نهاية الافكار ـ الجزء الاول والثاني ::: 211 ـ 225
(211)
    الأول : ان يكون المراد من المرة هو الفرد فيقابلها التكرار بمعنى الافراد.
    الثاني : ان يكون المراد منها الوجود الواحد وفي قبالها التكرار بمعنى الوجودات ، والفرق بينهما هو انه على الأول يكون الفرد بخصوصية الفردية تحت الطلب والامر بخلافه على الثاني فإنه عليه يكون مطلوبية الفرد بما أنه وجود للطبيعي فتكون خصوصية الفردية خارجة عن دائرة الطلب ، وربما يثمر ذلك في مقام الامتثال عند الاتيان بالفرد بقصد الخصوصية لا بما انه وجود الطبيعي ، حيث إنه على الأول يقع الامتثال بالخصوصية بخلافه على الثاني ، فإنه علاوة عن عدم تحقق الامتثال بالخصوصية ربما صدق التشريع المحرم أيضا في قصده الخصوصية نظرا إلى ما هو المفروض من خروج الخصوصية عن دائرة الطلب والامر ، كما هو واضح.
    الثالث : ان يكون المراد من المرة الدفعة ومن التكرار ما يقابلها وهو الدفعات والفرق بين ذلك والوجهين المتقدمين واضح ، إذ على هذا المعنى ربما يتحقق الامتثال بالمتعدد فيما لو أوجد دفعة افرادا متعددة فإنه حينئذ يتحقق الامتثال بالمجموع ، بخلافه على المرة بمعنى الفرد أو الوجود الواحد فإنه عليهما يقع الامتثال بواحد منها. وحينئذ فهذه محتملات ثلاثة في المراد من المرة والتكرار.
    ولكن الاحتمال الأول بعيد غايته عن مصب كلماتهم بقرينة النزاع الآتي في تعلق الامر بالطبيعة أو الفرد ، فإنه لو كان المراد من المرة في المقام هو الفرد لكان اللازم هو ذكرهم ذلك في طي المقام الآتي : في أنه بعد فرض تعلق الامر بالفرد لا بالطبيعة فهل الامر يدل على فرد واحد أو على افراد متعددة ؟ لا جعلهم ذلك بحثا مستقلا في قبال البحث الآتي ، وحينئذ فنفس تعرضهم لهذا البحث مستقلا في قبال البحث الآتي قرينة قطعية على عدم ارادتهم من المرة في المقام الفرد والافراد ، كما هو واضح. وحينئذ فيدور الامر بين الوجهين الآخرين ، وعند ذلك ربما كان المتعين منهما هو الأخير نظرا إلى كونه هو المنساق منها في الذهن عند العرف ، ومن ذلك لو أتى بالماء مثلا في ظروف متعددة دفعة واحدة لايقال : بأنه أتى بالماء مرات أو أتى به متكررا ، بل يقال : انه أتى بالماء مرة واحدة. هكذا أفاده الأستاذ. ولكن أقول : بان عدم صدق التكرار والمرات في المثال انما هو باعتبار اضافته إلى الاتيان لا بلحاظ اضافته إلى المأتي به وهو الماء ، فحيث ان الاتيان لم يكن الا اتيانا واحدا أضيف إليه المرة فقيل : بأنه أتى بالماء مرة واحدة ، والا


(212)
فباعتبار اضافتها إلى نفس المأتى به وهو الماء ربما يصدق عليه التكرار في المثال المزبور ، كما هو واضح.
    وكيف كان فهل المراد من المرة على كلا المعنيين بمعنى الدفعة أو الوجود هو المرة بنحو بشرط لا عن الزيادة في مرحلة الوجود الخارجي ؟ أو المرة بنحو لا بشرط على معنى وقوع الامتثال بواحد من الوجودات وبأول وجود على المرة بمعنى الدفعة وصيرورة الزائد لغوا فيه وجهان : أظهر هما الثاني على ما يستفاد من كلماتهم ، فان ظاهر هم انما هو على صيرورة الزائد على المرة ( بأي معنى فرضناها ) لغوا محضا ، في قبال القائل بالتكرار الذي يقول بتحقق الامتثال بالزائد أيضا لا انه كان مخلا أيضا بالامتثال بالنسبة إلى أول وجود ، كما هو واضح ، هذا بالنسبة إلى القول بالمرة. واما القول بالتكرار فيحتمل فيه أيضا وجهان ، فإنه على المعنيين من الوجودات أو الدفعات تارة يراد تكرر الوجود بنحو الارتباط كما في العام المجموعي ، وأخرى يراد تكرره بنحو الاستقلال والسريان على نحو كان كل فرد ووجود موردا لتكليف مستقل كما نظيره في العام الاستغراقي ، والفرق بينهما واضح مثل الفرق بينهما والطبيعة الصرفة ، فإنه على الثاني يكون كل فرد وكل وجود موردا لتكليف مستقل حسب انحلال التكليف المتعلق بالطبيعة ويكون لكل واحد منها امتثال مستقل غير مرتبط بامتثال الآخر ، بخلافه على الأول فإنه عليه وان لو حظ الطبيعي بنحو السريان في ضمن الافراد الا انه بنحو كان المجموع موضوعا وحدانيا في مقام تعلق الطلب والامر ، فمن هذه الجهة لايكاد تحقق الامتثال الا باتيان الطبيعي خارجا متكررا ولايكاد يكون لاتيان المجموع الا امتثال واحد ولا على مخالفتها الأعقاب واحد ، كما هو واضح.
    وبعد ما عرفت ذلك فلنرجع إلى ما كنا بصدده من المختار في المسألة ، فنقول : قد عرفت في صدر البحث ان المختار من الوجوه الثلاثة هو الوجه الأخير من عدم دلالة الصيغة الا على صرف الطبيعي المتحقق بأول وجود بلا اقتضائها للمرة أو التكرار بوجه أصلا ، كيف وان المادة فيها حسب وضعها النوعي على ما تقدم من انحلال أوضاع المشتقات مادة وهيئة لاتدل الا على صرف الطبيعي ، كما هو ذلك أيضا في ساير الصيغ من المصدر وغيره ، إذ حينئذ من انتفاء دلالة المادة فيها على المرة أو التكرار يستكشف


(213)
انتفائها أيضا في الصيغة. ولعله إلى ذلك أيضا نظر الفصول في انكاره دلالة الصيغة على المرة والتكرار بانتفائها في ناحية المصدر المجرد عن اللام والتنوين باجماع من علماء الأدب ، فكان تمام نظره في النقض بمثل المصدر المجرد عن اللام والتنوين إلى تلك المادة المأخوذة فيه التي هي جهة مشتركة سارية فيه وفي سائر الصيغ من الماضي والمضارع وغيرهما ، لا ان نظره إلى أن المصدر هو الأصل والمادة لسائر المشتقات كي يتوجه عليه اشكال الكفاية : بان المصدر ليس أصلا ومادة لسائر المشتقات بل يكون صيغة مثلها وفي قبالها ، فلا يلزم حينئذ من عدم دلالة المصدر المجرد عليهما عدم دلالة الصيغة أيضا عليهما. نعم لو قيل بعدم انحلال الوضع في المشتقات إلى وضعين : وضع المادة المشتركة في الجميع وضعا نوعيا ووضع الهيئة في كل واحدة من الصيغ وضعا شخصيا وان الوضع في كل واحدة من الصيغ من قبيل الوضع في الجوامد في كون كل واحد منها مادة وهيئة موضوعا لمعنى خاص ، لأمكن المجال لما في الكفاية من المناقشة بان عدم دلالة المصدر على المرة والتكرار لايقتضي عدم دلالة الصيغة عليهما ، ولكن الكلام حينئذ في أصل هذا المبني فإنه خلاف ما عليه المحققون في أوضاع المشتقات ، إذ بنائهم فيها على انحلال الوضع فيها إلى وضعين : وضع نوعي للمادة السارية فيها ووضع شخصي لكل واحدة من الهيئات الخاصة ، وعلى ذلك فيتجه الاستدلال لعدم دلالة المبدء في الصيغة على المرة والتكرار بانتفائها في طرف المصدر المجرد عن اللام والتنوين ، كما هو واضح.
    وحينئذ فبعد ما ظهر من عدم دلالة المادة على أحد الامرين في الصيغة فلا جرم يبقى الكلام فيها في الهيئة وهي أيضا كما عرفت غير مرة لاتدل الا على طلب ايجاد الطبيعة أو النسبة الارسالية الملازمة لطلب الطبيعة فلايكون فيها أيضا اقتضاء المرة أو التكرار بوجه أصلا ، كما لايخفى. واما ما يرى من الاكتفاء بالمرة والفرد الواحد فإنما هو من جهة تحقق صرف الوجود بأول وجوده وتحقق الامتثال بذلك لا من جهة ان الامر يقتضي المرة كما هو واضح. كما أن تحقق الامتثال باتيان أفراد عرضية دفعة انما هو من جهة انطباق الطبيعي المأمور به على الجميع كانطباقه في الأول على وجود واحد لا من جهة اقتضاء الامر للتكرار كما توهم.
    ومن ذلك البيان ربما أمكن ارجاع القول بالمرة أيضا إلى القول بالطبيعة الذي هو المشهور نظرا إلى سقوط الامر عن الطبيعة وتحقق الامتثال بايجاد المأمور به دفعة ولو في


(214)
ضمن فرد واحد وعدم المقتضى بعد للامتثال باتيان ثاني الوجود وثالثه ، كما هو واضح فتدبر.
    بقى الكلام فيما استدل به للقول بالتكرار وهي أمور :
    منها قوله صلى الله عليه وآله ( إذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم ) وفيه ما لايخفى ، إذ بعد الغض عما يرد عليه من لزوم تخصيص الأكثر في مثل الصلاة اليومية وصوم شهر رمضان وسائر الواجبات من الصلوات وغيرها ، نقول بأنه ينافي ذلك ما في ذيل تلك الرواية من الظهور بل الصراحة في عدم لزوم التكرار وهو قوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم والله لو قلت نعم لوجب ) الخ (1) فان ما هو المستفاد من هذا الذيل انما هو خلاف ما يقوله القائل بالتكرار كما هو واضح.
    ومنها استدلالهم بمثل الصوم والصلوات اليومية المتكررة في كل سنة ويوم. وفيه ما لايخفى حيث إن تكرر الصلاة في كل يوم والصوم في كل سنة انما هو من جهة اقتضاء قضية الشرط لتعدد الوجود عند تكرره حسب إناطة وجوب الصوم بدخول شهر رمضان وإناطة وجوب الصلاة بدخول الوقت وأين ذلك واقتضاء الامر للتكرار كما لايخفى.
    ومنها ولعله هو العمدة مقايسة باب الأوامر بباب النواهي التي من المعلوم انها للدوام والاستمرار ، بتقريب : انه كما أن قضية اطلاق الهيئة في النواهي هي الدوام والاستمرار بملاحظة اقتضاء اطلاقها لسعة دائرة الطلب وشموله للوجودات العرضية والطولية ومبغوضية الطبيعة بوجودها الساري في جميع الافراد. وتحكيمه على قضية اطلاق المادة فيها في اقتضائه لكون تمام المبغوض هو صرف وجود الطبيعي المتحقق بأول وجود ولو من
1 ـ لم أجد الحديث في مجامع أخبارنا وألفاظه على ما أخرجه في التاج هكذا : « عن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا فقال رجل : أكل عام يا رسول الله فسكت ، حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم ، ثم قال : ذروني ما تركتكم فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه » رواه مسلم والنسائي والترمذي « انتهى » التاج / ج 2 ص 108 ، الباب 2 من كتاب الحج « المصحح ».

(215)
جهة عليه الهيئة لتحقق المادة خارجا ، كذلك في الأوامر أيضا ، حيث إنه بعين هذا التقريب أي تقريب اطلاق الهيئة وتحكيمه على اطلاق المادة يستكشف في الأوامر أيضا عن أن المطلوب فيها هو الطبيعة بوجودها الساري في ضمن جميع الافراد لا صرف وجودها المتحقق بأول وجودها كما هو واضح ، وبذلك يثبت المطلوب الذي هو اقتضاء الامر للتكرار هذا.
    ولكن فيه أيضا ما لايخفى ، إذ نقول : بان ما أفيد وان تم لا ثبات الدوام والاستمرار في باب النواهي الا انه يمنع عن جريان التقريب المزبور في باب الأوامر من جهة وضوح الفرق بين المقامين ، وحاصل الفرق بين المقامين في جريان اطلاق الهيئة وصحة تحكيمه على اطلاق المادة في باب النواهي وعدم جريانها في باب الأوامر هو ان صحة تحكيم اطلاق الهيئة في باب النواهي واستفادة الدوام الاستمرار منه انما هو من جهة عدم ترتب محذور العسر والحرج في الترك على الدوام والاستمرار ، بخلافه في الأوامر فإنه فيها يلزم من تحكيم قضية اطلاق الهيئة على اطلاق المادة محذور العسر والحرج الشديد ، فمن هذه الجهة ربما يمنع مثل هذا المحذور في باب الأوامر عن جريان اطلاق الهيئة فيها والاخذ بها ، ومع عدم جريان الاطلاق فيها لا جرم يبقى اطلاق المادة فيها على حاله سليما عن المزاحم ، ومقتضاه كما عرفت هو كون تمام المطلوب عبارة عن صرف الطبيعي المتحقق بأول وجوده دون الطبيعة السارية ، وعليه فلا مجال للتشبث بمثل هذا البيان أيضا لا ثبات التكرار في الأوامر وان صح ذلك في باب النواهي ، كما هو واضح. (1)
    ثم انه يبقى الكلام حينئذ في بيان الثمرة بين الأقوال المزبورة فنقول : أما الثمرة بين القول بالطبيعة وبين القول بالمرة بمعنى الفرد أو الوجود الواحد فظاهرة فيما لو أتى دفعة
1 ـ أقول ولايخفى عليك انه لا يتم هذا التقريب في باب النواهي أيضا ويظهر وجه من جهة تبعية الهيئة ثبوتا اطلاقا وتقييدا للمادة حسب تقدمها عليها وكيفية قيام المصلحة بها بصرف وجودها أو بوجودها الساري ، إذ حينئذ تكون الهيئة تابعة للمادة ومن شؤونها ، وحينئذ فمع جريان الاطلاق في المادة لايبقى مجال لجريان الاطلاق في طرف الهيئة حتى يقع بينهما التزاحم باعتبار كون قضية اطلاقها حاكما على اطلاقها ، ومعه كيف المجال لدعوى تقديم اطلاق الهيئة على اطلاقها وتحكيمها عليها وان كان الأستاذ دام ظله مصرا بذلك في مقام ابداء الفرق بين الأوامر والنواهي فتأمل. « المؤلف ، قدس سره ».

(216)
واحدة بأفراد متعددة ، فإنه على القول بالطبيعة يقع الامتثال بالمجموع ويكون المجموع امتثالا واحدا ، ولكنه لا بمناط الترجيح بلا مرجح بل بمناط انطباق الطبيعي المأمور به على الجميع باعتبار كونها وجودا لها ، وأما على القول بالمرة فلا يقع الامتثال الا بواحد منها لا بعينه ، هذا إذا لم يؤخذ الفرد مقيدا بعدم الزيادة ، والا فلا يقع الامتثال بواحد منها أصلا ، ولكن الذي يسهل الخطب هو عدم إرادة القائل بالمرة مثل هذا المعنى لما تقدم بان المراد منها إنما هو المرة على نحو اللابشرطية وعليه فيقع الامتثال بواحد منها ويصير الزائد لغوا محضا لا مخلا بأصل الامتثال ، هذا إذا اتى المكلف بأفراد متعددة دفعة واحدة. وأما لو أتى بها دفعات فالثمرة أيضا تظهر من جهة قصد الامتثال بالخصوصية وعدم قصدها فإنه على القول بالطبيعة يقع قصده ذلك تشريعا محرما بخلافه على المرة بمعنى الفرد فإنه حينئذ لابد من قصد الخصوصية ويقع الامتثال به أيضا. نعم على تفسير المرة بالوجود الواحد من الطبيعة لا ثمرة في هذا الفرض بينها وبين الطبيعة بل تختص الثمرة بينهما بالفرض الأول وهو صورة الاتيان بأفراد متعددة دفعة واحدة. هذا كله بناء على تفسير المرة بالفرد أو الوجود الواحد ، واما بناء على تفسيرها بالدفعة كما استظهرناه فلا ثمرة بينها وبين القول بالطبيعة ، ومن ذلك أرجعنا القول بالمرة أيضا إلى القول بالطبيعة هذا كله في الثمرة بين القول بالمرة وبين القول بالطبيعة.
    وأما الثمرة بين الطبيعة وبين القول بالتكرار فعلى تفسيره بالافراد والوجودات فتظهر أيضا في صورة الاتيان بالطبيعة في ضمن فرد واحد فإنه على القول بالطبيعة يتحقق الامتثال ويسقط الامر والتكليف من جهة انطباق الطبيعي على المأتى به بخلافه على القول بالتكرار إذ عليه كان التكليف بعد على حاله فيجب الاتيان ثانيا وثالثا وهكذا ، بل وتظهر الثمرة أيضا عند الاتيان بأفراد متعددة دفعة ، إذ على القول بالطبيعة من جهة انطباق الطبيعي على الجميع يكون المجموع امتثالا واحدا دونه على القول بالتكرار فإنه عليه يكون تلك امتثالات متعددة كما في صورة ايجاد الطبيعة ثانيا وثالثا ورابعا. هذا على التكرار بمعنى الوجودات ، وأما على التكرار بمعنى الدفعات فتظهر عند الايجاد ثانيا وثالثا حيث إنه على التكرار يقع الامتثال بثاني الوجود وثالث الوجود أيضا بخلافه على الطبيعة فإنه عليه يكون ثاني الوجود من الامتثال عقيب الامتثال ، كما يأتي الكلام فيه في مبحث الاجزاء انشاء الله تعالى.


(217)
    واما الثمرة بين القول بالمرة وبين القول بالتكرار فواضحة غير محتاجة إلى البيان.
    بقى شيء وهو انه على التكرار هل يعتبر تعدد الوجود مطلقا حتى في الأمور القابلة للدوام والاستمرار كالقيام والقعود ونحوهما فيجب في تكرر القيام انهدامه ثم قيام آخر كي يتحقق التعدد ؟ أو ان اعتبار تعدد الوجود انما هو الأمور الآنية غير القابلة للدوام والاستمرار كالضرب مثلا والا ففي الأمور القابلة للاستمرار يكفي في تكرارها استمرارها بنحو لايتخلل فصل في البين بان يقصد بها في كل آن امتثال الامر المتعلق بالطبيعة بلا احتياج إلى تخلل فصل في البين ؟ فيه وجهان : مقتضي ظاهر العنوان هو الأول من لزوم تكرر الوجود في صدق التكرار وتحققه حتى في مثل القيام والقعود الذي يتصور فيه القرار والاستمرار ، لكن مقتضي استدلالهم بباب النواهي هو الثاني وهو عدم اعتبار تكرر الوجود ، كما هو ذلك في باب النواهي حيث كان المطلوب فيها هو الدوام والاستمرار. وعليه ربما تظهر الثمرة أيضا بين القول بالتكرار وبين القول بالطبيعة في صورة استمرار القيام من جهة وحدة الامتثال على القول بالطبيعة وتعدده على القول بالتكرار فيما لو قصد كون القيام في كل آن امتثال للامر به كما هو الشأن أيضا في باب النواهي فيما لو ترك شرب الخمر قاصدا كونه في كل آن امتثالا لقوله : لا تشرب الخمر فيكون هذا القيام الشخصي المستمر حينئذ امتثالات متعددة للامر بالقيام ، وهكذا الأمور التدريجية كالحركة والتكلم والقرائة فان حالها حال الأمور القابلة للدوام والاستمرار ، فبناء على القول بالطبيعة يكون مجموع الحركة والتكلم والقرائة من أولها إلى آخرها وجودا واحد للطبيعة ما لم يتخلل فصل في البين فيحتاج في كونه ثاني الوجود إلى طرو فصل في البين بان يتحرك ثم يسكن ثم يتحرك ، وهكذا في التكلم والقرائة فما دام كان مشغولا بالتكلم والقرائة كان ذلك يعد وجودا واحدا للقرائة ولايتحقق ثاني الوجود الا بتخلل سكون في البين بنحو يعد الكلام الثاني وجودا آخر. واما على التكرار على النحو المزبور يتحقق التكرار وتعدد الامتثال بقصده القراءة في كل آن امتثالا للامر بها. نعم لو كان الامر متعلقا لا بعنوان القراءة بقول مطلق بل بعنوان قرائة الحمد مثلا ففي ذلك يكون تحقق الطبيعة بمجرد الفراغ عن الحمد ولو لم يقطع قرائته بل اتصل قرائته بقرائة حمد آخر وحينئذ فيكون الحمد الثاني الذي اشتغل به بدون تخلل فصل وسكون من ثاني الوجود للطبيعة ويكون من باب الامتثال عقيب الامتثال كما هو واضح.


(218)
الجهة الثامنة :
    هل الصيغة تقتضي الفور أو التراخي أو لاتقتضي شيئا منهما الا طلب ايجاد الطبيعة الجامعة بين الفور والتراخي ؟ فيه وجوه وأقوال : أقواها الأخير ، نظرا إلى عدم اقتضاء وضع المادة وكذا الهيئة لشيء من ذلك ، اما المادة فلما عرفت من عدم دلالتها الا على صرف الطبيعي ، واما الهيئة فلعدم دلالتها أيضا الا على طلب الطبيعة المجامع مع الفور والتراخي ، بل ومع الشك أيضا ربما كان قضية اطلاق المادة هو سقوط الغرض وتحقق الامتثال بالاستعجال الملازم لزمان الحال والتأخير الملازم لزمان الاستقبال بل كان امر التمسك بقضية اطلاق المادة في المقام أهون من المقام السابق نظرا إلى سلامته عن المزاحمة مع اطلاق الهيئة كما هناك وذلك لعدم اقتضاء لاطلاق الهيئة للاستعجال والفورية في المقام كي يقع بينهما المزاحمة كما هو واضح ، وحينئذ فمقتضى اطلاق المادة هو تحقق الامتثال باتيان الطبيعة وايجادها بنحو الاستعجال أو التراخي.
    نعم لو اغمض عما ذكرنا لايتوجه على القول بالفور بعدم مأخوذية الزمان في المشتقات ، وذلك من جهة وضوح ان نظر القائل بمطلوبية الفور انما هو إلى مجرد الاستعجال والمسارعة في ايجاد المأمور به المنطبق في الزمانيات على أول الأزمنة بعد الامر بلا مدخلية للزمان فيه بنحو القيدية أصلا ، كما أن نظر القائل بالتراخي انما هو إلى ما يقابل ذلك ، ومعه لايتوجه عليه الاشكال المزبور كما هو واضح.
    وكيف كان فاستدل للفور بأمور :
    منها : ما قيل في وجه ابطال الواجب المعلق من استحالة انفكاك الإرادة عن المراد وذلك بتقريب : ان الإرادة التشريعية انما هي كالإرادة التكوينية بلا فرق بينهما الا من جهة الاقتضاء والعلية حيث كانت الإرادة التكوينية علة لتحقق المراد في الخارج وكانت الإرادة التشريعية مقتضية له ، وحينئذ فكما ان الإرادة التكوينية لايمكن تخلفها عن المراد في الخارج ولو آنا ما كذلك الإرادة التشريعية حيث إن مقتضاها أيضا لزوم اتصال حركة العبد بأمر المولى وطلبه من جهة ان حركة العبد في الإرادات التشريعية بمنزلة حركة المريد في الإرادة التكوينية ولا نعني من الفور الا قضية اتصال حركة المأمور نحو


(219)
المأمور به متصلا بطلب الآمر. وفيه ان قضية الامر بشيء ليست الا البعث نحوه بالايجاد فإذا كان المتعلق هو الطبيعي الجامع بين الفرد الحالي والفرد الاستقبالي فلا جرم لايقتضي الامر به أيضا الا ايجاد تلك الطبيعة بما انها جامعة بين الفرد الحالي والاستقبالي ، وما ذكر من امتناع تخلف الإرادة ولو التشريعية عن المراد متصلا بها كلام شعري وسيأتي بطلانه أيضا في مبحث المعلق والمشروط بما لا مزيد عليه إن شاء الله تعالى.
    ومنها : قوله سبحانه : « وسارعوا إلى مغفرة من ربكم » بتقريب الدلالة فيه على وجوب الاستباق والمسارعة نحو المأمور به بالايجاد على ما هو قضية ظهور الامر في الوجوب. وفيه أيضا انه بعد الغض عما يرد عليه من لزوم تخصيص الأكثر لخروج المندوبات طرا وخروج كثير من الواجبات أيضا كالصلاة اليومية ونحوها ، نقول : بأنه انما يتم ذلك لولا قضية الارتكاز العقلي بحسن المسارعة والاستباق إلى ايجاد المأمور به والا فمع هذا الارتكاز لا جرم يكون الامر بالمسارعة ارشادا محضا ومعه لا مجال لجعله دليلا على وجوب الفور والمسارعة ، كما لايخفى.
    بقى الكلام في أنه على هذا القول من وجوب المبادرة والاستعجال ، هل الواجب هو الاتيان بالمأمور به فورا ففورا بحيث لو لم يأت المكلف بالمأمور به في الآن الأول بعد الامر يجب عليه الاتيان به في الآن الثاني ولايجوز التراخي ؟ أم لا بل يجوز له التراخي في الآن الثاني كما لو لم يجب عليه الفور في الآن الأول ؟ أو ان قضية ذلك هو سقوط التكليف عن المأمور به في الآن الثاني رأسا عند الاخلال بالفور في الآن الأول ولو من جهة كونه من قبيل وحدة المطلوب ؟ فيه وجوه : أظهرها أولها ، كما هو قضية استدلالهم بآية المسارعة والاستباق حيث إن من المعلوم ان الآية انما هو في مقام بيان المسارعة إلى الخيرات فورا ففورا ، بل ذلك أيضا مما تقتضيه قضية استدلالهم بذلك البرهان العقلي المزبور إذ مقتضاه أيضا هو لزوم الاتيان بالمأمور به فورا ففورا ، كما هو واضح.
    وأما الاحتمال الأخير وهو احتمال سقوط التكليف في ثاني الحال عن المأمور به لو لم يأت المكلف به في الآن الأول فهو أبعد الوجوه ولا يساعد عليه استدلالهم بل ولا كلماتهم أيضا ، إذ لا يستفاد من كلماتهم تقيد المأمور به بالفور والاستعجال كي يلزمه سقوط التكليف في ثاني الحال ، وحينئذ فيكون هذا الاحتمال مما يقطع بعدم ارادته القائل بالفور ، ومعه يدور الامر بين الوجهين الأولين وعند ذلك قد عرفت تعين الوجه


(220)
الأول منهما دون الثاني ، كما هو واضح.
    وأما القول بالتراخي فاستدل عليه أيضا بتحقق الامتثال مع التراخي الملازم لزمان الاستقبال. ولكنه كما ترى بأنه لايقتضي مجرد ذلك كون الصيغة والامر للتراخي ، وذلك لامكان ان يكون ذلك من جهة ان المأمور به هو الطبيعة الجامعة بين الفرد الحالي والفرد الاستقبالي ، ولذلك أيضا ترى تحقق الامتثال باتيانه في الآن الأول بعد الامر والطلب ، نعم لو فرض عدم تحقق الامتثال الا بايجاد المأمور به في الآن الثاني والثالث كان للاستدلال المزبور كمال مجال ، ولكنه لايكون كذلك قطعا بل ولا يدعيه أيضا القائل بالتراخي ، لان أقصى ما يدعيه انما هو جواز التراخي وعدم وجوب الفور فيقابل القائل بالفور ، واما وجوبه فلا.
    وأما ما يظهر من السيد ( قدس سره ) في استدلاله بان الصيغة قد استعملت تارة في الفور وأخرى في التراخي والأصل في الاستعمال الحقيقة ، فإنما هو على حسب ما هو ديدنه من ارجاع المشتركات المعنوية إلى الاشتراك اللفظي بالأصل الذي كان عنده من كون الاستعمال علامة الحقيقة وان كان قد شاع الجواب عنه أيضا بأعمية الاستعمال من الحقيقة ، مع أن كلامه ( قدس سره ) انما هو في بيان رد القائل بالفور بأنه كما استعمل الصيغة في الفور استعملت أيضا في التراخي فلا تكون الصيغة حينئذ لخصوص الفور. وعليه فلا ثمرة بين القول بالطبيعة وبين القول بالتراخي ، إذ بعد عدم التزامهم بوجوب التراخي ينطبق هذا القول على القول بالطبيعة بل هو بعينه ، ومن ذلك أيضا يمكن المنع عن تثليث الأقوال في هذه المسألة وانه لايكون فيها الا قولان : قول بالفور وقول بالطبيعة فتدبر ، هذا.
    ولكن أقول : بان ما ذكرنا من عدم وجوب الفور انما هو بالنسبة إلى دلالة الصيغة والا فقد يجب الفور مع قيام القرينة عليه ، ومن ذلك ما لو قام قرينة قطعية على عدم تمكنه من الاتيان بالواجب في ثاني الحال وثالثه ان لم يأت به في الآن الأول بعد الامر فإنه حينئذ يجب بحكم العقل المبادرة إلى الاتيان بالواجب في الآن الأول بحيث لو لم يأت به ففات منه الواجب لعدم تمكنه منه فيما بعد يستحق عليه العقوبة ، بل ولعل الامر كذلك مع الظن بالفوت إذا كان اطمينانيا ، كما في الأزمنة التي كثر فيها الأمراض من نحو الطاعون والوباء ونحوهما أعاذنا الله منها إن شاء الله تعالى ، فإنه في نحو ذلك أيضا ربما


(221)
كان يحكم العقل أيضا بوجوب المبادرة والاستعجال باتيان الواجب في أول وقته وأول أزمنة تمكنه منه. واما مع الظن غير الاطميناني أو الشك فالظاهر هو جواز التأخير للاستصحاب فتدبر. هذا كله فيما يتعلق بمسألة الفور والتراخي ، ولكن الأستاذ دام ظله لم يتعرض لهذا الفرع الأخير فافهم.


(222)
    قد وقع الخلاف والكلام بين الأصحاب في اقتضاء الاتيان بالمأمور به على وجهه للاجزاء وعدمه. وقبل الخوض في المرام ، ينبغي تمهيد مقدمة لبيان عناوين الألفاظ الواقعة في حيز البحث.
    فنقول : ان من العناوين الواقعة في حيز موضوع البحث كلمة ( على وجهه ) والظاهر أن المراد منها كما قربة في الكفاية هو النهج الذي ينبغي ان يؤتى المأمور به على ذلك النهج شرعا وعقلا كقصد الامتثال مثلا ، لا الاتيان بالمأمور به على وجه وجوبه أو استحبابه وكونه متميزا عن غيره كما يدعيه القائل بوجوب قصد الوجه والتميز كما يشهد لذلك تعرضهم طرا لهذا البحث بهذه العناوين المزبورة مع ذهاب كثير منهم بل أكثرهم على عدم اعتبار قصد الوجه والتميز في المأمور به لا شرعا ولا عقلا ولا الكيفية الخاصة المعتبرة في المأمور به شرعا مثل عنوان الظهرية والعصرية ونحوهما من العناوين الخاصة التي بها صار المأمور به متعلقا للامر والطلب ، كيف وانه مضافا إلى بعد ذلك في نفسه يلزمه لغوية القيد المزبور إذ عليه كان في ذكر المأمور به غنى وكفاية عن ذكر كلمة ( على وجهه ) نظرا إلى عدم خلو المأمور به عن مثل هذه الكيفيات فيكون القيد المزبور حينئذ توضيحيا محضا. وحينئذ فيتعين ما ذكرناه من كون المراد منها النهج الذي ينبغي ان يؤتى المأمور به على ذلك النهج شرعا وعقلا كقصد التقرب والامتثال ، وعليه يكون القيد المزبور احترازيا لا توضيحيا ، لكن ذلك أيضا بناء على تجريد متعلق الامر في العبادات عن قصد التقرب وجعله من الكيفيات المعتبرة في المأمور به عقلا لا شرعا كما هو مسلك


(223)
الكفاية ، والا فبناء على القول باعتباره في المأمور به شرعا يكون توضيحيا محضا ، كما أنه كذلك أيضا بناء على جعل المأمور به عبارة عن الحصة الملازمة مع قصد التقرب الناشي عن دعوة الامر بنحو القضية الحينية لا التقييدية بالتقرب الذي ذكرناه في مبحث التعبدي والتوصلي من عدم انفكاك المأمور به بما هو مأمور به عن قصد دعوة الامر حتى في التوصليات ، إذ عليه أيضا يكون كلمة ( على وجهه ) لمحض التوضيح ، لأنه بعد عدم اتصاف الذات غير المقرونة بقصد التقرب بكونها مأمورا بها يكون في ذكر كلمة المأمور به غنى وكفاية عن ذكر كلمة ( على وجهه ) كما هو واضح.
    ومن العناوين كلمة ( الاجزاء ) والظاهر أن المراد منه انما هو معناه اللغوي أعني الكفاية كما في الكفاية وان اختلف ما يكفي عنه من حيث سقوط التعبد به ثانيا تارة ، وسقوط القضاء أخرى فالمراد منه انما هو كفاية الاتيان بالمأمور به على وجهه في عدم التعبد باتيانه ثانيا في الوقت أو في خارجه ، كان قضية عدم التعبد به بنحو العزيمة أو بنحو الرخصة.
    ومن العناوين كلمة ( الاقتضاء ) والظاهر أن المراد منها أيضا هو الاقتضاء بحو العلية والتأثير بحسب مقام الثبوت لا الاقتضاء بنحو الكشف والدلالة بحسب مقام الاثبات ، ومن ذلك أيضا نسب الاجزاء في عنوان البحث إلى الاتيان دون مدلول الصيغة. نعم في الاجزاء بالنسبة إلى المأمور به بالامر الاضطراري والظاهري يمكن ان يقال : بان الاقتضاء فيهما هو الاقتضاء بنحو الكشف والدلالة ، نظرا إلى رجوع جهة البحث حينئذ إلى مدلول الصيغة من جهة الدلالة على وفاء المأتى به الاضطراري بمصلحة المأمور به الاختياري.
    وعلى كل حال فلايرتبط هذا البحث بالبحث المتقدم من دلالة الصيغة على المرة أو التكرار كما توهم بخيال ان القول بعدم الاجزاء هو عين القول بالتكرار في المسألة السابقة كعينية القول بالاجزاء مع القول بالمرة ، إذ نقول : بان البحث في المسألة المتقدمة انما هو في تعين ما هو المأمور به بأنه هل هو مجرد الطبيعة ؟ أو المرة بمعنى الفرد أو الدفعة ؟ أو التكرار بمعنى الموجودات أو الدفعات ؟ بخلافه في المقام فان البحث فيه انما هو في ذاك المأمور به المتعين هناك بان الاتيان به على وجهه يجزي عن التعبد به ثانيا أم لا ومعه لايرتبط إحدى المسئلتين بالأخرى كما هو واضح ، خصوصا إذا جعلنا الاقتضاء في المقام بمعنى العلية والتأثير لسقوط الامر ثبوتا إذ عليه يكون الفرق بين المقامين أوضح ، نظرا إلى رجوع


(224)
البحث في تلك المسألة إلى دلالة الصيغة على المرة أو التكرار ، ورجوعه في المقام إلى اقتضاء الاتيان بالمأمور به ثبوتا لسقوط الامر.
    ومما ذكرنا ظهر أيضا جهة الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة تبعية القضاء للأداء وعدم ارتباط إحديهما بالأخرى ، كما توهم أيضا بخيال أن التعبية بعينها عبارة عن القول بعدم الاجزاء كعينية القول بالاجزاء مع القول بكونه بأمر جديد ، وتوضيح الفرق هو ان البحث هو تلك المسألة انما هو في مورد عدم الاتيان بالمأمور به على وجهه اما لعدم الاتيان به رأسا أو الاتيان به على غير وجهه المعتبر فيه شرعا ، بخلاف المقام فان البحث فيه انما هو في مورد الاتيان بالمأمور به على وجهه ، فهما متقابلان حينئذ كما هو واضح.
    وإذ تمهدت هذه الجهة فلنرجع إلى هو المهم والمقصود فنقول : ان الكلام في الاجزاء وعدمه يقع تارة في اجزاء الاتيان بالمأمور به الواقعي الاختياري عن الاتيان به ثانيا وكذا الاتيان بالمأمور به الاضطراري والمأمور به بالامر الظاهري عن مثله ، وأخرى في اجزاء الاتيان بالمأمور به الاضطراري عن المأمور به الاختياري في عدم التعبد به بعد رفع الاضطرار ، وثالثة في اجزاء الاتيان بالمأمور به بالامر الظاهري عن المأمور به بالامر الواقعي في سقوط التعبد به بعد انكشاف الخلاف ، فهنا مقامات ثلاثة وينبغي اشباع الكلام في كل واحد من المقامات المزبورة ، فنقول :
    اما المقام الأول فيقع الكلام فيه في اجزاء الاتيان بالمأمور به الواقعي الاختياري عن التعبد به ثانيا ، فنقول لاينبغي الاشكال في أن الاتيان بالمأمور به الواقعي بجميع ما اعتبر فيه شرعا وعقلا كان موجبا لسقوط الامر عن الطبيعة المأمور بها ومجزيا عن التعبد به ثانيا من جهة انه بمجرد الاتيان بالطبيعي في الخارج في فرض مطلوبية صرف الوجود لا الوجود الساري يتحقق الامتثال وينطبق عليه عنوان الإطاعة ومعه يسقط الامر والتكليف عنه لا محالة ولايبقي مقتض للاتيان به ثانيا بوجه أصلا ، كما لايخفى. هذا إذا كان قضية الاتيان بالمأمور به في الخارج علة تامة لحصول الغرض الداعي على الامر به ولقد عرفت ان الاجزاء في مثله عقلي محض لاستقلال العقل حينئذ بسقوط الغرض وسقوط الامر بسقوطه بمجرد الموافقة وإيجاد المأمور به ، واما لو لم يكن مجرد الاتيان بالمأمور به علة تامة لحصول الغرض وتحققه بل كان لاختيار المولى أيضا دخل في حصول غرضه كما نظيره في العرفيات في مثل أمر المولى عبده باتيان الماء واحضاره عنده لأجل الغرض


(225)
الذي هو رفع عطشه بشر به إياه حيث إنه في مثل هذا الفرض لايكون مجرد الاتيان بالماء واحضاره عند المولى علة لحصول غرضه الذي هو رفع عطشه بل كان لاختيار المولى وارادته إياه للشرب أيضا دخل في تحققه لكونه هو الجزء الأخير من العلة لحصول غرضه الذي هو رفع عطشه ، ففي مثل حيثما كان الإرادة المتعلقة بايجاد الماء بحسب اللب إرادة غيرية وتكون الإرادة النفسية لبا هي المتعلقة بحيث رفع العطش ، فلا جرم يبتنى جواز الاتيان بالمأمور به ثانيا وعدم جوازه على القولين في باب مقدمة الواجب : بان الواجب هل هو مطلق المقدمة ولو لم توصل أو ان الواجب هو خصوص الموصلة منها ؟ فعلى القول بوجوب مطلق المقدمة يكون حال هذا الغرض حال الفرض السابق من علية الاتيان بالمأمور به لسقوط الامر وحصول الغرض ، فكما انه في ذلك الفرض باتيان المأمور به يسقط الامر والتكليف ولايجب على المكلف بل لايجوز عليه الاتيان به ثانيا بعنوان امتثال الامر بالطبيعة ، كذلك في هذا الفرض فباتيان المأمور به في هذا الفرض أيضا يسقط الامر به فلايجوز له الاتيان به ثانيا بعنوان امتثال الامر الأول فضلا عن وجوبه. واما على القول بوجوب خصوص المقدمة الموصلة لا مطلقها فلازمه هو جواز الاتيان بالمأمور به ثانيا بعنوان امتثال الامر بالطبيعة مع عدم اختيار المولى إياه ، إذ ما دام عدم اختيار المولى للمأتي به الأول حيثما كان الغرض الداعي على الامر بعد بحاله كان الامر بالايجاد والآتيان أيضا على حاله من الفعلية ، غايته ان ليس له الفاعلية والمحركية بعد الاتيان بالمأمور به أولا بملاحظة صلاحية المأتي به للوفاء بالغرض لا انه يسقط رأسا بمجرد الاتيان بالمأمور به ، ونتيجة ذلك التفكيك بين فعلية الامر وفاعليته هو جواز الاتيان بالمأمور به ثانيا ما دام بقاء الماتى به الأول على صلاحيته للوفاء بغرض المولى ووجوب الاتيان به في فرض خروجه عن القابلية المسطورة كما في المثال من فرض إراقة الماء المأتى به لغرض الشرب قبل اختيار المولى إياه إذ حينئذ ربما يجب على العبد والمأمور مع علمه بذلك الاتيان بفرد آخر من الطبيعي المأمور به كما لايخفى ، ونتيجة ذلك في فرض تعدد الاتيان بالمأمور به هو وقوع الامتثال بخصوص ما اختاره المولى منهما لا بهما معا وصيرورة الفرد الآخر غير المختار لغوا محضا لا انه يتحقق به الامتثال أيضا كي يكون قضية الاتيان بالمأمور به متعددا من باب الامتثال عقيب الامتثال ، فعلى ذلك فما وقع في كلماتهم من التعبير عن المأتى به ثانيا بكونه من الامتثال بعد الامتثال لا يخلو عن تسامح واضح كما هو واضح ، لأنه على كل
نهاية الافكار ـ الجزء الاول والثاني ::: فهرس