من (93) الأعداء.
[ عدم ارتضاء المصنف لهذه العلّة]
وهذا الجواب غير مَرْضيّ؛ لأنّ عقلاء شيعته لا يجوز أن يخفى عليهم ما في إظهار اجتماعهم معه من الضرر عليه وعليهم، فكيف يخبرون بذلك مع العلم بما فيه من المضرّة الشاملة؟! و إنْ جاز هذا الذي ذكروه على الواحد والاثنين، لم يجز على جماعة شيعته الذين لا يظهر لهم.
على أنّ هذه العلّة توجب أنّ شيعته قد عُدموا الانتفاع به على وجه لا يتمكّنون من تلافيه وإزالته:
لأنّه إذا علّق الاستتار بما يعلم من حالهم أنّهم يفعلونه، فليس في مقدورهم الآن ما(94) يقتضي ظهور الإمام، وهذا يقتضي سقوط التكليف - الذي الإمام لطفٌ فيه ـ عنهم.

[ الجواب عن اعتراض المصنِّف ]

وقد أجاب بعضهم عن هذا السؤال بأنّ سبب الغيبة عن الجميع هو فعل الأعداء؛ لأنّ انتفاع جماعة الرعيّة ـ من وليًّ وعدوّ ـ بالإمام إنّما يكون بأن ينفذ أمرُه وتنبسط يدُه، ويكون ظاهراً متصرِّفاً بلا دافع ولا منازع،
____________
(93) في « أ »: إلى. وهو غلطٌ.
(94) كا ن في « أ »: ممّا. وفي « ج » : بما. وما أثبتناه هو الأنسب للسياق من « الغَيْبة » للطوسي ـ ص 97 ـ .

(63)
وهذا ممّا (95) المعلوم أنّ الأعداء قد حالوا دونه ومنعوا منه.
قالوا: ولا فائدة في ظهوره سرّاً لبعض أوليائه؛ لأنّ النفع المبتغى من تدبير الأئمّة لا يتمًّ إلاًّ بالظهور للكلّ ونفوذ الأمر، فقد صارت العلّة في استتار الإمام وفقد ظهوره ـ على الوجه الذي هو لطفُ ومصلحةٌ للجميع ـ واحدةٌ.
وهذا أيضاً جواب غير مَرْضيّ:
لأنّ الأعداء إن كانوا حالوا بينه و بين الظهور على وجه التصرّف والتدبير، فلم يحولوا بينه وبين مَنْ شاء من أوليائه على جهة الاستتار.
وكيف لا يَنْتفع به مَنْ يلقاه من أوليائه على سبيل الاختصاص، وهو يعتقد طاعته وفرض أتباع أوامره، ويحكّمه في نفسه؟!
وإنْ كان لا يقع هذا اللقاء لأجل اختصاصه؛ ولأن الإمام معه غير نافذ الأمر في الكلّ، ولا مفوّض إليه تدبير الجميع، فهذا تصريحٌ بأنّه لا انتفاع للشيعة الإمامية بلقاء أئمّتها من لدن وفاة أميرالمؤمنين عليه السلام إلى أيّام الحسن بن عليّ أبي القائم عليهم السلام، للعلّة التي ذكرت.
ويوجب ـ أيضاً ـ أنّ أولياء أميرالمؤمنين عليه السلام وشيعته لم يكن لهم بلقائه انتفاع قبل انتقال الأمر إلى تدبيره وحصوله في يده.
وهذا بلوغ ـ من قائله ـ إلى حدّ لا يبلغه متأمّل.
على أنّه: إذا سلّم لهم ما ذكروه ـ من أنّ الانتفاع بالإمام لا يكون إلاّ مع ظهوره لجميع الرعيّة، ونفوذ أمره فيهم ـ بطل قولهم من وجه آخر،
____________
(95) كذا في «أ» و «ج» و«الغيبة» للطوسي ـ ص 98ـ .

(64)
وهو: أنّه يؤدّي إلى سقوط التكليف ـ الذي الإمام لطفٌ فيه ـ عن شيعته:
لأنّه إذا لم يظهر لهم لعلّة لا ترجع إليهم، ولا كان في قدرتهم وإمكانهم إزالة ما يمنعهم(96)من الظهور: فلا بدّ من سقوط التكليف عنهم، ولا يجرون في ذلك مجرى أعدائه؛ لأنّ الأعداء ـ واِنْ لم يظهر لهم ـ فسبب ذلك من جهتهم، وفي إمكانهم أن يزيلوا المنع من ظهوره فيظهر، فلزمهم التكليف الذي تدبير الإمام لطفٌ فيه، ولو لم يلزم ذلك شيعته على هذا الجواب
ولو جاز أن يمنع قومٌ من المكلَّفين غيرهم من لطفهم، ويكون التكليف ـ الذي ذلك اللطفٌ لطف فيه ـ مستمرّاً عليهم: لجاز أن يمنع بعضُ المكلِّفين غيره ـ بقيدٍ أو ما أشبههـ من المشي على وجهٍ لا يتمكّن ذلك المقيّد من إزالته، ويكون المشي مع ذلك مستمّراً على المقيَّد.
وليس لهم أن يفرّقوا بين القيد وفَقد اللطف، من حيث كان القيد يتعذّر معه الفعل ولا يتوهّم وقوعه، وليس كذلك فقد اللطف:
لأنّ المذهب الصحيح ـ الذي نتّفق نحن عليه ـ أنّ فَقْدَ اللطف يجري مجرى فَقْدِ القُدرة والآلة، وأنّ التكليف مع فَقْدِ اللطف ـ في مَنْ له لطف ـ معلومٌ قبحه، كالتكليف مع فَقْد القدرة والآلة ووجود المانع، وأنّ مَن لم يفعل به اللطف ـ ممًّن له لطف معلوم ـ غير متمكِّن من الفعل، كما أنّ الممنوعَ غيرُ متمكَّن.

____________
(96) كذا في نسختي الكتاب، والظاهر: «ما يمنعه» أي الإمام عليه السلام.

(65)
[ الأَوْلى في علّة الاستتار من الأولياء ]
والذي يجب أن يجاب به عن هذا السؤال ـ الذي قدّمنا ذكره في علّة الاستتار من أوليائه(97) ـ أن نقول أوّلاً [ لا ] (98) قاطعين على أنّه لا يظهر لجميع أوليائه، فإنّ هذا مغيِّب عنّا، ولا يعرف كلُّ واحد منّا إلاّ حال نفسه دون حال غيره.
وإذا كنّا نجوِّ زظهوره لهم كما نجوِّز (99) خلافه: فلا بُدّ من ذِكر العلّة فيها نجوّزه من غَيبته عنهم.
وأَولى ما قيل في ذلك وأقربه إلى الحقّ ـ وقد بيّنّا فيما سلف أنّ هذا الباب ممّا لا يجب العلم به على سبيل التفصيل، وأنّ العلم على وجه الجملة فيه كافٍ ـ: أن نقول: لا بُدّ من أن تكون علّة الغَيْبة عن الأولياء مضاهية لعلّة الغَيْبة عن الأعداء، في أنّها لا تقضي سقوط التكليف عنهم، ولا تحلق اللائمة (100) بمكلفِّهم تعالى، ولا بُدّ من أن يكونوا متمكنين من رفعها وإزالتها فيظهر لهم، وهذه صفات لا بُدّ من أن تحصل لما تعلّل به الغَيْبة، وإلاّ أدّى إلى ما تقدّم ذِكره من الفساد.
وإذا ثبتت هذه الجملة فأَوْلى ما علّل به التغّيب عن الأولياء أن
____________
(97) تقدّم في ص 61.
(98) أثبتناها بقرينة ما في الكتب التي نقلت عن «المقنع» هذا المطلب، فقد جاءت الجملة فيها كما يلي: فقي الغيبة ـ للطوسي، ص 99 ـ: «أن نقول: إنّا أوّلاً لا نقطع على استتاره عن جميع أوليائه...» وفي إعلام الورى ـ المطبوع، ص 471 ـ: «قال: أوّلاً نحن لا نقطع... » وفي مخطوطته ـ الورقة 219 ـ: «قال: نحن أوّلاً لا نقطع...».
(99) التجويز هنا بمعنى الاحتمال، فيناسب عدم القطع بعدم الظهور فيما سبق.
(100) في « ج »: لائمة.

(66)
يقال: قد علمنا أنّ علمنا أنّ العلم بإمام الزمان على سبيل التعيين والتمييز لا يتّم إلاّ بالمعجز، فإنّ النصّ ـ في إمامة هذا الإمام خاصةً ـ غير كافٍ في تعيّنه، ولا بُدّ من المعجز الظاهر على يده حتى نصدّقه في أنّه ابن الحسن عليهما السلام.
والعلم بالمعجز ودلالته على الظهور، طريقُهُ الاستدلال الذي يجوز أن تعترض فيه الشبهة.
ومَن عارضته شبهة في مَنْ ظهر على يده معجزٌ، فاعتقد أنّه زورٌ ومخرقهٌ، وأنّ مُظْهِرَهُ كذاب متقوِّلٌ، لَحِقَ بالأعداء في الخوف من جهته.
[ جهة الخوف من الأولياء عند الظهور]
فإن قيل: فأيّ تقصير وقع من الوليّ الذي لم يظهر له الإمام لأجل هذا المعلوم من حاله(101)؟
وأيّ قدرة له على فعل ما يظهر له الإمام معه؟
وإلى أيّ شيء يفزع في تلافي سبب غَيْبته عنه؟
قلنا: ما أَحَلْنا ـ في سبب الغَيْبة عن الأولياء ـ إلاّ على معلومٍ يظهر موضوع التقصير فيه، وإمكان تلافيه:
لأنّه غير ممتنع أن يكون من المعلوم من حاله أنّه متى ظهر له الإمام قصّر في النظر في معجزه، وإنّما أُتيَ في ذلك: لتقصير(102) الناظر في العلم
____________
(101) في «ج»: جهله.
(102) كان في نسختَي الكتاب: التقصير. وما أثبتناه هوالمناسب للسياق.

(67)
بالفرق بين المعجز والممكن، والدليلِ مِن ذلك وما ليس بدليل.
ولو كان من هذا الأمر على قاعدة صحيحة وطريقة مستقيمة: لم يجز أن يشتبه عليه معجِزُ الإمام عند ظهوره له.
فيجب عليه تلافي هذا التقصير واستداركه، حتى يخرج بذلك من حدّ من يشتبه عليه المعجز بغيره.
[ هل تكليف الوليّ بالنظر، هو بما لا يطاق؟]
وليس لأحد أن يقول: هذا تكليف ما لا يطاق، وحوالة على غيب لا يُدرَك؛ لأنّ هذا الوليّ ليس يعرف ما قصّر فيه بعينه من النظر والاستدلال، فيستدركه، حتى يتمهّد في نفسه ويتقرّر، ونراكم تلزمونه على ما لا يلزمه؟!
[ والجواب عن هذا الاعتراض:]
أنّ ما يلزم في التكليف قد يتميّز وينفرد، وقد يشتبه بغيره ويختلط ـ وإنْ كان التمكّن من الأمرين حاصلاً ثابتاً ـ فالوليّ على هذا إذا حاسب نفسه ورأى إمامه لا يظهر له، واعتقد(103) أن يكون السبب في الغَيْبة ما ذكرناه من الوجوه الباطلة (وأجناسها: علم أنّه لا بُدّ من سبب يرجع إليه)(104).
وإذا رأى أنّ أقوى الأسباب ما ذكرناه: علم أنّ تقصيراً واقعاً من
____________
(103) كان في «أ»: وافد. وفي «ج»: وأفسد. وما أثبتناه هو المناسب للسياق.
(104) ما بين القوسين سقط من «أ».

(68)
جهته في صفات المعجز وشروطه، فعليه ـ حينئذٍ ـ معاودة النظر في ذلك، وتخليصه من الشوائب، وتصفيته ممّا يقتضي الشبهة ويوجب الالتباس.
فإنّه متى اجتهد في ذلك حقّ الاجتهاد، ووفىّ النظر نصيبه غير مبخوس ولا منقوص: فلا بُدّ له من وقوع العلم بالفراق بين الحقّ والباطل.
وإذا وقع العلم بذلك: فلا بُدّ من زوال سبب الغَيْبة عن الوليّ.
وهذه المواضع: الإنسان فيها على نفسه بصيرة، وليس يمكن أن يؤمر فيها بأكثر من التناهي في الاجتهاد والبحث والفحص والاستسلام للحقّ.
[ استكمال الشروط، أساس الوصول إلى النتيجة ]
وما للمخالف لنا في هذه المسألة إلاّ مثل ما عليه:
لأنّه يقول: إنّ النظر في الدليل إنّما يولّد العلم على صفات مخصوصة، وشروط كثيرة معلومة، متى اختلّ شرط منها لم يتولّد العلم بالمنظور فيه.
فإذا قال لهم مخالفوهم: قد نظرنا في الأدلّة كما تنظرون فلم يقع لنا العلم بما تذكرون أنّكم عالِمون به؟
كان جوابهم: إنّكم ما نظرتم على الوجه الذي نظرنا فيه، ولا تكاملت لكم شروطً توليدِ النظرِ العلمَ؛ لأنّها كثيرة، مختلفة، مشتبهة.
فإذا قال لهم مخالفوهم: ما تحيلوننا في الإخلال بشروط توليد النظر إلاّ على سراب، وما تشيرون إلى شرط معيّن أخللنا به وقصّرنا فيه؟!

(69)
كان جوابهم: لا بُدّ ـ متى لم تكونوا عالمين كما علمنا ـ من تقصيرٍ وقع منكم في بعض شروط النظر؛ لأنّكم لو كمّلتم الشروط واستوفيتموها لعلمتم كما علِمنا، فالتقصير منكم على سبيل الجملة واقع، وأنْ لم يمكننا الإشارة إلى ما قصّرتم فيه بعينه، وأنتم مع هذا متمكّنون من أن تستوفوا شروط النظر وتستسلموا للحقّ وتخلو قلوبكم من الاعتقادات والأسباب المانعة من وقوع العلم، ومتى فعلتم ذلك فلا بُدّ من أنْ تعلموا، والإنسانُ على نفسه بصيرة.
وإذا كان هذا الجواب منهم صحيحاً، فبمثله أجبناهم.
[ الفرق بين الوليّ والعدوّ في علّة الغيبة]
فإن قيل: فيجب ـ على هذا ـ أن يكون كلٌ وليّ لم يظهر له الإمام يقطع على أنّه على كبيرة عظيمة تلحق بالكفر؛ لأنّه مقصّر ـ على ما فرضتموه ـ فيما يوجب غَيْبة الإمام عنه، ويقتضي تفويته ما فيه مصلحته، فقد لَحِقَ الوليُّ ـ على هذا ـ بالعدوّ.
قلنا: ليس يجب في التقصيرـ الذي أشرنا إليه ـ أن يكون كفراً ولا ذنباً عظيماً، لأنّه في هذه الحال الحاضرة ما اعتقد في الإمام أنّه ليس بإمام، ولا أخافه على نفسه، وإنّما قصّر في بعض العلوم تقصيراً كان كالسبب في أنّه عِلم من حاله أنّ ذلك يؤدّي إلى أنّ الشكّ في الإمامة يقع منه مستقبلاً، والآن ليس بواقع، فغير لازم في هذا التقصير أن يكون بمنزلة ما يفضي إليه ممّا المعلوم أنّه سيكون.
غير إنّه، وإنْ لم يلزم أنْ يكون كفراً، ولا جارياً مجرى تكذيب الإمام
(70)
والشكّ في صدقه، فهو ذنب وخطأ، لا (105) ينافيان الإيمان واستحقاق الثواب.
وأنْ[ لا ] (106) يحلق الوليُّ بالعدوِّ على هذا التقدير؛ لأنّ العدوّ ـ في الحال ـ معتقد في الإمامة ما هو كفر و كبيرة، والوليّ بخلاف ذلك.
[ سبب الكفر في المستقبل، ليس كفراً في الحال ]
والذي يبيّن ما ذكرناه ـ من أن ما هو كالسبب في الكفر لا يلزم أن يكون في الحال كفراً ـ أنّه لو اعتقد معتقدٌ في القادر منّا بقدرةٍ: «أنّه يصحّ أن يفعل في غيره من الأجسام من غير مماسّة» فهذا خطأوجهل ليس بكفر، ولا يمتنع أن يكون المعلوم من حال المعتقد أنّه لو ظهر نبيُّ يدعو إلى نبوّته، وجعل معجزه أنْ يفعل الله على يديه فعلاً بحيث لا تصل إليه أسباب البشر ـ وهذا لا محالة عِلْمٌ مُعجِزٌ ـ أنّه كان يكذّبه فلا يؤمن به، ويجوز أنْ يُقَدِّر أنّه كان يقتله؛ وما سبق من اعتقاده في مقدور القادر كالسبب في هذا، ولم يلزم أن يجري مجراه في الكبر والعظم.
وهذه جملة (من الكلام في)(107) الغَيْبة يطّلع بها على أُصولها وفروعها، ولا يبقى بعدها إلاّ ما هو كالمستغنى عنه.
ومن الله نستمدّ المعونة وحسن التوفيق لما وافق الحق وطابَقَه وخالف
____________
(105) في «أ»: ولا.
(106) أضفناها لضرورة المعنى. يعني: أنْ الذنب والخطأ لا ينافيان أن لا يلحق الوليّ بالعدوّ للعلّة آلتي ذكرها.
(107) في «ج»: في الكلام و...


(71)
الباطل وجانبه (وهو السميع المجيب بلطفه ورحمته، وحسبنا الله ونِعم الوكيل)(108).


تمّ كتاب «المقنع» والحمدلله أولاً وآخراً
(وظاهراً وباطناً)(109).


* * *

____________
(108) ما بين القوسين سقط من «ج».
(109) في «ج» والحمدلله وحده.
وجاء في «أ» بعد كلمة «وباطناً» ما نصة: بقلم الفقير إبراهيم بن محمد الحرفوشي، في اليوم الثامن من شهر شعبان المبارك سنة سبعين وألف.

(72)

(73)

(كتاب الزيادة المكمّل بها كتاب «المقنع»
للسيّد المرتضى علم الهدى علىّ بن الحسين الموسوي)(110)


[ مقدّمة الزيادة المكّملة]


بسم الله الرحمن الرحيم


قال السيّد المرتضى علم الهدى ( قدسّ الله روحه، ورضي عنه وأرضاه)(111):
قد ذكرنا في كتابنا(112) «الشافي في الإمامة» ثمّ في كتابنا(113) «المقنع في الغَيْبة» السبب في استتار إمام الزمان عليه السلام عن أعدائه وأوليائه(114)، وخالَفْنا بين السبَبيْن، وبيّنّا أنّ عدم الانتفاع ـ من الجميع ـ به: لشيء يرجع إليهم، لا إليه، واستقصينا ذلك وبلغنا فيه أبعد غاية.
ثم استأنفنا في «المقنع» طريقة غريبة لم نُسْبَق إليها، ودللنا على أنّه
____________
(110) في «ج» بدل ما بين القوسين: هذه زيادة يكمل بها كتاب «المقنع».
(111) ما بين القوسين ليس في «ج».
(112) في «ج»: كتاب.
(113) في «ج»: كتاب.
(114) الشافي 1 / 144 فما بعدها، المقنع: 199 فما بعدها من طبعتنا هذه.

(74)
لا يجب علينا بيان السبب في غَيْبته على التعيين، بل يكفي في العلم بحُسن الغَيْبة منه علْمُنا بعصمته وأنّه ممّن لا يفعل قبيحاً ولا يترك واجباً، وضربنا لذلك الأمثال في الأُصول، وأنْ مثل ذلك مستعمل في مواضع كثيرة.
وخطر ببالنا الآن ما لا بُدّ من ذِكره ليعرف، فهو قويُّ سليمٌ من الشُبه(115) والمطاعن.
[ استلهام الأولياء من وجود الإمام
ولو في الغَيْبة]
وجملته: أنّ أولياء إمام الزمان عليه السلام وشيعته ومعتقدي إمامته ينتفعون به في حال غَيْبته(116) النفع الذي نقول إنّه لا بُدّ ـ في التكليف ـ منه؛ لأنّهم مع علمهم بوجوده بينهم، وقطعهم على وجوب طاعته عليهم، ولزومها لهم، لا بُدّ من أن يهابوه ويخافوه في ارتكاب القبائح، ويخشوا تأديبه وانتقامه ومؤاخذته وسطوته، فيكثر منهم فعل الواجب، ويقلّ ارتكاب القبيح، أو يكون ذلك أقرب وأليق، وهذه هي جهة الحاجة العقلية إلى الإمام.

____________
(115) في «أ»: الشنعة. وفي «م»: السُبّة.
(116) في «م»: الغَيْبة.

(75)
[ هل الغَيْبة تمنع الإمام من التأثير والعمل؟]
وكأنّي بمن سمع هذا من المخالفين ربّما عجب وقال: أيّ سطوة لغائب مستتر خائف مذعور؟!
وأيّ انتقام يُخشى ممّن لا يد له باسطة، ولا أمر نافذ، ولا سلطان قاهر؟!
وكيف يُرهَب مَنْ لا يُعرَف ولا يميِّز ولا يُدرى مكانه؟!
والجواب عن هذا: أنّ التعجّب بغير حجّة تظهر وبيّنة تذكر هو الذي يجب العجب منه، وقد علمنا أنّ أولياء الإمام وإنْ لم يعرفوا شخصه ويميزوه بعينه، فإنّهم يحقّقون وجوده، ويتيقّنون أنّه معهم بينهم، ولا يشكّون في ذلك ولا يرتابون به:
لأنّهم إنْ لم يكونوا على هذه الصفة لحقوا بالأعداء، وخرجوا عن منزلة الأولياء، وما فيهم إلاّ مَنْ يعتقد أنّ الإمام بحيث لا تخفى عليه أخباره، ولا تغيب عنه سرائره، فضلاً عن ظواهره، وأنّه يجوز أن يعرف ما يقع منهم من قبيح وحسن، فلا يأمنون إنْ يقدِموا على القبائح فيؤدّبهم عليها.
ومَن الذي يمتنع منهم ـ إنْ ظهر له الإمام، وأظهر له معجزةً يعلم بها أنّه إمام الزمان، وأراد تقويمه وتأديبه وإقامة حدٍّ عليه ـ أنْ يبذلَ ذلك من نفسه ويستسلمَ لما يفعله إمامُه به، وهو يعتقد إمامته وفرض طاعته؟!

(76)
[ لا فرق في الاستلهام من وجود الأئمة
بين الغَيْبة والظهور]

وهل حاله مع شيعته غائباً إلاّ كحاله ظاهراً فيما ذكرناه خاصّة، وفي وجوب طاعته، والتحرّز من معصيته، والتزام مراقبته، وتجنّب مخالفته.
وليس الحذر من السطوة والشفاق من النقمة بموقوفَيْن على معرفة العين، وتمييز الشخص، والقطع على مكانه بعينه، فإنّ كثيراً من رعيّة الإمام الظاهر لا يعرفون عينه ولا يميّزون شخصه، وفي كثير من الأحوال لا يعرفون مكان حلوله، وهم خائفون متى فعلوا قبيحاً أن يؤدّبهم ويقوِّمهم، وينتفعون بهذه الرهبة حتى يكفّوا عن كثير من القبائح، أو يكونوا أقرب إلى الانكفاف.
وإذا كان الأمر على ما أوضحناه فقد سقط عنّا السؤال المتضمّن لـ: أنّ الإمام إذا لم يظهر لأعدائه لخوفه منهم وارتيابه بهم، فألاّ ظهر لأوليائه؟!
وإلاّ: فكيف حُرِمَ الأولياءُ منفعتهم ومصلحتهم بشيء جرّه الأعداء عليهم؟!
وإنّ هذا شيء ينافي العدل مع استمرار تكليف شيعته ما الإمام لطفٌ فيه؟
لأنّا قد بيّنّا أنّهم بإمامهم عليه السلام مع الغَيْبة منتفعون، وأنّ الغَيْبة لا تنافي الانتفاع الذي تمسّ الحاجة إليه في التكليف.
وبيّنّا أنّه ليس من شرط الانتفاع الظهورُ والبروزُ، وبرئنا من عهدة
(77)
هذا السؤال القويّ الذي يعتقد مخالفونا أنّه لا جواب عنه ولا محيص منه.

[ الظهور للأولياء ليس واجباً]

ومع هذا، فما نمنع(117) من ظهوره عليه السلام لبعضهم إمّا لتقويم أو تأديب أو وعظ وتنبيه وتعليم، غير أنّ ذلك كلّه غير واجب، فيُطلب في فوته العلل وتتمّحل له الأسباب.
وإنّما يصعب الكلام ويشتبه إذا كان ظهوره للوليّ واجباً من حيث لاينتفع أو يرتدع إلاّ مع الظهور.
واذا كان الأمر على خلاف ذلك سقط وجوب الظهور للوليّ، لما دللنا عليه من حصول الانتفاع والارتداع من دونه، قلم تبق شبهة.
[ علمُ الإمام حال الغَيْبة بما يجري
وطرق ذلك ]
فإن قيل: ومن أين يَعْلمُ الإمامُ في حال الغَيْبة والاستتار بوقوع القبائح من شيعته حتى يخافوا تأديبه عليها، وهو في حال الغَيْبة ممن لا يُقِرّ عنده مُقِّر، ولا يشهد لديه شاهد، وهل هذا إلاّ تعليل بالباطل؟!
قلنا: ما المتعلِّل بالباطل إلاّ مَنْ لا ينصف من نفسه، ولا يلحظ ما عليه كما يلحظ ماله!

____________
(117) كان في نسخ الكتاب الثلاث: يمنع. وما أثبتناه هو المناسب للسياق.

(78)
فأمّا معرفة الإمام بوقوع القبائح من بعض أوليائه فقد يكون من كلّ الوجوه التي يعلم وقوع ذلك منهم، وهو ظاهرٌ نافذُ الأمر باسطُ اليد.
[ مشاهدته للأُمور بنفسه عليه السلام]
فمنها: أنّه قد يجوز أن يشاهد ذلك فيعرفه بنفسه، وحال الظهور في هذا الوجه كحال الغَيْبة، بل حال الغَيْبة فيه أقوى:
لأنّ الإمام إذا لم تُعرف عينُه ويُميّز شخصه، كان التحرّز ـ من مشاهدته لنا على بعض القبيح ـ أضيق وأبعد، ومع المعرفة له بعينه يكون التحرّز أوسع وأسهل، ومعلومٌ لكّل عاقل الفرق بين الأمرين:
لأنّا إذا لم نعرفه جوّزنا في كلّ من نراه ـ ولا نعرف نسبه ـ أنّه هو، حتى أنّا لا نأمن أن يكون بعض جيراننا أو أو أضيافنا أو الداخلين والخارجين ألينا، وكلّ ذلك مرتفع مع المعرفة والتمييز.
وإذا شاهد الإمامُ منّا قبيحاً يوجب تأديباً وتقويماً، أدّب عليه وقَوَّمَ، ولم يحتج إلى إقرار وبيّنة؛ لأنّهما يقتضيان غلبة الظنّ، والعلم أقوى من الظنّ.

[ قيام البيّنة عنده عليه السلام]

ومن الوجوه أيضاً: البيّنة، والغَيْبةُ ـ أيضاً ـ لا تمنع من استماعها والعمل بها:
لأنه يجوز أن يظهر على بعض الفواحش ـ من أحد شيعته ـ العددُ
(79)
الذي تقوم به الشهادةُ عليها، ويكون هؤلاء العدد ممّن يلقى الإمام ويظهر له ـ فقد قلنا: إنّا لا نمنع من ذلك، وإن كنّا لا نوجبه ـ فإذا شهدوا عنده بها، ورأى إقامةَ حدّها: تولاّه بنفسه أو بأعوانه، فلا مانع له من ذلك، ولا وجه يوجب تعذره.
فأن قيل: ربّما لم يكن مَنْ شاهدَ هذه الفاحشة ممّن يلقى الإمامَ، فلا يقدر على إقامة الشهادة؟
قلنا: نحن في بيان الطرق الممكنة المقدَّرة في هذا الباب، لا في وجوب حصولها، وإذا كان ما ذكرناه ممكناً فقد وجب الخوف والتحرّز، وتمّ اللطف.
على أنّ هذا بعينه قائم مع ظهور الإمام وتمكّنه:
لأنّ الفاحشة يجوز ـ أولاً ـ أن لا يشاهدها مَنْ يشهد بها، ثمّ يجوز أن يشاهدها مَنْ لا عدالة له فلا يشهد، وإنْ شهدَ لم تُقبل شهادتُه، وإنْ شاهدها مِن العدول مَنْ تُقبل مثلُ شهادتِه يجوز أن لا يختار الشهادة.
وكأنّنا نقدر على أن نحصي الوجوه التي تسقط معها إقامة الحدود!
ومع ذلك كلّه فالرهبة قائمة، والحذر ثابت، ويكفي التجويز دون القطع.
[ الإقرار عند الإمام]
فأمّا الإقرار: فيمكن أيضاً مع الغَيْبة؛ لأنّ بعض الأولياء ـ الّذين ربّما ظهر لهم الإمام ـ قد يجوز أن يواقع فاحشة فيتوب منها، ويؤْثر التطهير له
(80)
بالحدّ الواجب فيها، فيقرّ بها عنده.
فقد صارت الوجوه التي تكون مع الظهور ثابتةً في حال الغَيْبة.
[ احتمال بُعد الإمام وقربه]
فإن قيل: أليس ما أحد(118) من شيعته إلاّ وهو يجوِّز أن يكون الإمام بعيد الدار منه، وأنّه يحلّ إمّا المشرق أو المغرب، فهو آمن من مشاهدته له على معصيته، أو أن يشهد بها عليه شاهدٌ(119)، وهذا لا يلزم مع ظهور الإمام والعلم ببعد داره؛ لأنّه لا يبعد من بلد إلاّ ويستخلف فيه من يقوم مقامه ممّن يُرهب ويُخشى ويُتقى انتقامُه؟!
قلنا: كما لا أحد من شيعته (إلاّ وهو يجوِّز بُعد محلّ الإمام عنه، فكذلك لا أحد منهم)(120) إلاّ وهو يجوِّز كونه في بلده وقريباً من داره وجواره، والتجويز كافٍ في وقوع الحذر وعدم الأمان.
وبعد، فمع(121) ظهور الإمام وانبساط يده، ونفوذ أمره في جميع الأُمّة، لا أحد من مرتكبي القبائح(122) إلاّ وهو يجوِّز خفاء ذلك على الإمام ولا يتّصل به، ومع هذا فالرهبة قائمة، واللطف بالإمام ثابت.
فكيف ينسى هذا مَنْ يلزمنا بمثله مع الغَيْبة؟!

____________
(118) كان في «أ»: أليس لأحد. وفي «ج»: أليس أحد.
(119) في «أ» و «ج»: شاهد عليه.
(120) ما بين القوسين سقط من «ج».
(121) في «م»: ومع.
(122) في «ج»: القبيح.

(81)
[ أمكان استخلاف الإمام لغيره
في الغَيْبة والظهور]
فأمّا ما مضى في السؤال من: أنّ الإمام إذا كان ظاهراً متميزّاً وغاب عن بلدٍ، فلن يغيب عنه إلاّ بعد أن ستخلف عيله مَنْ يُرْهَبَ كرهبته؟
فقد ثبت أنّ التجويز ـ في حال الغَيْبة ـ لإنْ يكون قريب الدار منّا، مخالطاً لنا، كافٍ في قيام الهيبة وتمام الرهبة.
لكنّنا ننزل على هذا الحكم فنقول(123): ومن الذي يمنع مَن قال بغِيْبة الإمام (من مثل ذلك، فنقول: إنّ الإمام)(124) لا يبعد في أطراف الأرض إلاّ بعد أن يستخلف من أصحابه وأعوانه، فلا بُدّ من أن يكون له، وفي صحبته، أعوان وأصحاب على كلّ بلد يبعد عنه مَنْ يقوم مقامه في مراعاة ما يجري من شيعته، فإنْ جرى ما يوجب تقويماً ويقتضي تأديباً تولاّه هذا المستخلف كما يتولاّه الإمام بفسه.
فإذا قيل: وكيف يطاع هذا المستخلف؟! ومِن أين يَعلم الوليّ الذي يريد تأدبيه أنّه خليفة الإمام؟!
قلنا: بمعجزٍ يظهره الله تعالى على يده، فالمعجزات على مذاهبنا تظهر على أيدي الصالحين فضلاً عمّن يستخلفه الإمامُ ويقيمه مقامه.
فإن قيل: إنّما يرهب خليفة الإمام مع بُعْد الإمام إذا عرفناه وميّزناه!
____________
(123) سقطت الجملة التالية من «م» لغاية كلمة «فنقول» التالية.
(124) ما بين القوسين سقط من «أ».

(82)
قيل: قد مضى مِن هذا الزمان(125) ما فيه كفاية.
وإذا كنّا نقطع على وجود الإمام في الزمان ومراعاته لأمورنا، فحاله عندنا منقسمة إلى أمرين، لا ثالث لهما:
أمّا أن يكون معنا في بلد واحد، فيراعي أُمورنا بنفسه، ولا يحتاج إلى غيره.
أو بعيداً عنّا، فليس يجوز ـ مع حكمته ـ أن يبعد إلاّ بعد أن يستخلف مَنْ يقوم مقامه، كما يجب أن يفعل لو كان ظاهر العين متميّز الشخص.
وهذه غاية لا شبهة بعدها.
[ الفرق بين الغَيْبة والظهور
في الانتفاع بوجود الإمام]
فإن قيل: هذا تصريح منكم فأنّ ظهور الإمام كاستتاره في الانتفاع به والخوف منه ونيل المصالح من جهته، وفي ذلك ما تعلمون!(126).
قلنا: إنّا لا نقول: إنّ ظهوره في المرافق ـ به ـ والمنافع كاستتاره، وكيف نقول ذلك وفي ظهوره وانبساط يده وقوّة سلطانه، انتفاع الوليّ والعدوّ، والمحّب والمبغض؟! وليس ينتفع به في حال الغَيْبة ـ الانتفاع الذي
____________
(125) كلمة «الزمان» ليس في «أ».
(126) يعني أنّ هذا يقتضي أن لايكون هناك فرق بين حالتي الغَيْبة والظهور، في أداء الإمام دوره الإلهي، وهو ظاهر التهافت لوضوح الفرق بين الأمرين، مع أنّ هذا يؤدّي إلى بطلان جميع ما تحدّثتم به عن الغَيْبة وعللها ومصالحها وغير ذلك.

(83)
أشرنا إليه ـ إلاّ وليّه دون عدوّه.
وفي ظهوره وانبساطه ـ أيضاً ـ منافع جمّة لأوليائه وغيرهم؛ لأنّه يحمي بيضتهم، ويسدّ ثغورهم، ويؤمن سبلهم، فيتمكّنون من التجارات والمكاسب والمغانم، ويمنع من ظلم غيرهم لهم، فتتوفّر أموالهم، وتدرّ معايشهم، وتتضاعف مكاسبهم.
غير إنّ هذه منافع دنياويّة لا يجب ـ إذا فاتت بالغَيْبة ـ أن يسقط التكليف معها؛ والمنافع الدينية الواجبة في كلّ حال بالإمامة قد بيّنّا أنّها ثابتة مع الغَيْبة، فلا يجب سقوط التكليف لها.
ولو قلنا ـ وإنْ كان ذلك ليس بواجب ـ: أنّ انتفاعهم به على سبيل اللطف في فعل الواجب، والامتناع من القبيح ـ وقد بيّنّا ثبوته في حال الغَيْبة ـ يكون أقوى في حال الظهور للكلّ وانبساط اليد في الجميع، لجازَ:
لأنّ اعتراض ما يفّوت قوّة للطف ـ مع ثبوت أصله ـ لا يمنع من الانتفاع به على الوجه الذي هو لطف فيه، ولا يوجب سقوط التكليف.
[ هل يقوم شيء مقام الإمام في أداء دوره]
فإن قيل: ألا جوَّزتم أن يكون أولياؤه غير منتفعين به في حال الغَيْبة، إلاّ أنّ الله تعالى يفعل لهم من اللطف في هذه الأحوال ما يقوم في تكليفهم مقام الانتفاع بالإمام؟! كما قاله جماعة من الشيوخ في إقامة الحدود إذا فاتت، فإنّ الله تعالى يفعل ما يقوم مقامها في التكليف.
قلنا: قد بيّنّا أنّ أولياء الإمام ينتفعون به في أحوال الغَيْبة على وجه
(84)
لا مجال للريب عليه، وبهذا القدر يسقط السؤال.
ثمّ يبطل من وجه آخر، وهو: أنّ تدبير الإمام وتصرّفه واللطف لرعيّته به، ممّا لا يقوم ـ عندنا ـ شيء من الأمور مقامه. ولولا أنّ الأمر على ذلك لما وجبت الإمامة على كلّ حال، وفي كلّ مكلّف، ولكان تجويزنا قيام غيرها مقامها في اللطف يمنع من القطع على وجوبها في كلّ الأزمان.
وهذا السؤال طعن في وجوب الإمامة، فكيف نتقبّله ونُسال عنه في علّة الغَيْبة؟!
وليس كذلك الحدود؛ لأنّها إذا كانت لطفاً، ولم يمنع دليلٌ عقليّ ولا سمعيّ من جواز نظيرٍ لها وقائمٍ في اللطف مقامها، جاز أن يقال: أنّ الله تعالى يفعل عند فوتها ما يقوم مقامها، وهذا على ما بيّنّاه لا يتأتّي في الإمامة.
[ كيف يعلم الإمام بوقت ظهوره]
فإن قيل: إذا علّقتم ظهور الإمام بزوال خوفه من أعدائه، وأمنه من جهتهم:
فكيف يعلم ذلك؟
وأيّ طريق له إليه؟
وما يضمره أعداؤه أو يظهرونه ـ وهم في الشرق والغرب والبّر والبحر ـ لا سبيل له إلى معرفته على التحديد والتفصيل!
قلنا: أمّا الإمامية فعندهم: أنّ آباء الإمام عليه وعليهم السلام
(85)
عهدوا إليه وأنذروه وأطلعوه على ما عرفوه من توقيف الرسول (صلّى الله عليه وآله)(127) على زمان الغَيْبة وكيفيّتها، وطولها وقصرها، وعلاماتها وأماراتها، ووقت الظهور، والدلائل على (تيسيره وتسهيله)(128).
وعلى هذا لا سؤال علينا؛ لأنّ زمان الظهور إذا كان منصوصاً على صفته، والوقت الذي يجب أن يكون فيه، فلا حاجة إلى العلم بالسرائر والضمائَر.
وغير ممتنع ـ مضافاً إلى ما ذكرناه ـ أن يكون هذا الباب موقوفاً على غلبة الظنّ وقوّة الأمارات وتظاهر الدلالات.
وإذا كان ظهور الإمام أنّما هو بأحد أُمور: إمّا بكثرة أعوانه وأنصاره، أوقوّتهم ونجدتهم، أو قلّة أعدائه، أو ضعفهم وجورهم؛ وهذا أُمور عليها أمارات يعرفها من نظر فيها وراعاها، وقربت مخالطته لها، فإذا أحسَّ الإمام عليه السلام بما ذكرناه ـ إمّا مجتمعاً أو متفرِّقاً ـ وغلب في ظنّه السلامة، وقويّ عنده بلوغ الغرض والظفر بالأرب، تعيّن عليه فرض الظهور، كما يتعيّن على أحدنا فرض الإقدام والإحجام عند الأمارات المؤمّنة والمخيفة.
[هل يعتمد الإمام على الظنّ
في أسباب ظهوره]
فإن قيل: إذا كان مَنْ غلب عنده ظنّ السلامة، يجوِّز خلافها، ولا يأمن أن يحقّق ظنّه، فكيف يعمل إمام الزمان ومهديّ الأُمّة على الظنّ في
____________
(127) في «أ»: عليه السلام.
(128) في «ج»: تيّسره وتسهّله.

(86)
الظهور ورفع التقيّة وهو مجوِّز أن يُقتل ويُمنع؟!
قلنا: أمّا غلبة الظنّ فتقوم مقام العلم في تصرّفنا وكثير من أحوالنا الدينية والدنياوية من غير علم بما تؤول إليه العواقب، غير إنّ الإمام خطبُه يخالف خطب غيره في هذا الباب، فلا بُدّ فيه مِن أن يكون قاطعاً على النصر والظفر.
[ الجواب على مسلك المخالفين]
وإذا سلكنا في هذه المسألة الطريق الثاني من الطريقين اللذين ذكرناهما، كان لنا أن نقول: إنّ الله تعالى قد أعلم إمام الزمان ـ من جهة وسائط علمه، وهم آباؤه وجدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله ـ أنّه متى غلب في ظنّه الظفر وظهرت له أمارات السلامة، فظهوره واجبٌ ولا خوف عليه من أحد، فيكون الظنّ ها هنا طريقاً إلى(129) العلم، وباباً إلى القطع.
وهذا كما يقوله أصحاب القياس إذا قال لهم نافوه في الشريعة ومبطلوه: كيف يجوز أن يُقْدِمَ ـ مَنْ يظنّ أنّ الفرع مشبه للأصل في الإباحة، ومشارك له في علّتهاـ على الفعل، وهو يجوِّز أن يكون الأمر بخلاف ظنّه؟ لأنّ الظنّ لا قطع معه، والتجويز ـ بخلاف ما تناوله ـ ثابتٌ، أوليس هذا موجباً أن يكون المكلّف مُقْدِماً على ما لا يأمن كونه قبيحاً؟! والإقدام على ما لا يؤمن قبحه كالإقدام على ما يعلم قبحه.
لأنّهم يقولون: تَعَبُّدُ الحكيمِ سبحانه بالقياس يمنع من هذا
____________
(129) في «م»: من.
(87)
التجويز؛ لأن الله تعالى إذا تَعَبَّدَ بالقياس فكأنّه عزّوجلّ قال: «مَنْ غلب على ظنّه بأمارات، فظهر له في فرع أنّه يشبه أصلاً محلّلاً فيعمل على ظنّه، فذلك فرضه والمشروع له» فقد أمن بهذا الدليل ومن هذه الجهة الإقدام على القبيح، وصار ظنّه ـ أنّ الفرع يشبه الأصل في الحكم المخصوص ـ طريقاً إلى العلم بحاله وصفته في حقّه وفيما يرجع إليه، وإنْ جاز أن يكون حكم غيره في هذه الحادثة بخلاف حكمه إذا خالفه في غلبة الظنّ.
ومَنْ هذه حجّته وعليها عمدته، كيف يشتبه عليه ما ذكرناه في غلبة الظنّ للإمام بالسلامة والظفر؟!
والأَوْلى بالمنصف أن ينظر لخصمه كما ينظر لنفسه ويقنع به من نفسه.
[ كيف يساوى بين حكم الظهور والغَيْبة
مع أنّ مبنى الأول الضرورة،
ومبنى الثاني النظر ]
فإن قيل: كيف يكون الإمام لطفاً لأوليائه في أحوال غَيْبته (130)، وزاجراً لهم عن فعل القبيح، وباعثاً على فعل الواجب على الحدّ الذي يكون عليه مع ظهوره؟ وهو:
إذا كان ظاهراً متصرِّفاً: علم ضرورةً، وخيفت سطوته وعقابه مشاهدةٌ.

____________
(130) في «م»: الغَيْبة.
(88)
وإذا كان غائباً مستتراً: علم ذلك بالدلائل المتطرّق عليها ضروب الشبهات.
وهل الجمع بين الإمرين إلاّ دفعاً للعيان؟!
قلنا: هذا سؤال لم يصدر عن تأمّل:
لأنّ الإمام، وإنْ كان مع ظهوره نعلم وجوده ضرورةً، ونرى تصرّفه مشاهدةً، فالعلم بأنّه الإمامُ المفترض(131) الطاعة المستحقّ للتدبير والتصرّف، لا يُعلم إلاّ بالاستدلال الذي يجوز اعتراض الشبهة فيه /(132).
والحال ـ في العلم بأنّه / (133) الإمام المفروض الطاعة، وأنّ الطريق إليه الدليل في الغَيْبة والظهور ـ واحد[ ة.(134) ]
فقد صارت المشاهدة والضرورة لاتغني في هذا الباب شيئاً؛ لأنّهما ممّا لا يتعلّقان إلاّ بوجود عين الإمام، دون صحّه إمامته ووجوب طاعته.
واللطف إنّما هو ـ على هذا ـ يتعلّق بما هو غير مشاهد.
وحال الظهور ـ في كون الإمام عليه السلام لطفاً لمن يعتقد إمامته وفرض طاعته ـ [ كحال الغَيْبة .(135) ]

____________
(131) في «م»: المفروض.
(132) إلى هنا تنتهي نسخة «ج».
(133) إلى هنا تنتهي نسخة «أ». وجاء هنا ما نصّه:
والله أعلم ببقيّة النسخة إلى هنا، وفرغ من تعليقها نهار الاثنين الثامن من شهر شعبان المبارك، من شهور سنة سبعين وألف، الفقير الحقير، المقرّ بالذنب والتقصير، إبراهيم بن محمد الحرفوشي العاملي، عامله الله بلطفه، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.
(134) أثبتناه لضرورة السياق؛ لأنّها خبر «والحال».
(135) أثبتناه لضرورة السياق.

(89)
وسقطت الشبهة.

والحمد لله وحده،
وصلّى الله على محمّد وأله وسلّم(136) .


____________
(136) جاء هنا في نهاية نسخة «م» ما نصّه: كتب العبد محمد بن ابراهيم الأوالي. وفرغت من مقابلته وتتميم كتابته على نسخة مخطوطة في القرن العاشر، بخطّ محمّد بن إبراهيم بن عيسى البحراني الأوالي، ضمن مجموعة قيّمة في مكتبة السيّد المرعشي العامّة العامرة، في مدينة قم، في يوم الأربعاء سابع محرّم الحرام من سنة 1410، وأنا المرتهن بذنبه، الفقير إلى عفو ربّه، عبد العزيز الطباطبائي.

(91)

مصادر المقدّمة والتحقيق
1ـ إعلام الورى بأعلام الهدى، لأمين الإسلام الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548 هـ ) دار الكتب الإسلامية ـ طهران، بالتصوير على طبعة النجف الأشرف.
ومخطوطة منه، من القرن السابع الهجري، من محفوظات مكتبة مؤسسة آل البيت ـ عليهم السلام ـ لإحياء التراث / قم.
2ـ تنزيه الأنبياء والأئمّة، للشريف المرتضى عليّ بن الحسين الموسوي (355 ـ 436 هـ) منشورات الشريف الرضيّ ـ قم (مصِّور).
3ـ الذخيرة في علم الكلام، للشريف المرتضى علىّ بن الحسين الموسوي (355ـ 436 هـ) تحقيق السيّد أحمد الحسيني، جماعة المدرّسين ـ قم/ 1411 هـ.
4 ـ الذريعة إلى تصانيف الشيعة، للشيخ آقا بزرك الطهراني (ت 1389ـ هـ) الطبعة الثانية، دار الأضواء ـ بيروت / 1403 هـ.
5ـ رجال النجاشي، للشيخ أبي العبّاس أحمد بن عليّ النجاشي (372 ـ 450 هـ) تحقيق السيّد موسى الشبيري الزنجاني، جماعة المدرّسين ـ قم / 1407 هـ.
6 ـ رسالة في غَيْبْة الحجة (رسائل الشريف المرتضى ـ المجموعة الثانية) للشريف المرتضى عليّ بن الحسين الموسوي (355 ـ 436 هـ) إعداد السيّد مهدي الرجائي، دارالقرآن الكريم ـ قم / 1405 هـ.

(92)
7ـ الشافي في الإمامة، للشريف المرتضى عليّ بن الحسين الموسوي (355 ـ 436 هـ) تحقيق السيّد عبد الزهراء الحسيني الخطيب، مؤسسة الصادق ـ طهران / 1410 هـ، بالتصوير على طبعة بيروت.
8ـ الصحاح، لإسماعيل بن حمّاد الجوهري، تحقيق أحمد عبدالغفور عطّار، الطبعة الثالثة، دارالعلم للملايين ـ بيروت / 1404 هـ.
9ـ الغَيْبة، لشيخ الطائفة الطوسي (385 ـ 460 هـ) تحقيق الشيخ عباد الله الطهراني والشيخ علي أحمد ناصح، مؤسسة المعارف الإسلامية ـ قم / 1411هـ.
10ـ الفرق بين الفرق، لعبد القاهر بن طاهر الاسفرائيني (ت 429 هـ) تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، دارالمعرفة ـ بيروت.
11 ـ الفَرْق الشيعة، لأبي محمد الحسن النوبختي (ق 3هـ) تصحيح السيّد محمد صادق بحر العلوم، المكتبة المرتضوية ـ النجف الأشرف / 1355 هـ.
12ـ الفهرست، لشيخ الطائفة الطوسي (385 ـ 460 هـ) منشورات الشريف الرضي ـ قم، بالتصوير على طبعة المكتبة المرتضوية في النجف الأشرف بالعراق.
13ـ لسان العرب، لابن منظور المصري، أدب الحوزة ـ قم / 1405 هـ (مصوِّر).
14ـ معجم الأدباء، لياقوت الحموي، الطبعة الثالثة، دار الفكر ـ بيروت / 1400 هجرية.
15ـ معجم البلدان، لياقوت الحموي، دار صادر ـ بيروت/ 1399 هـ.
16ـ مفتاح السعادة ومصباح السيادة، لأحمد بن مصطفى طاش كبرى زاده، الأولى، دارالكتاب العلميةـ بيروت / 1405 هـ.
17ـ الملل والنحل، للشهرستاني (479 ـ 548 هـ) تخريج محمد بن فتح الله بدران، منشورات الشريف الرضيّ ـ قم، بالتصوير على الطبعة الثانية.
وطبعة أُخرى، بتحقيق محمد سيّد كيلاني، دارالمعرفة ـ بيروت.
18ـ الواقفية.. دراسة تحليليّة، للشيخ رياض محمد حبيب الناصري، المؤتمر العالمي للإمام الرضا عليه السلام ـ مشهد / 1409 و 1411 هـ.