كتاب مُسَكِنُ الفُؤادِ ::: 81 ـ 90
(81)
    وروي : أن موسى عليه السلام قال : « يا ربّ ، دلّني على أمرفيه رضاك عني أعمله ، فأوحى الله تعالى ، اليه : أن رضاي في كرهك ، وأنت ما تصبر على ما تكره ، قال : يا ربّ ، دلّني عليه ، قال : فإنّ رضاي في رضاك بقضائي » (1).
    وفي مناجاة موسى عليه السلام : « أي ربّ ، أيّ خلقك أحبّ إليك؟ قال من إذا أخذت حبيبه سالمني ، قال : فأيّ خلق أنت عليه ساخط؟ قال : من يستخيرني في الأمر ، فإذا قضيت له سخط قضائي ».
    وروي ما هو أشد منه ، وذاك أن الله تعالى قال :
    « أنا الله ، لا إله إلاّ أنا ، من لم يصبر على بلائي ، ولم يرض بقضائي ، فليتخذ رباً سوائي » (2).
    ويروى : أن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام : « يا داود ، تريد وأريد ، وإنما يكون ما أريد ، فإن سلمت لما أريد كفيتك ما تريد ، وإن لم تسلم لما أريد أتعبتك فيما تريد ، ولا يكون إلا ما أريد » (3).
    وعن ابن عباس : « أول ما يدعى إلى الجنة يوم القيامة ، الذين يحمدون الله تعالى على كل حال » (4).
    وعن ابن مسعود : لئن الحسن جمرة أحرقت ما أحرقت ، وأبقت ما أبقت ، أحب إلي من أن أقول لشيء كان : ليته لم يكن ، أو لشيء لم يكن : ليته كان.
    وعن أبي الدرداء : « ذروة الايمان الصبر للحكم ، والرضا بالقدر ».
    وقال صلى الله عليه وآله : « إن الله تعالى بحكمته وجلاله جعل الروح والفرج في الرضا واليقين ، وجعل الغم والحزن في الشك والسخط » (5).
    وقال علي بن الحسين عليهما السلام : « الزهد عشرة أجزاء : أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع ، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين ، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة
1 ـ دعوات الراوندي : 71 ، والبحار 82 : 143.
2 ـ دعوات الراوندي : 74 ، الجامع الصغير 2 : 235 / 6010 باختلاف في الفاظه.
3 ـ التوحيد : 337 / 4.
4 ـ أخرجه المجلسي في البحار 82 : 143.
5 ـ المحاسن : 17 / 47 ، مشكاة الانوار : 12 و 13 ، الجامع الصغير 1 : 382 / 2493 ، منتخب كنز العمال 1 : 178 و 256 و 257.


(82)
الرضا » (1).
    وقال الصادق عليه السلام : « صفة الرضا أن ترضى المحبوب والمكروه ، والرضا شعاع نور المعرفة ، والراضي فان عن جميع اختياره ، والراضي حقيقة هو المرضي عنه ، والرضا اسم يجمع فيه معاني العبودية ، وتفسير الرضا سرور القلوب.
    سمعت أبي محمد الباقر عليه السلام يقول : تعلق القلب بالموجود شرك ، وبالمفقود كفر ، وهما خارجان عن سنة الرضا ، وأعجب ممن يدعي العبودية لله كيف ينازعه في مقدوراته ؟ ! حاشا الراضين العارفين عن ذلك ».
    وروي : أن جابر بن عبد الله الانصاري ـ رضي الله عنه ـ ابتلي في آخر عمره بضعف الهرم والعجز ، فزاره محمد بن علي الباقر عليه السلام ، فسأله عن حاله ، فقال : أنا في حالة أحب فيها الشيخوخة على الشباب ، والمرض على الصحة ، والموت على الحياة.
    فقال الباقر عليه السلام : « أما أنا يا جابر ، فإن جعلني الله شيخاً أحب الشيخوخة ، وإن جعلني شاباً أحب الشيبوبة (2) ، وإن أمرضني أحب المرض ، وإن شفاني أحب الشفاء والصحة ، وإن أماتني أحب الموت ، وإن أبقاني أحب البقاء ».
    فلما سمع جابر هذا الكلام منه قبل وجهه ، وقال صدق رسول الله صلى الله عليه وآله ، فإنه قال : « ستدرك لي ولداً اسمه اسمي ، يبقر العلم بقراً كما يبقر الثور الارض » ولذلك سمي باقر علم الأولين والآخرين ، اي شاقه.
    وروى الكليني بإسناده إلى أبي عبد الله عليه السلام ، أنه قال : « رأس طاعة الله الصبر والرضى عن الله فيما أحب العبد أو كره ، ولا يرضى عبد عن الله فيما أحب وكره ، إلا كان خيراً له فيما أحب أو كره » (3).
    وبإسناده عنه عليه السلام قال : « أعلم الناس بالله ـ تعالى ـ أرضاهم بقضاء الله ـ عزوجل ـ » (4).
    وبإسناده عنه عليه السلام قال : « قال الله تعالى : عبدي المؤمن لا أصرفه في شيء إلا جعلته خيراً له ، فليرض بقضائي ، وليصبر على بلائي ، ويشكر نعمائي ، أكتبه
1 ـ الكافي 2 : 51 / 10 و 104 / 4 ، روضة الواعظين : 432 ، مشكاة الانوار : 113.
2 ـ كذا ، ولعل صحتها الشبيبة : وهي الحداثة وسن الشباب ، اُنظر « الصحاح ـ شبب ـ 1 : 151 ».
3 ـ الكافي 2 : 49 / 1.
4 ـ الكافي 2 : 49 / 2.


(83)
ـ يا محمد ـ من الصديقين عندي » (1).
    وعنه عليه السلام قال : « في ما أوحى الله عزوجل إلى موسى عليه السلام : يا موسى بن عمران ، ما خلقت خلقاً أحب إلي من عبدي المؤمن ، فإني إنما أبتليه لما هو خير له ، وأعافيه لما هو خير له ، وأزوي عنه لما هو خير له ، وأنا أعلم بما يصلح عليه عبدي ، فليصبر على بلائي ، وليشكر نعمائي وليرض بقضائي ، أكتبه في الصديقين عندي ، إذا عمل برضاي ، وأطاع أمري » (2).
    وقيل للصادق عليه السلام : بأي شيء يعلم (3) المؤمن بأنه مؤمن ؟ قال : « بالتسليم لله ، والرضا فيما ورد عليه من سرور أو سخط » (4).
    وروي في الإسرائيليات : أن عابداً عبد الله تعالى دهراً طويلاً ، فرأى في المنام : فلانة رفيقتك في الجنة ، فسأل عنها ، واستضافها ثلاثاً لينظر إلى عملها ، فكان يبيت قائماً ، وتبيت نائمة ، ويظل صائماً ، وتظلّ مفطرة ، فقال لها : أما لك عمل غير ما رايت ؟ فقالت : ما هو والله غير ما رأيت ، ولا أعرف غيره ، فلم يزل يقول : تذكري ، حتى قالت : خصيلة واحدة ، هي إن كنت في شدة لم أتمن أن أكون في رخاء ، وإن كنت في مرض لم أتمن أن أكون في صحة ، وإن كنت في شمس لم أتمنّ أن أكون في الظل ، فوضع العابد يديه على رأسه ، وقال : أهذه خصيلة ؟ هذه ـ والله ـ خصلة عظيمة يعجز عنها العباد.
1 ـ الكافي 2 : 50 / 6.
2 ـ الكافي 2 : 51 / 7 ، أمالي المفيد : 93 / 2 ، أمالي الطوسي 1 : 243 ، المؤمن : 17/ 9 ، التمحيص 55 / 108 ، مشكاة الانوار : 299.
3 ـ في هامش « ح » : يعرف.
4 ـ الكافي 2 : 52 / 12.


(84)
فصل
    مرتبة الرضا عالية جداً على مرتبة الصبر ، بل نسبة الصبر إلى الرضا عند أهل الحقيقة ، نسبة المعصية إلى الطاعة ، فإن المحبة تقتضي اللّذة بالبلاء ، لأنّه يجد في البلاء نفسه على ذكر من محبوبه ، فيزيد قربه وأنسه. الصبر يقتضي كراهة البلاء واستصعابه حتى يوجب الصبر عليه ، والكراهة تنافي الأنس ، فتبين بذلك أنّ الصبر والمحبة متنافيان.
    وأيضاً ، فإنّ الصبر إظهار التجلّد ، وهو في مذهب المحبّة من أشد المنكرات نكراً ، وأظهر علامات العداوة طراً ، كما قيل :
ويحسن إظهار التجلّد للعدى ويقبح إلا العجز عند الأحبة
    ومن هنا قال أهل الحقيقة : الصبر من أصعب المنازل على العامّة ، وأوحشها في طريق المحبة ، وأنكرها في طريق التوحيد.
    وإنّما كان أصعب عند العامة ، لأن العامي لم يتدرب بالرياضة ، ولم يتحنّك بالصبر على البلاء ، ولم يتعوّد بقمع النفس ، فلم يحتمل البلاء ، ولم يكن من أهل المحبة حتى يتلذّذ بالبلاء ، فإذا امتحنه الحق سبحانه بالبلاء ـ وهو في مقام النفس ـ لم يحتمل البلاء وغلبه الجزع ، وصعب عليه حبس النفس عن إظهاره لعدم طمأنينتها.
    وإنّما كان أوحش المنازل في طريق المحبة ، لأنّ المحبة تقتضي الأنس بالمحبوب ، والإلتذاذ بالبلاء ، لشهود المتبلى فيه وإيثار مراد المحبوب ، والصبر يقتضي كراهة البلاء كما مرّ ، فيتنافيان.
    وإنّما كان أنكر في مقام التوحيد ، لأنّ الصابر يدّعي قوة الثبات ، ودعوى الثبات والتجلّد من رعونات (1) النفس ، والتوحيد يقتضي فناء النفس ، فيكون أنكر لأنّ إثبات النفس في طريق التوحيد من أقبح المنكرات ، بل الرضا مع عظم قدره وعلوّ أمره عند أهل التحقيق في التوحيد من أوائل مسالكه ، لأنّ سلوكهم في الفناء في التوحيد بذواتهم ، والرضا هو فناء الإرادة في إرادة الحق تعالى ، والوقوف الصادق مع مراد الله تعالى ، وفناء الصفة قبل فناء الذات.
    وقد تبيّن لك بذلك ما بين الصبر والرضا من المراتب البعيدة والمسالك الشديدة.
1 ـ في « ح » : مرغوبات.

(85)
فصل
    للرضا ثلاث درجات ، مترتبة في القوّة ترتّبها في اللّفظ :
    الدرجة الاولى : أن ينظر إلى موقع البلاء والفعل الذي يقتضي الرضا ، ويدرك موقعه ، ويحسّ بألمه ، ولكن يكون راضياً به ، بل راغباً فيه ، مريداً له بعقله ، وإن كان كارهاً له بطبعه ، طلباً لثواب الله تعالى عليه ، ومزيداً لزلفى لديه ، والفوز بالجنّة التي عرضها السموات والأرض ، وقد أعدت للمتقين.
    وهذا القسم من الرضا هو رضا المتقين.
    ومثاله مثال من يلتمس الفصد والحجامة من الطبيب العالم بتفاصيل أمراضه وما فيه اصلاحه ، فإنّ‍ه يدرك ألم ذلك الفعل ، إلاّ أنّه راض به ، وراغب فيه ، ومتقلّد من الفصّاد منةً عظيمة بفعله.
    ومثله من يسافر في طلب الربح ، فإنّه يدرك مشقّة السفر ، ولكن حبّه لثمرة سفره طيّب عنده مشقّة السفر ، وجعله راضياً به ، ومهما أصابته بليّة من الله تعالى ـ وكان له يقين بأنّ ثوابه الذي ادخر له فوق مافاقه ـ رضي به ، ورغب فيه ، وأحبّه ، وشكرالله تعالى عليه.
    الدرجة الثانية : أن يدرك الألم كذلك ، ولكنّه أحبّه لكونه مراد محبوبه ورضاه ، فإنّ من غلب عليه الحب كان جميع مراده وهواه ما فيه رضا محبوبه ، وذلك موجود في الشاهد بالنسبة إلى حبّ الخلق بعضهم بعضاً ، قد تواصفه المتواصفون في نظمهم ونثرهم ، ولا معنى له إلاّ ملاحظة حال الصورة الظاهرة بالبصر.
    وما هذا الجمال إلاّ جلد على لحم ودم مشحون بالأقذار والأخباث ، بدايته من نطفة مذرة (1) ، ونهايته جيفة قذرة ، وهو فيها بين ذلك يحمل العذرة.
    والناظر لهذا الجمال الخسيس هو العين الخسيسة ، التي تغلط في ما ترى كثيراً ، فترى الصغير كبيراً ، والكبير صغيراً ، والبعيد قريباً ، والقبيح جميلاً.
    فإذا تصوّر الإنسان استيلاء هذا الحبّ ، فمن أين يستحيل ذلك في حبّ الجمال الأزليّ الأبديّ ، الذي لاينتهي كماله المدرك بعين البصيرة ، التي لايعتريها الغلط ، ولا يزيلها الموت ، بل يبقى بعد الموت حيّاً عندالله ، فرحاً مسروراً برزق الله ، مستفيداً
1 ـ مذرة : خبيثة ، من التمذّر ، وهو خبث النفس « مجمع البحرين ـ مذر ـ 3 : 480 ».

(86)
بالموت مزيد تنبّه واستكشاف ، وهذا أمر واضح من حيث الإعتبار ، وتشهد له جملة من الآثار ، وردت من أحوال المحبيّن وأقوالهم ، يأتي بعضها إن شاءالله تعالى ، وهذه مرتبة المقرّبين.
    الدرجة الثالثة : أن يبطل أحساسه بالألم ، حتى يجري عليه المؤلم ولايحس ، وتصيبه جراحة ولايدرك ألمه.
    ومثاله الرجل المحارب ، فإنّه في حال غضبه أو حال خوفه قد تصيبه جراحة وهو لا يحسّ بها ، حتى إذا رأى الدم استدلّ به على الجراحة ، بل الذي يعدو في شغل مريب قد تصيبه شوكة في قدمه ، ولا يحسّ بألمه لشغل قلبه ، بل الذي يحجم ، أو يحلق رأسه بحديدة كالّة يتألم بها ، فإن كان قلبه مشغولاً بمهمّ من مهماته ، يفرغ الحجام أو الحالق ، وهو لا يشعربه.
    وكلّ ذلك لأنّ القلب إذا صار مستغرقاً بأمر من الأمور لم يدرك ماعداه.
    ونظائر ذلك في هموم أهل الدنيا ، واشتغالهم بها ، واكبابهم عليها ، حتى لا يتألمون ، ولا يحسّون بالجوع والعطش والتعب ـ لذلك ـ كثير مشاهد عياناً ، فكذلك العاشق المستغرق الهم بمشاهدة محبوبه ، قد يصيبه ما كان يتألّم به ، أو يغتمّ لولا عشقه ، ثمّ لا يدرك غمّه وألمه ، لفرط استيلاء الحب على قلبه ، هذا إذا أصابه من غير حبيبه ، فكيف إذا أصابه من حبيبه؟!
    وشغل القلب بالحبّ والعشق من أعظم الشواغل ، وإذا تصوّر هذا في ألم يسير بسبب حبّ خفيف ، تصوّر في الألم العظيم بالحبّ العظيم ، فإنّ الحب أيضا يتصوّر تضاعفه في القوة ، كما يتصوّر تضاعف الألم ، وكما يقوى حب الصور الجميلة المدركة بحاسّة البصر ، فكذا يقوى حب الصور الجميلة الباطنة المدركة بنور البصيرة الربوبيّة ، وجلالها لا يقاس بها جلال ، فمن انكشف له شيء منه فقد يبهره ، بحيث يدهش ويغشى عليه ، فلا يحس بما يجري عليه.
    كما روي عن امرأة أنها عثرت فانقطع ظفرها ، فضحكت ، فقيل لها : أما تجدين الوجع؟ فقالت : إن لذّة ثوابه أزالت عن قلبي مرارة وجعه.
    وكان بعضهم يعالج غيره من علّة فنزلت به ، فلم يعالج نفسه ، فقيل له في ذلك ، فقال : ضرب الحبيب لا يوجع.


(87)
فصل :
في ذكر جماعة من السلف ، نقل العلماء رضاهم بالقضاء مضافاً إلى ما تقدّم
    إعلم أنّ أكثر ما أوردناه في باب الصبر عن جماعة الأكابر تضمّن الرضا بالقضاء ، بخصوص موت الولد ونحوه ، ولنذكر هنا اُموراً عامة :
    لمّا اشتد البلاء على أيوب عليه السلام قالت امرأته : ألا تدعو ربّك ، فيكشف ما بك؟ فقال لها : « يا امرأة إنّي عشت في الملك والرخاء سبعين سنة ، فأنا أريد أن أعيش مثلها في البلاء ، لعلّي كنت أدّيت شكرما أنعم الله عليّ ، وأولى بي الصبر على ما أبلى » (1).
    وروي أن يونس عليه السلام قال لجبرئيل عليه السلام : « دلّني على أعبد أهل الأرض » ، فدلّه على رجل قد قطع الجذام يديه ورجليه ، وذهب ببصره وسمعه ، وهو يقول :
    إلهي! متّعتني بهما ما شئت ، وسلبتني ماشئت ، وأبقيت لي فيك الأمل ، يابرٌّيا وصول (2).
    وروي أنّ عيسى عليه السلام مرّ برجل أعمى أبرص مقعد مضروب الجنبين بالفالج ، وقد تناثر لحمه من الجذام ، وهو يقول : الحمدلله الذي عافاني مما ابتلى به كثيراً من خلقه.
    فقال له عيسى عليه السلام : « يا هذا ، وأي شيء من البلاء أراه مصروفاً عنك؟ ».
    فقال : يا روح الله ، أنا خير ممّن لم يجعل الله في قلبه ما جعل في قلبي من معرفته.
    فقال له : « صدقت ، هات يدك » فناوله يده ، فإذا هو أحسن الناس وجهاً ، وأفضلهم هيئة ، قد أذهب الله عنه ما كان به ، فصحب عيسى عليه السلام ، وتعبد معه (3).
    وقال بعضهم ، قصدت عبادان (4) في بدايتي ، فإذا أنا برجل أعمى مجذوم مجنون
1 ـ روي باختلاف في ألفاظ في تنبيه الخواطر 1 : 40 ، وارشاد القلوب : 127.
(2 و 3) أخرجه المجلسي في البحار 82 : 153.
4 ـ عبادان : بلد تحت البصرة. « معجم البلدان 4 : 74 ».


(88)
قد صرع ، والنمل يأكل لحمه ، فرفعت رأسه ، ووضعته في حجري ، وأنا أردد الكلام ، فلمّا أفاق قال : من هذا الفضوليّ الذي يدخل بيني وبين ربي؟ فوحقّه لو قطّعني إرباً إرباً ، ما ازددت له إلاّ حبّاً.
    وقطعت رجل بعضهم من ركبته من إكلة (1) خرجت بها ، فقال : الحمدلله الذي أخذ منّي واحدة ، وترك ثلاثاً ، وعزّتك لئن كنت أخذت لقد أبقيت ، ولئن كنت ابتليت لقد عافيت ، ثمّ لم يدع ورده تلك اللّيلة.
    وقال بعضهم ، نلت من كل مقام حالاً إلاّ الرضا بالقضاء ، فما لي منه إلاّ مشامّ الريح ، وعلى ذلك لو أدخل الخلائق كلّهم الجنة ، وأدخلني الناركنت بذلك راضياً. وقيل لبعض العارفين : نلت غاية الرضا عنه ، فقال : أما الغاية فلا ، ولكن مقام من الرضا قد نلته ، لوجعلني الله جسراً على جهنم ، تعبر الخلائق عليّ إلى الجنة ، ثمّ ملأ بي جهنّم لأحببت ذلك من حكمه ، ورضيت به من قسمه.
    وهذا كلام من علم أنّ الحبّ قد استغرق همّه ، حتى منعه الإحساس بألم النار ، واستيلاء هذه الحالة غير محال في نفسه ، لكنّه بعيد من الأحوال الضعيفة في هذا الزمان ، ولاينبغي أن يستنكر الضعيف المحروم حال الأقوياء ، ويظنّ أنّ ما هو عاجز عنه يعجز عنه غيره من الأولياء.
    وكان عمران بن حصين (2) ـ رضي الله عنه ـ استسقى بطنه ، فبقي ملقى على ظهره ثلاثين سنة لا يقوم ولا يقعد ، قد ثقب له في سريره موضع لقضاء الحاجة (3) ، فدخل عليه أخوه العلاء فجعل يبكي لما يرى من حاله ، فقال : لم تبكي؟ قال : لأنّي أراك على هذه الحالة العظيمة ، قال : لا تبك ، فإن أحبّه لي الله تعالى أحبه ، ثمّ قال : أحدّثك شيئاً لعلّ الله (4) ينفعك به ، واكتم عليّ حتى أموت ، إنّ الملائكة لتزورني (5) فآنس بها ، وتسلّم عليّ فأسمع تسليمها ، فأعلم بذلك أنّ هذا البلاء ليس بعقوبة ، إذ هو سبب لهذه النعمة
1 ـ الإكلة : الحكة. « الصحاح ـ أكل ـ 4 : 1624 ».
2 ـ في « ش » و « ح » : عمر بن حصين ، والصواب ما أثبتناه وهو عمران بن حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي الكعبي ، اسلم عام خيبر ، بعثه عمر بن الخطاب إلى البصرة توفي سنه 52 أو 53 للهجرة. راجع « اسد الغابة 4 : 137 ، تهذيب التهذيب 8 : 125 ، الإصابة في تمييز الصحابة 3 : 26 ».
3 ـ في « ش » : حاجته.
4 ـ في « ش » زيادة : أن.
5 ـ في « ش » : تزورني.


(89)
الجسمية ، فمن شاهد هذا في بلائه ، كيف لا يكون راضياً به (1) ؟
    وقال بعضهم : دخلنا على سويد بن شعبة ، فرأينا ثوباً ملقى ، فما ظننّا أنّ تحته شيئاً حتى كشف ، فقالت امرأته : أهلك فداؤك ، أما نطعمك أما نسقيك؟ فقال : طالت الضجعة (2) ، ودبرت الحراقيف (3) ، وأصبحت نضواً (4) ، لا اطعم طعاماً ، ولا أشرب شراباً منذ كذا ـ فذكر أياماً ـ وما يسرّني أنّي نقصت من هذا قلامة ظفر.
    وروي عن بعضهم ، وكان قاسى المرض ستّين سنة ، فلمّا اشتدّ عليه حاله دخل عليه بنوه ، فقالوا : أتريد أن تموت ، حتى تستريح ممّا أنت فيه؟ قال : لا ، قالوا : فما تريد؟ قال : ما لي إرادة ، إنّما أنا عبد ، وللسيّد الإرادة في عبده ، والحكم في أمره.
    وقيل : اشتدّ المرض بفتح الموصلي ، وأصابه مع مرضه الفقر والجهد ، فقال : إلهي وسيدي ، ابتليتني بالمرض والفقر ، فهذا فعالك بالأنبياء والمرسلين ، فكيف لي أن اؤدي شكرما أنعمت به عليّ؟
1 ـ اسد الغابة 4 : 137 نحوه.
2 ـ الضجعة : هيئة الإضطجاع. « لسان العرب 8 : 219 ».
3 ـ الحرقفة : عظم الحجبة ، وهي رأس الورك ، والجمع ، الحراقف. « لسان العرب 9 : 46 ».
4 ـ النّضو : المهزول. « لسان العرب 15 : 330 ».


(90)
فصل
    إعلم أنّ الدعاء يدفع البلاء ، وزوال المرض وحفظ الولد لاينافي الرضاء بالقضاء ، فقد تعبدنا الله سبحانه بالدعاء ، وندبنا إليه وحثّنا عليه ، وجعل تركه استكباراً وفعله عبادة ووعد بالإجابة ودعا الأنبياء والأئمة عليهم السلام ، وأمروا به ، وما نقل عنهم خارج عن حدالحصر ، وقدأثنى الله تعالى على الداعين من عباده ، فقال : ( ويدعوننا رغباً ورهباً ) (1).
    ومن وظائف الداعي أن يكون في دعائه ممتثلاً لأمر ربّه تبارك وتعالى بالدعاء في طلب ما أمره (2) بطلبه ، وأنّه لولا أمره به وإذنه له فيه لما اجترئ على التعرّض لمخالفة قضائه ، وفي الحقيقة هذا نوع من الرضاء لمن فهم مواضع (3) الرضاء ، وأدّب نفسه ، وقام بوظائف الدعاء.
    ومن علاماته أنّه إذا لم يجب إلى مطلوبه لا يتألّم من ذلك ، من حيث عدم إجابته ، لجواز أن يكون المدعو به مشتملأ على مفسدة لا يعلمها إلاّ الله تعالى ، كما ورد أنّ العبد ليدعو الله تعالى بالشيء حتى ترحمه الملائكة وتقول : إلهي ارحم عبدك المؤمن ، وأجب دعوته ، فيقول الله تعالى : كيف أرحمه من شي به أرحمه؟
    نعم ، لو استوحش من حيث احتمال أن يكون السبب الذي أوجب ردّ دعائه بعده عن الله تعالى ، واستحقاقه للخيبة والإجباه (4) والطرد والإبعاد ، فلاحرج ، فإن كمال المؤمن أن يكون ماقتاً لنفسه مزرياً عليها حتى لو اجيبت دعوته ، فلا يظنّن أنّ ذلك من كرامته على الله تعالى وقربه منه ، بل يجوز أن يكون ذلك من بغض الله تعالى وكراهته لصوته ، وتأذّي الملائكة برائحته ، فتسأل الله تعالى أن يعجّل بإجابته (5) لتستريح منه.
1 ـ الأنبياء 21 : 90.
2 ـ في « ش » : ما أمر.
3 ـ في « ش » : مواقع.
4 ـ الإجباه : الإستقبال بالمكروه.« لسان العرب ـ جبه ـ 13 : 483 ».
5 ـ في « ش » : اجابته.
مُسَكِنُ الفُؤادِ ::: فهرس