن يكون ما تحب أحب إلي من أن يكون ما أحب.
    فلما مات وقف على قبره ، وقال : رحمك الله يا بني ، لقد كنت ساراً مولوداً ، وباراً ناشئاً ، وما اُحب أني دعوتك فأجبتني.
1 ـ في نسخة « ش » : ساعات.
2 ـ أخرجه المجلسي في البحار 82 : 149.
3 ـ كذا ، والمناسب للسياق ، واجد ، بالجيم ، والواجد : الغني ، « الصحاح ـ وجد ـ 2 : 547 ».


(67)
    ومات له ابن آخر قبل عبد الملك ، فجاء فقعد عند رأسه ، وكشف الثوب عن وجهه ، وجعل ينظر إليه ويسدمع ، فجاء ابنه عبد الملك ، فقال : يا أبه ليشغلك ما أقبل من الموت عمن هو في شغل عما حل لديك ، فكأن قد لحقت بابنك وساويته تحت التراب بوجهك ، فبكى عمر ، ثم قال : رحمك الله يا بني ، فوالله إنك لعظيم البركة ما علمتك ، على أنك نافع الموعظة لمن وعضت.


(68)
فصل
    في ذكر جماعة من النساء نقل العلماء صبرهن     روي عن أنس بن مالك ، قال : كان ابن لأبي طلحة رضي الله عنه يشتكي ، فخرج أبو طلحة فقبض الصبي ، فلما رجع أبو طلحة قال : ما فعل ابني ؟ فقالت اُم سليم ، وهي اُم الصبي رضي الله عنها : هو أسكن ما كان ، فقربت له العشاء فتعشى ، ثم اصاب منها ، فلما فرغ قالت : فارق الصبي ، فلما اصبح أبو طلحة أتى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره ، فقال : « أعرستم الليلة ؟ » فقال : نعم ، فقال : « اللهم بارك لهما » فولدت غلاماً.
    قالت : فقلت لأبي طلحة : احمله حتى تأتي رسول الله صلى الله عليه وآله ، وبعثت معه بتمرات ، فقال : « أمعه شيء ؟ » قال : تمرات ، فأخذها النبي صلى الله عليه وآله فمضغها ، ثم أخذها صلى الله عليه وآله من فيه فجعلها في في الصبي ، ثم حنكه ، وسماه عبد الله (1).
    قال رجل من الأنصار : فرأيت تسعة أولاد كلهم قد قرؤا القرآن ، يعني من أولاد عبد الله المولود (2).
    وفي رواية أخرى : مات ابن لأبي طلحة من أم سليم ، فقالت لأهلها : لا تحدثوا أبا طلحة بابنه حتى أكون أنا أحدثه ، قال : فجاء ، فقربت إليه عشاء ، فأكل وشرب ، ثم تصنعت له أكثر مما كانت تتصنع له من قبل ذلك ، فلما رأت أنه قد شبع وأصاب منها ، قال : يا أبا طلحة ، أرأيت قوماً أعاروا عارية أهل بيت فطلبوا عاريتهم ؟ ألهم أن يمنعوهم ؟ قال : لا ، قالت : فاحتسب ابنك ، قال : فغضب ، ثم قال : تركتني حتى إذا تلطخت ثم أخبرتني بابني (3).
    وفي حديث آخر : لما كان آخر الليل قالت : يا أبا طلحة ، إن آل فلان استعاروا عارية تمتعوا بها ، فلما طلبت منهم شق عليهم ذلك ، قال : ما أنصفوا ، قالت : :
1 ـ رواه البخاري في صحيحه 7 : 109 ، ومسلم في صحيحه 3 : 1689 باختلاف يسير ورواه باختلاف في ألفاظه محمد بن علي العلوي في التعازي : 25 / 52.
2 ـ صحيح البخاري 2 : 104.
3 ـ صحيح مسلم 4 : 1909.


(69)
فإن فلاناً ـ لابنها ـ كان عارية من الله عزوجل ، وقبضه الله ، فاسترجع ، ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فأخبره بما كان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : « بارك الله لكما في ليلتكما ».
    قال : فحملت وذكر الحديث ، وفيه ، فولدت غلاماً ، فمسح رسول الله صلى الله عليه وآله وجهه ، وسماه عبد الله.
    والحديث في ( عيون المجالس ) بزيادة غريبة في آخره ، ولفظه :
    عن معاوية بن قرة ، قال : كان أبو طلحة يحب ابنه حباً شديداً ، فمرض فخافت اُم سليم على أبي طلحة الجزع حين قرب موت الولد ، فبعثته إلى النبي الله صلى الله عليه وآله ، فلما خرج أبو طلحة من داره توفي الولد ، فسجته اُم سليم بثوب ، وعزلته في ناحية من البيت ، ثم تقدمت إلى أهل بيتها ، وقالت لهم : لا تخبروا أبا طلحة بشيء.
    ثم أنها صنعت طعاماً ، ثم مست شيئاً من الطيب ، فجاء أبو طلحة من عند رسول الله صلى الله عليه وآله فقال : ما فعل ابني؟ فقالت له : هدأت نفسه ، ثمّ قال : هل لنا مانأكل؟ فقامت فقربت إليه الطعام ، ثمّ تعرضت له فوقع عليها ، فلمّا اطمأنّ قالت له : يا أبا طلحة اتغضب من وديعة كانت عندنا ، فرددناها إلى أهلها؟ فقال : سبحان الله ، لا ، فقالت : ابنك كان عندنا وديعة فقبضه الله تعالى ، فقال أبو طلحة : فأنا أحق بالصبر منك.
    ثم قام من مكانه ، فاغتسل ، وصلّي ركعتين ، ثم انطلق إلى النبي صلّى الله عليه وآله ، فأخبره بصنيعهما ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله : « فبارك الله لكما في وقعتكما ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله : الحمد لله الذي جعل في اُمتي مثل صابرة بني أسرائيل » فقيل : يا رسول الله ، ما كان من خبرها ؟
    قال : « كانت في بني إسرائيل امرأة ، وكان لها زوج ، ولها منه غلامان ، فأمرها بطعام ليدعو عليه الناس ففعلت ، واجتمع الناس في داره ، فانطلق الغلامان يلعبان ، فوقعا في بئر كان في الدار ، فكرهت أن تنغص على زوجها الضيافة ، فأدخلتهما البيت ، وسجتهما بثوب ، فلما فرغوا دخل زوجها ، فقال : أين ابناي ؟ قالت : هما في البيت ، وإنها كانت قد تمسحت بشيء من الطيب ، وتعرضت للرجل حتى وقع عليها ، ثم قال : أين ابناي ؟ قالت : هما في البيت ، فناداهما أبوهما ، فخرجا يسعيان ، فقالت المرأة :


(70)
سبحان الله ! والله لقد كانا ميتين ، ولكن الله تعالى أحياهما ثواباً لصبري » (1).
    وقريب من هذا ما رويناه في ( دلائل النبوة ) عن أنس بن مالك ، قال : دخلنا على رجل من الأنصار وهو مريض ، فلم نبرح حتى قضى ، فبسطنا عليه ثوباً ، واُم له عجوز كبيرة عند رأسه ، فقلنا لها : يا هذه ، احتسبي مصيبتك على الله عزوجل ، فقالت : مات ابني ؟ قلنا نعم ، قالت : حقاً تقولون ؟ قلنا : نعم ، قال فمدت يدها ، وقالت : اللهم إنك تعلم أني أسلمت لك ، وهاجرت إلى رسولك صلى الله عليه وآله وسلم رجاء ان تعينني عند كل شدة ورخاء ، فلا تحمل علي هذه المصيبة اليوم ، فكشف الثوب عن وجهه بيده ، ثمّ مابرحنا حتى طعمنا معه (2).
    وهذا الدعاء من المرأة رحمها الله إدلال على الله ، واستئناس به يقع منه للمحبين كثيراً ، فيقبل دعاءهم ، وإن كان في التذكير بنحو ذلك ما يظهر منه قلة الادب. لو وقع من غيرهم ، ولذلك بحث طويل وشواهد من الكتاب والسنة ، يخرج ذكره عن مناسبة المقام.
    ومن لطيف ما اتفق فيه مناجاة برخ الاسود الذي أمر الله تعالى كليمه موسى عليه السلام أن يسأله ليستسقي لبني اسرائيل بعد ان قحطوا سبع سنين ، وخرج موسى ليستسقي لهم في سبعين الفا ، فأوحى الله إليه : « كيف استجيب لهم وقد أظلت عليهم ذنوبهم ، وسرائرهم خبيثة ، يدعونني على غير يقين ، ويأمنون مكري ! إرجع إلى عبد من عبادي ، يقال له : برخ ، يخرج حتى استجيب له ».
    فسأل عنه موسى عليه السلام فلم يعرف ، فبينا موسى عليه السلام ذات يوم يمشي في طريق ، فإذا بعبد أسود بين عينيه تراب من أثر السجود ، في شملة قد عقدها على عنقه ، فعرفه موسى بنور الله تعالى فسلم عليه ، فقال : ما اسمك ؟ قال : إسمي برخ ، فقال : أنت طلبتنا منذ حين ، اخرج استسق لنا ، فخرج ، فقال في كلامه : اللهم ما هذا من فعالك ، وما هذا من حلمك ، وما الذي بدالك ! أنقصت عليك عيونك ، أم عاندت الرياح عن طاعتك ، أم نفد ما عندك ! أم اشتد غضبك على المذنبين ، الست كنت غفاراً قبل خلق الخاطئين ؟ ! خلقت الرحمة ، وأمرت بالعطف ، أم ترينا أنك ممتنع ، أم
1 ـ أخرجه المجلسي في بحار الانوار 82 : 150.
2 ـ دلائل النبوة 6 : 50 باختلاف في ألفاظه ، وأخرجه المجلسي في البحار 82 : 151.
مُسَكِنُ الفُؤادِ ::: فهرس