نهاية الافكار ـ الجزء الاول والثاني ::: 316 ـ 330
(316)
اظهارها خوفا عما يترتب عليه من المفاسد في نظره ، كما لو فرض انه كان هناك عدو له يقتله بمحض اظهاره للإرادة أو يحسد عليه فيضره ونحو ذلك من المفاسد ، كما لعله من هذا القبيل ولاية ولى الله عليه السلام حيث كان عدم اظهار النبي صلى الله عليه وآله للولاية للناس من أول الامر لمكان خوفه صلى الله عليه وآله من أن يرتد الناس عن دينهم لما يرى صلى الله عليه وآله وسلم من ثقل الولاية عليهم ، فمن ذلك أخر اظهارها مدة متمادية مع ما فيها من المصالح أعلاها إلى أن شدد عليه ونزل الآية المباركة : « يا أيها الرسول بلغ ما انزل إليك من ربك »
    نعم إذا كان عدم اظهار الإرادة علة تامة لعدم تحقق الوجود في الخارج مع فرض قيام المصلحة به فحينئذ يستكشف من عدم اظهار الإرادة عدم بلوغها إلى مرتبة الفعلية من جهة كشفه إنا عن ابتلاء المصلحة المزبورة فيه بمفسدة أخرى أهم وجودا كما في الاحكام التي لم يكشف عنها النبي صلى الله عليه وآله والأئمة المعصومون عليهم السلام وكما في موارد الامارات والأصول المؤدية إلى خلاف الواقع. ولكن مثل ذلك كما عرفت غير مرتبط بالمقام المفروض خلو مصلحة المتعلق عن الابتلاء بالمفسدة وجودا خصوصا مع تحقق الانشاء الفعلي أيضا من المولى. وحينئذ فلايكاد يجدي ذلك لدفع ما أورده الشيخ ( قدس سره ) في لزوم صرف القيود عن الهيئة وارجاع المشروطات إلى المعلقات ثبوتا واثبات كون الطلب في القضايا الشرطية منوطا بحصول الشرط وتحققه في الخارج بحيث لا طلب ولا إرادة قبل حصول الشرط خارجا ، بل العمدة في الجواب عنه هو الذي ذكرناه من الفرق بين أنحاء القيود في مقام دخلها في المطلوب وعدم كونها على نمط واحد فراجع تعرف.
    وحينئذ فعلى التحقيق بعد ما أمكن كل من المعلق والمشروط ثبوتا واثباتا أيضا برجوع القيد الواقع في القضية إلى الهيئة تارة والمادة أخرى فلا جرم يكون المتبع في استفادة انه من أي القبيل هو لسان الدليل ، وفي مثله يفرق بين مثل قوله : ان جاءك زيد فأكرمه أو يجب اكرامه أو قوله : أكرم زيدا ان جاءك الظاهر في إناطة الوجوب بمادته بالمجيء وبين قوله : أكرم زيدا الجائي بنحو القضية الوصفية الظاهر في اطلاق الوجوب وفي كون الموضوع هو الذات المتقيدة والمتصفة بالوصف العنواني في قبال القضايا الشرطية الظاهرة في أن تمام الموضوع للحكم في القضية هو نفس الذات محضا.


(317)
    ثم انه يظهر من بعض الاعلام عدم صحة ما في التقريرات من لزوم صرف القيود عن الهيئة وارجاعها إلى المادة لدى الشيخ ( قدس سره ) حيث قال نقلا عن أستاذه السيد العلامة الشيرازي ( قدس سره ) بأنه ليس المراد من تقييد المادة لدى الشيخ ( قدس سره ) ما يقتضيه ظاهر التقريرات بل المراد هو تقييد المادة من حيث ورود النسبة عليها وبعبارة أخرى المادة المنتسبة ، لان الشيء قد يكون متعلقا للنسبة الطلبية مطلقا من غير تقييد وقد يكون متعلقا لها حين اتصافه بقيد في الخارج ، كما في الحج مثلا فإنه مطلقا غير متصف بالوجوب بل المتصف بالوجوب هو الحج المقيد بالاستطاعة الخارجية فما لم يجد هذا القيد يستحيل تعلق الطلب الفعلي به وكونه طرفا للنسبة الطلبية ( انتهى )
    أقول : وأنت خبير بعدم اجداء مثل هذا الحمل أيضا لدفع ما أورده من الاشكال على المشروط ، فإنه ان أريد بالمادة المنتسبة المادة المتقيدة بمفهوم الانتساب الذي هو معنى اسمى لا حرفي فهو كما عرفت خارج عن محل الكلام ومن ذلك خصصنا الاشكال من الأول بما إذا كان الطلب منشأ لا بمادة الوجوب والطلب بل منشأ بالهيئة وان أريد بها المادة المتقيدة بالنسبة بما هي معنى حرفي ولو بنحو خروج القيد ودخول التقيد فلا شبهة حينئذ في أنه غير واف حينئذ بدفع ما ذكر من الاشكال من حيث جزئية المعنى أو مرآتيته فان النسبة بما هي معنى حرفي حيثما يكون جزئيا ومغفولا عنه بالفرض تمنع عن جواز ارجاع القيد إلى المادة المنتسبة والا فمن الأول أيضا يجوز ارجاعه إلى نفس الهيئة فلايحتاج إلى التجشم المزبور كما هو واضح وان أريد بها المادة في حال كونها منسوبة إلى الهيئة لا بما هي متقيدة بالانتساب إليها بنحو دخول التقيد وخروج القيد فهذا غير ما ذكره التقريرات من جهة وضوح انه ليس المراد من تقيد المادة في كلامه تقيدها بما هي مطلقة وعارية عن ورود النسبة عليها بل المراد هو تقيدها في حال كونها تحت الهيئة لا مطلقة ولا مقيدة بالانتساب ، كما لايخفى.
تنبيهان :
    الأول : لاينبغي الاشكال في عدم وجوب تحصيل مقدمات الوجوب وقيوده في المشروط وخروجها عن حريم النزاع ، وهكذا الحال في القيود الوجودية للواجب في المعلق


(318)
مما اخذ وجودها فيه من باب الاتفاق ، فإنها أيضا غير واجبة التحصيل ولو كانت مقدورة للمكلف ، والسر في ذلك واضح. وذلك اما بالنسبة إلى قيود الوجوب في المشروط ، فلما تقدم من خروجها عن حيز الإرادة والطلب بمباديه من الاشتياق والمحبوبية أيضا ، واما بالنسبة إلى القيود الوجودية للواجب في العلق مما اخذ وجودها فيه من باب الاتفاق ولو مع مقدوريتها فكذلك أيضا ، وذلك اما على القول برجوعه أيضا إلى المشروط فظاهر ، واما على المختار فلأنها حسب دخلها في وجود المتصف والمحتاج إليه وان كانت غير خارجة عن حيز مبادئ الإرادة من المحبوبية والاشتياق حتى مع عدم مقدوريتها ولكن قضية اخذها بوجودها من باب الاتفاق توجب خروجها حينئذ عن حيز الطلب بنحو يستحيل ترشح التكليف. إليها.
    واما سائر القيود الوجودية للواجب من المقدمات المفوتة التي لايقدر على تحصيلها فيما بعد في زمان الواجب في المعلق وفي ظرف حصول المنوط به والشرط في المشروط ، فلا اشكال فيها أيضا في ثبوت الوجوب لها في الحال بحيث يجب على المكلف تحصيلها في الحال قبل حصول المنوط به والشرط في الخارج. وهذا بناء على ما اخترنا سابقا من فعلية الإرادة والتكليف في المعلق والمشروط قبل حصول المنوط به والشرط في الخارج في غاية الوضوح ، لان مقتضي فعلية الوجوب والتكليف فيهما حينئذ هو ترشح الوجوب الغيري إلى تلك المقدمات فتصير حينئذ واجبة بالوجوب الغيري المقدمي. واما بناء على القول بعدم فعلية الإرادة والتكليف بهما قبل حصول القيد في الخارج ففيه اشكال ، من جهة انه من المستحيل حينئذ ثبوت الوجوب الغيري لتلك المقدمات في الحال مع عدم فعلية الوجوب بالنسبة إلى ذيها ، فعلى ذلك لو قيل بوجوبها في الحال فلابد وأن يكون بوجوب نفسي ولو تهيئي لا غيري مقدمة ، وهو أيضا مما يحتاج إلى قيام دليل عليه بالخصوص من اجماع أو غيره يقتضي وجوب تحصيلها بوجوب نفسي تهيئي ، وحينئذ فان قام في البين نص أو اجماع على وجوب تحصيل تلك المقدمات تعبدا فهو والا فمقتضى القاعدة بعد عدم فعلية الوجوب والتكليف بالنسبة إلى ذيها هو عدم وجوبها وان كان أدى تركها في الحال إلى ترك الواجب في ظرفه عند حصول قيده وشرطه من جهة امتناع تحققه في ظرفه حينئذ بعد ترك تلك المقدمات في الحال.
    واما ما أفيد كما عن بعض الاعلام من ثبوت الوجوب العقلي لها حينئذ بمناط تلك


(319)
القاعدة العقلية المسلمة ، وهي قاعدة ان الامتناع بالاختيار لاينافي الاختيار عقابا كما في السقوط إلى الأرض لمن ألقى نفسه بالاختيار من شاهق ، بتقريب انه وان كان بترك تحصيل مقدمات الواجب قبل حصول شرط الوجوب يمتنع حصول الواجب في ظرفه وعند تحقق شرائط الوجوب ، ولكن هذا الامتناع حيثما كان مستندا إلى سوء اختياره لتركه تحصيل مقدماته الوجودية في أول أزمنة الامكان لا محالة يعاقب على ترك الواجب في ظرفه ، فمن ذلك يحكم بداهة العقل بوجوب تحصيل المقدمات في أول أزمنة الامكان لتحصيل القدرة حتى لايترتب على تركها فوت الواجب والملاك في ظرفه ، فمدفوع بان قضية الامتناع بالاختيار انما لاينافي العقاب إذا كان الامتناع ناشيا عن سوء الاختيار لا مطلقا ولو كان ناشيا عن حسن الاختيار بواسطة ترخيص شرعي أو عقلي في البين على الترك ، إذ حينئذ لاينبغي الاشكال في أنه ينافيه العقاب ، كما يكشف ذلك موارد القطع بعدم حصول المنوط به والشرط في الخارج مع مخالفة قطعة للواقع وحصول الشرط والمنوط به في الخارج ، فإنه حينئذ لا اشكال في أنه ترك الاتيان بالمقدمات الوجودية المفوتة للواجب فامتنع بذلك الاتيان بالواجب في ظرفه لايكاد يترتب عليه العقوبة بوجه أصلا ، وهكذا في موارد الجهل بأصل وجوب الامر البعدي حيث لايترتب العقوبة على تركه في موطنه بمجرد عدم اتيانه في الحال بالمقدمات الوجودية المفوتة ، كما هو واضح.
    وحينئذ فإذا كان موضوع العقاب في القاعدة المزبورة عبارة عن الامتناع الناشئ عن سوء الاختيار لا مطلق الامتناع ولولا عن سوء الاختيار نقول بأنه لابد حينئذ مع قطع النظر عن تلك القاعدة من اثبات وجوب تلك المقدمات عقلا أو شرعا في الحال كي يترتب على ترك تحصيلها كون الامتناع امتناعا عن سوء الاختيار فيترتب عليه الحكم باستحقاق العقوبة عليه بمقتضي القاعدة المزبورة ، والا فلايمكن اثبات وجوبها وكونه امتناعا عن سوء الاختيار بمقتضي تلك القاعدة من جهة ما فيه من الدور الواضح. وحينئذ نقول بأنه إذا لم يقم دليل خاص من اجماع أو غيره على كونها واجبة بالوجوب النفسي ولو التهيئي وامتنع أيضا كونها واجبة بالوجوب الغيري الترشحي من جهة ما هو الفرض من انتفاء التكليف الفعلي بذيها قبل حصول المنوط به والشرط في الخارج فلا جرم تبقى المقدمات تحت الترخيص العقلي ، وحينئذ فإذا ترك المقدمات المزبورة فامتنع الواجب في ظرفه لأجل تركه تحصيل المقدمات من الأول فلا جرم لايكاد يكون الامتناع


(320)
المزبور امتناعا عن سوء الاختيار حتى يترتب عليه بمقتضي القاعدة المزبورة الحكم باستحقاق العقوبة عن التفويت ، كما هو واضح. وحينئذ فمن أين يمكن اثبات وجوب المقدمات المزبورة بمقتضي القاعدة المزبورة حتى أمكن استكشاف وجوبها الشرعي أيضا ولو بنحو متمم الجعل ؟
    واما توهم كفاية العلم بتوجه التكليف الفعلي إليه فيما بعد وابتلائه بغرض المولى بعد حصول الشرط في حكم العقل بلزوم تحصيل المقدمات من الحين واستحقاقه للعقوبة على تفويته بترك تحصيل مقدماته الوجودية من الحين ، من جهة انتهاء امتناعه في ظرفه إلى اختياره ، كما يشهد عليه ضرورة الوجدان فيمن يعلم ابتلائه بعد ساعة بعطش شديد في بر لايكون فيه ماء مع كونه قادرا في الحال على تحصيل الماء وحفظه لوقت احتياجه إلى الشرب لرفع عطشه ، فإنه لا شبهة في أنه يجب عليه تحصيل الماء في وقته وحفظه إلى وقت احتياجه بحيث لو لم يحصل الماء ولم يحفظه فأصابه من العطش ما أصاب يكون مذموما عند العقلاء على ما اصابه من العطش بواسطة عدم تحفظه وعدم تحصيله الماء عند تمكنه منه ، ومن المعلوم انه لايكون له وجه الا وجوبه عليه من الأول
    فمدفوع أيضا بأنه ان أريد بذلك كونه مكلفا من الحين بحفظ الواجب فيما بعد من قبل مقدماته الوجودية الاختيارية فهو صحيح ، ولكنه يرجع إلى ما ذكرناه من فعلية الوجوب والتكليف في المعلق والمشروط قبل حصول المنوط به والشرط في الخارج ، من جهة انه لا نعنى من فعلية الوجوب والتكليف فيهما قبل حصول الشرط الا هذا المقدار وعليه أيضا يكون وجوب المقدمات الوجودية وجوبا غيريا ترشحيا لا نفسيا تهيئيا ، وان أريد انه لايكون في الحال تكليف فعلى بالنسبة إلى ذيها ولو بهذا المقدار وان فعلية التكليف بقول مطلق انما يكون فيما بعد وفي ظرف حصول المنوط به والشرط في الخارج الا ان مجرد العلم بحصول الشرط في الخارج وثبوت التكليف فيما بعد موجب لوجوب تحصيل مقدماته الوجودية من الحين واستحقاق العقوبة على تفويت الواجب في ظرفه بترك تحصيل مقدماته الوجودية بلحاظ انتهاء فوت الواجب في ظرفه إلى اختياره ، فهو ممنوع جدا ، حيث نقول بان ما هو المصحح للعقوبة على تفويت الواجب انما هو البيان في ظرف التكليف لا مطلقه ولو في القبل ، كما هو الشأن أيضا في طرف العكس حيث كان اللابيان الموضوع لقبح العقوبة هو خصوص اللابيان في ظرف التكليف لا مطلق عدم البيان ولو


(321)
مع انقلابه بالنقيض في ظرف التكليف ، ومن ذلك لو علم في الحال بأنه يتوجه إليه تكليف من المولى في الغد لابتلائه بغرض كذا وكذا ولكنه غفل في الغد عن التكليف فلم يأت بالمأمور به أو انقلب علمه شكا فأجرى البراءة عن التكليف لايكاد يستحق العقوبة عليه ، كما أنه في فرض العكس لو قطع بعدم التكليف في الغد ثم انقلب قطعه في الغد إلى القطع بالوجود يستحق العقوبة عليه لو خالفه. وحينئذ نقول بأنه إذا كان المدار في البيان وكذا اللابيان على البيان في ظرف التكليف فلا جرم بعد فرض عدم التكليف الفعلي بذيها قبل حصول الشرط والمنوط به خارجا لايكاد يجدي مجرد العلم بحصول المنوط به والشرط وفعلية التكليف والغرض بذيها بعد ذلك في وجوب تحصيل مقدماته الوجودية واستحقاق العقوبة على تفويت الواجب بوجه أصلا الا باثبات كونه مكلفا من الحين بحفظ الواجب البعدي من قبل مقدماته الاختيارية ومعه يرجع لا محالة إلى ما ذكرناه ، كما هو واضح.
    ثم إن هذا كله في غير المعرفة من المقدمات ، واما هي فقد يقال كما عن بعض الاعلام بأنها تكون واجبة بالوجوب الطريقي لتنجيز الواقع عند الإصابة كما في سائر الطرق بحيث كان العقاب على نفس المخالفة لا على ترك التعلم ، ولكن التحقيق خلافه إذ نقول بان التعلم لا يخلوا امره اما ان يكون تركه يؤدى إلى الغفلة عن أصل التكليف في ظرفه ، واما ان لايكون كذلك بل كان بعد يحتمل وجود التكليف ، وعلى الثاني اما ان يتمكن من الاحتياط في ظرفه بالجمع بين المحتملات واما ان لا يتمكن من الاحتياط كما لو دار الامر بين الوجوب والحرمة في فعل شخصي. فعلى الأول يكون حال التعلم حال المقدمات المعدة التي يلزم من عدم تحصيلها عدم القدرة على الواجب في ظرفه لأنه بعد تأدية تركه إلى الغفلة عن التكليف يكون غير قادر على الاتيان بالواجب ومعه يكون حكمه حكم سائر المقدمات المفوتة ، طابق النعل بالنعل. واما على الثاني فلا وجه لوجوبه رأسا مع فرض تمكنه من الاحتياط البناء على صحة عمل المحتاط التارك لطريقي الاجتهاد والتقليد الا إذا فرض كونه غير معذور في هذا الجهل تكليفا ، وعليه يكون وجوبه ارشاديا محضا لا طريقيا. واما على الثالث فكذلك أيضا حيث إنه لايكون وجوبه الا ارشاديا محضا لأجل الفرار عن تبعة مخالفة التكليف الواقعي كما في موارد العلم الاجمالي بالتكليف في الجمع بين المحتملات. فعلى كل تقدير حينئذ لا معنى لدعوى


(322)
وجوب التعلم بالوجوب الطريقي كما في الطرق بل هو مما يدور امره بين كونه واجبا بملاك المقدمات المعدة التي يترتب على تركها عدم القدرة على الواجب في ظرفه وبين كونه بملاك الارشاد العقلي لأجل الفرار عن تبعة مخالفة التكليف كما في الجمع بين المحتملات في موارد العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة كما هو واضح.
    وكيف كان فعلى ما اخترناه في المشروط والمعلق من فعلية الوجوب فيهما قبل المنوط به والقيد في الخارج ووجوب المقدمات الوجودية قد يتوجه الاشكال بالنسبة إلى بعض المقدمات الوجودية للواجب كالوضوء والغسل قبل دخول وقت الصلاة حيث يقال بان لازم القول بفعلية الوجوب والتكليف في المشروطات والمعلقات قبل حصول قيودها في الخارج هو لزوم اتصاف مثل هذه المقدمات بالوجوب الغيري إما على التخيير فيما لو علم بتمكنه من تحصيل الوضوء والغسل بعد دخول الوقت وإما على التعيين إذا يعلم بعدم تمكنه من تحصيلهما في ظرف الواجب لولا تحصيلهما في الحال ، ولازمه هو الالتزام بوجوب تحصيل الوضوء أو الغسل قبل دخول وقت الصلاة بل ولزوم ابقائهما إلى ما بعد دخول الوقت إذا فرض كونه متطهرا قبل دخول الوقت ، مع أنه لايكون كذلك من جهة قيام الاجماع منهم على عدم وجوب تحصيل الطهارة الحدثية قبل الوقت حتى مع العلم بعدم تمكنه من تحصيلها في الوقت وعدم وجوب ابقائها أيضا إلى ما بعد دخول الوقت. ولكن الجواب عن ذلك انما هو بدعوى ان أصل وجوب الطهور كالصلاة كان منوطا بدخول الوقت بمقتضى قوله عليه السلام : ( إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور ) فكان عدم وجوب التحصيل الوضوء والغسل قبل دخول الوقت من جهة التعليق المزبور الظاهر في أن ما فيه ملاك المقدمية للصلاة هو الطهور بعد الوقت فلا اشكال حينئذ يرد على ما ذكرنا.
    واما ما قد يقال : من اقتضاء ذلك حينئذ لعدم جواز الاكتفاء بالطهارة الحاصلة قبل الوقت لأجل غاية أخرى من الغايات إذا فرض بقائها من باب الاتفاق إلى ما بعد دخول الوقت مع أنه ليس كذلك قطعا ، فمدفوع بان ما هو المقدمة انما هو الطهارة بعد الوقت ولو بوجودها البقائي فلا يعتبر فيها كونها حادثة أيضا بعد الوقت وحينئذ فإذا فرض انه كان متطهرا قبل الوقت فبقيت من باب الاتفاق إلى أن دخل الوقت يجوز الاكتفاء بها في الدخول في الصلاة ، وبعبارة أخرى ما هو المقدمة هو الطهارة بعد الوقت بما هي جامعة بين وجودها الحدوثي أو وجودها البقائي فيه من باب الاتفاق ، ومن ذلك لو فرض بقائها


(323)
إلى حين دخول الوقت يجب عليه تخييرا أو تعيينا في فرض الانحصار ابقائها وحفظها إلى أن يأتي بالصلاة معها وحينئذ فلا اشكال يرد في البين من هذه الجهة أيضا.
    هذا بالنسبة إلى نفس الوضوء والغسل ولقد عرفت ان عدم وجوبها قبل الوقت انما هو على قواعد التعليق المستفاد من ظاهر قوله عليه السلام : ( إذا دخل الوقت وجب الصلاة والطهور ) ومن قوله سبحانه : ( فإذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ) الظاهر في إناطة الوجوب في الطهور كأصل الصلاة بدخول الوقت. واما سائر مقدماته كتحصيل الماء وحفظه ونحوهما فلابد من تحصيلها تخييرا أو تعيينا إذا فرض العلم بعدم التمكن منه في الوقت لولا تحصيلها في الحال ، وذلك أيضا على القواعد التي ذكرناها في كلية المقدمات الوجودية ، وعليه أيضا يكون ما ورد على وجوب حفظ الماء قبل الوقت من النصوص على طبق القواعد ، لا انه كان ذلك حكما تعبديا من الشارع ، كما هو واضح.
    الامر الثاني : لو شك بالشك البدوي في قيديه شيء للوجوب أو الواجب بنحو التعليق أو التنجيز ، فان كان القيد حاصلا بالفعل فلا اشكال حيث لا ثمرة في البين يترتب عليه ، وأما إذا كان غير حاصل بالفعل فمقتضى الاطلاق في جميع الصور هو ثبوت الوجوب ، وفى الثالثة عدم وجوب تحصيل المشكوك القيدية. ومع عدم الاطلاق فالبرائة نتيجتها التقييد في الأول ونتيجتها الاطلاق في الأخيرين. هذا إذا كان الشك في أصل تقيد الوجوب أو الواجب.
    وأما إذا علم بأصل التقييد ولكنه دار الامر بين كونه قيدا للوجوب أو الواجب ، فأصالة الاطلاق تجرى في كل من الهيئة والمادة وبعد التساقط يكون المرجع هو الأصل العملي. ولا ينظر حينئذ في ترجيح أحد الاطلاقين على الاخر إلى حيث الأقوائية كما توهم ، لان ذلك انما يكون فيما لو كان التعارض بين الاطلاقين في نفسهما لا في مثال المقام الذي كان التعارض بينهما لأجل العلم الاجمالي بعروض التقييد على أحدهما ، إذ حينئذ لايكون مجرد اقوائية أحدهما موجبا لارجاع القيد إلى الآخر فتأمل. هذا إذا كان التقييد في دليل منفصل ، واما لو كان ذلك في دليل متصل فالامر أظهر ، إذ حينئذ باتصال الكلام بذلك وصلاحيته للعروض على كل واحد منهما لاينعقد الظهور الاطلاقي لواحد منهما ، فلا بد حينئذ من الرجوع إلى الأصل العملي ، ومقتضاه هو البراءة عن وجوب تحصيل القيد فيما إذا كان الدوران بين المشروط وبين المطلق المعلق أو المنجز. وأما إذا كان الدوران


(324)
بين المشروط وبين المعلق فلا ثمرة بالنسبة إلى القيد لأنه غير واجب التحصيل على كل تقدير. وكذلك الامر بالنسبة إلى نفس الواجب وذلك اما في فرض حصول القيد في الخارج فواضح من جهة وجوب الاتيان بالمأمور به والواجب حينئذ على كل تقدير ، واما في فرض عدم حصوله فللعلم بعد الفائدة. في الاتيان حينئذ إما لعدم وجوبه رأسا لو فرض رجوعه إلى الهيئة والوجوب واقعا وإما من جهة انتفاء قيده على فرض رجوعه إلى المادة والواجب ، فعلى كل تقدير يقطع بعدم الفائدة في ايجاده حينئذ ، كما هو واضح. ولعله إلى ذلك أيضا نظرا القائل بالعلم بتقييد المادة على كل تقدير من جهة استلزام تقييد الهيئة أيضا لبطلان محل الاطلاق في المادة ، لعدم انفكاكها حينئذ عن وجود قيد الهيئة فتدبر.

    والغيري فالغيري هو الذي يكون الغرض من ايجابه التوصل به إلى وجود واجب آخر ، والنفسي ما لايكون كذلك كالمعرفة بالله سبحانه والصلاة والصوم والحج ونحوها من العباديات والتوصليات.
    ثم إن وجود هذين القسمين في الواجبات وان كان وجدانيا غير قابل للانكار ولكن الظاهر هو كون الغرض من ذلك دفع ما يتوهم وروده من الاشكال من لزوم ترتب مثوبات وعقوبات كذلك على فعل واجب واحد له مقدمات عديدة نظرا إلى تخيل ان المثوبة والعقوبة تابعتان لفعل مطلق الواجب وتركه ، إذ يستشكل حينئذ بأنه على الملازمة من وجوب المقدمة أيضا يلزم ترتب مثوبات متعددة على فعل واجب واحد له مقدمات متعددة وعقوبات كذلك على تركه بما له من المقدمات ، لأنه ترك واجبات متعددة ، فمن اجل ذلك صاروا بصدد هذا التقسيم فقسموا الواجب إلى الغيري والنفسي للتنبيه على أنه ليس مطلق الواجب مما يترتب عليه فعلا وتركا استحقاق المثوبة والعقوبة حتى يتوجه الاشكال المزبور وان الذي يترتب عليه ذلك انما هو خصوص الواجب النفسي واما الواجب الغيري فحيث انه كان وجوبه لأجل التوصل به إلى وجود واجب آخر فلايكاد يترتب عليه فعلا أو تركا استحقاق المثوبة والعقوبة بوجه


(325)
أصلا وحينئذ فلاينافي القول بوجوب المقدمة شرعا وحدة المثوبة والعقوبة على فعل الواجب وتركه كي يكون مجال للاشكال المزبور ، هذا.
    أقول : ولكن لايخفى عليك ما في هذا الجواب والاشكال المزبور ، حيث إنه مبني على كون مدار استحقاق المثوبة والعقوبة على عنوان الإطاعة والمعصية بموافقة الامر النفسي ومخالفته ، والا فبناء على كونهما من تبعات عنوان التسليم للمولى وعنوان الطغيان عليه بما انه ابراز للجرئة عليه والتمرد عن امره ونهيه الجامعين بين الانقياد والإطاعة والتجري والعصيان كما هو التحقيق على ما حققناه في مبحث التجري فلا مجال لهذا الجواب ولا موقع أيضا للاشكال المزبور ، نظرا إلى امكان الحكم حينئذ بترتب المثوبة والعقوبة على موافقة الامر الغيري ومخالفته أيضا مع الالتزام بعدم تعدد المثوبة والعقوبة عند تعدد المقدمات بلحاظ كونهما تابعتين في الوحدة والتعدد لتعدد التسليم والطغيان ووحدتيهما التابعين لوحدة الغرض وتعدده ، وذلك انما هو من جهة وضوح انه كما يتحقق عنوان التسليم والطغيان بموافقة الأوامر النفسية ومخالفتها كذلك يتحقق أيضا بموافقة الأوامر الغيرية ومخالفتها ، ومن ذلك بمجرد كونه في صراط الإطاعة وشروعه في مقدمات المأمور به ترى انه يمدحونه العقلاء ويحكمون باستحقاقه الأجر والثواب من دون انتظار منهم في المدح وحكمهم باستحقاق الأجر والثواب إلى وقت اتيانه بما هو المطلوب النفسي للمولى كما لايخفى ، ومعلوم انه لايكون له وجه الا ما ذكرنا من تحقق عنوان التسليم بموافقة الامر الغيري أيضا كتحققه بموافقة الامر النفسي ، والا لكان اللازم عدم الحكم باستحقاق الأجر والثواب فعلا الا بعد اتيانه بما هو المطلوب النفسي. وهكذا الامر في طرف الطغيان فإنه أيضا مما يتحقق بمجرد شروعه في مقدمات الحرام أو تركه لما هو مقدمة الواجب حيث إنه يصدق عليه بأنه ممن أبرز الجرئة على المولى وصار بصدد التمرد عن امره ونهيه ، ومن اجل ذلك يصير موردا للتوبيخ والذم من العقلاء بلا حالة منتظرة أيضا في ذلك إلى وقت فوت الواجب النفسي ، كما فيمن رمى سهما لقتل مؤمن مع كون السهم يبلغ إليه بعد ساعة فإنه من الحين يصير هذا الرمي موردا للذم عند العقلاء ، كما هو واضح.
    وعلى ذلك نقول : بأنه إذا كان مدار المئوية والعقوبة على عنوان التسليم والطغيان لا على عنوان الإطاعة والمعصية بموافقة الامر النفسي ومخالفته وكان التسليم أيضا


(326)
يتحقق بموافقة الامر الغيري ومخالفته كتحققهما بموافقة الامر النفسي ومخالفته ، فلا قصور في الحكم بترتب المثوبة والعقوبة على الواجبات الغيرية التوصلية أيضا بل وترتب القرب عليها أيضا فيما لو كان الاتيان بها بداعي أمرها ، ومن ذلك قلنا سابقا في مبحث قصد القربة باشتراك الواجبات التوصلية مع التعبدية من جهة المقربية نظرا إلى عدم انفكاك الامر بها عن القربة وعدم اتصاف المأتى به فيها بعنوان المأمور به الا باتيانها عن دعوة أمرها ، وان تمام الفرق بين التوصلي والتعبدي انما كان من جهة مدخلية حيث القرب في سقوط الامر وسقوط الغرض في العبادات وعدم مدخلية في التوصليات ، من جهة سقوط أمرها وحصول الغرض فيها بمحض حصول العمل وتحققه كيفما اتفق ولولا عن داع قربى ، كما هو واضح.
    واما اشكال لزوم تعدد المثوبة والعقوبة في فعل واجب واحد له مقدمات وتركه بترك ما له من المقدمات ، فغير وارد ، من جهة ما عرفت من أن وحدة المثوبة والعقوبة تابعة وحدة التسليم والطغيان وتعددهما التابعين لوحدة الغرض وتعدده ، فإذا لايكون الغرض حينئذ الا واحدا لايكون له الا تسليم واحد وطغيان كذلك ، ومعه لايكاد يترتب عليه الا مثوبة واحدة وعقوبة كذلك وان كان له مقدمات عديدة لا تحصى ، وعلى ذلك فالتسليم وان كان يتحقق بمجرد شروع العبد في المقدمة ويستحق عليه المثوبة ، ولكنه لما كان الغرض واحدا فلا محالة يكون التسليم أيضا واحدا ويمتد هذا التسليم الواحد إلى زمان الاتيان بذيها الذي هو المطلوب النفسي ، كما أنه كذلك أيضا في طرف الطغيان حيث إنه يتحقق بمجرد الشروع في المقدمة ويمتد إلى زمان تحقق الحرام في الخارج ، لا انه يتعدد التسليم والطغيان بتعدد المقدمات حتى يلزمه تعدد المثوبة والعقوبة أيضا كما هو واضح ، كوضوح ان استحقاقه للمثوبة والعقوبة على التسليم والطغيان بشروعه في مقدمات الواجب أو الحرام أيضا انما يكون فيما إذا استمر على ذلك ولم يحصل له البداء بعد ذلك في العصيان أو الإطاعة ، والا فلو حصل له البداء بعد ذلك وحصل منه الطغيان بترك الواجب يكون طغيانه ذلك بعكس التوبة من الحين رافعا لما استحقه على تسليمه السابق بحيث كأنه لم يفعل شيئا ولم يتحقق منه التسليم أصلا مع صدور هذا الطغيان منه ، كما أنه في صورة العكس يكون الامر بالعكس. فإذا كان بصدد ترك الواجب أو فعل الحرام وأتى ببعض المقدمات ثم ندم واتى بالواجب أو ترك الحرام


(327)
يكون تسليمه ذلك باتيان الواجب وترك الحرام رافعا لما استحقه على طغيانه من الحين بحيث كأنه لم يتحقق منه الطغيان أبدا ، نعم لو كان عدم حصول الواجب والمأمور به لا من جهة حصول البداء له وطغيانه بل من جهة عدم تمكنه منه خارجا لموت أو مرض أو غير ذلك مع كونه بصدد الامتثال واتيان المأمور به يدخل ذلك حينئذ في الانقياد فيستحق المثوبة حينئذ على انقياده ، كما أنه في فرض العكس يكون الامر بالعكس فيندرج في التجري ، كما هو واضح.
    وعلى كل حال فعلى ما ذكرنا من تبعية المثوبة والعقوبة ودورانهما مدار عنوان التسليم والانقياد للمولى وتبعيتهما أيضا في الوحدة والتعدد مدار تعدد التسليم والطغيان ووحدتهما التابعين لوحدة الغرض وتعدده يظهر لك عدم المجال أيضا لما أفيد في دفع الاشكال المزبور من تخصيص المثوبة والعقوبة بموافقة الامر النفسي ومخالفته ، إذ نقول بأنه لا وجه حينئذ لهذا التخصيص بعد صدق عنوان التسليم والطغيان على موافقة الامر الغيري ومخالفته أيضا وان مجرد وحدة المثوبة والعقوبة أيضا على فعل واجب واحد وتركه غير مقتض للالتزام بكونهما من تبعات خصوص موافقة الامر النفسي ومخالفته ، بل يلتزم حينئذ بترتبهما أيضا على موافقة الامر الغيري ومخالفته لمكان تحقق عنوان التسليم والانقياد بذلك ، ويدفع الاشكال المزبور من جهة وحدة التسليم والطغيان ووحدة الغرض بما ذكرناه من البيان ويقال بعدم استحقاقه على فعل واجب له مقدمات الا مثوبة واحدة ولا على تركه بترك ما له من المقدمات ما لا تحصى الا عقوبة واحدة ، كما لايخفى. وعلى ذلك فلو فرض انه يعطى على فعل كل مقدمة ثوابا مستقلا فلابد وأن يكون ذلك من باب التفضل لا من باب الاستحقاق ، كما أنه من ذلك أيضا ما ورد في فضل زيارة مولانا أبي عبد الله الحسين روحي وارواح العالمين فداه بأنه لكل قدم ثواب حج وعمرة ، وان الامر بقصر الاقدام أيضا انما هو من جهة ان تكثر المقدمات فيزداد بذلك مقام التفضل عليه باعطائه ذلك الأجر والثواب العظيم الذي وعد الله زائريه ، نسأل الله سبحانه ان يكتبنا من زوار قبره الشريف ويحشرنا معه ولا يسلب عنا مجاورة قبر أبيه عليه السلام.
    وكيف كان فمن التأمل فيما ذكرنا من قابلية الأوامر الغيرية لترتب المثوبة والعقوبة وقابليتها أيضا للمقربية باتيان متعلقها بداعي أمرها ، يظهر لك اندفاع الاشكال المعروف


(328)
على الطهارات الثلاث التي ثبت عباديتها من بين المقدمات ، من تقريب انه كيف المجال لمقربيتها ولترتب المثوبة عليها مع أن الامر الغيري بما هو امر غيري من جهة توصليته لا إطاعة له ولا قرب في موافقته ولا مثوبة على امتثاله ، إذ نقول بان ذلك كله مبني على تخصيص المثوبة والعقوبة والقرب والبعد بموافقة الامر النفسي ومخالفته والا فعلى ما ذكرنا من المدار في استحقاق المثوبة والعقوبة بكونه على عنوان التسليم للمولى وبالفارسي ( فرمانبردارى از مولى وتن زير بار مولى دادن ) فلا جرم يندفع تلك الاشكالات وذلك : اما اشكال ترتب المثوبة فمن جهة تحقق موضوعه وهو عنوان التسليم كما أوضحناه ، واما اشكال المقربية فكذلك أيضا من جهة تحقق القرب حينئذ باتيانها بداعي محبوبيتها ومراديتها للمولى ولو بإرادة غيرية.
    وعلى ذلك لايحتاج في التفصي عن الاشكال إلى الجواب عنه تارة بما أفيد في الكفاية من كشف رجحان نفسي في هذه الطهارات بدعوى ان مقربيتها حينئذ انما هي لكونها في نفسها أمورا عبادية ومستحبات نفسية لا لكونها مطلوبات غيرية وان الاكتفاء بأمرها الغيري لمكان أنه لايدعو الا إلى ما هو عبادة في نفسه ، وأخرى بكشف عنوان بسيط يكون هو المأمور به كما عن الشيخ بدعوى انه ربما لا تكون تلك الحركات والسكنات محصلة لما هو المقصود منها من العنوان الذي صارت بهذا العنوان مقدمة وموقوفا عليها ، فلابد حينئذ في اتيانها بذلك العنوان من حيلة وهي قصد ذلك الامر المقدمي وذلك أيضا لا من جهة اقتضاء الامر الغيري لذلك بل من جهة الإشارة إلى ذلك العنوان نظرا إلى عدم دعوة هذا الامر الا إلى ما هو الموقوف عليه فالاتيان بالطهارات حينئذ بقصد أمرها كان من جهة احراز العنوان الذي لأجله صارت تلك الحركات والسكنات مقدمة وموقوفا عليها ، كي يورد عليه بما في الكفاية من امكان الإشارة الاجمالية حينئذ إلى ذلك العنوان البسيط بوجه آخر ولو بقصد أمرها وصفا لا غاية وداعيا مع كون الداعي إليها شيئا آخر من شهوة أو غيرها ، وعدم وفائه أيضا بدفع اشكال ترتب المثوبة بلحاظ ان قصد الامر لأجل احراز عنوان المقدمة لا لكون المأمور به مطلوبا على جهة التعبد به غير موجب لاستحقاق المثوبة عليه من جهة ، وثالثة بغير ذلك مما هو مذكور في التقريرات وغيره.
    وبالجملة فهذه الأجوبة كلها كما ترى مبنية على عدم قابلية الأوامر الغيرية من جهة


(329)
توصليتها للمقربية ولاستحقاق المثوبة على موافقتها ، والا فعلى ما ذكرنا من قابليتها كالأوامر النفسية لكلا الامرين لايتوجه أصلا هذا الاشكال حتى يحتاج إلى تلك الأجوبة.
    نعم قد يتوجه هنا اشكال آخر على الطهارات ولو مع البناء على قابلية الامر الغيري كالنفسي للمقربية ولاستحقاق المثوبة على موافقته وذلك انما هو بتقريب ان الامر الغيري انما يتعلق بالمقدمة فارغا عن كونها مقدمة وموقوفا عليها ، والمقدمة في مثل الوضوء والغسل بعد أن كانت عبادة لابد من عباديتها في رتبة سابقة على الامر حتى يتعلق بها الامر الغيري ، وحينئذ فإذا كانت مقدميتها بما هي عبادة متوقفة خارجا على هذا الامر الغيري يلزم الدور وهو محال. ولكن يدفع هذا الاشكال أيضا بما دفعنا به في مبحث قصد القربة عن كلية العبادات بالالتزام بأمرين يتعلق هذا الامر الغيري بذات الوضوء وذات الغسل باعتبار كونها مما لها الدخل في تحقق ذيها ومما يتوقف عليها وجود الواجب ولو بنحو الضمنية لأنها أيضا مما يلزم من عدمها العدم مع الكشف أيضا عن تعلق امر غيري آخر بوصفها وهو اتيانها بداعي أمرها المتعلق بها ، فإذا اتى المكلف حينئذ بالوضوء في الخارج بداعي امره الغيري يتحقق الوضوء القربى الذي جعل مقدمة للصلاة. وعليه أيضا لايحتاج في الجواب عنه إلى كشف رجحان نفسي في نفس هذه الطهارات كما صنعه في الكفاية كما لايخفى. خصوصا مع ما يرد عليه على مسلكه من عدم اجداء تعدد الرتبة لمحذور اجتماع الحكمين المتماثلين أحدهما الرجحان النفسي القائم بذات المقدمة في رتبة سابقة على الامر الغيري وثانيهما رجحانه الثابت في رتبة متأخرة عن الامر الغيري فتأمل.
    وكيف كان فقد يشكل على التقسيم المزبور بلزوم خروج أكثر الواجبات النفسية في الشرعيات بل العرفيات أيضا نظرا إلى غيريتها بحيث لب الإرادة من جهة انتهائها بالآخرة إلى امر واحد هو غرض الاغراض الذي هو في الشرعيات تكميل العباد وقربهم إلى المبدء الاعلى وفى العرفيات استراحة النفس ، كما يتضح ذلك في امرك بشراء اللحم المعلوم كونه لأجل الطبخ الذي هو لغرض الاكل الذي هو لرفع الجوع الذي هو لغرض استراحة النفس ، وهكذا سائر الواجبات العرفية حيث إنها من جهة انتهائها بالآخرة إلى استراحة النفس التي هي غرض الاغراض تكون الإرادة المتعلقة بها إرادة غيرية.


(330)
    وقد تصدى في الكفاية لدفع الاشكال ، وقال ما حاصله : ان الفرق بينهما من جهة الداعي والباعث فإذا كان الداعي والباعث على طلب شيء وارادته المصلحة الكائنة في نفس العمل فالواجب نفسي وان كان فيه أيضا ملاك المقدمية ، واما لو كان الداعي والباعث على طلبه المصلحة المقدمية فالواجب غيري وان كان فيه أيضا مصلحة مستقلة فإنه يخرج حينئذ عن كونه نفسيا ويكون واجبا غيريا. ولكنه كما ترى فإنه لو فرض تصوره في الشرعيات غير جار في الواجبات العرفية المتداولة بين أنفسنا ، وذلك من جهة وضوح ان الداعي والباعث في جميع الواجبات العرفية هو حيث مقدميتها ومن ذلك ترى انه لو أمرت عبدك باتيان الماء فسألك عن انك لأي غرض أمرت باتيان الماء تقول بأنه لغرض الشرب ولو سأل عن ذلك أيضا تقول بأنه أريد الشرب لغرض رفع العطش وهو لغرض استراحة النفس التي هي غرض الاغراض ، وحينئذ فإذا كان لب الإرادة في جميع الواجبات العرفية غيريا يتوجه الاشكال المزبور بأنه كيف الحال لهذا التقسيم.
    وقد أجيب أيضا عن الاشكال بان حقيقة الإرادة التشريعية بعد ما كانت عبارة عن إرادة الفعل من الغير يكون الواجب النفسي عبارة عما كان مرادا من المكلف لا لأجل مراد آخر منه ، والواجب الغيري ما كان مرادا لأجل مراد آخر منه أيضا ، فإذا أراد شراء اللحم من زيد لغرض الطبخ فان كان طبخه أيضا مرادا منه يكون ذلك واجبا غيريا وان لم يكن طبخه مرادا منه يكون واجبا نفسيا ، وعليه فمثل الصلاة والصوم والحج ونحوها مما لم يرد من المكلف مصالحها يكون من الواجب النفسي ، فيرتفع حينئذ الاشكال المزبور ، ولكن فيه ان الإرادة التشريعية ليست الا عبارة عن إرادة وجود العمل بما انه فعل اختياري للمكلف وان إضافة نشو كونه منه انما هو من جهة اقتضاء توجيه التكليف بالايجاد إليه ، وذلك أيضا بلحاظ انه من جهة كونه فعلا الاختياري غير قابل للتحقق الا من قبله والا فلايكون المراد بالإرادة التشريعية الا نفس فعل الغير. وعليه نقول : بأنه إذا لايكون الامر بشراء اللحم من جهة مطلوبية الشراء نفسا مع قطع النظر عن الطبخ بل كان ذلك من جهة مقدميته لغرض الطبخ الذي هو لغرض الاكل فلا جرم لا تكون هذه الإرادة الا غيرية ، ومعه يتوجه الاشكال المزبور من لزوم خروج أكثر الواجبات النفسية كما لايخفى.
نهاية الافكار ـ الجزء الاول والثاني ::: فهرس