كتاب مُسَكِنُ الفُؤادِ ::: 71 ـ 80
(71)
تخشى الفوت فتعجل بالعقوبة ؟ ! فما برح برخ حتى ( أفاضت وخاضت ) (1) بنو إسرائيل بالقطر.
    قال : فلما رجع برخ استقبل موسى عليه السلام ، فقال : كيف رأيت حين خاصمت ربي ، كيف انصفني ؟ (2)
    رجعنا إلى أخبار الصابرات :
    وروي : أن أسماء بنت عميس رضي الله عنها لما جاء خبر ولدها ـ محمد بن أبي بكر ـ أنه قتل وأحرق بالنار في جيفة حمار ، قامت إلى مسجدها ، فجلست فيه ، وكظمت الغيظ حتى تشخب ثديها دماً (3).
    وروي عن حمنة (4) بنت جحش رضي الله عنها : أنها قيل لها : قتل أخوك ، قالت : رحمه الله ، وإنا لله وإنا إليه راجعون ، قالوا : وقتل زوجك ، قالت : واحزناه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : « أن للزوج من المرأة لشعبة ماهي لشيء » (5).
    وروي : ان صفية بنت عبد المطلب أقبلت لتنظر إلى أخيها لأبويها ـ حمزة بن عبد المطلب ـ باُحد ، وقد مثل به ، فقال النبي صلى الله عليه وآله لابنها الزبير : « القها فأرجعها لا ترى ما بأخيها » فقال لها : يا أماه ، إن رسول الله صلى الله عليه وآله يأمرك ان ترجعي ، قالت : ولم ، وقد بلغني أنه قد مثل بأخي ؟ وذلك في الله عزوجل ، فما أرضانا بما كان من ذلك ! فلأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله.
    فلما جاء الزبير إلى النبي صلى الله عليه وآله فأخبره بقولها ، فقال له : « خل سبيلها » فأتته ، ونظرت إليه ، وصلت عليه ، واسترجعت ، واستغفرت له (6).
    وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : لما قتل حمزة رضي الله عنه يوم اُحد ، أقبلت صفية تطلبه ، لا تدري ما صنع به ، قال : فلقيت علياً والزبير ، فقال علي عليه السلام للزبير : « أذكر لاُمك » فقال الزبير : لا ، بل اذكر انت لعمتك ، قالت : ما فعل حمزة ؟ فأرياها أنهما لا يدريان ، قال : فجاءت النبي صلى الله عليه وآله فقال : « إني أخاف
1 ـ في « د » : اخضلت.
2 ـ أخرجه الفيض الكاشاني في المحجة البيضاء 8 : 81.
3 ـ روى القصة مفصلة الدميري في حياة الحيوان الكبرى 1 : 247.
4 ـ في « ح » : جهينة ، والصواب ما أثبتناه من « د » ، راجع « اُسد الغابة 5 : 428 ».
5 ـ سنن ابن ماجة 1 : 507 ، المستدرك على الصحيحين 4 : 62.
6 ـ السيرة النبوية لابن هشام 3 : 103.


(72)
على عقلها » قال : فوضع يده على صدرها ، ودعا لها ، فاسترجعت ، وبكت ، قال : ثم جاء صلى الله عليه وآله فقام عليه ، وقد مثل به ، فقال : « لولا جزع النساء لتركته حتى يحشر من حواصل الطيور وبطون السباع » (1).
    واستشهد شاب من الأنصار يقال له : خلاد يوم بني قريظة ، فجاءت أمه متنقبة فقيل لها : تتنقبين يا اُم خلاد وقد رزئت بخلاد ! فقالت : لئن كنت رزئت خلاداً ، فلم ارزأ حيائي (2) ، فدعا له النبي صلى الله عليه وآله ، وقال : « إن له أجرين ، لأن أهل الكتاب قتلوه » (3).
    وعن أنس بن مالك قال : لما كان يوم اُحد حاص أهل المدينة حيصة ، فقالوا : قتل محمد صلى الله عليه وآله ، حتى كثرت الصوارخ في نواحي المدينة ، فخرجت امراة من الأنصار متحزنة ، فاستقبلت بأبيها وأبنها وزوجها وأخيها ، لا أدري أيهم استقبلت أولاً ، فلما مرت على آخرهم قالت : من هذا ؟ قالوا : أخوك ، وأبوك ، وزوجك ، وابنك ، قالت : ما فعل النبي صلى الله عليه وآله ؟ قالوا : أمامك ، فمشت حتى جاءت إليه ، فأخذت بناحية ثوبه ، وجعلت تقول : بأبي أنت وامي يا رسول الله ، لا ابالي إذا سلمت من عطب.
    وروى البيهقي قال : مر رسول الله صلى الله عليه وآله بامرأة من بني دينار (4) ، وقد أصيب زوجها وأبوها وأخوها معه صلى الله عليه وآله باُحد ، فلما نعوا إليها ، قالت : ما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله ؟ قالوا : خيراً يا أم فلان ، وهو يحمد الله كما تحبين ، قالت : أرونيه حتى انظر إليه ، فأشير لها إليه ، حتى إذا رأته قالت : كل مصيبة بعدك جلل (5).
    وخرجت السمراء بنت قيس ـ أخت أبي حزام ـ ، وقد اصيب ابناها ، فعزاها النبي صلى الله عليه وآله بهما ، فقالت : كل مصيبة بعدك جلل (6) ، والله لهذا
1 ـ المستدرك على الصحيحين 3 : 197.
2 ـ في « د » و « ح » : حبابه ، وما أثبتناه من منتخب كنز العمال.
3 ـ منتخب كنز العمال 1 : 212 باختلاف في ألفاظه.
4 ـ في « د » : ذبيان ، وفي « ح » : دينارة ، وفي هامش « ح » : صباره ، والظاهر كلها تصحيف ، والصواب ما أثبتناه ، وبنو دينار : بطن من بني النجار من الخزرج من الأنصار. اُنظر « معجم قبائل العرب 1 : 401 ».
5 ـ السيرة النبوية لابن هشام 3 : 105 ، ورواه الواقدي في المغازي 1 : 292 باختلاف في ألفاظه.
6 ـ الجلل : الأمر العظيم والهين ، وهو من الاضداد ، والمراد هنا : كل مصيبة بعدك هينة. اُنظر « الصحاح


(73)
النقع (1) الذي أرى على وجهك أشد من مصابهما.
    وروي : أن صلة بن أشيم كان في مغزى له ، ومعه ابن له ، فقال لابنه : أي بني تقدم فقاتل حتى احتسبك ، فحمل فقاتل فقتل ، ثم تقدم أبوه فقاتل فقتل ، قال : فاجتمع النساء عند امه معاذة العدوية زوجة صلة ، فقالت لهن : مرحباً بكن إن كنتن ( جئتن لتهنئتي ) (2) ، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن.
    وروي : أن عجوزاً من بني بكر بن كلاب كان يتحدث قومها عن عقلها وسدادها ، فأخبر بعض من حضرها ، وقد مات ابن لها ، وكان واحدها ، وقد طالت علته ، وأحسنت تمريضه ، فلما مات قعدت بفنائها ، وحضرها قومها ، فأقبلت على شيخ منهم فقالت : يا فلان ، ما حق من أسبغت عليه النعمة ، وأُلبس العافية ، واعتدلت به النظرة ، أن لا يعجز عن التوثق لنفسه قبل حل عقدته والحلول بعقوته (3) ، ينزل الموت بداره ، فيحول بينه وبين نفسه ؟ ثم أنشأت تقول شعراً :
هو أبني وأنسي أجره لي وعزني فإن أحتسب أوجر وإن ابكه أكن على نفسه رب اليه ولاؤها كباكية لم يغن شيئاً بكاؤها
    فقال لها شيخ : إننا لم نزل نسمع أن الجزع إنما هو للنساء ، فلا يجزعن أحد بعدك ، ولقد كرم صبرك ، وما أشبهت النساء ، فقالت له : إنه ما ميز امرؤ بين الجزع وصبر ، إلا وجد بينهما منهجين بعيدي التفاوت في حالتيهما :
    أما الصبر : فحسن العلانية ، محمود العاقبة.
    وأما الجزع : فغير معرض شيئاً مع إثمه.
    ولو كانا في صورة رجلين ، لكان الصبر أولاهما بالغلبة ، وبحسن الصورة ، وكرم الطبيعة في عاجل الدين وآجله في الثواب ، وكفى بما وعد الله عزوجل لمن ألهمه إياه.
    وعن جويرية بن أسماء : أن ثلاثة أخوة شهدوا تستر ، واستشهدوا ، وبلغ ذلك أمهم ، فقالت : مقبلين أم مدبرين ؟ فقيل لها : بل مقبلين ، فقالت : الحمد لله ، نالوا والله الفوز ، وحاطوا الذمار ، بنفسي هم وأبي وامي ، وما تأوهت ، ولا دمعت لها عين.
ـ جلل ـ 4 : 1659 ».
1 ـ النقع : الغبار. « الصحاح ـ نقع ـ 3 : 1292 ».
2 ـ في « د » : جئتني لتهنئنني.
3 ـ في « ح » بعقوبته ، والصواب ما في المتن ، والعقوة : الساحة وما حول الدار. « الصحاح ـ عقا ـ 6 : 2433 ».


(74)
    وعن أبي قدامة الشامي قال : كنت أميراً على الجيش في بعض الغزوات ، فدخلت بعض البلدان ، ودعوت الناس للغزاة ، ورغبتهم في الجهاد ، وذكرت فضل الشهادة وما لأهلها ، ثم تفرق الناس وركبت فرسي ، وسرت إلى منزلي ، فإذا أنا بأمرأة من أحسن الناس وجهاً تنادي : يا أبا قدامة ، فمضيت ولم أجب ، فقالت : ما هكذا كان الصالحون ، فوقفت ، فجاءت ودفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة ، وانصرفت باكية ، فنظرت في الرقعة وإذا فيها مكتوب : أنت دعوتنا إلى الجهاد ، ورغبتنا في الثواب ، ولا قدرة لي على ذلك ، فقطعت أحسن ما في ، وهما ضفيرتاي ، وأنفذتهما (1) إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله ، فيغفر لي.
    فلما كان صبيحة القتال ، فإذا بغلام بين يدي الصفوف يقاتل حاسراً ، فتقدمت إليه وقلت : يا غلام ، أنت فتى غر (2) راجل ، ولا آمن أن تجول الخيل فتطؤك بأرجلها ، فارجع عن موضعك هذا ، فقال : أتأمرني بالرجوع ، وقد قال الله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا اذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الادبار ) (3) ؟ وقرأ الآية إلى آخرها.
    فحملته على هجين كان معي ، فقال : يا أبا قدامة ، أقرضني ثلاثة أسهم ، فقلت : أهذا وقت قرض ؟ فما زال يلح علي حتى قلت : بشرط إن من الله عليك بالشهادة أكون في شفاعتك ، قال : نعم ، فأعطيته ثلاثة أسهم ، فوضع سهماً في قوسه ورمى به ، فقتل رومياً ، ثم رمى بالآخر فقتل رومياً ، ثم رمى بالآخر ، وقال : السلام عليك يا أبا قدامة سلام مودع ، فجاءه سهم فوقع بين عينيه ، فوضع رأسه على قربوس سرجه ، فتقدمت إليه ، وقلت : لا تنسها ، فقال : نعم ، ولكن لي إليك حاجة ، إذا دخلت المدينة فأت والدتي ، وسلم خرجي (4) إليها وأخبرها ، فهي التي أعطتك شعرها لتقيد به فرسك ، فسلم عليها ، فهي العام الأول أصيبت بوالدي ، وفي هذا العام بي ، ثم مات ، فحفرت له ، ودفنته.
    فلما هممت بالإنصراف عن قبره قذفته الارض ، فألقته على ظهرها ، فقال أصحابه : غلام غر ، ولعله خرج بغير إذن امه ، فقلت : إن الإرض لتقبل من هو شر من
1 ـ في « ح » : وأرسلتها.
2 ـ في الحديث : « المؤمن غر كريم » يريد أن المؤمن المحمود من طبعه الغرارة ، وقلة الفطنة للشر وترك البحث عنه ، وليس ذلك منه جهلاً ، ولكنه كرم وحسن خلق « النهاية ـ غرر ـ 3 : 354 ».
3 ـ الأنفال 8 : 15.
4 ـ الخرج : وعاء « الصحاح ـ خرج ـ 1 : 309 ».


(75)
هذا ، فقمت وصليت ركعتين ، ودعوت الله ، فسمعت صوتاً يقول : يا أبا قدامة ، أترك ولي الله ، فما برحت حتى نزلت عليه طيور فأكلته.
    فلما أتيت المدينة ذهبت إلى دار والدته ، فما قرعت الباب خرجت أخته إلي ، فلما رأتني عادت إلى امها ، وقالت : يا أماه ، هذا أبو قدامة ، وليس معه أخي ، وقد أُصبنا في العام الاول بأبي ، وفي هذا العام بأخي ، فخرجت اُمه ، فقالت : أمعزيناً أم مهنئاً ؟ فقلت : ما معنى هذا ؟ قالت : إن كان ابني مات فعزني ، وإن كان استشهد فهنئني ، فقلت : لا ، بل قد مات شهيداً ، فقالت له علامة ، فهل رأيتها ؟ فقلت : نعم ، لم تقلبه الارض ، ونزلت الطيور ، فأكلت لحمه ، وتركت عظامه ، فدفنتها ، فقالت : الحمد لله.
    فسلمت إليها الخرج ، ففتحته وأخرجت منه مسحاً وغلاً من حديد ، قالت : إنه كان إذا جنه الليل لبس هذا المسح ، وغلّ نفسه بالغل وناجى مولاه ، وقال في مناجاته : إلهي احشرني من حواصل الطيور. فاستجاب الله سبحانه دعاءه رحمه الله.
    وروى البيهقي عن أبي عباس السراج ، قال : مات لبعضهم ابن ، فدخلت على اُمه ، فقلت لها : اتقي الله واصبري ، فقالت : مصيبتي به أعظم من أن أفسدها بالجزع.
    وقال ابان بن تغلب رحمه الله : دخلت على امرأة ، وقد نزل بابنها الموت ، فقامت إليه فغمضته وسجته ، ثم قالت : يا بني ، ما الجزع في ما لا يزول ؟ وإنما البكاء في ما ينزل بك غداً ؟ يا بني ، تذوق ما ذاق أبوك ، وستذوقه من بعدك امك ، وإن أعظم الراحة لهذا الجسد النوم ، والنوم أخو الموت ، فما عليك إن كنت نائماً على فراشك ، أو على غيره ، وإن غداً السؤال والجنة والنار ، فإن كنت من أهل الجنة فما ضرك الموت ، وإن كنت من أهل النار فما تنفعك الحياة ، ولو كنت أطول الناس عمراً ، والله يا بني لولا أن الموت أشرف الاشياء لابن آدم ، لما أمات الله نبيه صلى الله عليه وآله ، وأبقى عدوه أبليس لعنه الله (1).
    وعن المبرد قال : أتيت امرأة أعزيها عن ابنها ، فجعلت تثني عليه ، فقالت : كان ـ والله ـ ماله لغير بطنه ، وأمره لغير عرسه ، وكان رحب الذراع بالتي لا تشينه ، فإن كانت الفحشاء ضاق بها ذرعاً ، فقلت لها : وهل لك منه خلف ؟ ـ وأنا أعني الولد ـ ، فقالت : نعم بحمد الله كثير الطيب ، ثواب الله عزوجل ، ونعم العوض في الدنيا والآخرة.
1 ـ أخرجه المجلسي في البحار 82 : 152.

(76)
    وعنه : أنه خرج إلى اليمن ، فنزل على امرأة لها مال كثير ورقيق وولد وحال حسنة ، فاقام عندها مدة ، فلما أراد الرحيل قال : إلك حاجة ؟ قالت : نعم ، كلما نزلت هذه البلاد فانزل علي.
    وإنه غاب اعواما ، ثم نزل عليها ، فوجدها قد ذهب مالها ورقيقها ، ومات ولدها ، وباعت منزلها ، وهي مسرورة ضاحكة ، فقال لها : أتضحكين مع ما قد نزل بلك ؟ فقالت : يا عبد الله كنت في حال النعمة في أحزان كثيرة ، فعلمت أنها من قلة الشكر ، فأنا اليوم في هذه الحالة أضحك شكراً لله تعالى على ما أعطاني من الصبر.
    وعن مسلم بن يسار قال : قدمت البحرين فأضافتني امرأة لها بنون ورقيق ومال ويسار ، وكنت أراها محزونة ، فغبت عنها مدة طويلة ، ثم أتيتها فلم أر ببابها إنساً ، فاستأذنت عليها ، فإذا هي ضاحكة مسرورة ، فقلت لها : ما شأنك ؟ قالت : إنك لما غبت عنا لم نرسل شيئاً في البحر إلا غرق ، ولا شيئاً في البر إلا عطب ، وذهبت الرقيق ، ومات البنون ، فقلت لها : يرحمك الله ، رأيتك محزونة في ذلك اليوم ، ومسرورة في هذا اليوم ، فقالت : نعم ، إني لما كنت فيما كنت فيه من سعة الدنيا ، خشيت أن يكون الله تعالى قد عجل لي حسناتي في الدنيا ، فلما ذهب مالي وولدي ورقيقي رجوت أن يكون الله تعالى قد ذخر لي عنده شيئاً (1).
    وعن بعضهم قال : خرجت أنا وصديق لي إلى البادية ، فضللنا الطريق ، فإذا نحن بخيمة عن يمين الطريق فقصدنا نحوها فسلمنا ، فإذا بامرأة ترد علينا السلام ، وقالت : ما أنتم ؟ قلنا : ضالون فأتيناكم فاستأنسنا بكم ، فقالت : يا هؤلاء ، ولّوا وجوهكم عنّي ، حتى أقضي حقكم ما أنتم له أهل ، ففعلنا ، فألقت لنا مسحاً ، وقالت : اجلسوا عليه إلى أن يأتي أبني.
    ثم جعلت ترفع طرف الخيمة وتردها ، إلى أن رفعته مرة فقالت : أسأل الله بركة المقبل ، أما البعير فبعير ابني ، وأما الراكب فليس هو به ، قال : فوقف الراكب عليها ، وقال : يا اُم عقيل ، عظم الله أجرك في عقيل ولدك ، فقالت : ويحك مات ! ؟ قال : نعم ، قالت : وما سبب موته ؟ قال : ازدحمت عليه الابل فرمت به في البئر فقالت : انزل واقض ذمام القوم ، ودفعت إليه كبشاً فذبحه وأصلحه ، وقرب إلينا الطعام ، فجعلنا نأكل ، ونتعجب من صبرها.
1 ـ أخرجه المجلسي في البحار 82 : 152.

(77)
    فلما فرغنا خرجت إلينا وقالت : يا قوم ، هل فيكم من يحسن من كتاب الله شيئاً ؟ فقلت : نعم ، قالت : فاقرأ علي آيات أتعزى بها عن ولدي ، فقلت : يقول الله عزوجل : ( وبشر الصابرين الذين إذا اصابتهم مصيبة قالوا انا لله وانا اليه راجعون اولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة واولئك هم المهتدون ) (1). قالت : بالله انها في كتاب الله هكذا ؟ قلت : والله إنها لفي كتاب الله هكذا ، فقالت : السلام عليكم ، ثم صفت قدميها وصلت ركعات ، ثم قالت : اللهم إني قد فعلت ما أمرتني به ، فأنجز لي ما وعدتني به ، ولو بقي أحد لأحد ـ قال : فقلت في نفسي تقول : لبقي ابني لحاجتي إليه ، فقالت ـ : لبقي محمد صلى الله عليه وآله لأمته.
    فخرجت وأنا أقول : ما رأيت أكمل منها ولا أجزل ، ذكرت ربها بأكمل خصاله وأجمل خلاله. ثم إنها لما علمت ان الموت لا مدفع له ، ولا محيص عنه ، وأن الجزع لا يجدي نفعاً ، والبكاء لا يرد هالكاً ، رجعت إلى الصبر الجميل ، واحتسبت ابنها عند الله تعالى ذخيرة نافعة ليوم الفقر والفاقة (2).
    ونحوه ما أخرجه ابن أبي الدنيا ، قال : كان رجل يجلس إلي ، فبلغني انه شاكٍ (3) فأتيته أعوده ، فإذا هو قد نزل به الموت ، وإذا اُمّ له عجوز كبيرة عنده ، فجعلت تنظر حتى غمض وعصب وسجي ، ثم قالت : رحمك الله ، اي بني ، فقد كنت بنا باراً ، وعلينا شفيقاً ، فرزقني الله عليك الصبر ، فقد كنت تطيل القيام ، وتكثر الصيام ، لا حرمك الله تعالى ما أملت فيه من رحمته ، وأحسن فيك العزاء ، ثم نظرت إليّ وقالت : أيها العائد قد رأيت واعظاً ونحن معك.
    وروى البيهقي عن ذي النون المصري ، قال : كنت في الطواف ، وإذا أنا بجاريتين قد أقبلتا ،
    وأنشأت إحداهما تقول :
صبرت وكان الصبر خير ( مغبة ) (4) صبرت على ما لو تحمل بعضه ملكت دموع العين ثم رددتها وهل الجزع مني ليجدي فأجزع جبال برضوى أصبحت تتصدع إلى ناظري فالعين في القلب تدمع

1 ـ البقرة 2 : 155 ـ 157.
2 ـ أخرجه المجلسي في البحار 82 : 152.
3 ـ الشاكي : المريض. « الصحاح ـ شكا ـ 6 : 2395 ».
4 ـ في « ح » : مطية.


(78)
    فقلت : مماذا يا جارية ؟ فقالت : من مصيبة نالتني ، لم تصب أحداً قط ، قلت : وما هي ؟ قالت : كان لي شبلان يلعبان أمامي ، وكان أبوهما ضحى بكبشين ، فقال أحدهما لأخيه : يا أخي اريك كيف ضحى أبونا بكبشه ، فقام وأخذ الآخر شفرة فنحره ، وهرب القاتل فدخل ابوهما ، فقلت : إن ابنك قتل أخاه وهرب ، فخرج في طلبه ، فوجده قد افترسه السبع ، فرجع الاب فمات في الطريق ظمأً وجوعاً.
    وروى بعضهم هذه الرواية ، وزاد فيها : قال : رايت امرأة حسناء ، ليس بها شيء من الحزن ، وقالت : والله ما أعلم أحداً اُصيب بما اُصبت به ، وأوردت القصة ، فقلت لها : كيف أنت والجزع ؟ فقالت : لو رايت فيه دركاً ما اخترت عليه شيئاً ، ولو دام لي لدمت له.
    وحكى بعضهم ، قال : اُصيبت امرأة بابن لها فصبرت ، فقيل لها في ذلك ، فقالت : آثرت طاعة الله تعالى على طاعة الشيطان.


(79)
الباب الثالث : في الرضا
    قال الله تعالى : ( لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتيكم ) (1) ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) (2).
    إعلم أن الرضا ثمرة المحبة لله ، من أحب شيئاً أحب فعله والمحبة ثمرة المعرفة ، فإن من أحب شخصاً إنسانياً لا شتماله على بعض صفات الكمال أو نعوت الجمال ، يزداد حبه له كلما زاد به معرفة وله تصوراً.
    فمن نظر بعين بصيرته إلى جلال الله تعالى وكماله ـ الذي يطول شرح تفصيل بعضه ، ويخرج عن مقصود الرسالة ـ أحبه ، والذين آمنوا أشد حباً لله ، ومتى أحبه استحسن كل أثر صادر عنه ، وهو يقتضي الرضا.
    فالرضا ثمرة من ثمرات المحبة ، بل كل كمال فهو ثمرتها ، فإنها لما كانت فرع المعرفة استلزم تصور رحمته رجاؤه ، وتصور هيبته الخشية له ، ومع عدم الوصول إلى المطلوب الشوق ، ومع الوصول الأنس ، ومع إفراط الأنس الإنبساط ، ومع مطالعة عنايته التوكل ، ومع استحسان ما يصدر عنه الرضا ، ومع تصور قصور نفسه في جنب كماله وكمال إحاطة محبوبه به وقدرته عليه التسليم إليه ، ويتشعب من التسليم مقامات عظيمة ، يعرفها من عرفها ، وينتهي الأمر به إلى غاية كل كمال.
    واعلم ان الرضا فضيلة عظيمة للإنسان ، بل جماع أمر الفضائل يرجع إليها ، وقد نبه الله تعالى على فضله ، وجعله مقروناً برضا الله تعالى وعلامة له ، فقال : ( رضي الله عنهم ورضوا عنه ) (3).
    ( ورضوان من الله أكبر ) (4) وهو نهاية الاحسان ، وغاية الإمتنان.
    وجعله النبي صلى الله عليه وآله دليلاً على الايمان ، حين سأل طائفة من أصحابه ، « ما أنتم ؟ » قالوا : مؤمنون ، فقال : « ما علامة إيمانكم ؟ » قالوا نصبر على البلاء ، ونشكر عند الرخاء ، ونرضى بمواقع القضاء ، فقال : « مؤمنون ورب الكعبة » (5).
1 ـ الحديد 57 : 23.
2 ـ المائدة 5 : 119 ، التوبة 9 : 100 المجادلة 58 : 22 ، البينة 98 : 8.
3 ـ المائدة 5 : 119 ، والتوبة 9 : 100 ، والمجادلة 58 : 22 ، والبينة 98 : 8.
4 ـ التوبة 9 : 72.
5 ـ ورد باختلاف في ألفاظه في التمحيص : 61 : 137 ، ودعائم الاسلام 1 : 223 وأخرجه الفيض



(80)
    وقال صلى الله عليه وآله : « إذا أحب الله عبداً ابتلاه ، فإن صبر اجتباه ، فإن رضي اصطفاه » (1).
    وقال صلى الله عليه وآله : « إذا كان يوم القيامة أنبت الله تعالى لطائفة من أمتي أجنحة ، فيطيرون من قبورهم إلى الجنان ، يسرحون فيها ، ويتنعمون كيف يشاؤون ، فتقول لهم الملائكة : هل رأيتم الحساب ؟ فيقولون : ما راينا حساباً ، فيقولون : هل جزتم الصراط ؟ فيقولون : ما رأينا صراطاً ، فيقولون : هل رايتم جهنم ؟ فيقولون : ما راينا شيئاً ، فتقول الملائكة : من اُمة من أنتم ؟ فيقولون من اُمة محمد صلى الله عليه وآله ، فيقولون : نشدناكم الله ، حدثونا ما كانت أعمالكم في الدنيا ؟ فيقولون : خصلتان كانتا فينا ، فبلغنا الله تعالى هذه المنزلة بفضل رحمته ، فيقولون : وما هما ؟ فيقولون : كنا إذا خلونا نستحي أن نعصيه ، ونرضى باليسير مما قسم لنا ، فتقول الملائكة : حق لكم هذا » (2).
    وقال صلى الله عليه وآله : « أعطوا الله الرضا من قلوبكم ، تظفروا بثواب الله تعالى يوم فقركم والإفلاس » (3).
    وفي أخبار موسى عليه السلام ، أنهم قالوا : سل لنا ربك أمراً إذا نحن فعلناه ( يرضى به عنا ) (4) فأوحى الله تعالى إليه : « قل لهم : يرضون عني ، حتى أرضى عنهم » (5).
    ونظيره ما روي عن نبينا صلى الله عليه وآله : أنه قال : « من أحب أن يعلم ما له عند الله عزوجل ، فلينظر ما لله عزوجل عنده ، فإن الله تعالى ينزل العبد منه حيث أنزله العبد من نفسه » (6).
    وفي أخبار داود عليه السلام : « ما لأوليائي والهم بالدينا ، إن الهم يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم ، يا داود ، إن محبتي من أوليائي أن يكونوا روحانيين لا يغتمون » (7).
الكاشاني في المحجة البيضاء 7 : 107.
1 ـ المحجة البيضاء 8 : 67 و 88 ، والبحار ، 82 : 142 / 26.
2 ـ المحجة البيضاء 8 : 88.
3 ـ روى الكليني نحوه في الكافي 2 : 203 / 14 ، وأخرجه المجلسي في البحار 82 : 143.
4 ـ في « ش » : يرضى الله عنا.
5 ـ المحجة البيضاء 8 : 88 ، والبحار 82 : 143.
6 ـ المحاسن : 252 / 273 ، مشكاة الانوار : 11 ، عدة الداعي : 167 ، المستدرك على الصحيحين 1 : 495 باختلاف يسير.
7 ـ أخرجه المجلسي في البحار 82 : 143.
مُسَكِنُ الفُؤادِ ::: فهرس