المبحث الثاني
ثبوت تواتر النصّ على الاَئمة عليهم السلام

إنَّ المتتبع المنصف والطالب للحقيقة ، يستطيع أن يتبين من خلال ما عرضناه ، أنَّ عملية تثبيت النصّ وترسيخه في أحقية الاِمام عليّ عليه السلام بالخلافة والاِمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مباشرة قد تمَّ معه في عين الوقت النصّ على الاَئمة من بعده ، وأنّ ما تواتر عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الاَمر كاشف عن هذه الحقيقة ، وإليك البيان :
إنَّ اثبات تواتر إمامة أئمتنا عليهم السلام والنصّ عليهم لم يتمّ عن طريقٍ واحدٍ بل كان ذلك بطرق نوجز لك بعضها باختصار :
أولاً : الطرق الاِجمالية لاِثبات إمامة الاَئمة من أهل البيت عليهم السلام :
وتتمثل بالاَحاديث المنقولة في أصح كتب السُنّة من الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها ، وسوف نختار منها حديثين لا أكثر ، وهما :
الحديث الاَول : حديث من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية وما يفيد معناه ويكون بمضمونه ، كحديث : من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية ، وحديث من مات وليس عليه إمام فإن موتته موتة جاهلية ، وحديث من مات بغير إمام مات ميتةً جاهلية وإليك بعض من أخرجه من العامّة :

( 52 )
مصادره :
ـ البخاري في باب الفتن من صحيحه : 5 : 13 .
ـ مسلم في صحيحه 6 : 21 ـ 22 | 1849 .
ـ أحمد بن حنبل في مسنده 2 : 83 ، 3 : 446 ، 4 : 96 .
ـ ابن حبان في صحيحه ، الاحسان بترتيب صحيح ابن حبان 7:49|4554.
ـ الطبراني في المعجم الكبير 10 : 350 | 10687 طبعة بغداد .
ـ الحاكم النيسابوري في المستدرك 1 : 77 .
ـ أبو نعيم الاصفهاني في حلية الاَولياء 3 : 224 .
ـ ابن الاَثير الجزري في جامع الاصول 4 : 70 .
ـ الطيالسي في مسنده : 259 .
ـ الدولابي في الكنى والاَسماء 2 : 3 .
ـ البيهقي في سننه 8 : 156 و 157 .
ـ السرخسي في المبسوط 1 : 113 .
ـ ابن أبي الحديد المعتزلي الحنفي في شرح النهج 9 : 155 .
ـ النووي في شرح صحيح مسلم 12 : 440 .
ـ الذهبي في تلخيص المستدرك 1 : 77 و 177 .
ـ ابن كثير في تفسيره 1 : 517 .

( 53 )
ـ التفتازاني في شرح المقاصد 2 : 275 .
ـ الهيثمي في مجمع الزوائد 5 : 218 و 219 و 223 و 225 و 312.
ـ المتقي الهندي في كنز العمال 3 : 200 .
ـ ابن الربيع الشيباني في تيسر الوصول 2 : 39 .
ـ القندوزي الحنفي في ينابيع المودة : 117 .
ـ الاسكافي المعتزلي في خلاصة نقض كتاب العثمانية للجاحظ: 29 .
دلالته :
أما دلالته فلا تستقيم إلاّ على أصول الاِمامية الاثني عشرية ، ولا تنطبق إلاّ على أئمة أهل البيت عليهم السلام ، فمن ادعى أن المراد بالاِمام الذي من لايعرفه سيموت ميتةً جاهلية هو السلطان أو الحاكم أو الملك مهما كانت صفته ولو كان فاسقاً ظالماً فاجراً ، فعليه أنْ يثبت بالدليل أن معرفة الظالم الفاسق من الدين أولاً ، وثانياً أن يبيّن الثمرة المترتبة على هذه المعرفة بمثل هؤلاء الذين كان منهم من سبى ذراري رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقتلهم ومنهم من قتل حجر بن عدي وأصحابه ظلماً وعدواناً ، كمعاوية فويل له من أصحاب حجر على ما قاله الحسن البصري ، فكيف يكون إماماً يا تُرى؟!
إنّ الشرع المقدس الذي أكّد على وجوب توفر العدالة في شاهد الدعوى واعتبرها أساساً لقبول شهادته ، هو أرفع من أن يأتمن خائناً يتحكم في نفوس رعيته وفي مقدرات الاَمّة ، ثمّ يأمر بلزوم طاعته ،
( 54 )
ويحذر من مخالفته ، ويجعله إماماً من مات ولم يعرفه مات ميتة جاهلية !
اتهام زرارة بعدم معرفته لاِمام زمانه :
ومن الجهل العجيب بحال زرارة بن أعْين رضي الله تعالى عنه هو ما زُعم من أنّه مات ولم يعرف إمام زمانه ، ثم تقوّلهم : بأنه لو كان النص متواتراً عند الشيعة بإمامة الاَئمة لما جهله من مثل زرارة .
الردّ على هذا الاتهام وبيان زيفه :
إعلم أن اتّهام زرارة بهذا ، هو اتهام للاِمام الصادق عليه السلام ؛ لاَنّ الثّابت عنه عليه السلام وبأصح أسانيد الشيعة أنّه قال بحق زرارة ونظرائه : والله إنَّهم أحبّ النّاس إليّ أحياءً وأمواتاً (1).
وقد تواتر عن الاِمام الصادق قوله عليه السلام : من مات وليس له إمام، فميتته ميتة جاهلية (2).
وهل يعقل أن يفرِّط الاِمام الصادق عليه السلام بزرارة ، ويتركه هملاً فيموت ميتة جاهلية ؟
ثم كيف يقول عليه السلام : إنّه أحب الناس إليّ حياً وميتاً ، ولا يخبره بمن هو الاِمام ـ إن كان لا يعلم ذلك ـ ويدعه على ضلالةٍ بعده عليه السلام ؟
ثم ما بال زرارة لا يسأل الاِمام الصادق في حياته عمن سيكون إماماً
____________
(1) كمال الدين ، للصدوق 1 : 76 .
(2) اُصول الكافي 1 : 303 | 5 و 1 : 308 | 1 و 2 و 3 و 1 : 327 | 1 وقد ورد في 1 : 38 ـ 142 أربعة عشر حديثاً بهذا المعنى .

( 55 )
بعده إن كان لا يعرف حقاً من هو الاِمام ؟ كما نجده في مبادرة من جهل هذا من الرواة ، أو أحبّ التأكّد من سلامة الروايات في مُسآئلة إمام زمانه عمن سيكون بعده في جملة من الاَخبار ؟
هذا مع أنَّ زرارة روى عن الاِمام الصادق عليه السلام قوله : إعرف إمامك فإنَّك إذا عرفته ، لم يضرك تقدّمَ هذا الاَمر أو تأخر (1).
ترى ، هل يرى هؤلاء أنّ زرارة كان عالماً بوقوع وفاته قبل وفاة إمام زمانه (الصادق عليه السلام ) ؟ فلاَجل ذلك استغنى عن معرفة من سيكون بعده !
وهل من مثل زرارة ، وهو في مقدمة فقهاء مدرسة أهل البيت عليهم السلام ، يجهل أو يتجاهل مثل هذا الاَمر الخطير ، على فرض عدم علمه المسبق بالنص ؟!
إنّه جهلٌ بحال زرارة ، وبمكانته عند أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم ، وافتراء عليه عظيم ، وهل يعلم أنَّ من زعم أن زرارة مات ولم يعرف إمامة الاِمام الكاظم عليه السلام ، أن زرارة يعلم بالاِمام المهدي في زمان الاِمام الصادق عليهما السلام ، وله في ذلك أبيات شعرية معروفة نقلها الجاحظ في كتاب الحيوان (2) .
فهل يعقل من رجل شيعي يعلم بالاِمام المهدي قبل ولادته بقرنين من الزمان ثم يجهل آباءه عليهم السلام !! ولا يتتبع ماورد من آثار في تشخيصهم بالاسم والوصف والعنوان ؟

____________
(1) اُصول الكافي 1 : 303 | 1 .
(2) كتاب الحيوان 7 : 49 ـ 50 .

( 56 )
وأما كونه افتراء على زرارة فهو من الواضح جداً ؛ لاَنَّ لسان الروايات الواردة في هذا الشأن برجال الكشي ، خلاصتها : أنّ زرارة أرسل ابنه عُبيداً من الكوفة إلى المدينة على أثر وفاة الاِمام الصادق عليه السلام ، ليسأل عن الخبر ، إذ ورد الخبر إلى الكوفة بوفاة الصادق عليه السلام سنة 148 هـ ، واختلف بعض عوام الشّيعة في معرفة الاِمام بعده .
وهذا ليس شيئا نُكْراً ، ولا يقول أحد من الشيعة أنَّ جميع الشّيعة في جميع عصور الاَئمة عليهم السلام يعلمون بتواتر النص على إمامة الاَئمة الاثني عشر وبأسمائهم عليهم السلام .
وإنما نقول : إنَّ الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر بأنَّ الخلفاء من بعده اثنا عشر ـ كما سيأتي في الحديث الثاني ـ ، ثمَّ عيّن لجابر الاَنصاري ، وسلمان الفارسي ، وحذيفة (رضي الله عنهم) وغيرهم . بأنَّ هؤلاء هم الاَئمة الاثنا عشر ، كما روى ذلك القندوزي في ينابيع المودة ، والزرندي في نظم درر السمطين ، والخوارزمي الحنفي في مقتل الاِمام الحسين عليه السلام ، وتواتر ذلك عند علماء الشيعة ، فرووا النصّ بأسمائهم عليهم السلام ، وليس من المُنْكَرِ أن يجهله بعضهم؛ لظروف الاَئمة عليهم السلام في ذلك العصر ، لا سيما في عصر الاِمام الكاظم عليه السلام الذي اشتدت فيه البلية على الشيعة بزج فرعون هذه الاُمّة هارون إمام الاُمّة في ظلمات السجون ، حتى قضى نحبه شهيداً ينادى على جثمانه الطاهر ـ من على جسر بغداد ـ : هذا إمام الرافضة !!
أوَينكر هذا ؟!
فلا غرو إذن أن يحصل لبعض الشيعة في المدينة المنورة وغيرها شيء من الجهل المؤقت في إمامة الاِمام الكاظم عليه السلام ، بل وقد حصل أكثر منه
( 57 )
في إمامة غيره عليه السلام كما هو معلوم في عقائد فرق الشيعة المنحرفة عن جادة الصواب ، للسبب المذكور ، وأسباب اُخرى يطول شرحها ، كحبهم للعاجلة دون الآجلة ، وخلطهم أضغاث الحقّ بأضغاث الباطل ، ونحوها كما هو مسطور في المطوّلات وأُمّهات كتب الشّيعة .
وإذا ما علمت هذا ، فاعلم أنّ في شيعة الكوفة أيضاً مَنْ لم يصل إليه النصّ بالاِمام بعد جعفر الصادق عليه السلام ، وإنْ عَلِم إجمالاً بأنّه لابد وأنْ يكون من ولده . وهؤلاء لا تثريب عليهم أن يسألوا بعد ورود الخبر بوفاة إمامهم عليه السلام ، عن الاِمام الذي سيليه ، ولا شكّ أنهم لا يسألون غير علماء الشيعة وثقاتهم المقربين من الاَئمة عليهم السلام كزرارة وأضرابه .
ومن هنا ابتلي زرارة رضي الله عنه ، إذ كان يُسأل في ذلك الحين ـ كما يظهر من الخبر الصحيح التالي ـ عن الاِمام بعد أبي عبد الله عليه السلام ؟ فيمتنع من الاِجابة دون أمر من الاِمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام ؛ لشدة التقية في ذلك الحين ، فأرسل ابنه ـ من الكوفة إلى المدينة ـ ليرى رأي الاِمام الكاظم عليه السلام في ذلك .
ويدلّ عليه ، ما رواه الشيخ الصدوق بسند معتبر قال : «حدثنا أحمد بن زياد بن جعفر الهمداني رضي الله عنه (1)، قال : حدثنا عليّ بن إبراهيم بن هاشم (2)
____________
(1) قال بحقه الصدوق : «وكان رجلاً ثقة ، ديّناً ، فاضلاً رحمة الله عليه ورضوانه» كمال الدين 2 : 369 ذيل الحديث | 6 باب 34 (ما أخبر به الكاظم عليه السلام من وقوع الغيبة) وقد وثقه سائر علماء الشيعة.
(2) قال بحقه النجاشي : «ثقة في الحديث ثبت معتمد ، صحيح المذهب ، سمع فأكثر ، وصنف كتباً» رجال النجاشي : 260 | 680 وقد وثقه سائر علماء الشيعة .

( 58 )
قال : حدثني محمّد بن عيسى بن عبيد (1)، عن إبراهيم بن محمّد الهمداني رضي الله عنه (2). قال : قلت للرضا عليه السلام : يابن رسول الله ! أخبرني عن زرارة ، هل كان يعرف حقَّ أبيك عليه السلام ؟ قال : نعم ، فقلت له : فلم بعثَ ابنه عُبيداً ليتعرف الخبر إلى من أوصى الصادق جعفر بن محمّد عليه السلام ؟ فقال عليه السلام : إن زرارة كان يعرف أمر أبي عليه السلام ، ونصَّ أبيه عليه ، وإنما بعث ابنه ليتعرف من أبي عليه السلام ، هل يجوز له أن يرفع التقية في اظهار أمرهِ ، ونص أبيه عليه ، وأنّه لما أبطأ عنه ابنه ، طولب باظهار قوله في أبي عليه السلام ، فلم يُحب أن يُقْدِم على ذلك دون أمره ، فرفع المصحف ، وقال : اللّهم إنّ إمامي من أثبت هذا المصحف إمامته من ولد جعفر بن محمّد عليهما السلام » (3).
ولنا فيما يؤيد التزام زرارة بالتقية في ذلك الظرف دليلان :
أحدهما : وصية الاِمام الصادق عليه السلام بعد وفاته ، فعن أيّوب النحوي قال: «بعث إليّ أبو جعفر المنصور في جوف الليل ، فأتيته ، فدخلت عليه وهو جالس على كرسي وبين يديه شمعة وفي يده كتاب.. فقال لي : هذا كتاب محمّد بن سليمان يخبرنا أنّ جعفر بن محمّد قد مات.. ثم قال لي : اكتب ، قال : فكتبت صدر الكتاب ، ثم قال : اكتب إن كان أوصى إلى رجل واحد بعينه فقدّمه واضرب عنقه ، قال : فرجع إليه الجواب : أنّه قد أوصى
____________
(1) قال بحقه النجاشي : «أبو جعفر ، جليل في أصحابنا ، ثقة عين ، كثير الرواية ، حسن التصانيف روى عن أبي جعفر الثاني عليه السلام مكاتبة ومشافهه» رجال النجاشي 333 | 896 ووثقه سائر علماء الشيعة.
(2) من أصحاب الاِمام الرضا والجواد والهادي وكان وكيلاً لهم عليهم السلام حج أربعين حجة ، وقد أورد الكشي ست روايات فيها تصريح الاَئمة عليهم السلام بجلالته والاشادة بفضله وأمر الناس باطاعته ، رجال الكشي : الاحاديث رقم 1009 ، 1053 ، 1135 ، 1136 وغيرها .
(3) كمال الدين ، للصدوق 1 : 75 .

( 59 )
إلى خمسة وأحدهم أبو جعفر المنصور ، ومحمّد بن سليمان ، وعبد الله ، وموسى ، وحميدة» (1).
وقد وردت الرواية هذه بطريق آخر ثابت الصحّة ، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه ، عن النضر بن سُويد بنحو من هذا ، إلا أنه ذكر أنّه أوصى إلى أبي جعفر المنصور ، وعبد الله ، وموسى ، ومحمّد بن جعفر ، ومولى لاَبي عبد الله عليه السلام . فقال أبو جعفر : «ليس إلى قتل هؤلاء سبيل» (2).
ويستفاد من هذه الرواية أمران مهمان للغاية :
الاَوّل : احتراز الاِمام الصادق عليه السلام من فتك المنصور بالاِمام الكاظم عليه السلام فيما لو كانت الوصيّة له فقط ، لذا أدخل فيها ما يبطل كيد الخائنين .
الثاني : إنّ حجم التقية واضحٌ في الوصيّة ، وإلا فأيّ صلة بين صادق أهل البيت عليهم السلام والمنصور الدوانيقي ، حتى يجعله وصياً ؟
ومن هذا يعلم أنّ احتفاظ زرارة بمعرفة الاِمام لنفسه لم تكن اعتباطاً .
والآخر : ما رواه الكشي بسنده عن زرارة ، أنّه قال : «والله لو حدّثت بكل ما سمعته من أبي عبد الله عليه السلام ؛ لانتفخت ذكور الرجال على الخشب»(3)س كناية عن صَلْبهم على جذوع النخيل ، كما هو فعل الطّغاة مِنْ قَبلُ كزياد بن سميّة وأسياده وأتباعه .

____________
(1) اُصول الكافي 1 : 310 | 13 .
(2) اُصول الكافي 1 : 310 ـ 311 | 14 .
(3) رجال الكشي : 134 | 212 .

( 60 )
وأخيراً لا بدّ من التذكير بأمرين :
الاَوّل : شهادة الشيخ المتفق على جلالته أبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله تعالى عنه) لآل زرارة ـ مطلقاً ـ بكلِّ خير ، ابتداء من عميدهم زرارة ، ثم أولاده وأحفاده وصولاً إلى زمان الشيخ الجليل أبي غالب الزراري ، فقال عنهم : «أهل بيتٍ جليل ، عظيم القدر في هذا الاَمر» (1).
ترى ، وهل يعني قدس سره بـ (هذا الاَمر) غير أمر الاِمامة ؟ وهل يكون الرجل جليلاً وعظيم القدر في أمر الاِمامة ، وهو لا يعرف إمام زمانه ؟!!
الثاني : التّنبيه على أن زرارة هو من أصحاب الاِمام الكاظم عليه السلام (2)وأنه مات بعد سنتين من إمامة الاِمام الكاظم عليه السلام (3).
ولو فرض أنّ زرارة لم يكن عالماً بالنص على إمامة الاِمام الكاظم في حياة أبيه الصادق عليهما السلام ، وأنّه علم بذلك خلال السنتين اللتين أمضاهما في عهد الاِمام الكاظم عليه السلام . فإنّ هذا لا يلغي النصّ ، خصوصاً وأنّ اعتقاد من مثل زرارة به ـ ولو في وقت غير مبكر ـ يكشف عن اعتقاد زرارة بوجود النص بنحو قاطع وهذا يكفي لاثبات ما نحن فيه ، وهو لايضر بزرارة على الفرض المذكور .
هذا ما وسعنا أن نقوله بشأن زرارة رضي الله تعالى عنه ، لا بقصد الاِيضاح لما خفي على الزاعم ؛ لاَنّ ما في هذا البحث يكفي لطالب الحق معرفته ، وللنصّ إثباته ، ونحن نرجوا تأثيره في القلوب المنصفة إذْ لم
____________
(1) كتاب الغيبة ، للشيخ الطوسي : 183 .
(2) رجال الشيخ الطوسي : 337 | 1 . ورجال البرقي : 47 .
(3) رجال النجاشي : 175 | 463 . ورجال الشيخ : 210| 90 .

( 61 )
نزجه لكلِّ مفتر كذاب .
لي حيلةٌ في من ينمُّ ، فإنّنيأطوي حديثي دونه وخطابي
لكنّما الكذّاب يخلُقُ قولَهما حيلتي في المُفترِي الكذّابِ
الحديث الثاني : حديث الخلفاء اثنا عشر كلهم من قريش ، وإليك بعض من أخرجه من العامّة :
مصادره :
ـ البخاري في صحيحه 4 : 164 ، كتاب الاحكام باب الاستخلاف .
ـ مسلم في صحيحه بتسعة طرق 2 : 119 ، كتاب الامارة .
ـ أحمد في مسنده 5 : 90 ، 93 ، 97 ، 100 ، 106 ، 107 ، دار صادر.
ـ سنن أبي داود 4 : 106 | 7279 ، 4281 .
ـ المعجم الكبير للطبراني 2 : 238 | 1996 .
ـ سنن الترمذي 4 : 501 .
ـ حلية الاَولياء لاَبي نعيم 4 : 332 .
ـ مستدرك الحاكم 3 : 618 .
ـ فتح الباري بشرح صحيح البخاري 13 : 211 .
ـ صحيح مسلم بشرح النووي 12 : 201 .
ـ مشكاة المصابيح للتبريزي 3 : 327 | 5983 .

( 62 )
ـ السلسلة الصحيحة للالباني حديث رقم 376 . وغيرها كثير جداً .
دلالته :
أما دلالة الحديث : فنقول :
هل يمكن أن نحمل الخليفة هنا على كل من تولّى الحكم من خلفاء بني اُميّة وبني مروان ومن على شاكلتهم ؟
لقد اختلف أئمة الحديث أيّما اختلاف في أسمائهم واضطربوا كلّ الاضطراب ، فدونك ابن قيم الجوزية في شرحه على سنن أبي داود(1) ودونك ما عند ابن كثير في تفسيره (2)، وهذا المقريزي لم يُدخل أحداً من بني اُميّة إطلاقاً في كتابه السلوك لمعرفة دول الملوك(3).
ثم الحديث يفيد استمرار الاَمر إلى آخر الدهر ، وما ذكروه من أسماء الملوك وسلاطين الجور منقوض متهافت ، وما ذكره العامّة لا يمكن أن ينطبق مع الواقع ، وأنّ المصداق الوحيد الصحيح هو أئمة أهل البيت عليهم السلام فراجع في سيرتهم وصلاحهم واستمرار وجودهم الشريف بوجود مهدي آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم : الصواعق المحرقة لابن حجر الهيتمي . ودونك ما نقله عن الاِمام زين العابدين إذا أردت الحق ، قال : قال الاِمام عليه السلام : فإلى من يفزع خلف هذه الاُمّة وقد درست أعلام هذه الملّة ، ودانت الاُمّة بالفرقة والاختلاف يكفّر بعضهم بعضاً ، والله تعالى يقول: (وَلا تَكُونُوا كالَّذِينَ
____________
(1) شرح الحافظ ابن قيم الجوزية على سنن أبي داود 11 : 363 في شرح الحديث (4259).
(2) تفسير ابن كثير 2 : 24 في تفسير الآية (12) من سورة المائدة .
(3) السلوك لمعرفة دول الملوك ، للمقريزي 1 : 13 ـ 15 من القسم الاَوّل .

( 63 )
تَفَرّقُوا وَاختَلَفُوا... ) (1)؟ فمن الموثوق به على إبلاغ الحجّة وتأويل الحكم إلاّ أبناء أئمة الهدى ، ومصابيح الدجى الذين احتجّ الله بهم على عباده ، ولم يدع الخلق سدىً من غير حجّة ، هل تعرفونهم أو تجدونهم اِلا من فروع الشجرة المباركة ، وبقايا الصفوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً ، وبرأهم من الآفات وافترض مودتهم في الكتاب.. (2).
هذا ، وأما عن احتجاج الخصوم باختلاف الشيعة بعد استشهاد الاِمام الحسين عليه السلام فهم لم يبينوا لنا طبيعة هذا الاختلاف حتى نجيب عليه ، فكأنهم لا يعلمون بالدم الشيعي المراق أخذاً بثارات الاِمام الحسين عليه السلام ، وربما أرادوا بذلك دعوى مهدوية ابن الحنفية ، فإن كان مرادهم هذا فاعلم أن مدّعي ذلك هم الكيسانية لا الشيعة الاِمامية ، ونحسبهم أرادوا بهذا مايُروى عن منازعة ابن الحنفية للاِمام عليّ بن الحسين عليه السلام بشأن الاِمامة ، وهذا لم يثبت بخبر صحيح ، بل الثابت عندنا قوله بإمامة ابن أخيه الاِمام زين العابدين عليه السلام ، ثم اعلم أنَّ المتمسِّك بهذه الذريعة الواهية، لا يعلم بالاختلافات الواصلة إلى درجة التناقض في مسائل شتى هي من صلب عقائد المسلمين ، بدءاً من صفات الله تعالى إلى المعاد إلى غير ذلك من العقائد ، فهل يقدح ذلك في اُصولها ؟! وهل يكون مدعاةً للرفض ؟! ثم الاُمّة المسلمة افترقت ثلاث وسبعين فرقة ، فعلى ماذا كان الافتراق ؟ وهل يعني هذا التشكيك بأصل الاِسلام وعقائده لمجرد وقوع الافتراق؟!!

____________
(1) آل عمران 3 : 105 .
(2) الصواعق المحرقة : 120 .

( 64 )
ثانياً : تواتر النصّ عند الشيعة :
تواتر النقل عند الشيعة الاِمامية خلفاً عن سلف بخصوص النصّ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الاَئمة ، ابتداءً من الاِمام عليٍّ عليه السلام وانتهاء بالاِمام المهدي(عجّل الله تعالى فرجه) . زيادة على تواتر النقل عندهم في نصّ أمير المؤمنين عليه السلام على من بعده ، وهكذا نصّ كلُّ إمام سابق على من يليه وصولاً إلى مهدي هذه الاَمة عليه السلام . ومن راجع كتب الحديث الشيعية علم بصحة هذا ولا حاجة إلى التطويل في إبراز ذلك.. (1)إلاَّ أنَّه من المهم الاِشارة إلى بعض الرشحات التي أفرزتها كتب العامّة وهي صريحة في التنصيص على إمامة أهل البيت عليهم السلام بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ذكرهم بالاسم ، وقد نقل بعضها القندوزي الحنفي في ينابيع المودة (2)أخرجها عن سلمان الفارسي ، وابن عباس ، وجابر بن عبد الله الاَنصاري وغيرهم .
ولا يخفى بأنَّ العادة جرت بأنّ كلَّ من اعتقد مذهباً طريق صحته النقل، فَإنَّ دواعيه تتوفر على نقله ، وتتوفر دواعي مخالِفِهِ على طيّه وكتمانه ، والطعن عليه ، والاِنكار له . وقد رأينا اتفاق من خالفنا في ذلك معنا في رواية ما يدل على إمامة أئمتنا كما تقدم في الطريق الاَول، وهذا يعني أنّ الله عز وجلّ قد أعمى أبصارهم ، وسخَّرهم بنقل هذا ! ولو فطنوا إليه لاَعرضوا عن روايته ، وفي هذا كفاية لكل متدبر منصف يُؤمن بيوم الحساب .

____________
(1) أبواب الاشارة والنصّ في اُصول الكافي . وأحاديث كمال الدين للصدوق . والارشاد للمفيد ، وغيرها.
(2) ينابيع المودة 3 : 99 باب 76 و 3 : 105 باب 77 .

( 65 )


المبحث الثالث

الاِشكالات المثارة حول قضية النصّ

قد تجد من يزعم ان الاعتقاد بمخالفة الصحابة للنصّ كفرٌ (1)! وكأنه لم يقرأ تاريخ الصحابة قط ، ولم يسمع بمخالفة رؤوسهم للنبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم صراحة وفي أكثر من موقف ، وهذا من العجب ؛ لاَنّ النصَّ على إمامة أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام والتأكيد على خلافته من لدن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي مناسبات شتى كحديث الغدير وعشرات غيره لم تثبت من طرق شيعته فحسب ، بل عرفته صحاح العامة ومسانيدهم ومستدركاتهم وزوائدهم وغيرها من كتبهم المشهورة حتى بلغ النصّ من طرقهم فقط حد التواتر ، إلاّ أن أكثرهم حاول تأويل تلك النصوص الجلية والتشويش عليها والمشاغبة وإثارة الاِشكالات حولها ، فاعتقد الخلف بصحة ما ذهب إليه السلف ولم يكلفوا أنفسهم بمعرفة الحق الصريح عن طريق النقد والتمحيص ليتبين لهم أنَّ تلك الآراء الموروثة لا تقوى على قلب الحقيقة فضلاً عن مواجهتها .
ولهذا سنورد أهم إشكالاتهم ثم نناقشهم عليهاونبين تهافتهم فيها وكما يأتي:

____________
(1) المنار المنيف ، لابن القيم : 54 ، فقد صرّح بان الاعتقاد بصحة تلك المخالفة كذب ، إلاّ ان اتباعه من المعاصرين زعموا بانه كفرٌ !

( 66 )
الاِشكال الاَول :
لو كان النصّ موجوداً لعمل به الصحابة :
وزعم من أشكل بهذا : إنَّ الصحابةَ ـ بعقيدة الشيعة الاِمامية ـ لم يعملوا بهذا النصّ الالهي الثابت، واستحلّوا خلافه.. وهذا المعتقد في كلِّ مذهب منطقي مستقيم التفكير كفر ، فهو جحود وإنكار لبعض الدين المعلوم بالضرورة ، وإذا كان ذلك كذلك فكيف تستقيمُ هذه النتيجة مع عظمة معلّمهم سيدنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ؟ فهل أنفَقَ سيدنا محمّد عليه وعلى آله الصلاة والسلام أكثر من عشرين سنةً يربّيهم من أجل أن يصبحوا خونةً في النهاية؟!
جواب الاِشكال الاَول :
خروج الصحابة على أوامر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم :
إنَّ خروجَ كثير من الصحابة على أوامر الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم ، التي هي أوامر إلهية ، وتلكّؤهم في العمل بها ، بل عملهم على خلافها ، أمرٌ مشهور في سيرتهم في حياة الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم كما حدثَ في مخالفتهم أمره بقتل ذي الثدية (1)، وفي واقعة اُحد (2)وما ترتب على ذلك من نتائج خطيرة كادت أن تودي بحياة الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي واقعة حنين
____________
(1) مسند أبي يعلى 1 : 90 | 90 . والاصابة في تمييز الصحابة ، لابن حجر 2 : 341 . ومسند أحمد بن حنبل 3: 5 .
(2) تاريخ الطبري 2 : 197 . والكامل في التأريخ ، لابن الاَثير 2: 154 . وطبقات ابن سعد 2: 47. والسيرة الحلبية 2 : 236 .

( 67 )
حيثُ ولّى بعضهم الاَدبار ، ثم ألم يسمع هذا الزاعم بالرزية كل الرزيّة على حدّ تعبير حبر الاُمّة عبد الله بن عباس ؟! وذلك : أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم طلب دواةً ليكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده ـ على حد تعبيره صلوات الله وسلامه عليه ـ فاختلفوا وتنازعوا ، وقالوا قولةً منكرة : إنه هَجَرَ ، حتى اضطر أنصاره فلطفوها بعبارة (قد غلبَ عليه الوجع) ، وإليك ذلك في صحاحهم:
جاء في صحيح البخاري «لما حُضر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده ، فقال عمر : إنَّ النبي قد غَلَبَ عليه الوجع وعندكم القرآن: حسبنا كتاب الله ، فاختلف أهل الدار فاختصموا ، منهم من يقول قرّبوا يكتب لكم النبي كتاباً لن تضلوا بعده ، ومنهم من يقول ما قال عمر ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوموا... (1).
ثم أين صاحب الاِشكال من قضية سرية أُسامة ، ومخالفتهم له صلى الله عليه وآله وسلم في أكثر من مورد فيها ، حتى اضطر صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يخرج وهو في شدة مرضه ويجمعهم ويخطب فيهم قائلاً : أنفذوا جيش اُسامة ، لعن الله من تخلّف عن جيش اُسامة (2).
وأما مخالفاتهم بعد موته صلوات الله وسلامه عليه وآله وتبديلهم
____________
(1) صحيح البخاري 1 : 37 كتاب العلم و 8 : 161 كتاب الاعتصام و 6 : 11 ـ 12 . وصحيح مسلم 3 : 1257 | 1637 آخر الوصية . ومسند أحمد بن حنبل 1 : 32 .
(2) الملل والنحل ، للشهرستاني 1 : 29 . وقريباً منه في : الطبقات الكبرى ، لابن سعد 2 : 248 . والكامل في التأريخ ، لابن الاثير 2 : 218 . ومغازي الواقدي 2 : 1121 .

( 68 )
وتحريفهم فدونك حديث الحوض يحكي لك هذه القصة ، وينبئك بهذه المسألة ، فقد أخرج البخاري في باب الحوض عن أبي هريرة أيضاً أنّه كان يحدّث : أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : يردُ عليَّ يوم القيامة رهطٌ من أصحابي فيحلاَون عن الحوض فأقول يا ربّ أصحابي فيقول: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك ، إنّهم ارتدوا على أعقابهم القهقرى (1).
الاِشكال الثاني :
ثناء القرآن على الصحابة وذلك لا يتسق مع اعتقاد مخالفتهم النصّ :
من إشكالاتهم المتهافتة الاحتجاج بثناء القرآن على الصحابة من المهاجرين والاَنصار ، ثم أخذوا يتساءلون : كيف يتسق هذا مع المخالفة الكبيرة للنصّ لو كان موجوداً ؟
جواب الاِشكال الثاني :
القرآن لم يثن إلاّ على المخلصين من الصحابة :
إنَّ في الصحابة كراماً بررة رضي الله عنهم قاتلوا بين يدي الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم فنالوا شرف الشهادة ، في بدرٍ واُحدٍ وحنين وغيرها ، ومنهم من استقاموا على سنته ، واتبعوا أقواله ، وتعبّدوا بأمره ونهيه ، فهؤلاء لاريب إنّهم محل ثناء القرآن الكريم ، وتقديس المسلمين . ومنهم من عارضوه وخالفوه ، وأغضبوه وآذوه ، فاُولئك الذين وصفهم القرآن الكريم
____________
(1) صحيح البخاري 8 : 150 كتاب الرقائق .

( 69 )
بـ ( الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرضٌ ) (1)وبـ «النفاق» . قال تعالى : ( وَمِن أهلِ المَدِينةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ)(2).
ونضيف إلى ذلك : إنَّ أصحاب النبي موسى عليه السلام ، قد عبدوا العجلَ (وأضَلّهُمُ السَّامِرِيُّ) (3)فلم يقدح ذلك في عظمة النبي موسى عليه السلام ، ولا في جهده وجهوده التربوية التي بذلها في تربية أصحابه ، ولكنْ زيّنت لهم أنفسهم أمراً وأكثرهم للحق كارهون .
الاِشكال الثالث :
حول ثناء الاِمام عليّ عليه السلام على الصحابة :
إنَّ الاِمام عليّاً عليه السلام قد أثنى عليهم كثيراً عندما كان يذمّ في خطبه من يدّعون أنهم أصحابه ، ويقارنهم بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فكيف يصحّ مثل هذا الثناء عليهم مع فرض اغتصابهم حقه ؟
جواب الاِشكال الثالث :
توضيح موقف الاِمام عليّ عليه السلام وشيعته من الصحابة :
نعم ، كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحاب بررة ، استشهد كثيرٌ منهم في معارك الاِسلام الاولى في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كما إنَّ كثيراً منهم ظلَّ مع أمير المؤمنين متبّعاً أوامر الرسول العظيم في موالاة الاِمام عليّ عليه السلام ، وفي
____________
(1) المائدة 5 : 52 .
(2) التوبة 9 : 101 .
(3) طه 20 : 85 .

( 70 )
معاداة من يعاديه ، وكان منهم عمّار الذي قتلته الفئةُ الباغية (معاوية وأتباعه) ، وكان منهم كثيرون استشهدوا في صفين والنهروان(1)فهؤلاء جميعاً هم محلّ ثناء الاِمام عليّ عليه السلام وتبجيله، وهم ممن نجلّهم ونعظّمهم . أما من أنكر النصّ وتقدّم على الاِمام أو بغى عليه أو نكث بيعته أو مرق عن الدين ، فهؤلاء جميعاً يتحملون وِزرَ ما ارتكبوا من البغي والعدوان، ونحن نتبرأ من أعمالهم ، فمعاوية مثلاً أحد هؤلاء قال فيه الحسن البصري وهو من أجلة التابعين : «أربع خصال كُنّ في معاوية ، لو لم يكن فيه اِلا خصلة واحدة لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الاَُمّة بالسيف حتى أخذَ الاَمر من غير مشورة ، وفيهم بقايا الصحابة وذوو الفضيلة ، واستخلافه بعده ابنه يزيد سكيراً ، وادعاؤه زياداً ، وقتله حجر بن عدي الكندي وأصحاب حجر ، فيا ويلاً له من حجر» (2).
نعم ، إنَّ الشيعة تفتخر وتقدّس وتعظّم من وقفَ من الصحابة الاَجلاء مع الاِمام عليّ عليه السلام في حروبه ، إتباعاً لقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : حربُ عليٍّ حربي وسلمه سلمي (3). وقوله صلى الله عليه وآله وسلم : اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه ، واخذل من خذله وانصر من نصره (4).
فلا ريبَ ولا شك بأنَّ من نَصَرَ الاِمام عليّاً ووالاه وعادى من يعاديه
____________
(1) تراجمهم في الاصابة ، لابن حجر . واُسد الغابة ، لابن الاثير . والاستيعاب ، لابن عبدالبر بهامش الاصابة .
(2) الكامل في التأريخ 3 : 487 . والموفقيات ، للزبير بن بكار تحقيق الدكتور سامي مكي العاني : 577.
(3) سنن الترمذي 5 : 360 . وشواهد التنزيل ، للحسكاني 2 : 27 .
(4) اُسد الغابة 2 : 290 في ترجمة زيد بن شراحيل الانصاري ، وفيه ذكر المناشدة . وسنن الترمذي 5 : 291 . وصحيح مسلم 4 : 1874 . ومسند أحمد بن حنبل 4 : 281 .

( 71 )
نحن نفتخر به، وأمّا من تقمّص الخلافة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ومن قاتل الاِمام عليّاً عليه السلام وعاداه وبغى عليه ونكثَ بيعته ومَرَق عن الدين كمعاوية وكالخوارج الذين أمرَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقتالهم (1)، فلا شك بان شيعة الاِمام عليّ عليه السلام ترى أنّ من العدل أن لا يتساوى هؤلاء واُولئك قال تعالى : ( أفَمَن كَانَ مُؤمنِاً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَستوونَ ) (2).
وأما عن موقف أمير المؤمنين عليّ عليه السلام من الثلاثة ، فالثابت تبرمه وشكايته المتكررة منهم وقد مرَّ ما يدل عليه في مقدمة البحث وسيأتي ماله صلة وثيقة بمواقفه معهم .
الاِشكال الرابع :
قبول الاِمام علي عليه السلام بمبدأ الشورى :
واشكلوا أيضاً بان للاِمام عليّ عليه السلام أقوالاً ثابتة عند الشيعة (منقولة في نهج البلاغة) . ومنها قوله عليه السلام : إنما الشورى للمهاجرين والاَنصار ، فإن اجتمعوا على رجلٍ وسمّوه إماماً كان ذلك لله رضىً.. (3).
جواب الاِشكال الرابع :
لم تكن شورى بل كانت فلتة :
إنَّ الحجة في كلام الاِمام عليه السلام قائمة على المحتج ؛ فكلام الاِمام هنا
____________
(1) مسند أحمد بن حنبل 3 : 15 . وسنن ابن ماجة 1 : المقدمة باب 11 .
(2) السجدة 32 : 18 .
(3) نهج البلاغة ، ضبط الدكتور صبحي الصالح : 500 كتاب 6 من باب الرسائل .

( 72 )
صريح وواضح ، وهو أقربُ إلى التعريض والاِنكار منه إلى الاِقرار ، إذ متى اجتمع المهاجرون والاَنصار على رجلٍ يا تُرى ؟!
أفي السقيفة ؟! ، ونزاعهم مشهور ، وقولتهم معروفة «منّا أمير ومنكم أمير..» ثم كانت الفلتة حينَ صفق عمر بن الخطاب على يد أبي بكر مبايعاً وتلاه أبو عبيدة(1):
وكان ما كان مما لستُ أذكره..
أو ليس من العجب أن ينسى طالب الحق ومدّعي الانصاف امتناع سيد الخزرج سعد بن عبادة ، ومقولة الحباب بن المنذر : اِن شئتم لنعيدنّها جذعة (2) . ثم امتناع بني هاشم والزبير وطلحة وغيرهم كثير ، فأين الاجتماع المزعوم ؟!
وقد قال عمر : كانت بيعة أبي بكر فلتة وقى الله المسلمين شرها (3)، وقال : فمن عادَ لمثلها فاقتلوه ، فلو كانت باجماعٍ لما صحَّ هذا القول من عمر . هذا وقد قالت الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبتها : خوفَ الفتنة زعموا ، ألا في الفتنةِ سقطوا وإنّ جهنم لمحيطة بالكافرين (4).
تبرّم أمير المؤمنين عليه السلام من خرافة الشورى :
وأما خلافة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان فهذا كلام أمير المؤمنين
____________
(1) تاريخ الطبري 3 : حوادث سنة 11 هـ السقيفة .
(2) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 6 : 8 . و 2 : 21 ـ 66 .
(3) صحيح البخاري 8 : 210 باب رجم الحبلى من الزنا .
(4) شرح نهج البلاغة 16 : 234 .

( 73 )
عليّ عليه السلام فيها :
فيا عجباً !! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخر بعد وفاتِه ، لشدّ ما تشطَّرا ضرعيها ! فصيّرها في حوزةٍ خشناء.... فَمُني الناسُ ـلعمرُ اللهِ ـ بخبطٍ وشماس وتلوّن واعتراضٍ ، فصبرتُ على طول المدّة ، وشدّة المحنة حتى إذا مضى لسبيله جعلها في جماعةٍ زعمَ أني أحدهم فيا لله وللشورى..(1).
فكفى بذلك إنكاراً من الاِمام عليّ عليه السلام ، ولا يُقال إذن لماذا سكتَ الاِمام ؟ ولماذا قبلَ الدخول في الشورى ؟! فاسمع جوابَه واضحاً صريحاً في نفس الخطبة:
أما واللهِ لقد تقمّصها فلان (يعني : أبا بكر) وإنّه ليعلم أنَّ محلِّي منها محلُّ القطب من الرحا ، ينحدرُ عنّي السيل ولا يرقى إليَّ الطير فسدلتُ دونها ثوباً ، وطويتُ عنها كَشْحاً ، وطفقتُ أرتأى بين أن اُصولَ بيدٍ جَذّاء أو أصبر على طخيةٍ عمياء يهرم فيها الكبير ، ويشيب فيها الصغير ، ويكدحُ فيها مؤمن حتى يلقى ربَّه..
ثم يقول : فيا لله وللشورى متى اعترض الريب فيَّ مع الاَول منهم حتى صِرتُ أقرن إلى هذه النظائر ! لكنّي أسْفَفْتُ إذ أسفّوا ، وطِرتُ إذ طاروا ، فصغا رجلٌ منهم لضغْنِه ومالَ الآخرُ لصهره مع هَنٍ وهَنٍ.. الخ (2).
فإن قالوا : إنّ هذه الخطبة ربما تكون غير صحيحة .

____________
(1) نهج البلاغة ، ضبط الدكتور صبحي الصالح خطبة رقم 3 : 48 . وشرح النهج لابن أبي الحديد 1 : 151.
(2) نهج البلاغة ، خطبة رقم 3 «الشقشقية» .

( 74 )
فنقول : إنَّ هذه الخطبة ما هي إلاّ واحدة من كلمات الاِمام عليّ عليه السلام التي تفصح عن شكايته ، فإن شئتم أن تصدّقوا بها فشأنكم ، وإن شئتم تكذيبها فليس لكم أن تحتجّوا بأيّ كلام في النهج ، إذ ليس من الانصاف الاِيمان ببعض الكتاب والكفر ببعض ، وعلى الرغم من هذا سنحيل القارىء إلى من أخرج تلك الخطبة وهم :
1 ـ ابن النديم في الفهرست : 224 .
2 ـ ابن عبد ربه الاندلسي (ت328هـ) في العقد الفريد .
3 ـ ابن الجوزي في المناقب .
4 ـ الآبي في نثر الدرر ونزهة الاَديب .
5 ـ سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص : 133 وغيرهم .
وتفسير هذه الخطبة واضح لا يحتاج إلى بيان ، فهو ينطق بالحجة على المحتج .
الاِشكال الخامس :
حول بيعة الاِمام علي عليه السلام للثلاثة :
وأشكلوا ببيعة الاِمام عليّ عليه السلام للثلاثة ـ أبي بكر وعمر وعثمان ـ وزعموا انه لا يجاب عن تلك البيعة بتوخي المصلحة ، أو بالتقية ، أو بالاكراه ، فكلّ ذلك يؤدي إلى انتقاص في حقِ سيدنا الاِمام عليّ عليه السلام .