جواب الحجة الثانية :
وأمّا عن حجتهم الثانية ، وهي ـ كما عرفت ـ التمسك بعناوين الاَبواب فنقول في جوابها : إنّها ينبغي أن تكون تلك الحجة للكليني بعد عكسها لا عليه .
ولتوضيح ذلك نقول : إنّه عنون قدس سره في الكافي باباً بعنوان (الاَخذ بالسُنّة وشواهد الكتاب) وقد أودع فيه جملة من الروايات نذكر منها :
1 ـ عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إنّ على كل حقٍّ حقيقةً، وعلى كل صواب نوراً ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فدعوه (1).
وواضح أنّ المراد من الترك لما خالف الكتاب هو ترك العمل به بعد ثبوت كون المخالفة على نحو اليقين وليس المخالفة المشكوك فيها والتي يمكن معالجتها .
2 ـ وعن أبي عبد الله عليه السلام : كل شيء مردود إلى الكتاب والسُنّة ، وكل حديث لا يوافق كتاب الله فهو زخرف (2).
3 ـ وعنه عليه السلام قال : خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمنى ، فقال : أيّها الناس ما جاءكم عني يوافق كتاب الله فأنا قلته ، وما جاءكم يخالف كتاب الله فلم أقله (3)چ .

____________
(1) اُصول الكافي 1 : 55 | 1 .
(2) اُصول الكافي 1 : 55 | 3 .
(3) اُصول الكافي 1 : 56 | 5 .

( 122 )
وإذا كانت مذاهب العلماء تعرف من خِلال أبوابهم كما يدعي هؤلاء ، فَلِمَ لا يكون مذهب الكليني هو رد كل حديث لا يوافق كتاب الله تعالى وسنة رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم ، والحكم عليه بأنه من زخرف القول ، وأنّه لم يقله نبيٌّ ولا وصيٌّ ؟
ومن ثم فإن الباب الذي عقده الكليني في اُصول الكافي بعنوان : «إنّه لم يجمع القرآن كله إلاّ الاَئمة عليهم السلام وإنّهم يعلمون علمه كله» لا دلالة في العنوان على وجود نقص في آيات القرآن الكريم الموجود عندنا ولا زيادة فيها في ما جمعه الاَئمة عليهم السلام ، وهذا ما أوضحه الكليني نفسه في أحاديث الباب المذكور ، وربما قد لا يتفطن لذلك إلاّ النابه الذكي .
فقد جاء في الحديث الاَوّل من الباب المذكور بسند صحيح عن الاِمام الباقر عليه السلام أنّه قال : ما ادّعى أحدٌ من النّاس أنّه جمع القرآن كله كما اُنزِل إلاّ كذابٌ ، وما جمعه وحفظه كما نزّله الله تعالى إلاّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام والاَئمة من بعده عليهم السلام (1).
وفهم هذا الحديث على حقيقته لا يتم إلاّ ببيان جهتين :
الاُولى : إثبات أنّ للاِمام عليٍّ عليه السلام مصحفاً .
والاُخرى : بيان ماهية هذا المصحف . فنقول :
أمّا إثبات أنّ للاِمام عليٍّ عليه السلام مصحفاً ، فهذا ما صرّح به أعلام العامّة أنفسهم ، فقد أخرج السجستاني بسنده عن ابن سيرين قال : «لما توفي النبي صلّى الله عليه (وآله) وسلم أقسم عليٌّ أن لا يرتدي برداء الا لِجُمْعَةٍ
____________
(1) اُصول الكافي 1 : 178 | 1 .

( 123 )
حتى يجمع القرآن في مصحف ، ففعل»(1).
وقد صَرّح بهذا ابن النديم (2)، كما ذُكر في اتقان السيوطي ، وسنن أبي داود، وحلية الاَولياء لاَبي نعيم ، والاَربعين للخطيب البغدادي وغيرها فيما تتبعه السيد حسن الصدر (3).
إذن ، هناك من وافق الكليني من العامّة بأنّ للاِمام عليٍّ عليه السلام مصحفاً جمع فيه آيات القرآن الكريم ، ولم يسبقه أحدٌ من الصحابة إلى ذلك كما هو صريح رواية ابن سيرين .
وأمّا عن طبيعة هذا المصحف الشريف وماهيّته ، فإنَّ ذلك يُعرف من تدبّر رواية الكافي المتقدمة ، فإنَّ عبارة (كما اُنْزِل) و (كما نَزَّله الله تعالى) فيهما إشارة واضحة إلى أنّ طريقة الجمع كانت على ترتيب نزول الآيات ، وليس على الترتيب المتعارف اليوم من وجود بعض السور المدنية التي تحتوي على آيات مكية ، وبالعكس .
ولتوضيح ذلك نضرب المثال التالي ، فنقول :
إنّ آية التطهير وهي قوله تعالى : ( إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أهْلَ البَيْتِ وَيُطَهِّرَكُم تَطهِيراً ) (4)لا يوجد نصٌ واحد في جميع كتب الحديث والتفسير قط يشير إلى نزولها مع آية اُخرى ، بل جميع النصوص المرويّة في المقام لدى الفريقين تصرح بنزولها مستقلة ، ومن كان له أدنى
____________
(1) المصاحف : 16 .
(2) فهرست ابن النديم : 41 .
(3) تأسيس الشيعة لعلوم الاِسلام ، للسيد حسن الصدر : 316 .
(4) الاَحزاب 33 : 33 .

( 124 )
حظٍّ في متابعة كتب الحديث والتفسير يسلّم بهذه الحقيقة . وهي إمّا أنْ تكون نزلت في بيت أم سلمة وهو الارجح لكثرة الروايات في ذلك ، وإما في بيت عائشة ، كما هو صريح الروايات الخاصة بحديث الكساء ، إذْ فيها تصريح كل منهما : (نزلت هذه الآية في بيتي) ثم تقرأ الآية ، ولكنك ـ على الرغم من كثرة الروايات البالغة درجة التواتر والتي تصرح بهذه الحقيقة (1) تجد أنّ الآية في سورة الاَحزاب قد اتّصلت بكلام من الذكر الحكيم ، فكانت جزءَ آيةٍ لا آية ، حتى صار الجزآن آية واحدة ، وهي : (وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجَاهِليَّةِ الاَُولى وَأقِمْنَ الصَّلاةَ وَءَآتِينَ الزَّكاةَ وَأطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذهِبَ عَنكُمُ الرِّجَس أهلَ البَيتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطهِيراً) ثم قال تعالى بعد ذلك مباشرة ( وَاذْكُرْنَ ما يُتلَى فِي
____________
(1) تفسير الطبري 22 : 5 ـ 7 . والجامع لاحكام القرآن 14 : 182 . وتفسير ابن كثير 3 : 492 . والبحر المحيط 7 : 228 . والدر المنثور 3 : 603 ـ 604 . وفتح القدير 4 : 279 . ومسند أحمد 6 : 92 . وسنن الترمذي 5 : 351 | 3205 و 5 : 663 | 3787 و 5 : 699 | 3871 . وصحيح مسلم 4 : 1874 | 37 . والمعجم الكبير للطبراني 3 : 46 | 2662 ، و 3 : 47 | 3666 . و 3 : 49 | 2668 ، و 23 : 281 | 612 ، و 23 : 333| 768 ، و 23 : 334 | 773 ، و 23 : 336 | 779 ، و 23 : 396 | 947 . ومشكل الآثار 1 : 333. ومستدرك الحاكم 2 : 416 . ومصابيح السُنّة 2 : 277 . وجامع الاُصول 10 : 100 . ومجمع الزوائد 9 : 167 . وكنز العمال 13 : 163 | 36496 . وترجمة الاِمام الحسين عليه السلام في تاريخ دمشق ـ بتحقيق المحمودي ـ : 61 ـ 77 الاَحاديث من (77) إلى (111) . وتاريخ بغداد 10 : 278 | 5396 في ترجمة عبدالرحمن بن عليّ المروزي .
ويعلم من جميع هذه المصادر العاميّة أنّ آية التطهير آية مستقلة . وأمّا مصادر الشيعة فقد اتفقت على ذلك أيضاً . اُنظر : تفسير فرات الكوفي : 121 . وتفسير الحبري : 297 ـ 311 . وتفسير التبيان 8 : 339 . ومجمع البيان 8 : 462 ـ 463 . واُصول الكافي 1 : 187 | 1 . واكمال الدين 1 : 278 | 25 باب 24 . وسعد السعود : 106. والعمدة : 19 . ونهج الحق 1 : 88 . والصراط المستقيم 1 : 187 . وغاية المرام : 259 . والميزان 16 : 311 .

( 125 )
بُيُوتِكُنَّ مِن آياتِ اللهِ وَالحِكمَةِ إنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً ) (1).
ويلاحظ هنا اُمور عدّة ، نكتفي بذكر واحدٍ منها ، وهو :
إنَّ صدر الآية الاُولى ـ وهي الثالثة والثلاثون من سورة الاَحزاب ـ يختلف عن ذيلها اختلافاً كليّاً ، فلسان الصدر لسان الانذار والتهديد والوعيد ، ولسان الذيل لسان المدح والثناء والتعظيم .
فلو رفع الذيل ووصلت الآية الرابعة والثلاثون بصدر الثالثة والثلاثين لما حصل أدنى اختلاف في النظم البياني ، ولا البلاغي ، ولا الاِيقاعي ، ولا النغمي المعهود في فواصل الآيات ، ولجاء المعنى تامّاً خالياً من أدنى ملاحظة يمكن أن تترتب على رفع ذيل الثالثة والثلاثين . وهذا يدل على أنّ آية التطهير لم تكن في أصل النزول جزء آية بل آية تامة وإنّ وضعها في هذا المكان من سورة الاحزاب إمّا أنْ يكون بتوقيفٍ من النبي الاَعظم صلى الله عليه وآله وسلم أو بتصويب من جامعي القرآن الكريم بعده .
ونظير هذا بالضبط قوله تعالى ( اليَوْمَ أكمَلتُ لَكُم دِينَكُم وَأتمَمتُ عَلَيكُم نِعمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاِسْلامَ دِيناً ) (2)فقد اتفق الطرفان على نزول هذه الآية الكريمة في غدير خمٍّ بعد إتمام البيعة لاَمير المؤمنين عليه السلام بروايات كثيرة لا مجال لدفعها بحال من الاَحوال (3). بينما نجد هذا القول
____________
(1) الاَحزاب 33 : 33 ـ 34 .
(2) المائدة 5 : 3 .
(3) نسب الخوارزمي الحنفي في كتابه مقتل الاِمام الحسين عليه السلام 1 : 48 رواية نزول هذه الآية الكريمة ـ بعد البيعة للاِمام عليٍّ عليه السلام مباشرة ـ إلى عدد من الصحابة ، وقال ماهذا نصه : «روى هذا الحديث ـ أي الحديث الخاص بنزول الآية بعد البيعة في غدير خم كما نقله الخوارزمي نفسه قبل هذا الكلام مباشرة ـ من الصحابة : عمر ، وعليّ ، والبرّاء بن عازب ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيدالله ، والحسين بن عليّ ، وابن مسعود ، وعمار بن ياسر ، وأبو ذر ، وأبو أيّوب ، وابن عمر ، وعمران بن حصين ، وبريدة بن الحصيب ، وأبو هريرة ، وجابر بن عبدالله ، وأبو رافع مولى رسول الله واسمه : اسلم ، وحبشي بن جنادة ، وزيد بن شراحيل ، وجرير بن عبدالله ، وأنس ، وحذيفة بن أُسيد الغفاري ، وزيد بن أرقم ، وعبدالرحمن ابن يعمر الدؤلي ، وعمرو بن الحمق ، وعامر بن شرحبيل ، وناجية بن عمر ، وجابر بن سمره ، ومالك بن الحويرث ، وأبو ذويب الشاعر ، وعبدالله بن ربيعة» .

( 126 )
الكريم هو جزء من آية من سورة المائدة ، على أنّ الجزء المتقدم عليه والذي بعده هو في بيان أحكام اللحوم.
فلو اتّصل الجزءان معاً ، ورفع ما يخص إتمام الدين ، لكان المعنى تامّاً، والنظم سالماً من أدنى ملاحظة تقال .
أمّا ما هو السرّ في جعل تلك الآيات أجزاء آياتٍ اُخرى ؟ فيمكن توضيحهُ فيما يأتي ، فنقول :
لا يخفى على أحد له حظ من العلم ، أنّ قوله تعالى : ( إنَّمَا وَلِيُكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ والذَّيِنَ آمَنُوا الذَّيِنَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم رَاكِعُونَ) (1). قد نزل في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام بالاتفاق على أثر التصدّق بخاتمه عليه السلام ، وهو راكع لله عزّ وجل (2).

____________
(1) المائدة 5 : 55 .
(2) من طريف ما يذكر عن بعض المفسرين أن أحد المنافقين المتسترين على نفاقهم من الصحابه قد تصدق على أثر نزول هذه الآية بأربعين خاتماً وكلها في اثناء الصلوات أملاً على أن ينزل بحقّه ما نزل بحق الاِمام عليّ عليه السلام ، قيل ـ والعهدة على الراوي القائل ـ فنزلت بحقه : ( لا صدق ولا صلى ) !!
وفي (دفاع عن الكافي) ، للسيد ثامر العميدي 1 : 102 ـ 112 ، تفصيل أسماء علماء العامّة من المحدثين والمفسرين الذين صرحوا بنزول الآية في الاِمام عليٍّ عليه السلام .

( 127 )
والسؤال : لماذا لم يذكر الله عز وجل أمير المؤمنين عليه السلام باسمه الشريف في هذه الآية ، بينما عبّر عنه بصورة الجمع ، مما كان ذلك مدعاة لحثالة من النواصب أن يصرفوها عن الاِمام عليّ عليه السلام ما استطاعوا ؟!
والجواب على الاِيجاز والاختصار ـ وهو للسيد شرف الدين في مراجعاته الخالدة ـ : إنّ الجمع هنا يفيد التعظيم حيث يستوجب ، ونكتة ألطف وأدق وهي إنّما جاء التعبير بالجمع مع إرادة المفرد بقياً منه تعالى على كثير من النّاس الذين لا يطيقون سماعها بصيغة المفرد، فالحكمة اقتضت مراعاة هؤلاء ؛ لكي لا يصدر منهم ما تخشى عواقبه من التضليل والتمويه .
ولا يبعد أنْ تكون آية التطهير وآية إكمال الدين وإتمام النعمة ورضى الرب سبحانه ، قد وضعت على ما هي عليه اليوم لنفس تلك الحكمة ، هذا مع القول بالترتيب التوقيفي الذي لم يثبت تواتره ، وأما مع القول الآخر ، فإنَّ ذا الحجى يدرك غايته .
وإذا ما عرفت هذا ، فاعلم أنّ المراد برواية الكافي هو جمع القرآن الكريم على ترتيب نزول آياته ، ويدل عليه ما أخرجه الشيخ المفيد بسنده عن الاِمام الباقر عليه السلام أنّه قال : اذا قام قائم آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم ضربت فساطيط لمن يُعَلِّم الناس القرآن على ما انزله الله جلّ جلاله ، فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم ؛ لاَنّهُ يخالف التأليف (1)أيّ : الترتيب .
ومعلوم من لسان روايات كثيرة أنّ مصحف الاِمام المهدي (عجلّ الله
____________
(1) الاِرشاد ، للمفيد 2 : 386 .

( 128 )
تعالى فرجه الشريف) هو عين المصحف الذي جمعه جدّه الاِمام أمير المؤمنين عليّ عليه السلام ، ومن هنا يتضح المراد من عنوان باب الكافي والحديث الذي ورد فيه ، وهو ـ والله العالم ـ أنّ جمع القرآن الكريم على ترتيب نزوله لم يتم على يد أحدٍ غير أمير المؤمنين عليه السلام ، ومن ادعى ذلك غير الاِمام عليّ وولده عليهم السلام وحفظه على ذلك الترتيب فهو كاذب. وليس المراد أنّه لم يجمع أحد القرآن الكريم مطلقاً غير الاِمام عليّ عليه السلام ، فافهم .
روايات التحريف في أهم كتب العامّة :
ولكن هلمّ معي ننظر معاً ما في الصحيحين من روايات ، فهل يمكن لمنصف عاقل ان يتأولها بغير ما هو ظاهر من معناها بل وصريح فيه أيضاً .
ولعمري إذا لم تكن تلك الروايات مكذوبة على الله ورسوله ، فإنّ رواتها في الصحيحين لا يمكن إثبات نزاهتهم من خرافة تحريف القرآن الكريم ، وأما عن مذاهب العامّة فلم يسلم منهم أحد إلاّ بقدر همل النعم لما تقدم من إجماعهم على صحة ما في الصحيحين ، بل وتصريحهم بأن خبرهما لا سيما البخاري يفيد القطع، ولو كان فوق القطع أمر أعلى حجّة من القطع لنحلوه ـ على الاَقل ـ إلى ما اجتمع عليه الشيخان !
أمثلة أضغاث الباطل في كتب الصحاح :
وسوف نضرب لك من أضغاث الباطلالمسكوت عنهـ حتى صار حقاً؛ لاَنّه من (الصحيحين) ـ بعض الامثلة ، وعلى ذلك فقس ما سواه إلاّ ما ندر .
1 ـ في صحيح البخاري في كتاب المحاربين باب رجم الحبلى من الزنا بالاِسناد إلى عمر بن الخطاب ، قال : (.. ثم كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله :
( 129 )
أنْ لا ترغبوا عن آبائكم فانه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم ، أو إنّ كفراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم) (1).
والغريب في هذه الآية أنّا وجدناها حديثاً من أحاديث أبي هريرة في صحيح مسلم في كتاب الاِيمان باب بيان حال من رغب عن أبيه وهو يعلم (2)ث. ولا يخفى أنّ في هذا المورد مايقطع بتهافت الصحيحين !!
2 ـ في صحيح مسلم في كتاب الرضاع باب التحريم بخمس رضعات بالاِسناد إلى عائشة ، قالت : «كان فيما اُنزل من القرآن : عشر رضعات معلومات يحرمن ، ثم نسخت بخمس معلومات ، فتوفي رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم وهن فيما يُقرأ من القرآن» (3).
أقول : وكانت عائشة تفتي دون سائر أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودون سائر الصحابة : بجواز رضاعة الكبير استناداً لآية الرضاع المزعومة ، وقد حصل هذا فعلاً لسهلة بنت سهيل حيث أرضعت من كان ذا لحية وشهد بدراً وهو سالم حليف زوجها أبي حذيفة ؛ لكي يصير له ابناً من الرضاعة ؛ حتى يذهب ما كان في نفس أبي حذيفة من دخول سالم عليها (4)!!!
3 ـ في صحيح البخاري في كتاب المحاربين ، باب رجم الحبلى من الزنا بالاِسناد إلى عمر ، قال : «فكان مما أنزل الله آية الرجم ، فقرأناها وعقلناها ووعيناها ، رجم رسول الله صلى الله عليه (وآله) وسلم ورجمنا
____________
(1) صحيح البخاري 8 : 300 ـ 304 | 25 .
(2) صحيح مسلم 1 : 80 | 113 .
(3) صحيح مسلم 2 : 1075 | 1452 .
(4) المصدر نفسه .

( 130 )
بعده ، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل : والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله» (1)!!! .
وفي موضع آخر من صحيح البخاري في كتاب الاَحكام باب الشهادة تكون عند الحاكم ، والقول قول عمر : «لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبت آية الرجم بيدي» (2)!!! .
وآية الرجم في فتح الباري بشرح صحيح البخاري هي : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالاً من الله» (3)والظاهر أنّ هذه الآية لم تحفظ كما ينبغي أن تحفظ ؛ لاَنّها وردت بألفاظ اُخر لا يعنينا أمرها .
أقول : هب أنَّ عفريتا من الجنّ ـ اسمه (نسخ التلاوة) ـ ابتلع هذه الرواية أفلا يدلّ قول عمر : (فاخشى إن طال بالناس زمان ...) وقوله : (لولا أن يقول الناس زاد عمر..) على أنّه كان يرى أنّ المصحف الماثل بين يديه ناقص من آية الرجم ، أو لا يدل على ذلك ؟!
«أفهنالك مجال للشك ؟ ( إنَا نَحنُ نَزَلنَا الذِكرَ وإنّا لَهُ لحافِظُون)» !!
ومن لم تكن له عين بصيرةفلا شك أن يرتاب والصبح مسفرٌ
4 ـ في صحيح البخاري في كتاب الجهاد والسير ، بالاِسناد إلى أنس في خبر إرسال النبي صلى الله عليه وآله وسلم سبعين صحابيا من القراء إلى بعض القبائل العربية كرعل ، وذكوان ، وعصيّة ، وبني لحيان . قال البخاري «قال قتادة :
____________
(1) صحيح البخاري 8 : 300 ـ 304 | 25 .
(2) صحيح البخاري 9 : 125 .
(3) فتح الباري بشرح صحيح البخاري 9 : 65 و 12 : 261 .

( 131 )
وحدثنا أنس أنهم قرأوا بهم قرآناً : (ألا بلغوا عنا قومنا بأنّا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا) ثم رفع بعد ذلك» (1)!
والعجيب في هذا الخبر أنّ البخاري قد صرح فيه أنَّ الاَعراب قد غدروا بجميع القّراء وقتلوهم حين بلغوا بئر معونة .
بمعنى أنّهم إمّا لم يتمكنوا من أداء مهمتهم ، لاَنّهم قُتِلوا قبل ذلك ، وأمّا أنّهم أدّوا مهمتهم ثم قتلوا قبل الوصول إلى المدينة .
والسؤال المحير هنا : كيف عَلِمَ أنس بهذه الآية التي قرأوها ولم يصل أحد منهم إلى المدينة ليخبر أنس بهذه الآيات النازلة ! التي قرأت ثم رفعت ؟ هذا مع أنّ الخبر موقوف على أنس ولم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى يقال مثلاً أنّه من أخبار صاحب الوحي عليه السلام ، وهل بعد هذا يكون خبر الواحد الموقوف على صحابي من القرآن ؟
والسؤال الآخر : كيف رفع هذا القرآن ؟ من المكتوب (وهو المصحف)؟ أم من القلوب ؟ والاحتمال الاَوّل باطل ، إذْ لا نصّ عليه ولو برواية مكذوبة ، والثاني كذلك زيادة على عدم رفعه من قلب أنس أو غيره بدليل روايته ونقله .
5 ـ في صحيح البخاري في باب من لم ير بأساً أن يقول سورة البقرة وسورة كذا وكذا . بالاِسناد إلى عائشة قالت : «سمع النبي صلى الله عليه (وآله) وسلم قارئاً يقرأ من الليل في المسجد فقال : يرحمه الله ، لقد ذكرني كذا وكذا آية ، أسقطتها من سورة كذا وكذا» (2).

____________
(1) صحيح البخاري 4 : 167 ذيل الحديث | 261 .
(2) صحيح البخاري 6 : 240 .

( 132 )
ولست أدري هل توجد أعظم من هذه الفرية ؟. فالنبي يسقط آيات من القرآن !!!
وَمَن يَتَّبِع في أَمْرِهِ رأيَ جَاهلٍيُقِدْهُ إلى أمْرٍ مِنَ الغَيِّ مُنكَرِ
فَعَوِّدْ مَقَال الصِّدقِ نَفْسَكَوارْضِهِتُصَدَّق ، وَلا تَرْكَنْ إلى قَوْلِ مُفتَري
6 ـ في صحيح مسلم في كتاب الزكاة عن أبي موسى الاَشعري ، أنّه قال لقرّاء أهل البصرة ـ يعني بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بسنين ـ : «.. وإنّا كنّا نقرأ سورةً كنّا نشبّهها في الطُول والشِدَّة ببراءة فأنسيتها ، غير أنّي حفظت منها : لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً ، ولا يملاَ جوف ابن آدم إلاّ التُّراب» (1).
والغريب جداً من مسلم صاحب الصحيح أنه أخرج هذه الآية المزعومة على انها حديث ولم يتعرض لنقدها (2). والاَغرب من كل هذا انه نسب إلى ابن عباس (ترجمان القرآن) انه قال بشأن (لو كان لابن آدم) : «فلا أدري أمن القرآن هو ، أم لا» (3)؟ .
7 ـ في صحيح البخاري وصحيح مسلم من كتاب الزكاة بالاِسناد إلى أبي موسى الاشعري ، قال : «وكنا نقرأ سورة نشبّهها بإحدى المسبّحات فأنسيتها ، غير أني حفظت منها : يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة» (4).

____________
(1) صحيح مسلم 2 : 726 | 1050 .
(2) صحيح مسلم 2 : 725 | 1048 | 116 و 117 .
(3) صحيح مسلم 2 : 725 | 118 .
(4) صحيح البخاري 8 : 115 . وصحيح مسلم 2 : 726 | 1050 (119) كتاب الزكاة . ومسند أحمد 3 : 122 و 243 و 4 : 368 و 6 : 55 . وسنن الدارمي 2 : 319 . ومجمع الزوائد 10 : 243 . والبرهان للزركشي 2 : 43 . والاتقان للسيوطي 3 : 83 .

( 133 )
أقول : إنَّ ضياع سور من القرآن في تلك المدعيات الباطلة ، أو إسقاط اُخَر منه ونحو ذلك مما مرَّ ليس بأعظم من المفتريات الاَُخَر التي احتضنتها روايات كتب الذين يتبجحون بالصراحة ويزعمون أنّهم لا يسكتون عن الباطل بل يشهّرون بأصحابه ويكفرونهم !!
من أمثال ما روي عن ابن عمر أنَّه قال : «لا يقولن أحدكم : قد أخذت القرآن كُلّه ، وما يدريه ما كُلّه ؟ قد ذهب منه قرآن كثير !! ولكن ليقل : قد أخذت منه ما ظهر» (1).
كما روى ابن أبي داود ، وابن الاَنباري ، عن ابن شهاب ـ كما في منتخب كنز العمال ـ أنّه قال : «بلغنا أنه كان أُنزل قرآن كثير ، فقتل علماؤه يوم اليمامة ، الذين كانوا قد وعوه ، ولم يُعلم بعدهم ولم يكتب» (2)!!
وأما عن إنكار ابن مسعود لسورة الفاتحة والمعوذتين فحدّث ولا حرج، حتى قال السيوطي : «قال ابن حجر : فقول من قال : أنّه كُذب عليه (أي على ابن مسعود) مردود ، والطعن في الروايات الصحيحة بغير مستند لا يقبل ، بل الروايات صحيحة ، قلت : وإسقاطه من مصحفه أخرجه أبو عبيد بسند صحيح»(3). على أن هذه الرواية الموصوفة بالصحة عن العامّة ، قد كذّبها الشيعة منذ أقدم العصور كما سنشير إليه وقد
____________
(1) الاِتقان في علوم القرآن 3 : 81 ـ 82 . ولا جرم على من كذّب على ابن عمر في هذا بعد أن كذب على أبيه بأنّ قرآنه مليون حرف ! كما مرّ .
(2) منتخب كنز العمال (مطبوع بهامش مسند أحمد) 2 : 50 .
(3) الاتقان في علوم القرآن 1 : 273 .

( 134 )
ردها من العامّة السيالكوتي في حاشيته (1).
كما ان سورة الخلع ، وسورة الحفد قد كان أبو حفص عمر يقرأهما في صلاته وقنوته كما صرح بذلك السيوطي في تفسيره (2)فإذا ما أضفنا هذا إلى الرواية المسندة إليه بوجود مليون حرف في القرآن علمنا أنَّ آية الرجم التي عقلها ووعاها كما تقدم عن الصحاح إنما هي من القرآن المزعوم الذي هو في لغة الاعداد ومنطق الارقام يزيد على حروف كتاب الله العزيز حسب آخر إحصائية بـ (678820) حرفاً ، أي بما يعادل القرآن الكريم ثلاث مرات !! ولهذا ذهب ابن عمر ـ بعد أن انطلت عليه هذه الاكاذيب ـ إلى القول بضياع الكثير من القرآن كما مرّ آنفاً !
وأخيراً، لابدّ من الاِشارة هنا إلى أنّ الفضل بن شاذان (ت 260 هـ) وهو من فضلاء وفقهاء أصحاب الاَئمة من أهل البيت عليهم السلام ، قد أنكر على العامّة رميهم الصحابة بمثل هذه المفتريات الباطلة وعدّها من باب الوقيعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (3). فانظر إلى تحرّج الاَصحاب.
ومن لطيف ما احتج به الفضل رحمه الله تعالى على العامّة بكتابه الاِيضاح أنّه أورد ما نسبوه إلى عائشة بأنها قالت «لقد نزلت آية الرجم ورضاعة الكبير عشراً ، ولقد كانت في صحيفة تحت سريري ، فلما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتشاغلنا بموته دخل داجن فأكلها» (4)!!

____________
(1) حاشية السيالكوتي على شرح المواقف 8 : 251 من المجلد الرابع .
(2) الدر المنثور ، للسيوطي 8 : 696 .
(3) الاِيضاح ، للفضل بن شاذان : 229 .
(4) لقد أورد هذا الخبر المضحك المبكي ابن حزم في المحلى 11 : 235 المسألة رقم 2204 وقال : هذا حديث صحيح ! كما أخرجه الدميري في حياة الحيوان 1 : 464 عن عائشة مصرّحاً بوجوده في السنن الاَربعة .

( 135 )
فقد أنكر عليهم الفضل بن شاذان بما حاصله :
بانه ما استطاعت الاِنس والجنّ على أن تأتي بمثل القرآن ولو في آية من آياته ، ولا تمكن أعداء القرآن من تحريفه ، فكيف استطاع داجنكم أن يأكل من القرآن ، ويبطل فرضه ويسقط حجته ؟!
وأغرب ما وقفت عليه هو أنَّ الزمخشري في كشّافه ـ لمّا لم يستطع أن يجد تأويلا أو تبريراً مقنعاً يبين من خلاله كيف استطاع هذا الداجن الشيطان أن يتسلل إلى بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويفعل فعلته ـ حاول التملّص من الخبر واتهام الروافض في تلفيقه ؟ (1).
أقول : بعد أن عرفت من أخرجه من الصحاح والصحابة ، ومن ردّه وهو (الفضل بن شاذان) من (الرافضة) ، فاعلم أنّا مع الزمخشري في اعتقاد تلفيقه فافهم .
هذا ، وقد ذكر السيد الميلاني في (التحقيق في نفي التحريف عن القرآن الشريف) كلمات عِدّة من أعلام العامّة المتقدمين والمتأخرين يصرحون بأنَّ هذه زيادات موضوعة من بعض الزّنادقة.
إلى غير ذلك من الروايات المكذوبة عند العامّة ، والتي تمس القرآن الكريم صراحة (2).

____________
(1) الكشّاف ، للزمخشري 3 : 248 .
(2) للوقوف على المزيد من تلك الروايات المكذوبة في كتب العامّة . راجع : دفاع عن الكافي للسيد ثامر العميدي 2 : 440 ـ 504 ففيه مائة مثال من أمثلة صور التحريف عند العامّة وفي كتبهم .