المبحث الثاني
البَدَاءُ وعلم الله تعالى

إعلم بأنَّ إنكار اليهود للنسخ إنّما هو لاعتقادهم بأنّه خلاف الحكمة ولا يصدر إلاّ عن جهلٍ بالمصالح والمفاسد ، وهذا هو ما صرّح به الغزالي ، والرازي وغيرهما من رؤوس الاشاعرة (1).
ولما كان البداء ـ بمعناه السلبي ـ يلتقي مع فهم اليهود للنسخ ، فعدّوه أيضاً دالاً على خلاف الحكمة كالنسخ ايضاً .
بل تذرعوا في إنكار النسخ بكونه بَدَاء ، والبَدَاء إنّما يتصور بحق من يجهل عواقب الاُمور ، والله تعالى منزّه عنه . وهذا القدر مصرّح به في كتب الاَشاعرة وغيرهم (2).

____________
(1) المستصفى ، للغزالي 1 : 111 . والمحصول ، للرازي 1 : 543 . ومنتهى الوصول والاَمل ، لابن الحاجب : 154 ـ 155 . والتحصل من المحصول ، للارموي 2 : 10 . والتقرير والتحبير ، لابن أمير الحاج 1 : 352 . وتفسير ابن كثير وتفسير الآلوسي وغيرهما عند تفسير الآية (106) من سورة البقرة المباركة .
(2) اُصول السرخسي 2 : 54 ـ 55 و 2 : 59 . والاَحكام في أصول الاَحكام ، للآمدي 3 : 102 . وتفسير القرطبي 2 : 64 . والمنخول للغزالي : 288 . والاَحكام في أصول الاَحكام ، لابن حزم 4 : 47 . والبرهان ، للزركشي 2 : 30 . والاِتقان ، للسيوطي 3 : 67 . والملل والنحل ، للشهرستاني 1 : 211 .

( 137 )
الافتراء على الشيعة بتعريف البَدَاء
فإذا علمت هذا ، فاعلم أنَّ خصوم الشيعة تدّعي زوراً بأنّ البداء عند الشيعة يستلزم تغيير علم الله عزّ وجل ، وهذا لا يجوز ، بل وذهبوا إلى أنّ لازمه الجهل على الله تعالى ؛ لاَنّ معنى البداء لغة ظهور الشيء بعد خفائه.
بل افترى بعضهم على الشيعة بوقاحة عجيبة فقال ما نصه : «والبداء عند الشيعة أن يظهر ويبدو لله عزّ شأنه أمر لم يكن عالماً به» .
وهذا المفتري هو محمّد مال الله البحريني افترى ذلك في كتابه (موقف الشيعة من أهل السُنّة) ص28 ، وكرّر هذا الافتراء في كتابه (الشيعة وتحريف القرآن) ص12 بلا أدنى تغيير مشيراً في هامش الكتابين إلى كتاب أصل الشيعة واصولها ص 231 مع حصر ما ذكره بين قوسين لاِعلام القاريء بنقل هذا الكلام من كتاب (أصل الشيعة واُصولها) للشيخ محمّد الحسين آل كاشف الغطاء؛ .
وللاَسف أنْ نجد عند غيره هذا الافتراء نفسه (1).

تزييف هذا التعريف وبيان وقاحة مفتريه :
ولكنّك إذا ما عدت إلى (أصل الشيعة واُصولها) ستجد الشيخ آل كاشف الغطاء قد قال ما نصه : «ومما يشنع به الناس على الشيعة ويزدرى
____________
(1) الشيعة والسُنّة ، لاحسان إلهي ظهير : 63 . وأحوال أهل السُنّة في ايران، لعبد الحق الاصفهاني : 86 . وبطلان عقائد الشيعة ، لمحمّد عبدالستار التونسوي : 23 .

( 138 )
به عليهم أمران:
الاَول : قولهم بالبداء ، تخيّلا من المشنعين : أن البَدَاء الذي تقول به الشيعة هو عبارة عن أن يظهر ويبدو لله عز شأنه أمراً لم يكن عالماً به» !
راجع أصل الشيعة واُصولها :
1 ـ طبعة القاهرة لسنة 1958 م ، ص231 .
2 ـ طبعة ايران ـ قم لسنة 1410 هـ ، ص231 (اُوفست عن طبعة القاهرة) .
3 ـ طبعة النجف الاَشرف لسنة 1969 م ، ص179 .
4 ـ طبعة مؤسسة الاَعلمي في بيروت لسنة 1983 م ، ص148 .
5 ـ طبعة مؤسسة الاِمام عليّ عليه السلام ، بتحقيق الاُستاذ علاء آلجعفر، لسنة 1415 هـ ، ص313 .
فانظر كيف تلاعب بالنص فحذف صدره ، وأطلق ذيله غير آثم ولا متحرج، مع أنّ الشيخ آل كاشف الغطاء عقّب على ذلك التشنيع في أصل كتابه مباشرة فقال: « وهل هذا الا الجهل الشنيع ، والكفر الفظيع؟ لاستلزامه الجهل على الله تعالى ، وأنّه محل للحوادث والتغيرات ، فيخرج من حضيرة الوجوب إلى مكانة الامكان..» .
وهكذا تجد المشنّعين على الشيعة يفترون عليهم بالاَباطيل التي لا أصل لها في عقائدهم ولا في تفكيرهم ، منهم البلخي على مانقله الشيخ
( 139 )
الطوسي في تفسيره (1)، والغزالي (2)، والرازي (3)، والآمدي (4)، مع أنّ إمامهم الاَشعري صرّح بأنّ (الرافضة) افترقت في هذا على ثلاث فرق ، ونسب إلى الثالثة أنّها لا تجوّز على الله تعالى البداء قال : «وينفون ذلك عنه» (5)حف .
نفي الجهل عن ساحته تعالى :
أقول : لا يوجد في تاريخ الشيعة من ينسب البداء ـ بمعنى ظهور الشيء بعد الجهل به ـ إلى الله تعالى قط ، لاقديماً ولا حديثاً ، بل حتى فرق الشيعة البائدة التي كفّرها أئمة اهل البيت عليهم السلام مع سائر علماء الاِمامية، لم يؤثر عنهم ذلك الا ما ينقله بعض المتعصبين والمشنعين من مخالفيهم .
نعم نسب هذا إلى فرق المجسمة والمشبهة لما لديهم من المقالات التي هي أشبه بالخرافات منها بالديانات حتى قال بعضهم كما في ملل الشهرستاني : «اعفوني عن الفرج واللحية واسألوني عما وراء ذلك» (6)!! تعالى الله عما يقول المبطلون علواً كبيراً ، وكبر مقتا ان يقولوا على الله زوراً وكذباً مالا يعلمون .

____________
(1) التبيان في تفسير القرآن 1 : 13 من المقدمة .
(2) المستصفى 1 : 110 .
(3) التفسير الكبير للرازي 19 : 66 .
(4) الاَحكام في اُصول الاَحكام ، للآمدي 3 : 102 .
(5) مقالات الاِسلاميين ، للاشعري : 39 .
(6) الملل والنحل ، للشهرستاني 1 : 96 .

( 140 )
هذا ، وإذا ما رجعت إلى كتب الشيعة العقائدية بل وحتى الحديثية ستجد التصريح بخلاف هذا المدّعى تماماً ، مع تكفيرهم لكلِّ من يزعم بأنّ الله سبحانه يبدو له عن جهل .
ففي الكافي بسنده عن أبي عبد الله عليه السلام ما بدا لله في شيء إلاّ كان في علمه قبل أن يبدو له (1).
وعنه عليه السلام إنّ الله لم يبدُ له من جهل (2).
وعنه أيضاً وقد سأله منصور بن حازم (هل يكون اليوم شيءٌ لم يكن في علم الله بالاَمس ؟ قال عليه السلام : لا ، من قال هذا فأخزاه الله . قلت : أرأيت ما كان وما كائن إلى يوم القيامة ، أليس في علم الله ؟ قال : بلى ، قبل أن يخلق الخلق(3).
علم الله تعالى عند الشيعة الاِمامية :
فإذا انضم هذا إلى أقوال علماء الشيعة في علمه تعالى ، علم المقصد بأنّه ليس كما يزعم هؤلاء المفترون ، قال الشيخ المفيد : «إنّ الله تعالى عالم بكل ما يكون قبل كونه ، وأنّه لا حادث إلاّ وقد علمه قبل حدوثه ، ولا معلوم وممكن أن يكون معلوماً إلاّ وهو عالم بحقيقته، وأنّه سبحانه لا يخفى عليه شيء في الاَرض ولا في السماء وبهذا اقتضت دلائل العقول ، والكتاب المسطور والاَخبار المتواترة من آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو مذهب
____________
(1) اُصول الكافي 1 : 114 | 9 باب البَدَاء .
(2) اُصل الكافي 1 : 114 | 10 من باب البَدَاء .
(3) اُصول الكافي 1 : 114 | 11 باب البَدَاء .

( 141 )
جميع الاِمامية» (1).
ولا حاجة لنقل أقوال علماء الشيعة في هذا ، ولا بأس بالاِشارة إلى بعض المصادر والمراجع المهمة التي أشارت إلى فرية العامّة وردتها بأنصع الاَقوال، مصرحة بأنّ علم الله تعالى أحاط بالاَشياء قبل خلقها إحاطة تامّة بل وفوق مستوى الاِحاطة إنْ صحَّ التعبير .
راجع : الذريعة للسيد المرتضى (ت 436 هـ) 1 : 128 ، وتقريب المعارف للحلبي (ت 447 هـ) : 41 ، والرسائل العشر للشيخ الطوسي (ت460 هـ) : 94 ، والاقتصاد الهادي إلى طريق الرشاد له أيضاً : 39 ، ومتشابه القرآن لابن شهر آشوب (ت 588 هـ) 1 : 50 ، وتجريد الاعتقاد لنصير الدين الطوسي (ت 672 هـ) : 192 ، وكشف المراد للعلامة الحلي (ت726 هـ) : 310 ، والباب الحادي عشر له أيضاً : 13، والنافع في يوم الحشر للمقداد السيوري (ت 826 هـ) : 13 ، وإرشاد الطّالبين له أيضاً : 197، والقبسات للسيد الداماد (ت 1041 هـ) : 135 و 325 و 418 ، والحكمة المتعالية في الاَسفار العقلية الاَربعة لصدر المتألهين (ت1050هـ) 6 : 175 ، وحق اليقين للسيد عبد الله شبر (ت 1242 هـ) 1 : 63 ، والاء الرحمن للشيخ البلاغي (ت1352هـ) 1 : 227 ، ومسألة في البداء له أيضاً : 18 ، ونقض الوشيعة للسيد الاَمين (ت 1373 هـ) : 515 ، ومعالم الفلسفة الاِسلامية لمحمّد جواد مغنية ( ت 1401 هـ) : 112 و 114 ، وبداية الحكمة للسيد الطباطبائي (ت1402 هـ) : 164 ، والميزان له أيضاً 15: 189 ، والبداء عند الشيعة للعلاّمة السيّد عليّ الفاني
____________
(1) أوائل المقالات ، للشيخ المفيد : 60 .

( 142 )
الاصفهاني (ت 1409 هـ) : 63 ، ومبحث البداء في التكوين في كتاب البيان في تفسير القرآن للسيد الخوئي (ت 1413 هـ) : 390 ، والبداء عند الشيعة للسيد محمّد كلانتر : 56، والبداء في ضوء الكتاب والسُنّة للشيخ السبحاني : 121 ، ودفاع عن الكافي للسيد ثامر العميدي 2: 7 ـ 213 وغيرها ، وإذا ما قورِنَت أقوالهم بعقيدتهم في الصفات على ما هو معلوم من جعلهم صفة العلم صفة ذاتية.. بالاِجماع ، تأكّد لك أنّه يستحيل في عقيدة الشيعة تغيير علم الله عز وجل بالبداء الذي يقولون به .
توضيح في اطلاق البداء على الله تعالى :
إنّ إطلاق البَدَاء على الله تعالى لا يلزم منه أدنى محذور بعد شرح هذه اللفظة بما يناسب أقوال أهل البيت عليهم السلام التي مرّت آنفاً ، فهم قد نفوا ما زعمه خصوم الشيعة نفياً قاطعاً ، وكفّروا من خالفه ، وعلى هذا أفتى الفقهاء من الشيعة بأنّ القائل بجواز الجهل على الله تعالى من حيث إطلاق البداء عليه بمعنى الظهور بعد الجهل فهو كافر ، وفي الكتب التي أشرنا إليها سابقاً تصريحات ضافية بهذه الحقيقة مع بيان فتاوى فقهاء الشيعة بهذا فلا حاجة إلى إعادة ما فيها ، غير أنّا نريد أن نبين بأنّ المعنى المقصود من لفظة (البَدَاء) في كلمات أئمة أهل البيت عليهم السلام ، وكما أعلنته المصادر الشيعية المتقدمة هو معنىً آخر غير المعنى المحال على الله سبحانه ، نظير ما ورد في القرآن الكريم من ألفاظ (المخادعة) و (المكر) و (النسيان) و (الكيد) ونحوها من الاَوصاف التي يتنزه عنها تعالى بالاتفاق (1).

____________
(1) راجع على سبيل المثال سورة النساء 4 : 142 . والتوبة 9 : 67 . والاعراف 7 : 51 . والسجدة 32 : 14 . والنمل 27 : 50 . والطارق 86 : 15 ـ 17 وغيرها .

( 143 )
ولهذا جاء في الصحيح عن الاِمام الباقر عليه السلام بعد أنْ سأله زرارة عن قوله تعالى : ( وَما ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُوا أنفُسهم يَظلِمُون ) (1)، قال عليه السلام : إنّ الله تعالى أعظم وأعزّ وأجلّ وأمنع من أن يُظلَم ، ولكنّه خَلَطَنَا بنفسه فَجَعَلَ ظلمنا ظلمه ، وولايتنا ولايته حيث يقول : ( إنّما وَلِيُكُم اللهُ ورَسُولُهُ والَّذينَ آمَنُوا ) يعني : الاَئمة منا (2).
وقد روي نظير هذا عن الاِمام الصادق ، والاِمام الكاظم عليهما السلام (3).
وقد اعتمد هذا البيان بعض مفسري العامّة في تفاسيرهم ، فالنحّاس مثلاً يرى أنّ معنى قوله تعالى : ( إن تَنصُروا اللهَ يَنصركُم)(4)هو : «إن تنصروا دين الله وأولياءه ، فجعل ذلك نصرة له مجازاً» (5).
هذا وقد صرّح علماء الشيعة بأنّ البَدَاء بمعناه اللغوي الذي يعني ظهور شيءٍ بعد عدم العلم به ، يختلف عن البَدَاء بمعنى النسخ ، والاَوّل يتنزه عنه تعالى : بخلاف الثاني الذي لايستلزم منه محذوراً .
من ذلك قول شيخ الطائفة الطوسي رضي الله عنه :
«فأمّا إذا أضيفت هذه اللفظة ـ أي : البداء ـ إلى الله تعالى ، فمنه ما يجوز إطلاقه عليه ، ومنه ما لا يجوز .

____________
(1) البقرة 2 : 57 .
(2) اُصول الكافي 1 : 113 | 11 باب النوادر .
(3) اُصول الكافي 1 : 112 | 6 باب النوادر و 1 : 360 | 91 باب فيه نكت ونتف من التنزيل في الولاية.
(4) محمّد 47 : 7 .
(5) إعراب القرآن ، للنحّاس 4 : 180 .

( 144 )
فأما ما يجوز من ذلك فهو ما أفاد النسخ بعينه ، ويكون إطلاق ذلك عليه على ضرب من التوسع ، وعلى هذا الوجه يحمل جميع ما ورد عن الصادقين عليهما السلام من الاَخبار المتضمنة لاِضافة البداء لله تعالى دون ما لايجوز عليه من حصول العلم بعد أن لم يكن . ويكون وجه إطلاق ذلك فيه تعالى. والتشبيه ، هو أنّه إذا كان ما يدل على النسخ يظهر به للمكلفين ما لم يكن ظاهراً لهم ، ويحصل لهم العلم به بعد أن لم يكن حاصلاً لهم أطلق على ذلك لفظ البداء» (1).
وقد قال استاذه الشيخ المفيد رضي الله عنه ما نصه :
«أقول في معنى البَدَاء ما يقوله المسلمون بأجمعهم في النسخ وأمثاله: من الافتقار بعد الاِغناء ، والاِمراض بعد الاِعفاء ، والاِماتة بعد الاِحياء ، وما يذهب إليه أهل العدل خاصة من الزيادة في الآجال والاَرزاق والنقصان منها بالاَعمال ، فأما إطلاق لفظ البداء فإنّما صرت إليه بالسمع الوارد عن الوسائط بين العباد وبين الله عز وجل ، ولو لم يرد به سمع أعلم بصحته ما استجزت إطلاقه ، كما أنّه لو لم يرد عليَّ سمع بأنّ الله تعالى : يغضب ، ويرضى ، ويحب ، ويعجب لما أطلقت ذلك عليه سبحانه ، ولكنه لما جاء السمع به صرت إليه على المعاني التي لا تأباها العقول .
وليس بيني وبين كافة المسلمين في هذا الباب خلاف ، وإنّما خالف من خالفهم في اللفظ دون ما سواه .. وهذا مذهب الاِمامية بأسرها ، وكل من فارقها في المذهب ينكره على ما وصفت من الاسم دون المعنى ولا
____________
(1) عدّة الاُصول ، للشيخ الطوسي 2 : 29 الطبعة الحجرية .

( 145 )
يرضاه(1)
.
أقول : ما يقول هؤلاء المفترون على الشيعة عن تفسير الزجّاج لقوله تعالى : (وَلنبلُونَّكُم حتَّى نَعلَمَ المُجاهِدينَ مِنكُم والصّابِرِينَ)(2)قال : «وهو عزَّ وجل قد علم قبل خلقهم المجاهدين منهم والصابرين ، ولكنه أراد العلم الذي يقع به الجزاء ، لاَنّه إنّما يجازيهم على أعمالهم .
فتأويله : حتى يعلم المجاهدين علم شهادة ، وقد علم عزَّ وجل الغيب، ولكن الجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة» (3).
ولا يخفى على من له أدنى فَهمٍ بأنَّ الزجّاج أراد بهذا : أنَّ لله عزَّ وجل علمين:
علم غيب : وهو العلم الذي أحاط بكل شيءٍ في هذا الكون من الذَّرَّة إلى المجرّة وإلى آخر الاَبد ، وهو ما تقوله الشيعة برمتهم .
وعلم شهادة : وهو بمعنى علم حضور ، وهذا العلم يكون بمرحلة لاحقة على الاَول ، فهو يريد في تأويله : حتى نعلم جهادكم موجوداً فعلاً فنجازيكم عليه ، مع علمنا به قبل أن نخلقكم ؛ لاَنّ الجهاد كان موجوداً في علم الغيب ، وأما بعلم الشهادة فلا ، لانتفاء موضوعه أصلاً ؛ لتعلقه بمعدوم ، وإنّما يكون العلم به حضوريا بعد حصوله ، فلا جرم أنْ يقال إذن لهذا النوع من العلم أنّه يظهر لله عزَّ وجل لا عن جهل بل عن علم تام .

____________
(1) أوائل المقالات ، للشيخ المفيد : 92 ـ 93 .
(2) محمّد 47 : 31 .
(3) معاني القرآن واعرابه ، للزجاج 5 : 16 .

( 146 )
وإذا اتضح هذا فاعلم أنّه إذا كان إسناد البَدَاء إلى الله عزَّ وجل إسناداً مجازياً ، فهو إنّما يكون كذلك في صورة التسليم بأنّ إسناده بنحو الحقيقة يستلزم الجهل .
وأمّا إذا لم يسلَم ذلك ، على أساس القول بأنّ البَدَاء أعم من كونه ظهور رأي بعد الجهل ، فالاَمر أوضح ، ولا يكون حينئذ في إسناده حقيقةً أدنى محذور لما علمت على طبق رأي الزجاج من أنَّ ظهور قعقعة السلاح في ساحة الجهاد والقتل في سبيل الله لا يكون ظهوراً لله عزَّ وجل بعد الجهل به ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، وإنّما يكون ظهوراً لله عزَّ وجل بعد مرحلة لاحقة من العلم التفصيلي به ، ذلك هو علم الغيب الذي أحاط بالاَشياء قبل إيجادها والذي لا حدّ له ولا أمد ، فأين التغيير في علم الله (عزَّ وجل) يا ترى ؟!
ومن روائع الكافي ما أخرجه عن الكاهلي ، قال : «كتبت إلى أبي الحسن (الاِمام الكاظم) عليه السلام في دعاء : الحمد لله منتهى علمه !!
قال : فكتب إليَّ عليه السلام : لا تقولن منتهى علمه ، فليس لعلمه ( عزَّ وجل ) م نتهى . ولكن قل : منتهى رضاه » (1).
إعتقاد العامّة بتغيير وتبديل ما قُضي وقُدّر :
ثم أين هؤلاء من أحاديث البخاري وأقوال علمائهم ؟ :
كحديث المعراج الصريح بتغيير ما فرض وقدر أربع مرات متوالية في
____________
(1) اُصول الكافي 2 : 409 | 19 باب الدعاء للكرب .

( 147 )
آن واحد (1)َك ، مع ما فيه من علّة قادحة إذ تضمن الطعن الصريح على الاَنبياء بالاِقدام على المراجعة تلو المراجعة في الاَوامر المطلقة كما لا يخفى .
ومثله حديث الاستسقاء (2)الذي دلَّ على أن تغيير الطقس المفاجيء قد اختص بما كان مشترطاً في التقدير .
وحديث أنّ الله يُحدث من أمره ما يشاء (3). وأحاديث تأثير صلة الرحم والصدقة عن أبي هريرة وغيره (4).
وحديث غفران الذنوب في ليلة القدر عن أبي هريرة أيضاً (5).
وحديث (اعملوا فكلٌّ ميسر) (6).
وحديث الصخرة التي أطبقت على ثلاثة رجال حتى استيقنوا الموت ثم رفعت بدعائهم (7).
وحديث البداء الصريح عن أبي هريرة في البخاري والمسند إلى
____________
(1) صحيح البخاري 1 : 98 كتاب الصلاة . وأخرجه في كتاب التوحيد 9 : 182 باب قوله تعالى : ( وكلّم الله موسى تكليما ) .
(2) صحيح البخاري 2 : 34 باب الاستسقاء في المسجد الجامع . وأخرجه من طرق أُخر صحيحة وبألفاظ مختلفة في 2 : 35 و 36 و 37 و 38 .
(3) صحيح البخاري 9 : 187 باب قوله تعالى ( كل يوم هو في شأن ) .
(4) صحيح البخاري 8 : 6 باب من بُسط له الرزق بصلة الرحم .
(5) صحيح البخاري 3 : 59 باب فضل ليلة القدر .
(6) صحيح البخاري 8 : 152 باب قوله تعالى : ( وكان أمر الله مفعولاً ) .
(7) صحيح البخاري 8 : 3 باب اجابة دعاء من برّ والديه . وصحيح مسلم بشرح النووي 17 : 55 باب أصحاب الغار الثلاثة والتوسل بصالح الاعمال .

( 148 )
النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفيه : إنّ ثلاثة في بني إسرائيل : أبرص ، وأقرع ، وأعمى بَدا لله أنْ يبتليهم.. (1).
وهل من الاِنصاف أن لا يُرى (بداء البخاري) ويرى (بداء الكليني)؟ قاتل الله الاهواء وأهلها .
ولعمري ، ليتهم رجعوا إلى الذي ذكره الآلوسي في تفسير قوله تعالى : (يَمحُو اللهُ ما يَشاءُ ويُثبِتُ وعِندُه أُمُّ الكِتَابِ) (2).
فقد أورد في تفسيره نصّ رسالة كتبت في بغداد لاَحد أفاضل علماء بغداد من العامّة بخصوص تغيير القضاء الاَزلي ، قال : «وفيها : أنه ما من شيء إلاّ ويمكن تغييره وتبديله حتى القضاء الاَزلي !! واستدلّ لذلك بأمور».. (3) .
ثم ذكر استدلالات مطولة لا حاجة لنا بها .
ومن الجدير ذكره ، أن أبا الحسن الاَشعري إمام الاَشاعرة قد صَرَّح بأنّ حديث (العشرة المبشرة) مشروط بأن لا يتغيّروا عما كانوا عليه في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن يموتوا على الاِيمان (4). ومن هنا كان عمر يقول: «لو نادى مناد : كل الناس في الجنة الا واحداً لظننت أني ذلك الواحد» (5)!! .

____________
(1) صحيح البخاري 4 : 208 ـ 209 كتاب الانبياء باب ما ذكر عن بني اسرائيل .
(2) الرعد 13 : 39 .
(3) تفسير الآلوسي المسمى بـ (روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني) 13 : 170 ـ 171 في تفسير الآية (39) من سورة الرعد .
(4) مقالات الاِسلاميين واختلاف المصلين ، لابي الحسن الاشعري : 471 .
(5) روح المعاني 13 : 170 ـ 171 .

( 149 )
ونظير هذا ما نقله القرطبي عن مالك بن دينار أنه دعا لامرأة حاملٍ فقال : «اللّهم إنْ كان في بطنها جارية فأبدلها غلاماً فإنّك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أُمّ الكتاب» (1).
كان على هؤلاء المشنّعين أن يَعُوا ما في عقيدتهم جيداً ويعرفوا رأي علمائهم في علم الله عزَّ وجل ، ولو وقفوا عليه لاستحيوا من هذه المقالة الباطلة ؛ فإنّ في عقيدة الاَشعرية أنّ التغيير في القضاء لا يوجب جهلاً ولا تغيراً في الذات الالهية ، لاَنّ التغيير عندهم إنّما هو في الاِضافات ، وهم يرون أنّ صفة العلم إضافة مخصوصة وتعلّقٌ بين العالم والمعلوم ، أو أنّها صفة حقيقية ذات إضافة .
وعلى الاَول كما صرّح به الآلوسي يتغير نفس العلم وعلى الثاني تتغير إضافته فقط . قال : وعلى التقديرين لا يلزم تغير في صفة موجودة بل في مفهوم اعتباري (2). ولهذا نجد في الرسالة التي نقل نصّها الآلوسي كما أشرنا إليها سابقاً الاعتقاد المطلق بجواز تغيير وتبديل كل شي في هذا الكون حتى ما كان منه مقدّراً مكتوبا في الاَزل!
وقد وقفت على تصريح للاستاذ الكبير حامد حفني داود المصري المعروف بما نصه : «والشيعة الاِمامية براء مما فهمه الناس عن البداء إذ المتفق عليه عندهم ، وعند علماء العامّة أنّ علم الله قديم منزه عن التغيير والتبديل والتفكير الذي هو من صفات المخلوقات ، أمّا الذي يطرأ عليه التغيير والمحو بعد الاِثبات فهو ما في اللوح المحفوظ بدليل قوله تعالى
____________
(1) الجامع لاحكام القرآن ، للقرطبي 9 : 329 ـ 330 . وكنز العمال 12 : 620 .
(2) روح المعاني ، للآلوسي 13 : 171 .

( 150 )
( يَمحُو اللهُ مَا يشاءُ ويُثبِتُ وَعِندَهُ اُمُّ الكِتَابِ (1).
ونظير هذا تماماً ما قاله محمّد عبد الكريم عتوم ، حتى لكأنكَ تشعر بنقله عن الدكتور حامد حفني داود مع تغيير طفيف (2).
أقول : هذا باطل ، لم يقل به أحد من الشيعة الاِمامية قط ، نعم قالوا عن البَدَاء ما قالوا كما عرفت ولكنهم لم يقولوا أنّ التغيير والتبديل يكون في علم الله المحفوظ ، فذلك العلم عندهم لا يجوز عليه التبديل ولا التغيير مطلقاً ، وهم متفقون على ذلك خلفاً عن سلف اقتداءاً بأئمتهم عليهم السلام .
بل ذهبوا إلى أنّ ما يحصل فيه التغيير إنّما هو لوح المحو والاِثبات الذي يمثل مظهراً من مظاهر علمه تعالى ، وقد أطلق عليه بعضهم اسم العلم الفعلي ، قال الشيخ السبحاني : «وأمّا علمه الفعلي ، فهو عبارة عن لوح المحو والاِثبات ، فهو مظهر لعلم الله تعالى في مقام الفعل ، فإذا قيل: بَدا لله في علمه : فمرادهم البَداء في هذا المظهر» (3).
وقد ناقشهم السبحاني مناقشات مطولة في ثلاثة من كتبه (4). وقد توسع فيها لاسيّما في كتابه (البَدَاء في ضوء الكتاب والسُنّة) لاِثبات أن التغيير والتبديل في بعض مراتب القضاء لا يستلزم منه تغيير العلم ، وقد سبقه إلى ذلك أكثر من أشرنا إلى مصادرهم ومراجعهم من علماء الشيعة .

____________
(1) نظرات في الكتب الخالدة : 19 . والآية من سورة الرعد 13 : 39 .
(2) النظرية السياسية المعاصرة للشيعة الاِمامية الاثني عشرية ، لمحمّد عبدالكريم عتوم : 40 ـ 41.
(3) الالهيات ، للسبحاني : 582 .
(4) الالهيات : 566 . ومفاهيم القرآن 6 : 295 و 330 و 332 . والبداء في ضوء الكتاب والسُنّة.

( 151 )

الفصل الثالث


لمحات عن تاريخ السُنّة النبويّة الشريفة

( 152 )



( 153 )


نصيب السُنّة النبوية الشريفة عند العامّة

أعني بعض هؤلاء الذين انتحلوا لقب (أهل السُنّة) ولم يشهد التاريخ أعداءً للسنّة مثلهم !! وتراهم يرفعون أصواتهم بالدعايات والضجيج والشتائم والتهريج حتّى يخيّل لك أنّهم أهل السُنّة بحق ، فمثلهم كما قال القائل :
«رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتِ» !!
وإليك بضعة أرقام وشواهد على عدائهم الصريح للسنّة النبوية الشريفة ، وما تعرّضت له على أيديهم :
حسبنا كتاب الله :
إنّ أوّل بدعة منكرة فرّقت بين الكتاب والسُنّة ، ورمت صاحب السُنّة صلى الله عليه وآله وسلم بالهجر !! كانت من نصيبهم وعلى يد عمر بن الخطاب حين كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول قُبيل وفاته : ائتوني اكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعدي فيمنع من ذلك عمر ويقول : «ما لَهَ ؟ أهجَرَ ؟! حسبنا كتاب الله» فجاء أصحابه فلطّفوا من قولته هذه ، فقالوا : إنّه قال : «لقد غلب عليه الوجع» ، ونقلوا بصحاحهم ـ بعد رواية هذه المصيبة ـ عن ابن عباس رضي الله عنه انه كان يقول : «الرزية كلّ الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبين أن يكتب
( 154 )
لهم ذلك الكتاب لاختلافهم ولغطهم» (1).
ومع هذا فقد زينت لهم أنفسهم صنيع عمر ، فدافعوا عنه وتابعوه على كلمته ، رغم كلّ ما فيها ، ثمّ قالوا إنّهم هم أهل السُنّة !!
إنّ كلمة عمر هذه هي اللبنة الاُولى ، بل الاَساس الذي قامت عليه مذاهبهم.. فإذا كانوا من هنا قد ابتدأوا فإلى أين سينتهون ؟
حديث الاَريكة :
تسنّم أبو بكر الخلافة ، فابتدأ بالمنع من التحدّث بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن الرجوع إلى السُنّة النبوية في أية قضية من القضايا ، فقال مانصّه: «إنكم تحدّثون عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحاديث تختلفون فيها ، والناس بعدكم أشدّ اختلافاً ، فلا تحدّثوا عن رسول الله شيئاً ، فمن سألكم فقولوا : بيننا وبينكم كتاب الله ، فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه»(2).
فجعل اختلاف بعضهم ذريعةً إلى المنع من الحديث خشية الرجوع إلى السُنّة ، وعاد إلى مقولة عمر الاُولى «حسبنا كتاب الله» !
وهذا بعينه ما تنبّأ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحذّر منه ، إذ قال صلى الله عليه وآله وسلم : يوشك الرَّجل متّكئاً على أريكته يُحَدَّث بحديث من حديثي ، فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله عز وجلّ ، فما وجدنا فيه من حلال استحللناه وما وجدنا فيه من
____________
(1) صحيح البخاري 5 : 137 و 7 : 9 . وصحيح مسلم 5 : 76 . ومسند أحمد 1 : 323 و 324 و 336.
(2) تذكرة الحفاظ ، للذهبي 1 : 2 ـ 3 في ترجمة أبي بكر .

( 155 )
حرام حرّمناه !! ألا وإنّ ما حرّم رسول الله مثل ما حرَّمَ الله (1).
أرأيت هذه النبوءة الصادقة كيف تحقّقت مبكّراً ؟
إتلاف الاَحاديث :
ثمّ حاول أبو بكر أن يكتب الحديث فكتب عنده خمسمائة حديث، لكنّه لم يصبح حتّى أحرقها جميعاً (2)!!.
ولنا ان نناقش أبا بكر على حرقه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما دمنا في عصر لم تكمّ فيه الاَفواه ، فنقول : إنّ تصرفه بجمع خمسمائة حديث يكذّب أقوالهم بأن المنع عن تدوين الاحاديث كان قد صدر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، مع التذكير بان (الجمع) لا يعني سوى التدوين بقرينة (فأحرقها) ، وهذه شهادة منه بعدم وجود النهي السابق عن التدوين ، وشهادة أُخرى منه ايضاً بأنه أحرقها لا بذريعة النهي السابق عن تدوينها ، بل بذريعة الخوف من عدم مطابقة تلكالاحاديث للواقع وخوفه من المشاركة في حمل أوزارها لئلا تكون مكذوبة بزعمه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم !.
وهذا من العجائب والغرائب :
أما أولاً : فإنّ من كان مثله لا يحتاج إلى مثل هذه الطريقة في جمع
____________
(1) سنن ابن ماجة 1 : 6 | 12 . وسنن الترمذي 5 : 37 | 2663 وقال : هذا حديث حسن صحيح ورواه من طريق آخر . وسنن أبي داود 4 : 200 | 4604 و 4605 باب لزوم السُنّة . ومسند أحمد 6 : 8 . ومستدرك الحاكم 1 : 108 قال : وهو صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ، ورواه من طريق آخر وقال : وجدنا للحديث شاهدين بإسنادين صحيحين . ومسند الشافعي : 390 و 430 . وكنز العمال 1 : 173 | 877 .
(2) تذكرة الحفاظ 1 : 5 . وكنز العمال 10 : 285 .

( 156 )
الاَحاديث قطعاً ، إذ بإمكانه ـ وهو الرأس الحاكم ـ ان يوعز إلى كبار الصحابة وحفّاظ السُنّة منهم أن يجمعوا ما لديهم من الحديث سواء الذي كتبوه أو حفظوه سماعاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ثم يوكِل لهم فحص المجموع وتحري صدقه والتأكد من سلامته لو كان هناك حرص عليه ، لا أن يجمع الاحاديث عن فرد واحد لم يسمّه !
وأما ثانياً : إنّه بالقياس إلى فترة إسلامه المبكر لا يحتاج إلى الواسطة في الرواية عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جمع خمسمائة حديث ، إذ من غير المعقول أن لا تكون له مسموعات عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بلا واسطة ، ولو في ضمن المقدار الذي جمعه ، وهذا يعني أنّه أقدم على حرق بعض مسموعاته عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولو تنزّلنا عن ذلك وقلنا إنّ ما أحرقه لم يسمعه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ! فالسؤال هنا لماذا لم يجمع ما سمعه بإذنه عن صاحب الوحي صلى الله عليه وآله وسلم فهل كان شارد الذهن في العهد النبوي فلم يعِ مايسمع ! أم انه خشي من تدوين السُنّة اطلاع الاجيال على ما منعه عمر؟!
وأما ثالثاً : فإنّ أبا بكر صرّح بلسانه بوثاقة من سمع تلك الاحاديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فكيف شك به بعد أن ائتمنه ؟ ولِمَ لمْ يقم بواجبه فيعرضها على الصحابة للتأكد من صدق من ائتمنه فيمضها ، أو يعرف كذبه فيؤدبه؟ ألا يدلّ هذا الاغماض عن تهاون في الشرع ، ويكشف عن أسباب غير معلنة وراء حرق الاحاديث ؟
على أنَّ هذا الموقف العجيب بالنسبة إلى السُنّة المطهّرة قد نبّه من لاينطق عن الهوى ، على كونه وشيك الوقوع بعده كما تقدم في حديث الاَريكة .

( 157 )
وأعجب من هذا أنهم رووا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بطرق عدّة تحذيره من الاكتفاء بالقرآن عن السُنّة ، وتنديده باليهود والنصارى لاَنّهم يقرؤون التوراة والانجيل فلا ينتفعون مما فيهما بشيء ؛ لاَنّهم لم يتعلقوا بحرفٍ مما جاءتهم به أنبياؤهم (1).
موقف عمر من السُنّة المطهّرة :
وجاء عمر ، فأكّد المنع من الحديث وشدّد على الصحابة الذين يخرجون من المدينة إلى الاَمصار ، يقول لهم : «إنكم تأتون أهل قرية لهم دويّ بالقرآن كدويّ النحل ، فلا تصدّوهم بالاَحاديث فتشغلوهم ، جرّدوا القرآن وأقلّوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم» (2).
حتى أن كعب بن قرضة كان يسأله أهل الكوفة عن أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فلا يجيبهم ويقول لهم : نهانا عمر بن الخطاب (3).
ثم استشار الصحابة في كتابة حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجمعه ، فأجمعوا على ذلك ، لكنّه جاء بعد ذلك فأمر كلّ من كتب شيئاً أن يمحه(4) !

____________
(1) تمام الحديث في سنن الترمذي 4 : 104 . ومسند أحمد 4 : 160 و 218 ، 5 : 266 ، 6 : 26 والخبر مشهور رواه من الصحابة : أبو الدرداء ، وزياد بن لبيد الاَنصاري ، وعوف بن مالك ، وأبو اُمامة الباهلي .
(2) تذكرة الحفّاظ 1 : 7 . ولاحظ طرق الحديث وألفاظه في سنن ابن ماجة 1 : 12 . وسنن الدارمي 1 : 85 . ومستدرك الحاكم 1 : 102 .
(3) مستدرك الحاكم 1 : 102 . وكنز العمال 9 : 447 .
(4) تقييد العلم ، للخطيب البغدادي : 53 .

( 158 )
ثم دعا بعد ذلك كل من عنده كتاب أو لوح كتب فيه حديثاً أن يأتيه به ، فظنّوا أنه يريد أن يوحّدها ، فلمّا اجتمعت عنده أحرقها بالنار (1)!!
ثمّ حَبَسَ جماعة من كبار الصحابة في المدينة حتى مات ؛ لاَنهم لم يلتزموا أمره في كتم الاَحاديث كابن مسعود ، وأبي الدرداء (2)، وعبدالله ابن حذافة ، وعقبة بن عامر ، وأبي هريرة (3).
ولم يكتف عمر بكلِّ هذا بل حاول الدفاع عن فعله باتهام جميع الصحابة بالكذب في رواية الاَحاديث حتى قام خطيباً فيهم يسمعهم أقذع الكلام فقال مخاطباً لهم : «إنّ حديثكم هو شرّ الحديث ، وإنّ كلامكم هو شرّ الكلام ، من قام منكم فليقم بكتاب الله ، وإلاّ فليجلس» (4).
ومن عجائب عمر إنّه لم يمنع من الحديث فحسب ، بل منع فقهاء الصحابة من الاِفتاء وحاول أن يجعل الفتوى من حق السلطة فقط . فعن ابن سيرين أنّ عمر قال لاَبي موسى : «أما إنّه بلغني أنّك تفتي الناس ولست بأمير ؟
قال : بلى .
قال : فولِّ حارها من تولى قارها» (5).
وكلّ الذي تقدم متّفق عليه عند (العامّة) لكنهم دافعوا عنه بدعوى
____________
(1) تقييد العلم ، للخطيب البغدادي : 53 .
(2) مستدرك الحاكم 1 : 110 وقال هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه .
(3) كنز العمال 10 : 291 | 29472 و 29479 .
(4) تاريخ المدينة 3 : 16 .
(5) كنز العمال 10 : 298 | 29505 .

( 159 )
كاذبة نسبوها إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم .
إذ زعموا : أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد نهى عن كتابة الحديث !!
فكيف قام أبو بكر بكتابة الحديث إذن حتى جمع خمسمائة حديث ، ثم أحرقها ؟!
وكيف استشار عمر الصحابة في الكتابة فأجمعوا عليها ، وكتبوا ، ثم حرّقها ؟!
وما معنى حديث الاريكة إذن ؟
ولماذا النهي من التشبّه بأهل التوراة والانجيل ؟
أسئلة شتى ، ولكن بلا جواب !!
وغير هذا كثير مما يكشف لك تهافت دعاواهم وكلّ ما أتوا به لترميم مذهبهم !
موقف عثمان ومعاوية من السُنّة الشريفة :
وجاء دور عثمان ، فقام خطيباً وقال : «لا يحلّ لاَحد يروي حديثاً لم يُسمع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر...» (1).
أمّا معاوية فله مع السُنّة شأن آخر ، قد مهّد له وساعده عليه هذا المنع الطويل من رواية الحديث وتدوينه.. فقام بدورين :
في الاَوّل : منع من كلّ حديث إلا حديثا ظهر في عهد أبي بكر وعمر
____________
(1) مسند أحمد 1 : 363 . وكنز العمال 10 : 195 | 2949 عن ابن سعد وابن عساكر .

( 160 )
وعثمان (1) !!
أمّا الاَحاديث التي ظهرت في عهد الاِمام عليّ عليه السلام فهي ممنوعة ، لاَنّ الاِمام عليّاً وابن عباس وغيرهم قد حدّثوا بالاَحاديث التي كانت ممنوعة قبلهم .
وفي الثاني : دعا الناس إلى وضع الاَحاديث زوراً في فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم من الصحابة الذين لهم خصومة ما مع الاِمام عليّ عليه السلام وأهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم ! حتّى كثرت في ذلك الاَحاديث ونقلها الخطباء على المنابر وعلّمها الآباء أبناءهم ، وحتّى ظنّ كثير من أهل الصدق والعبادة أنّها حقّ فحدّثوا بها ، ولو علموا أنّها باطلة لما حدّثوا بها .
وهو في أثناء ذلك وبعده كان قد وظّف جنده وشرطته بمطاردة كلّ من يروي حديثاً في فضل الاِمام عليّ وأهل البيت عليهم السلام ، وأن لا يقبلوا لهم شهادة ، ويكذّبونهم ويرمونهم بالابتداع في الدين !
فصار عندهم كلّ من يروي أحاديث الاِمام عليّ وأهل البيت أو أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم يُعدُّ كذّاباً منكر الحديث ! لاَن أحاديثه لا تنسجم مع الاَحاديث التي أذاعها أنصار الخلافة الاَموية حتّى صارت مشتهرة (2)!

____________
(1) صحيح مسلم 2 : 718 كتاب الزكاة باب النهي عن المسألة . والكامل ، لابن عدي 1 : 33 . ومسند أحمد 4: 99 . وتذكرة الحفاظ 1 : 7 . وتاريخ دمشق ، لابن عساكر 3 : 160 . وتدوين السُنّة الشريفة ، للسيد الجلالي : 474 .
(2) شرح نهج البلاغة ، لابن أبي الحديد 11 : 44 ـ 46 و 4 : 63 . والنصائح الكافية لمن يتولّى معاوية ، لمحمّد بن عقيل : 97 ـ 99 .

( 161 )
إدراك العامّة فداحة المواقف السابقة :
أدرك بعض علماء العامّة بعد نهاية القرن الاَوّل فداحة الخطورة الناجمة عن منع تدوين الحديث بشكل رسمي فاستغلوا أمر عمر بن عبدالعزيز بجمع الحديث وتدوينه ، ولكن بعد أن أصابه ما أصابه وداخله ما داخله ، فانطلق هؤلاء ـوعلى رأسهم الزهري وهو من ألصق الناس بقصور الاَمويين ـ يدوّنون ما في جُعَب أصحابهم من تلك الموضوعات والمزوّرات وكثير منهم يظنّ أنّها الحقّ ، وأسقطوا ما خالفها ؛ لاَنه من حديث (الشيعة) الذين لم يطاوعوا بني اُميّة عقيدياً ولا سياسياً .
على أن عمر بن عبدالعزيز الذي كان عهده بداية الانفتاح على التدوين عند (العامّة) لم يأمر بأخذ السُنّة عن أهلها بل كتب إلى أبي بكر بن محمّد بن عمرو بن حزم أن يكتب إليه بما ثبت عنده من حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحديث عمر (1)ثپ . ولا يخفى عليك ان حديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما هو عند أهله الذين اجتباهم الله وطهّرهم ، ولهم من الفضائل في صحاح القوم ما لايحصى ، وليس عند غيرهم من الحديث حتى يطلب سوى أضغاث من الحق والباطل ، ولو أحبّ ابن عبدالعزيز الحق فعلاً لطلبه من أهله لاممن وقف موقف الخصم اللدود من السُنّة النبوية المطهّرة ، فهو لم يعرف الحق لاَنه تجاهل أهله ، لكنه على كلِّ حال فسح المجال أمام رواة الحديث بعد أن أدرك تحقق أغراض المنع بأوضح صورة من ابتعاد الناس عن سُنّة أهل البيت عليهم السلام ، وتعلقهم بالسُنّة العمرية التي انتدب الناس لتدوينها تحت ستار حديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم !!

____________
(1) سنن الدارمي 1 : 126 .

( 162 )
ومن هنا تجمّعت دواوين الحديث لديهم ، الصحاح والسنن والمسانيد، فاختلط بالصحيح كذب وباطل كثير ، ابتلوا به إثر تلك السياسة الظالمة الجاهلة الجائرة التي صوّرت لهم الحقّ باطلاً والباطل حقاً!
مخالفتهم للسُنّة العملية :
أمّا في السُنّة العمليّة ، فلقد خالفها أئمة العامّة كثيراً ، عامدين ، وعن علم ، كما فعل عمر بحذف «حيّ على خير العمل» من الاَذان ، وكما فعل عثمان بترك التقصير في الصلاة في موسم الحجّ ، وفي زيادة الاَذان يوم الجمعة ، وغسل القدمين في الوضوء بدل المسح ، وغيرها كثير ، وكما عمد إليه معاوية من تعمّد تبديل السنن خلافاً للاِمام عليّ عليه السلام فنقّص التكبير في الصلاة ، ومنع التلبية في الحج ، ورسّخ ما ابتدعه المتقدّمون ، وجاء أنصاره فوضعوا في ذلك أحاديث كثيرة تدعيماً لما أشاعوه .
فممّا حفظته مصادرهم الموثّقة : أنّ الحجاج السفاك قام خطيباً يعلّم الناس الوضوء ! فأمرهم بغسل القدمين ثلاثاً وشدّد على ذلك ، حتى قام أنس بن مالك ، الصحابي خادم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فقال : صدق الله ، وكذب الحجّاج ! قال الله : (وامسَحُوا بِرُؤوسِكم وأرجُلَكُم ) (1).
وهكذا خلطوا السُنّة العملية بالباطل والبدع كما صنعوا بالسُنّة القولية
____________
(1) المائدة 5 : 6 . وتكذيب أنس للحجاج في مسألة الوضوء في تفسير الطبري 10 : 58 | 11475 و 11476 و 11477 . وأحكام القرآن ، لابن العربي 2 : 577 . والناسخ والمنسوخ ، لابن العربي 2 : 198 . والمحرر الوجيز ، لابن عطية الاندلسي 5 : 48 . وتفسير الرازي 11 : 161 . والجامع لاَحكام القرآن ، للقرطبي المالكي 6 : 92 . وتفسير ابن كثير 2 : 27 قال : (اسناده صحيح) . والدر المنثور 3 : 28 أورده عن سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وغيرهم .

( 163 )
الشريفة !
نتيجة منع الحديث :
ولما كان في ما جمعوه من السنن نقصاً وتشويهاً وتهافتاً حتى اشتهر عن أبي حنيفة النعمان رأس المذهب الحنفي أنّه كان يترك السنن وحديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويعمل برأيه وقياسه (1)مع وجود الحكم الشرعي الذي نطقت به السُنّة الشريفة المحفوظة عند أهل البيت عليهم السلام عدل القرآن الكريم ، كما اضطرّ غالب فقهائهم أيضاً إلى الرأي ، والقياس ، والاستحسان، والمصالح المرسلة ، وسدّ الذرائع فأدخلوا هذه العناصر كمصادر جديدة للتشريع ، وسموّها (أُصول الفقه) ومن تتبع جذور تلك الاَُصول نجدها قد أسهمت وبشكل مباشر في هدم السُنّة ومحاولة إماتتها؛ ذلك لاَن مانعي تدوين الحديث قد منحوا أنفسهم صلاحية واسعة جداً في ميادين الاجتهاد في مقابل نصوص الشريعة الاِسلامية ، فقاسوا الاَُمور باشباهها واستحسنوا أموراً أُخرى بأذواقهم ، مما أدّى ذلك إلى تعرّضهم المستمر في بداية الاَمر إلى انتقادات الصحابة الآخرين وإثبات أنّ تلك الاجتهادات إنّما هي بدع في الدين لمخالفتها الواضحة لاَحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فكان التراجع عما اجتهدوا به حليفهم ، مما حملهم على اتخاذ الاِجراءات الحاسمة لوقف حالة الاعتراض والتذمر عند رؤوس الصحابة ، وذلك بحسم مادتها واقتلاع مصدرها وهو الحديث الشريف ؛ لكي يسلم بذلك قياس زيد واستحسان عمر .
نعم كان من المناسب جداً لبقاء تلك الاجتهادات ـ بل التصرفات التي
____________
(1) تاريخ بغداد ، للخطيب البغدادي 13 : 412 وما بعدها .

( 164 )
لم توزن بميزان الشرع الحنيف ، وقد بيّنا بعضها في المقدمة ـ بلا معارضة من أحد أن تقوم السلطة بمنع تدوين السُنّة وروايتها ، وتبرير هذا المنع تارةً بحفظ القرآن الكريم وأُخرى بعدم إهماله ونحو هذا من المبررات الواهية ؛ لاَن التراجع عن الرأي ـ كلّما بان الخطأ فيه ـ يشكّل إدانة قوية لهم في احتلال غير مواقعهم ، فلا محيص إذن من مخاطبة الصحابة «إنّ حديثكم شرّ الحديث» !! فضلاً عن الخوف من تفشي الواقع في نشر الحديث المنطوي على حق أهل البيت عليهم السلام المغتصب ، ذلك الواقع الذي لاتستسيغه السلطة قطعاً ، فكان لابدّ لها من منع الحديث رواية وتدويناً لكي لا يكون بيد الصحابة أدنى سلاح حديثيّ يلوّح به في وجه السلطة اعتراضاً على نمط سياستها ومنهج فقهها .
وبهذا يعلم أنّ أُصول فقههم إنّما نمت على محاولات هدم السُنّة وإماتتها في مهدها ، ومع هذا فإنّك ترى إلى اليوم من يتشدقون بأنّهم متقدّمون على غيرهم في تأسيس علم الاَُصول ! فتنبه إلى ذلك ، واعرف الحق تعرف أهله .
يتضح مما عرضناه وناقشناه في الفصول المتقدمة مدى عدم الموضوعية والانصاف فيما أثاره القوم وسقوط مدعياتهم وتأويلاتهم الفاسدة ، ونترك للقارىء المنصف أن ينظر في المعالجات العلمية الموضوعية بكلِّ ما أُثير من إشكالات وافتراءات على التشيع وما قدمناه من إجابات وحجج أسقطت دعاوى الخصوم وأبانت تهافتهم سواء على مستوى الفكر أو العقيدة .
( واللهُ يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم )
والحمد لله ربِّ العالمين ، والصلاة
على محمّد وآله الطاهرين