مطارحات 4

جواب الاِشكال الخامس :

سبب بيعة الاِمام عليه السلام بعد الامتناع :

أما مسألة الاكراه على البيعة ، وعدم مبادرته إليها بنفسه ، فقد تناقلها أهل التواريخ والسير :
أخرج البخاري : «أن علياً امتنَع عن البيعة لمدة ستة أشهر حتى توفيت فاطمة الزهراء عليها السلام » (1).
وفي خطبةٍ للاِمام عليّ عليه السلام يبين بوضوح أسباب بيعته ، ويفصح عن سرّها فلا يبقى تأويل لمتأوّل : فاستمع أيُّها المنصف لما يقول عليه السلام :
أ ـ وأيمُ الله لولا مخافة الفرقة ، وأن يعود الكفر ويبور الدين ، لغيّرنا ذلك ، فصبرنا على بعض الاَلم (2).
ب ـ وقال عليه السلام في نهج البلاغة : «فنظرتُ ، فإذا ليس لي معين إلاّ أهل بيتي، فضننتُ بهم عن الموت ، وأغضيتُ على القذى وشربتُ على الشجا ، وصبرتُ على أخذ الكظم وعلى أمرَّ من طعم العلقم» (3) فهل يمكن أن يُؤتى ببيان أوضح من هذا؟!
وإذن ، فما وجه الانتقاص بعد هذا التذمر والشكوى ؟ وهو عليه السلام أعلم بالحال وبالمآل .

____________
(1) صحيح البخاري 5 : 288 . وتاريخ الطبري 2 : 234 .
(2) مستدرك نهج البلاغة 1 : 248 للشيخ المحمودي .
(3) نهج البلاغة ، ضبط الدكتور صبحي الصالح : 68 الخطبة 26 .

( 76 )
نعم ، لو لم يحتج عليهم وخرج إلى السقيفة يسعى ، وترك الجسدَ الطاهر مسجّىً وصفق على أيديهم فوراً لكان ثمة وجه لمثل هذا الاحتجاج .

الاِشكال السادس :

حول حديث الغدير وعدم دلالته على النصّ بالخلافة :

ومن إشكالاتهم الواردة حول النصّ زعمهم أن لا دلالة في حديث الغدير على الخلافة مع أنّه عمدة الشيعة في المقام ، وحجتهم في ذلك ـكما تجدها في بعض الكتابات الهزيلة المتهافتة ـ ما نُسب إلى الحسن المثنى بن الحسن السبط من أنّهم سألوه عن حديث من كنتُ مولاه ، هل هو نصٌّ على خلافة الاِمام عليّ عليه السلام ؟ قال : لو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرادَ خلافته بذلك الحديث لقالَ قولاً واضحاً هكذا : «يا أيُّها الناس هذا ولي أمري والقائم عليكم بعدي فاسمعوا واطيعوا..» ثم قال الحسن (المثنى) «أقسم بالله لو آثر عليّاً لاَجل هذا الاَمر ولم يمتثل عليّ لاَمر الله ورسوله ولم يُقدم على هذا الاَمر لكان أعظم الناس خطأ بترك امتثال ما أمر الله ورسوله به...».

جواب الاِشكال السادس :

وبيان تهافته وما نقوله في تفنيده :

إنّه على فرض صحة ما نُسب إلى الحسن هنا ، فإنَّ الاعتراض على حديث الغدير بمثل ذلك لمن أعجب العجاب ، ولا يتصور أن يصدرَ ممن
( 77 )
له معرفة بفقه العربية ، فضلاً عمّن أحاط علماً بأجواء حديث الغدير ، والقرائن الحافة به، والشواهد المعززة والفهم العرفي للصحابة وغيرهم منه ، فالقوم شهدوا يومَ الغدير ، بعد رجوعهم من حجة الوداع ، بطلب الرسول الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم الاجتماع في ذلك المكان ، وفي مثل ذلك الحرّ القائظ وفي الهجيرة ، وفي مفترق الطرق ليبلّغهم ما أمره به ربُّه جلَّ وعلا وبعد أن مهّد لهم قائلاً : ألستُ أولى بكم من أنفسكم ؟ قالوا بلى يا رسول الله. ثم كررها عليهم ثم أعقبها قائلاً : من كنتُ مولاه فهذا عليٌّ مولاه ، اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله (1).
ولقد فهم الصحابة من ذلك بدون عناءٍ وتكلف أنه مولاهم بمعنى أميرهم ، فأسرعوا يسلّمون عليه بإمرة المؤمنين ، واستأذن الشاعر حسان بن ثابت أن يقول شعراً بالمناسبة وفيه تصريح وتهنئة بإمرة المؤمنين (2).
هذا ، وقد نزل قول الله تعالى بعد ذلك التبليغ مباشرةً ( اليَومَ أكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وأتممتُ عَلَيكُم نِعمَتي ورَضِيتُ لَكُم الاِسلامَ دِينا ) (3)نقل
____________
(1) مسند أحمد بن حنبل 4 : 281 ، وفي غير موضع . والغدير ، للعلاّمة الاميني ففيه كفاية لما نقله من طرق الحديث ورواته الذين بلغوا حدّ التواتر .
(2) تجد تهنئة الشيخين وكبار الصحابة لاَمير المؤمنين عليه السلام بمناسبة يوم الغدير في : التفسير الكبير ، للفخر الرازي في تفسير قوله تعالى : ( يا أيُّها الرسول بلغ.. ) . تاريخ بغداد 8 : 290 . فيض القدير 6 : 217 . ذخائر العقبى : 68 . الرياض النضرة 2 : 170 .
وتجد شعر حسّان في تلك المناسبة أيضاً في : مناقب الخوارزمي : 135 | 152 . فرائد السمطين 1 : 73 | 39 . تذكرة الخواص : 80 . بحار الانوار 37 : 150 . سفينة البحار 2 : 306 .
(3) المائدة 5 : 3 .

( 78 )
ذلك الواحدي(1)، وهي رواية عند السيوطي (2).
هذا ولم يكن حديث الغدير الاَول والاَخير في هذه المسألة أعني في استخلافه صلوات الله وسلامه عليه الاِمام عليّاً عليه السلام ، وتنصيبه عليهم وليّاً وأميراً ووصيّاً .
ولا شك هذا يدلُّ على الافتراء المكشوف على الحسن المثنى وتلفيق هذا الكلام عليه ؛ لاَنّ العلويين من الحسنيين والحسينيين هم أعرف الناس بهذه الحقيقة التي يعرفها الاَصحاب النجباء البررة ، وقد قدمنا التصريحات على ما نقله أصحاب السير والتواريخ في المباحث السابقة ، وما أوردته الصحاح والمسانيد في هذه القضية مثل حديث الدار ، وحديث خاصف النعل، وحديث المنزلة ، وحديث الثقلين المتواتر وغيرها كثير (3).
أما لماذا لم يقم ـ أو لم يُقدم على هذا الاَمر ، ولم يمتثل ـ كما أشار إليه المحتج بما نسب إلى الحسن المثنى ؟
فقد يحسن أن تُراجَع الخطبة الشقشقية للاِمام عليّ عليه السلام كما في نهج البلاغة وشرحها عند ابن أبي الحديد .
ولعل من المناسب أن نشير هنا إلى أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد عهد إليه ووصّاه بوصايا لم يعهد بمثلها لاَحد ، على ما ذكر ابن عباس . فقد روى في
____________
(1) أسباب النزول ، للواحدي : 135 .
(2) الاتقان 1 : 75 .
(3) التاج الجامع للاُصول ، للشيخ منصور عليّ ناصف 3 : 335 وما بعدها باب فضائل عليّ.

( 79 )
الحلية(1) عنه : قال كُنّا نتحدث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عَهِد إلى عليٍّ سبعين عهداً لم يعهد إلى غيره.. وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام في هذا المقام بعد أن ذكر قصة تولّي القوم الخلافة قال : فرأيتُ الصبرَ على هاتا أحجى... .
ثم ليعلم : ان كلام الحسن المثنى ـ على فرض ثبوته ـ هو ليس كما تأوله البعض «بأن الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لو آثرا عليّاً لاَجل هذا الاَمر (يعني الخلافة) ولم يمتثل له ، ولم يقدم عليه ، لكان أعظم الناس خطأ بترك امتثال ما أمر الله ورسوله به» !! .
وذلك : أنّا لو سلّمنا أنه لم يقع الاِحتجاج بالنصّ ، فلا نسلّم أنّ ذلك دليل على عدمه أولاً ، ولا على أنّ عدم الاِحتجاج به خطأ ؛ لاَنّ من يتجرأ على بيت فاطمة عليها السلام ويتطاول على باب الاِمام عليّ عليه السلام ويقول ومعه رجاله : «والذي نفس عمر بيده لتخرجنَّ أو لاَحرقنّها على من فيها» !! فقيل له : يا أبا حفص إنَّ فيها فاطمة. فقال : وإنْ (2)!!! لا يبعد منه إطلاقاً دفع النص فيما لو احتج به الاِمام عليّ عليه السلام ، ولو بمكابرته ، وتكذيبه ، فيحصل من الضرر بالاحتجاج به أضعاف ما يحصل بتركه ، فطرح ذلك كان حكمة وتدبيراً في وقت توجه الضرر إليه حتى قال في مناسبة أُخرى لاُسلِمَنَّ ما سَلِمَت أمورُ المُسلمِينَ (3).
لا يقال : إنّه عليه السلام لو احتج بالنصّ لعرفه جمهور أهل السُنّة .
لاَنّا نقول : اطراح غير الشيعة لمثل هذا وارد ؛ لاَنّ الاحتجاج بالنصّ
____________
(1) حلية الاَولياء ، لاَبي نعيم الاصفهاني 1 : 68 .
(2) تاريخ الطبري 3 : 202 . والاِمامة والسياسة ، لابن قتيبة 1 : 19 ـ 20 .
(3) نهج البلاغة ، خطبة 74 .

( 80 )
لابدَّ وأنْ تكون فيه حجة لشيعته ، ويلزم منه أن يكون كل ناقل له شيعياً، لوجود الصارف الاَموي عنه .

الاِشكال السابع :

مدح الاِمام علي عليه السلام للثلاثة ومصاهرته لبعضهم ، وتسمية أولاده باسمائهم ومعاتبتهم بلين ورفق :

ومن أتفه اشكالاتهم على النصّ ، قولهم :
وماذا يُقال عن مدحهم في (النهج) ، وعن مصاهرتهم (كتزويج ابنته أم كلثوم من عمر) ، وعن تسمية أولاده بأسمائهم حتى معاتبة عثمان في النهج معاتبة الاَخ المحبّ المشفق ؟!!.

جواب الاِشكال السابع :

أولاً : بطلان حجة المدح لثبوت القدح فيهم :

أما عن هذه الحجة الباردة فعلى القائل أن يتذكر قوله تعالى دائماً : (أفَتُؤمِنُونَ بِبَعضِ الكِتَابِ وَتَكفُرونَ بِبَعضٍ فما جَزآءُ مَن يَفعَلُ ذلِكَ مِنكُم إلاَّ خِزيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنيَا..) (1).
فما نقله عن النهج ، ولم يفهم حقيقته ، يبينه قول أمير المؤمنين عليه السلام : فيا عجباً !! بينا هو يستقيلها في حياته إذ عقدها لآخرَ بعد وفاتِه ، لَشَدَّ ما تشطّرا ضرعيها ، فصيّرها في حوزةٍ خشناء يغلظُ كلْمُها ، ويخشن مسّها ،
____________
(1) البقرة 2 : 85 .

( 81 )
ويكثر العثار فيها (1).
أما مسألة التأويلات الفاسدة التي يلجأ البعض اليها في مثل هذه الموارد ، فلا تجدي نفعاً لمن ألقى السمع وهو شهيد ، ولمن رام الحقيقة ، وإلا فإنّه لا يضيع على من اتبع الهوى مخرجٌ وتأوّل .
ثم ما المانع أن يكون المدح من الاِمام عليّ عليه السلام لهم ووصفه لهم بالخلافة ، قد صدر منه تقية ؟
لا يقال : إنَّ التقية مرتفعة .
لاَنّا نقول : كيف وقد أُخرج عليه السلام من منزله يقاد قهراً ليكره على البيعة (2).
ثم كيف ، وقد اتقى قبله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما في الاَثر الصحيح : بئس أخو العشيرة لما في خلق ذلك الرجل من الشكاسة والخشونة(3).
وهل يستلزم المدح على فعل معين أكثر من التشجيع على المثابرة عليه ، ومتى كان الممدوح أحق من المادح بالخلافة ؟!! ثم هل أبقت الشقشقية للمدح عيناً أو أثراً، وهنا لابدّ من الاشارة إلى نكتة طريفة وهي أنّ المدح لا يدلّ على تعديلٍ وفي الشقشقية جرح ، وأن الجرح هو المتعيَّن للاَخذ مع كونه المتقدم في حالة التساوي .
هذا ، وقد ورد من طرقٍ صحيحة تقريعُهم ولومُهم وبيانُ خطئهم وما
____________
(1) نهج البلاغة ، ضبط الدكتور صبحي الصالح خطبة 3 «الشقشقية» .
(2) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 6 : 49 ـ 50 . وتاريخ الطبري 2 : 448 ، حوادث سنة 11 هـ حديث السقيفة .
(3) صحيح البخاري 8 : 38 كتاب الاكراه باب المداراة مع الناس .

( 82 )
ارتكبوه في حق الامة عندما حرموها من إمامة وخلافة أمير المؤمنين عليه السلام ، وما جرَّ على الامة ذلك من الويلات والنكبات وتسلّط الفسّاق والفجّار على رقاب المسلمين ، وهذا ما أشارت إليه عائشة زوجة الرسول الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم (1).
وكلّ هذا مسطور في محاورة عبد الله بن عباس لعمر كما نقلها الزبير بن بكار في الاَخبار الموفقيات ، ونقلها ابن أبي الحديد في شرح النهج (2).

ما أشارت إليه الزهراء عليها السلام في خطبتها :

وأما عن خطبة سيدة النساء سلام الله عليها كما نقلها ابن طيفور في بلاغات النساء . فقد كشفت الكثير ونبّهت الامة إلى ما سيلحقها من الويلات ويكفي أنها صلوات الله عليها ماتت غاضبة عليهما (3)، ودفنت ليلاً دون أن يحضروا جنازتها(4)، وفي ذلك أبلغ دليل وأقوى حجة على ما كانوا عليه من الحال (5).

ثانياً : حجة المصاهرة :

وأما عن خبر تزويج أم كلثوم من عمر فقد طال الكلام حوله ، ولم يلتفت المستدل إلى أنَّ أهل البيت عليهم السلام قد أصّلوا قاعدة عامة اقتداء بجدهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلاصتها التعامل مع المسلم على ظاهر إسلامه
____________
(1) الدر المنثور ، للسيوطي 6 : 19 .
(2) شرح النهج 6 : 45 .
(3) صحيح البخاري 8 : 286 .
(4) شرح النهج 6 : 48 ـ 50 . وصحيح البخاري 5 : 177 باب غزوة خيبر .
(5) صحيح البخاري 5 : 288 . وصحيح مسلم 3 : 138 .

( 83 )
دون الفحص عن خفاياه ونواياه ، ويكفي في التزويج الاِسلام على أنَّ في بعض طرقنا ما يدل على الاتقاء في ذلك التزويج على فرض صحته ، وذهب فريق آخر إلى إنكار الموضوع واستدلوا عليه بجملة من الاَدلة .
ومهما يكن فان المصاهرة لاتدل على أكثر من اتصال الوشائج والروابط وإحياء السُنّة أما أن تدل على أرجحية الصهر فدون إثباته خرط القَتاد .
ولقد كان من أصهار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أبناء أبي لهب ، واُمهما حمالة الحطب!

ثالثاً : حجة التسمية :

وأما عن حجتهم بتسمية أهل البيت عليهم السلام باسماء الثلاثة فهو من المضحكات حقاً لاَنك واجد في أسماء أخلص الموالين لاَهل البيت عليهم السلام من تسمى باسم يزيد ، أو معاوية ، أو مروان ، أو عبيدالله ، أو زياد وغيرها من الاسماء التي صادف وأن حملها طواغيت الاُمة وفراعنتها ، كما أنَّك واجد في الطرف المقابل من تسمى بعلي مع بغضه لاَمير المؤمنين عليّ عليه السلام ، كعليّ بن الجهم الشاعر المشهور بنصبه .

رابعاً : حجة المعاتبة :

أما معاتبة عثمان في النهج (1)فهو منهج عند الاِمام في إدانة المتعاقبين على الخلافة ، والكشف عن أعمالهم باسلوبه الخاص الذي يتحرّى فيه ـ كما هو دأبه ـ مصلحة الاِسلام العليا ، فتقديم النصح والمشورة لهم هو أحق بها من غيره .

____________
(1) نهج البلاغة ، ضبط الدكتور صبحي الصالح خطبة 3 «الشقشقية» .

( 84 )
ولهذا نجد الاِمام الحسن عليه السلام يقول لرسول معاوية بعد أن دعى الرسول على معاوية : لا تخن من ائتمنك ، وحسبك أن تحبني لحبّ رسول الله ولاَبي ولاُمّي، ومن الخيانة أن يثق بك قوم وأنت عدوّ لهم وتدعو عليهم(1).
فهل يحمل هذا على حبّ السبط عليه السلام لابن آكلة الاَكباد ؟ فهذا نظير لذاك .

الاِشكال الثامن :

عدم معرفة زيد الشهيد بالنصّ لعدم تواتره :

قالوا : لو كانت الاِمامة بالنص معروفة عند أهل البيت عليهم السلام فكيف دعا زيد بن عليّ بن الحسين عليهم السلام لنفسه.. وهذا يتعارض مع دعوى الشيعة بتواتر النصّ ، وعلى فرض وجوده فهو من الآحاد ولا عبرة بالآحاد في الاُصول .

جواب الاِشكال الثامن :

معرفة زيد الشهيد بالنصّ واثبات تواتره :

إنّ هذا من الافتراء على زيد الشهيد رضي الله عنه ، وخير دليل على ذلك هو أنَّ الاِمام عليّ بن موسى الرضا عليهما السلام قال للمأمون وهو يحدّثه عن زيد بن عليّ بن الحسين عليهما السلام الشهيد : إنه كان من علماء آل محمّد ، غضِبَ لله تعالى فجاهدَ أعداءه ، حتى قُتل في سبيله ، ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر أنه
____________
(1) التشريف بالمنن ، لابن طاووس : 363 .

( 85 )
سمع أباه جعفر بن محمّد يقول : رَحِمَ اللهُ عمي زيداً ، إنه دعا إلى الرضا من آل محمّد ، ولو ظفر به لوفى بما دعا إليه.. إنَّ زيد بن عليّ لم يدع ما ليس له بحق ، وإنه كان أتقى لله تعالى من ذلك ، إنه قال : أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم (1).
وفي رواية أنه ذُكر بين يدي الاِمام الصادق من خرج من آل محمّد ، فقال عليه السلام : لا أزال أنا وشيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمّد ، ولوددتُ أنَّ الخارجي من آل محمّد خرج وعليَّ نفقة عياله(2).
ومواقف الصادق عليه السلام مع أولاد عمومته من بني الحسن تعرب عن شدة أسفه وحزنه لما لاقوه من كيد الظالمين ، وفي الكافي وغيره عشرات الروايات الدالة على ذلك .
أما كون النص متواتراً فنعم هو متواتر عند المسلمين ، فلقد جاءت الروايات تترى في مناسبات جمةٍ ، وفي موارد لا تحصى كثرة ، فدونك حديث الدار (3) ، وحديث المنزلة (4)، وحديث الثقلين (5)، وحديث الاَئمة اثنا عشر كلهم من قريش(6)، وحديث من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية (7)فضلاً عن حديث الغدير الذي اعترف بتواتره
____________
(1) وسائل الشيعة ، للحر العاملي 15 : 54 ، كتاب الجهاد .
(2) السرائر ، لابن ادريس الحلي 3 : 569 .
(3) تقدم ذكره والاشارة إلى بعض مصادره .
(4) صحيح البخاري 5 : 81 باب 39 .
(5) صحيح مسلم 4 : 1873 . وسنن الترمذي 5 : 596 .
(6) صحيح البخاري 4 : 164 باب الاستخلاف . وصحيح مسلم 2 : 119 كتاب الامارة .
(7) بهذا اللفظ في شرح المقاصد للتفتازاني... وبألفاظٍ اُخرى في مصادر كثيرة جدّاً كما تقدّم.

( 86 )
الجمُّ الغفير من الفريقين ، وكلها نصوص صريحة قطعية متواترة في المقام، ولكنّ منهج المخالفين لاَهل البيت عليهم السلام ، يصرفون النصوص عن ظواهرها، ويتأوّلونها كما يشتهون ، وكذلك كانت نظريتهم وقانونهم كلما جوبهوا بالحق لجأوا إلى التأويل الباطل (1)أو تكذيب الاحاديث كلما أعوزهم الدليل على ما يقولون كابن تيمية ونظرائه .
ثم ليعلم هنا أنَّ هذا الادعاء واضح الفساد من أصله ؛ لاَن المخالف لشيعة الاِمام عليّ عليه السلام قسمان : قسم ينظر في أخبار الشيعة ويطّلع على أقوالهم ، وفي هذا القسم من يمنعه اعتقاده عن اعتقاد صحتها ، ومنهم المكابر ظاهراً لا باطناً طلباً لحطام الدنيا وتوصّلاً إلى المقاصد العاجلة، ومنهم المقرُّ المعترف الساتر لاَمره، ومنهم المقرُّ المعترف الصادح بالحق .
وأما القسم الثاني ، فهم من دعاة التعصب الذين لا ينظرون في أخبارنا ألبتة ويطرحونها حتى كأن ـ في عقيدتهم ـ لا تجتمع الوثاقة والتشيّع في شخص مسلم ولذلك فهم لا يعملون بأخبارنا لاِهمالهم لها ، والمنكر لتواتر النصّ لا يصعب علينا تشخيص موقعه بينهم .
أما زعمهم إنَّ النصَّ لم يعرفه أهل البيت ، وإنّهم أنكروه ! فهو قولٌ في غاية الغرابة ، بل هو مُنْكَرٌ للغاية ، لاَنَّ المطّلع على التاريخ وكتب الصحاح والسيرة تتجلى أمامه الحقيقة الناصعة بمعرفة خصوم أهل البيت عليهم السلام
____________
(1) تأويلات ابن تيمية الفاسدة التي لا تقوم على مستند علمي في كتابه منهاج السُنّة مثلاً . وكذلك ما نقله في كتاب دراسة عن الفرق في تاريخ المسلمين (الخوارج والشيعة) ، للدكتور أحمد محمّد أحمد جلي 1988 م ، لاحظ تخبطهم وتعسفهم في تفسير الآية 55 من المائدة وقارن مع ما جاء في تفسير الكشاف 1 : 649 .

( 87 )
للنصّ فكيف بأهل البيت ومن ينتمي إليهم ؟! ، ودونك المحاورة التي جرت بين عمر بن الخطاب وبين ابن عباس ، ونقلها ابن أبي الحديد في شرح النهج (1) . ننقلها حرفياً كالآتي : «روي أنَّ ابن عباس رضي الله عنه قال : دخلتُ على عمرَ في أول خلافته وقد اُلقي إليه صاع من تمر فدعاني إلى الاَكل...
قال : (عمر) : يا عبد الله عليك دماءُ البُدن إن كتمتَها ، هل بقي في نفس (عليّ) شيء من أمر الخلافة ؟ قلتُ: نعم ، قال : أيزعم أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نصَّ عليه ؟ قلتُ (والقول لابن عباس) نعم ، وأزيدك ، سألتُ أبي عمّا يدعيه ، فقال : صَدَق ، فقال عمر : لقد كان من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمره ذرْوٌ من قول لا يثبت حُجّة ، ولا يقطع عُذراً ولقد أراد في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعتُ من ذلك» (2)وفيه إشارة إلى قوله هجَر رسول الله أو غلبه الوجع حسبنا كتاب الله ، على ما نقل البخاري (3).
وراجع : المحاورة في تاريخ الطبري وما نقله عن عمر بن الخطاب من قوله لابن عباس : «إنّ قومكم يكرهون أن تجتمع فيكم النبوّة والخلافة..»(4) .
وهناك ما هو أصرح وأبلغ ، وهو حديث المناشدة . فراجعه في مسند أحمد من أكثر من طريق وفيه : فقام ثلاثون صحابياً فشهدوا بحديث الغدير (5) .

____________
(1) شرح النهج 12 : 20 ـ 21 .
(2) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 12 : 20 ـ 21 .
(3) صحيح البخاري 8 : كتاب الاعتصام .
(4) تاريخ الطبري 2 : 577 .
(5) مسند أحمد بن حنبل 1 : 88 ، 118 . واُسد الغابة ، لابن الاثير 2 : 233 . وحلية الاولياء ، لابي نعيم الاصبهاني 5 : 26 .

( 88 )

الاِشكال التاسع :

انقطاع سلسلة الاِمامة عند الشيعة بالاِمام العسكري عليه السلام :

وقد زعموا بان عقيدة الشيعة بوجود الاِمام المهدي عليه السلام تقوم على ادعاء نائب واحد وبه يثبتون وجوده وامامته .

جواب الاِشكال التاسع :

وما نقول في جواب هذا الاِشكال : أنه قد أثبت الشيعة بمئات الكتب المطبوعة أدلّتهم على تواتر ولادة الاِمام المهدي عليه السلام واستمرار وجوده الشريف وغيبته ، فهل يريد منّا المفترون أن نكتب لهم موسوعة في الاِمام المهدي عليه السلام كجواب على افتراء نمّقوه بسطر واحد ؟!
إنّنا نذّكر بأنّ من جملة أدلتهم على ما أنكروه ، استدلالهم باعترافات علماء العامّة بذلك وعلى حسب القرون ، ابتداءً من القرن الرابع الهجري إلى القرن الرابع عشر الهجري ، حتى بلغوا مائة وثمانية وعشرين شخصاً بين عالمٍ وفقيهٍ ومحدثٍ ومفسرٍ ومؤرخٍ ، وقد ذُكرت اسماؤهم ، وبُيِّنت أقوالهم في بعض الدراسات تفصيلاً (1).

____________
(1) دفاع عن الكافي ، للسيّد ثامر العميدي 1 : 567 ـ 592 . وقد كان لمركز الرسالة شرف الاسهام في بيان هذه الحقيقة الناصعة في اصداره الاَول بعنوان : (المهديالمنتظر في الفكر الاِسلامي) ، فراجع .

( 89 )

المبحث الرابع

تهافت العامّة واضطرابهم في الاِمامة والخلافة

لقد وقعت بعض المذاهب والفرق الاِسلامية بتهافت كثير وتناقضات صارخة في كثير من معتقداتها ومقولاتها.. ونعني بها : المرجئة ، والاَشاعرة ، والحشوية ، والمجسمة ، والسلفية ، ووريثة ذلك الخليط الوهابية المعاصرة .
وقد سطّر كلٌّ منهم من بدع الآخر الشيء الكثير جداً.. (1)وهي منازعات معروفة بينهم ، وقد يحاول بعض علمائهم إخفاءها والتنكّر لها مخادعةً للبسطاء الذين لا يقرءون ولا يبحثون عن الواقع !
ولعلّ من أهمّ ما وقعوا فيه من تهافت : مقولاتهم المتذبذبة في الاِمامة والخلافة ، يتنقّلون من قولٍ إلى قول مع تقلّب الصيغ التاريخية، كاشفين عن فراغ تامّ في الرؤية لهذا الموضوع المهمّ ، فكلّما وصلت حالة أفرزت خليفة في التاريخ المتقدّم جعلوها تشريعاً، حتّى انتهى بهم الاَمر إلى القول بشرعية الفوضى والفتن والتقاتل على الخلافة ، والقول بشرعية إمامة الفاسق والجاهل والظالم!

____________
(1) تاريخ بغداد في ترجمة أبي حنيفة . والجزء الاَول من منهاج السُنّة ، لابن تيمية . والرد على الطوائف الملحدة ، لابن تيمية . والخطط ، للمقريزي : 260 . والفصل في الملل والنحل ، لابن حزم . والملل والنحل، للشهرستاني ، وغيرها .

( 90 )
يقول أحمد بن حنبل : «الاِمامة لمن غلب» !!
ويقول : من غلبهم بالسيف حتّى صار خليفةً وسُمّي أمير المؤمنين فلا يحلّ لاَحدٍ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً ، برّاً كان أو فاجراً !!
فتابعه فقهاؤهم بالقول : «والاَمر مطَّرد ، فلو ثبتت الاِمامة لواحد بالقهر والاستيلاء ، فيجيء آخر يقهره ويستولي على الاَمر ، ينعزل الاَوّل ويصير الاِمام هو الثاني» (1)!!
إنّها الاَطروحة التي لا يقرّها دين ولا يرتضيها ذو عقل سليم ، إنّما هي من شرائع الجاهلية الجهلاء قديماً وحديثاً ، وهي أنسب بالغاب وساكنيها منها ببني الاِنسان !! لكنّهم ارتضوا أن يشوّهوا صورة الاِسلام العظيم عصبيّةً لخلفاء فسّاق وطواغيت جعلوا الخلافة الاِسلامية ملكاً يتنازعون عليه ، وليس أكثر من ذلك !
إنّهم احتجّوا لهذه العقيدة الباطلة بأنّ عبد الله بن عمر قد صلّى بأهل المدينة في وقعة الحَرَّة التي حدثت على إثر المعارضة والانتفاضة من أهل المدينة المنورة على يزيد بن معاوية ، وقد قال ابن عمر في وقتها : «نحن مَعَ مَن غلب» (2)!!
وهكذا اتّخذوا هذه المقولة سنّة وديناً يدينون به لكلِّ سلطان، ولسبب واحد ، وهو أنّ الغالب قد صار سلطاناً ، فهم في طاعة السلطان ، برّاً كان أو
____________
(1) الاَحكام السلطانية ، للفرّاء : 20 ، 22 ، 23 . وشرح المقاصد للتفتازاني 5 : 233 .
(2) الاَحكام السلطانية ، للفرّاء : 23 ـ 24 .

( 91 )
فاجراً ، عادلاً كان أو ظالماً ، عالماً كان أو جاهلاً ، انّما الطاعة للسلطان وحسب!!
لقد تمسّكوا بعبد الله بن عمر وتركوا الحسين سبط رسول الله وسيد شباب أهل الجنّة الذي قال فيه جدّه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم : حسين منّي وأنا من حسين ، أحبَّ اللهُ من أحبَّ حسيناً ، حسين سبط من الاَسباط(1).
فإذا وجدنا للحسين عليه السلام أثراً فهو من سنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بلا كلام لقوله صلى الله عليه وآله وسلم حسين منّي وأنا من حسين .. حسين سبط من الاَسباط ، والحسين عليه السلام هو القائل في يزيد نفسه :
أيّها الناس إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحُرَم الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنّة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالاِثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعلٍ ولا قول كان حقاً على الله أن يدخله مُدْخَلَه.. ألا وإن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن وأظهروا الفساد وعطّلوا الحدود واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام الله وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ من غَيَّر... (2).
فكيف أتوا إذن بتلك المقولة المتخاذلة «نحن مع من غلب» واتّخذوها ديناً، وأعرضوا عن الدين الذي أُمروا أن يتمسّكوا به ، ويعضّوا عليه
____________
(1) سنن الترمذي 5 : 658 | 3775 . وسنن ابن ماجة 1 : 51 | 144 . ومسند أحمد 4 : 172 . والمعجم الكبير ، للطبراني 2 : 22 | 2589 . والمصنف لابن أبي شيبة 12 : 103 | 12244 . ومصابيح السُنّة ، للبغوي : | 4833 . والتاريخ الكبير ، للبخاري : | 3536 .
(2) الكامل في التاريخ 4 : 48 في حوادث سنة 61 هـ . وتاريخ الطبري 5 : 404 في حوادث السنة المذكورة.

( 92 )
بالنواجذ ؟!!
كيف لا ، والحسين هو الذي قرأنا فيه قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المتقدم؟.. وهو أحد النفر الاَربعة الذين جمعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت كسائه وقال : اللّهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ؟ وأنزل الله تعالى فيهم : ( إنّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجسَ أهلَ البيتِ ويُطهِّركُم تَطهِيرا ) (1)؟! وقد مرّ أكثر من ثلاثين مصدراً من مصادر الفريقين المعتبرة في الحديث والتفسير التي صرّحت بهذه الحقيقة (2).
والحسين عليه السلام هو أحد العترة الطاهرة التي خاطب النبي أمته فيها فقال صلى الله عليه وآله وسلم : إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتّى يردا عليَّ الحوض (3).
إذن قد ارتكب هؤلاء أمراً عظيماً ووقعوا في انحراف خطير حين تركوا الدين الذي أُمروا باتّباعه ، واتبعوا خلافه !! وليتهم وقفوا عند هذا الحد فقبلوا مقولةً وتركوا أخرى ، لكنّهم بالغوا في الانحراف حين جعلوا الاِمام الحسين عليه السلام رجلاً في هامش التاريخ له جملة من الفضائل ، ثمّ اتّخذوا
____________
(1) الاَحزاب 33 : 33 .
(2) راجع : ما ذكرناه عن آية التطهير المذكورة آنفاً .
(3) صحيح مسلم 4 : 1873 | 2408 . وصحيح مسلم بشرح النووي 15 : 179 ـ 181 . وسنن الترمذي 5 : 662 | 3786 . وسنن الدارمي 2 : 431 . ومسند أحمد 3 : 14 و 17 و 26 و 59، 4 : 367 ، 5 : 182 و 189 . وتحفة الاحوذي 10 : 287 ـ 289 | 3874 و 3876 . والمعجم الكبير ، للطبراني 5 : 166 ـ 167 | 4971 . والمصنف ، لابن أبي شيبة 11 : 452 | 11725 و 11726 . ومستدرك الحاكم 3 : 124 . ومعالم التنزيل ، للبغوي 1 : 516 . وكنز العمال ، للمتقي الهندي الحنفي 1 : 172 | 870 و 872 ، 1 : 173 | 873 ، 1 : 185 | 944 و 946 ، 1: 186 | 950 ، 1 : 187 | 951 و 953 .

( 93 )
عبد الله بن عمر إماماً لهم في العلم والفتيا !! ومال بعضهم إلى أقبح العقائد وأبغضها إلى الله ورسوله ، فاتّهموا الاِمام الحسين نفسه ودافعوا عن الفاجر المريد ، يزيد بن معاوية بكل صلافة ووقاحة ، هذا وهم يدّعون بكل مايملكونه من حماس وهياج بأنّهم على صواب كما صنع شيخهم ابن تيمية وسار على أثره وهّابية العصر الحديث ! فإن كانوا يدّعون أنهم من أهل السُنّة ، فتلك سُنّة بني اُميّة وجماعتهم ، فقد صدقوا وما عدوا الحقيقة ، وأما إن كانوا يعنون سنة النبي وجماعة المؤمنين ، فقد كذبوا وافتروا وخابوا .
لقد فارقوا في هذا الاتجاه من لا يفارق القرآن ، وحالفوا عدوّه !!
فارقوا من قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : أنا حربٌ لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم (1).
فارقوا هؤلاء وحالفوا أعداءهم الذين أبغضوهم وانتقصوا من شأنهم ، فاتخذوهم أولياء ، من دون أولياء الله ورسوله ، فأصبحوا بعقيدتهم ومواقفهم هذه حرباً على الله ورسوله بنص النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونظائره ، كقوله
____________
(1) سنن الترمذي 5 : 360 | 3962 . وسنن ابن ماجه 1 : 52 | 145 أخرجه عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام : أنا سِلمٌ لمن سالمتم ، وحربٌ لمن حاربتم . وأخرجه أحمد في مسنده 2 : 442 . والبغوي في مصابيح السُنّة 4 : 190 . والحاكم في المستدرك 3 : 149 إذن حرب عليّ والسبطين الحسن والحسين عليهم السلام هي حرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنص هذا الحديث ، وقد عرفت من وقف بوجههم ممن تسمى زوراً وبهتاناً باسم (إمرة المؤمنين) كمعاوية الباغي وولده الفاسق الفاجر ونظائرهما من الذين لازالت الوهابية تعدهم مثلها الاَعلى !!

( 94 )
الشريف : اللّهم عادِ من عاداهم ووالِ من والاهم(1).
وأشهر منه قوله صلى الله عليه وآله وسلم المتواتر في الاِمام عليٍّ عليه السلام : من كنت مولاه فعلي مولاه اللّهم والِ من والاه وعادِ من عاداه (2).

____________
(1) مسند أبي يعلى | 6951 . مجمع الزوائد 9 : 166 ـ 167 قال : إسناده جيّد .
(2) هذا هو حديث الغدير المتواتر الذي أشرنا إليه فيما تقدم مراراً ، فقد رواه من الصحابة مائة وعشرة أنفس كما فصّله العلاّمة الاَميني في كتابه الخالد الغدير 1 : 14 ـ 72 وقد مرّ ذكر بعضهم ، وسنشير هنا إلى من اعترف به دون من رواه وسكت عليه ، وهم :
1 ـ الترمذي في سننه 5 : 633 | 3713 ، كتاب المناقب قال : «هذا حديث حسن صحيح» .
2 ـ ابن عبد البر في الاستيعاب 2 : 273 قال : «هذه كلها آثار ثابتة» .
3 ـ الطحاوي في مشكل الآثار 2 : 308 قال : «فهذا الحديث صحيح الاِسناد ولا طعن لاحد في روايته» .
4 ـ الحاكم في المستدرك 3 : 109 ـ 110 قال : «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ـ البخاري ومسلم ـ ولم يخرجاه ، شاهده حديث سلمة بن كهيل ، عن أبي الطفيل أيضاً صحيح على شرطهما ، وحديث بريده الاَسلمي صحيح على شرط الشيخين» .
5 ـ ابن كثير في البداية والنهاية 5 : 209 من المجلد الثالث قال : «قال شيخنا أبو عبدالله الذهبي : هذا حديث صحيح» .
6 ـ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري قال عن حديث الغدير : «وهو كثير الطرق جداً ، وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد ، وكثير من اسانيدها صحاح وحسان» .
7 ـ ابن حجر المكي في الصواعق المحرقة : 42 قال : «انه حديث صحيح لا مرية فيه.. وطرقه كثيرة جداً.. وكثير من اسانيدها صحاح وحسان.. وقول بعضهم : إن زيادة اللّهم والِ من والاه.. إلى آخره ، موضوعة . مردود ، فقد ورد ذلك من طرق صحح الذهبي كثير منها» .
8 ـ الجزري الشافعي في أسنى المطالب : 48 ، قال : «صحيح عن وجوه كثيرة ، متواتر عن أمير المؤمنين عليّ عليه السلام وهو متواتر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، رواه الجم الغفير ، ولا عبرة بمن حاول تضعيفه ممن لا اطلاع له في هذا العلم ، وصحّ عن جماعة ممن يحصل القطع بخبرهم» .
9 ـ علي القاري في المرقاة في شرح المشكاة 5 : 568 قال : «والحاصل : ان هذا الحديث صحيح لا مرية فيه ، بل بعض الحفاظ عدّه متواتراً ، فلا التفات لمن قدح في ثبوت هذا الحديث» .
10 ـ أبو القاسم الفضل بن محمّد نقل عنه ابن المغازلي الشافعي في كتابه المناقب 27 : 39 أنه قال عن هذا الحديث ما نصه : «هذا حديث صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم . وقد روى حديث غدير خم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نحو من مائة نفس منهم العشرة ـ أي العشرة المبشرة بالجنة عند العامّة ـ ، وهو حديث ثابت.
11 ـ برهان الدين الحلبي مفتي الشافعية قال في السيرة الحلبية 3 : 274 : «وهذا حديث صحيح ، ورد بأسانيد صحاح وحسان ، ولا التفات لمن قدح في صحته.. وقول بعضهم : ان زيادة (اللّهم والِ من والاه.. الخ ، موضوعة) مردود ، فقد ورد ذلك من طرق صحح الذهبي كثيراً منها» . واُنظر تفاصيل أُخرى عن حديث الغدير في كتاب المراصد على شرح المقاصد للسيد عليّ الميلاني : 52 ، والجزء الاول من الغدير للعلاّمة الاميني ، ودفاع عن الكافي 1 : 113 ـ 144 .

( 95 )
والنصوص المتقدّمة توجب التمسّك بأهل البيت عليهم السلام وطاعتهم . إلاّ أنّ من افتتن بالبدع والاَهواء وامتزج عليه الحق بالباطل ولم يعرف من أي الضغثين يأخذ أو يدع ، نراه ومن وافقه وقلّده قد تركوا خلفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الراشدين المهديين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : عليكم بسُنّتي وسُنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضّوا عليها بالنواجذ وقال صلى الله عليه وآله وسلم : الخلفاء بعدي اثنا عشر كلّهم من قريش . وقال صلى الله عليه وآله وسلم : إني تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي : كتاب الله وعترتي أهل بيتي . وقال صلى الله عليه وآله وسلم : من كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه . قال ذلك كلّه (1)0 ليفسّر بعضه بعضاً ولا يبقي عذراً لمعتذر .
انهم لم يتركوا المحجة الواضحة وينكروا أهلها فحسب ، بل حرّفوا الواقع وقلبوه ، فجعلوا خلفاءهم الذين استولوا على الخلافة بنحو أو بآخر وأبعدوا عنها أهلها، جعلوهم المعنيين بالخلفاء الراشدين !! من غير دليل ولا سلطان ولا برهان!!

____________
(1) وقد خرجنّا هذه الاَقوال والنصوص من كتب الصحاح والمسانيد كما تقدم .

( 96 )
وعلى هذه المغالطات والاَباطيل أسّس المتقدّمون عقائدهم فجاءت بعدهم أجيال مستضعفة مسكينة مخلصة لكنّها لم تعرف من الدين إلاّ هذه الصورة المقلوبة ، فأخذت تتعصّب لاَوهام تظنّ أنّها الحقائق، وأنّ كلّ ما خالفها فهو الباطل !!
ومن علمائهم المعاصرين من إذا وقف على هذه المغالطات ازداد عصبيّة وعنجهيّة وأزبد وأرعد ، أيكذّب بهذا ويتنكّر لذاك ، عبودية للهوى ليس إلاّ..
لكنّ منهم من وقف مواقف الاَحرار ونجا من طوق الهوى والعصبية إلى قدر جيّد ، فانتقدوا بشدّة تلك الآراء المتهافتة في اتّباع الغالب وإعذار السلف ، ووضع جنايات المفسدين منهم تحت عنوان الاجتهاد والتأويل، وسخروا من ذلك كلّه .
ومن أجل تبرير ما صنعه بعض الصحابة أعني المتنازعين على الخلافة، قالوا : إنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم مات وترك الاُمّة هكذا هملاً بغير إمام ، وترك الاَمر إلى الاُمّة . وهذا أعظم شيء افتروه على الله والرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، لكنّ العجيب أنّه لمّا يأتي ذكر أبي بكر وعمر وغيرهم ينزّهونهم عن هذه الخلّة، ويقولون : إنّهم لا يمكن أن يتركوا هذه الاُمّة بلا إمام فتقع الفتنة (1)!!
فاذا كان الخليفة منزّهاً عن أن يترك الاُمّة هملاً بلا إمام ، أفليس النبي صلى الله عليه وآله وسلم أولى بهذا التنزيه ؟! هل أدرك الخلفاء أمراً غاب عنه صلى الله عليه وآله وسلم ؟ أم كان هو صلى الله عليه وآله وسلم أقلّ منهم حرصاً على هذا الدين وعلى الاُمّة ؟!

____________
(1) الاَحكام السلطانية ، للفراء : 10 . والاَحكام السلطانية ، للبغوي : 25 ـ 26 . والفصل ، لابن حزم 4 : 169 . والكامل في التاريخ 3 : 65 .

( 97 )
وعندما قال أهل الدين الحقّ ، أتباع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وآله عليهم السلام : إنَّ هذا محال ، وإنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يمكن أن يعرّض دينه للاضطراب واُمّته للفتن والنزاع ، فلا يدعهم بلا إمام قادر على حملهم على المحجّة البيضاء ، عالم بتفصيل ما في الكتاب والسنّة لا يجهل منهما شيئاً ، مُنزّه عن الميل إلى الدنيا ومتابعة الهوى.. وهذا هو الذي جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم بأمر ربه تعالى فإنّه (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إلاَّ وَحيٌّ يُوحَى ) (1)، وهو الذي قرأناه في جملة من أحاديثه الشريفة الصحيحة آنفاً.. (2).
عندما قال أهل الدين الحقّ بهذا ، وأسموه «الوجوب العقلي على الله تعالى» أي أنّه تعالى يستحيل أن يترك ذلك ، فقد كتب على نفسه الرحمة.. خالفهم المتسمّون بغير إسمهم ، وقالوا : لا يجب على الله شيء ولا يستحيل منه شيء ، فنسبوا إليه حتى القبائح تعالى الله عمّا يصفون ، فقالوا : «إنّه عز وجل قادر على أن ينسخ التوحيد !! وعلى أن يأمر بالتثنية والتثليث وعبادة الاَوثان!! وأنّه تعالى لو فعل ذلك لكان حكمة وعدلاً وحقّاً ، ولكان التوحيد كفراً وظلماً وعبثاً !!... وأنّه لو أراد أن يتّخذ ولداً لاصطفى ممّا يخلُق ما يشاء» (3)!! هكذا جوّزوا أقبح المنكرات على الله تبارك وتعالى لجاجة وعناداً وعصبيّةً !!
وإذا قيل لهم كيف يجوز أن تنسبوا إلى الله تعالى القبائح ؟! قالوا إنّ الله تعالى لا يجب عليه شيء ، وإذا قلتم يمتنع نسبة القبائح إليه فقد أوجبتم على الله تركها ، ولا يجب على الله شيء !! انظر هذه السطحية في التفكير ،
____________
(1) النجم 53 : 3 ـ 4 .
(2) راجع المبحث الاَول من هذا الفصل .
(3) الاِحكام في أُصول الاحكام ، لابن حزم 4 : 475 ـ 476 .

( 98 )
لتعلم أنّه ما سار عليها الخَلَف إلاّ عصبيّةً لما قاله أسلافهم!
وإذا قيل إنّ الله تعالى لطيف بعباده فهو يفعل ما يقرّبهم إلى طاعته ويبعّدهم عن المعاصي ـ لا إلى حد الاِلجاء ، بل لاَجل التقريب والتمكين والتيسير ـ خالفوا في ذلك أيضاً وقالوا : لا يجب على الله فعل شيء يقرّب العباد إلى طاعته أو يبعدهم عن معصيته ! ثم احتجّوا بما يدل على اللجاج والسطحية ، فقالوا : لو وجب اللطف لما بقي كافر ولا فاسق (1)!! هذا ، وهم ينقلون عن أصحاب الحق القائلين باللطف أنّهم لا يعنون باللطف حد الاِلجاء والقهر ، وإنّما هو (اللطف المقرّب إلى الطاعة) مثله مثل الباب تُفتح لدخول الدار، فلا يقول عاقل أن الباب لو فتحت لما بقي أحد خارج الدار إلاّ ودخلها !! فبين الاَمرين فرق شاسع لا يخفى على عاقل وإن خفي على مقلّد متعصّب همّه التقليد لا غير .
والذي صرفهم إلى كل هذا هو قضية الاِمامة أيضاً ، فكل دين وعقيدة ونصّ يقدح باُولئك المتغلّبين على منصب الاِمامة ، فعليهم أن يردّوه ويكذّبوا به دفاعاً عن أولئك الاَمراء الخلفاء ، لا غير ! فهم يعلمون أنّ الاِيمان بأن الله تعالى لطيف بعباده يفتح أمامهم الاَبواب إلى طاعته ، فبعث الاَنبياء لطفاً ليتوصل العباد إلى معرفته وطاعته ، وجعل من ورائهم أوصياء يحملون رسالتهم يبلّغونها حق تبليغها ، إذ لا يخفى عليهم شيء من علومها وأحكامها ، وكما فعل مع تلك الاَُمم فهو فعّال مع خير الاَمم ، أمّة خاتم النبيّين ، فاصطفى منها أوصياء ليكونوا الاَمناء على هذا الدين وعلى الاُمّة بعد نبيّها الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم .

____________
(1) شرح المقاصد 4 : 322 .

( 99 )
فإذا آمنوا بذلك علموا علم اليقين أنّ خلفاءهم كانوا منحرفين عن أمر الرسول ونصوص الرسالة .. فلاَجل ذلك كذّبوا ونسبوا حتّى القبائح إلى الله تعالى تنزيهاً لخلفائهم ، فارتضوا أن ينسبوا إلى الله تعالى كل قبيح لكنّهم لم يرتضوا أن يوصف خلفاؤهم بفعل قبيح ارتكبوه .