نهاية الافكار ـ الجزء الثالث ::: 196 ـ 210

الجزء الثالث
من كتاب نهاية الافكار
في مبحث القطع والظن و بعض الاصول العلمية
لحضرة
حجة الاسلام والمسلمين اية الله في العالمين الورع التقي
الشيخ محمد تقي البروجردي
دامت افاضاته بالنبي و اله
تقرير
بحث استاذ الفقهاء والمجتهدين اية الله العظمي
الشيخ ضياء الدين العراقي
قدس سره
المصححة بيد المؤلف قدس سره الشريف
انتشارات اسلامي



بسم الله الرحمن الرحيم



المقصد الثالث في احكام الشكوك
    ( وقبل الشروع في المقصود ) ينبغي تقديم أمور الأول انه لا شبهة في أن المراد من الشك المبحوث عنه في المقام ليس خصوص تساوي الطرفين المقابل للظن والوهم كما ربما يوهمه ظاهر العنوان ( بل ) المراد منه هو مطلق خلاف اليقين ومطلق استتار الواقع وعدم انكشافه بعلم أو علمي فان الأحكام المذكورة فيما بعد مترتبة على الجهل بالواقع وعدم انكشافه علما أو علميا كما هو الشأن في الوظائف العرفية عند الجهل بالواقع ( فإنه ) كما أن لهم في ظرف عدم القطع الوجداني بالواقع طرقا عقلائية يعتمدون عليها في أمور معاشهم ونظامهم وامتثال احكام مواليهم في الاستطراق بها إلى الواقع كالخبر الموثق وباب ظواهر الألفاظ ونحوهما كذلك كان لهم أصول تعبدية ووظائف عملية في ظرف الجهل بالواقع وعدم انكشافه لهم بالعلم به وجدانا أو بما هو بمنزلته جعلا وتنزيلا ( بل ) ان تأملت ترى انه ليس للشارع في هذين الجعلين تأسيس جديد وطريقة خاصة وراء ما هو المعهود عند العرف والعقلاء في موارد طرقهم وأصولهم من حيث اعتبارهم مكشوفية الواقع في موارد قيام الطرق ، واعتبارهم مستوريته في موارد الأصول وان الحكم المجعول في مورد الأصل انما كان في ظرف الشك بالحكم الواقعي ( ومن ) هذه الجهة يكون مفاد الأصول دائما في الرتبة المتأخرة عن مفاد الامارات ( إذ ) مفاد الامارات عبارة عن نفس الحكم الواقعي ( بخلاف ) الأصول فان مفادها عبارة عن الحكم الثابت في ظرف الشك بالحكم الواقعي وبهذه الجهة يصير مفادها متأخرا رتبة قهرا عن مفاد الامارة ويكون الدليل رافعا لموضوع الأصل حقيقة ان كان علميا وحكومة ان كان غير علمي لأنه بمقتضى تتميم الكشف والغاء احتمال الخلاف يثبت


(196)
العلم التعبدي بالواقع وبه يرتفع الشك المأخوذ في الأصول ولو تعبدا وتنزيلا فلا مجال لجريانها في قبال الامارة كي يقع بينهما التنافي ( وهذا ) هو الذي افاده الشيخ قده سره في فرائده بقوله ان دليل الامارة وان لم يكن رافعا لموضوع الأصل كالدليل العلمي الا انه نزل شرعا منزلة الرافع فهو حاكم على الأصل لا مخصص له الخ ، إذ لا نعنى من الحكومة الا ما يكون رافعا لموضوع الاخر تعبدا وتنزيلا قبال الورود الذي عبارة عن رافعية أحد الدليلين بعناية التعبد به لموضوع الاخر وجدانا ، في قبال التخصص الراجع إلى خروج فرد عن موضوع الاخر تكوينا بلا عناية تعبد في البين نظير خروج الجاهل عن موضوع العالم المحكوم بوجوب اكرامه ( بل ) لا اختصاص للحاكم بان يكون ناظرا إلى رفع موضوع الاخر وتضيق دائرته وانه ربما يكون شأنه التوسعة في دائرة موضوع الاخر كما لو ورد دليل على وجوب اكرام العالم وورد دليل اخر على أن زيدا المشكوك عالميته عالم حيث إن الدليل الثاني بمدلوله اللفظي ناظر إلى توسعة موضوع وجوب الاكرام بما يشمل زيدا « ومن » ذلك باب الامارات بالقياس إلى الأدلة المأخوذة فيها العلم موضوعا للحكم تماما أو جزء أو شرطا كقوله مقطوع الخمرية يحرم شربه أو ان شربه موجب للحد فان قيام الامارة على خمرية مايع مثلا يوجب بدليل اعتبارها المقتضى لتتميم كشفها توسعة في دائرة الموضوع المزبور ويثبت العلم التعبدي غير أن الحكومة في المثال الأول ظاهرية وفي الثاني واقعية « ومن » هذه الجهة قلنا في أول الكتاب بقيام الامارات مقام القطع المأخوذ في الموضوع طريقا بنحو التمامية أو الجزئية أو الشرطية « كما » انه لذلك نلتزم أيضا بكفاية مجرد قيام الامارة على الحكم في جريان الاستصحاب بلا احتياج إلى اليقين الوجداني بالحكم السابق ، فان الامارة بدليل اعتبارها يوسع دائرة اليقين الذي اخذ ركنا في الاستصحاب بما يعم اليقين التعبدي بلحاظ اثر حرمة النقض كما كانت الامارة المخالفة للحالة السابقة موجبة لكون النقض بها نقضا باليقين لا بالشك ( ثم ) ان هذا كله بناء على المختار في مفاد أدلة الامارات من كونها بنحو تتميم الكشف واثبات الاحراز التعبدي « واما » على القول بكونها في مقام تنزيل المؤدى منزلة الواقع بلا نظر إلى حيث تتميم الكشف واثبات الاحراز فيشكل حينئذ تقديمها


(197)
على الأصول بمناط الحكومة نظرا إلى بقاء الشك المأخوذ في موضوع الأصل على حاله وعدم ارتفاعه بقيام الامارة لا وجدانا ولا تعبدا وتنزيلا فيلزمه وقوع التنافي بينهما لان كلا منهما يثبت حكما ظاهريا على خلاف الاخر ( ولكن ) يمكن تقريب حكومتها بدعوى ان المعتبر في الحكومة ان يكون أحد الدليلين ناظرا إلى دليل الاخر بوجه ما ولو إلى حكمه ولا يلزم كونه ناظرا إلى موضوعه بتوسعة أو تضيق فيكفي في حكومتها مجرد تكفل دليل اعتبارها لتنزيل المؤدى إذ باثبات كون المؤدى هو الواقع تعبدا وتنزيلا يوجب تضيق دائرة الحكم الذي يتكفله الأصل وتخصيصه بغير مورد ثبوت الواقع ولو تنزيلا ( نعم ) لو اغمض عن ذلك فلا محيص من كون تقديمها بمناط التخصيص لا غير كما قيل بتقريب ان النسبة بين الامارة وبين كل واحد من الأصول وان كانت من وجه الا ان الامارة لما لا يخلو موردها عن وجود أحد الأصول الثلاثة أي البراءة والاستصحاب والتخيير دون العكس وقام الاجماع على عدم الفرق بين الأصول في أنه لو قدم أحدها على الامارة في مورد يقدم الجميع عليها في سائر الموارد وبالعكس فلابد من تقديم الامارة على الأصول لان تقديم الامارة عليها لا يستلزم محذور اللغوية في جعل الأصول لبقاء موارد كثيرة لها غير الجارية فيها الامارة ( بخلاف ) العكس فإنه يلزم من تقديم الأصول عليها بعد قيام الاجماع المزبور على عدم الفصل بينها محذور لغوية جعل الامارة من جهة أعمية موارد الأصول وعدم خلو موارد جريان الامارة عن وجود أحد هذه الأصول هذا ( وقد ) يقرب تقديمها على الأصول حينئذ بمناط الورود بدعوى ان المراد من المعرفة واليقين في نحو دليل الحلية والطهارة وكذا الاستصحاب هو ما يعم المعرفة بالحكم الواقعي الحقيقي أو التنزيلي الظاهري وان بقيام الامارة على الحرمة أو النجاسة وان لم يحصل اليقين الوجداني بالحكم الواقعي ، الا انه يحصل اليقين الوجداني بالحكم الواقعي التعبدي وبحصوله يتحقق الغاية في دليلي الحلية والطهارة وجدانا فيرتفع موضوع الحلية والطهارة في قاعدتهما حقيقة ويصير النقض في الاستصحاب من نقض اليقين باليقين لا بالشك هذا ( ولكنك ) خبير بما فيه فإنه خلاف ما تقتضيه ظواهر تلك الأدلة بداهة ظهور دليل الحلية ونحوها في أن الغاية هي المعرفة بخصوص ما تعلق به الشك وهو الحكم الواقعي


(198)
النفس الأمري لا بما يعم الحكم الظاهري كما هو الشأن في اليقين والشك المأخوذين في حرمة النقض أيضا ، وعليه فلا يفيد مجرد المعرفة بالحكم الظاهري في حصول الغاية في دليلي الحلية والطهارة وفي صدق كون النقض بها من نقض اليقين باليقين لا بالشك وحينئذ فلا محيص في تقديم الامارات عليها على هذا المسلك اما من جهة مناط الحكومة بالتقريب الذي أشرنا إليه أو من جهة التخصيص بنحو ما أسلفناه ( ثم ) انه بما ذكرنا في وجه تقديم الامارات على الأصول يظهر وجه تقديم الأصول بعضها على بعضها الاخر كالأصول التنزيلية بالنسبة إلى غيرها وانه على نحو الحكومة ( فإنه ) من جهة اقتضاء الأصول التنزيلية لثبوت الواقع في مواردها توجب خروجها عن موضوع ما عداها من الأصول المحضة مثل حديث الرفع ودليل الحجب ونحوهما مما ليس له نظر إلى ثبوت الواقع ( نعم ) قد يقع الاشكال في تقديم بعض الأصول التنزيلية على البعض الاخر كالاستصحاب بالنسبة إلى قاعدة الطهارة بل الحلية أيضا في وجه قوى ، فإنها على ما يظهر من الأصحاب تكون من الأصول التنزيلية المثبتة للطهارة الواقعية للمشكوك ولذلك يرتبون عليها اثار الطهارة الواقعية في ظرف الشك من جواز التوضي به وجواز الدخول معه في الصلاة ونحو ذلك ( وعمدة ) الاشكال انما هو على مبنى رجوع التنزيل في لا تنقض إلى بقاء المتيقن لابقاء اليقين والا فعلى الثاني كما هو المختار على ما سيجيء لاشكال في تقديم الاستصحاب على القاعدة المزبورة بمناط الحكومة كالأمارات ( حيث ) انه من جهة تكفله لبقاء اليقين السابق مثبت لحصول ما هو الغاية وهي المعرفة في قاعدتي الحلية والطهارة كما في الامارات ، غير أن الفرق بينهما هو تكفل دليل الامارة لنفي الشك والغاء احتمال الخلاف أيضا بخلاف دليل حرمة النقض حيث إنه ناظر إلى ابقاء اليقين السابق مع حفظ أصل الشك والاحتمال ، ومن هذه الجهة يكون الاستصحاب برزخا بين الأصول وبين الامارات ( فإنه ) من جهة انحفاظ الشك والاحتمال في موضوعه كان شبيها بالأصول ويقدم عليه الامارات بنحو الحكومة ومن جهة اقتضائه لبقاء اليقين السابق كان شبيها بالامارات ويقدم على سائر الأصول الشرعية والعقلية ويقوم أيضا مقام القطع المأخوذ في الموضوع طريقا إلى متعلقه كما في باب الشهادة ومن ( ذلك ) نقول انه يجوز


(199)
للشاهد ان يشهد بالملكية الفعلية بمقتضى الاستصحاب وان لم يجز ذلك لنفس الحاكم في حكمه لعدم كون مثله من الموازين المجعولة لفصل الخصومات وانحصار ميزانه عند الشك بالبينات والايمان والاقرار ( فتدبر ).
    ( الامر الثاني ) لا يخفى ان الخلاف في البراءة والاشتغال في المقام غير مبتنى على الخلاف في أن الأصل في الأشياء الحظر أو الإباحة ، بداهة وضوح الفرق بين المقامين فان النزاع هناك انما هو فيما يستقل به العقل في حكم الأشياء مع قطع النظر عن ورود حكم من الشارع للأشياء ( بخلاف ) المقام فان الخلاف فيه براءة أو احتياطا انما هو بعد ملاحظة ورود حكم الأشياء من قبل الشرع وبين الامرين بون بعيد بل إن تأملت ترى عدم التلازم بين المسئلتين في الحكم أيضا ، حيث إنه أمكن اختيار الاحتياط في فرض اختيار الإباحة في تلك المسألة كامكان العكس ، وحينئذ فتوهم اتحاد المسئلتين وكفاية البحث في إحديهما عن البحث في الأخرى ساقط من أصله لما عرفت من عدم التلازم بين المسئلتين فضلا عن اتحادهما وعليه فلا مجال لتكثير الأدلة في المقام بايراد ما استدل به هناك على البراءة والاشتغال في المقام.
    ( الامر الثالث ) لا شبهة في أن أصالة البراءة المبحوث عنها في المقام أصل برأسه غير مرتبط بالاستصحاب ولا بمسألة عدم الدليل دليل العدم اما الأول فظاهر ( واما عدم ) ارتباطها بمسألة عدم الدليل دليل العدم ، فلان المهم في تلك المسألة انما هو نفي الحكم الواقعي في نفس الامر ولو مع القطع بعدم كونه فعليا بنحو يستتبع العقوبة على مخالفته ، بخلاف المقام فان المهم فيه لدى القائل بالبرائة انما هو نفي الحكم الفعلي ظاهرا ونفي المؤاخذة على مخالف ما لا طريق للمكلف إلى العلم به لا نفيه بحسب الواقع ونفس الامر كما هو ظاهر.
    الامر الرابع لا ريب في أن من القضايا المسلمة بين الأخباريين والأصوليين بل بين قاطبة العدلية هي قاعدة قبح العقاب بلا بيان وانه لا نزاع بينهم في أصل هذا الكبرى ، إذ لا يتوهم انكارها ممن له أدنى مسكة ودراية فضلا عن مثل هؤلاء الاجلاء ( كما أن ) من القضايا المسلمة بين الفريقين قاعدة دفع الضرر المحتمل الأخروي بل هذه القاعدة أيضا كسابقها مما أطبق عليه العقلاء ومن ذلك ترى


(200)
استدلال المتكلمين بهذه القاعدة على وجوب النظر في معجزة مدعى النبوة لما في تركه من احتمال الضرر والعقوبة ( كما ) لا اشكال أيضا في ورود القاعدة الأولى على القاعدة الثانية وانه في فرض جريانها في مورد يقطع فيه بعدم العقوبة فلا يحتمل فيه الضرر والعقوبة كي تجرى فيه القاعدة الثانية ويقع بينهما التعارض وحينئذ فتمام النزاع ( بين الأخباريين ) والأصولين في أصل الصغرى ، وفي كون مورد الشبهة مندرجا تحت كبرى قاعدة القبح أو تحت قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ( فكان ) هم الاخباري اثبات اندراج مورد الشبهة تحت القاعدة الثانية بدعوى وجود البيان على التكليف المشتبه من جهة العلم الاجمالي أو من جهة اخبار الاحتياط بزعم صلاحيتها للبيانية على التكليف الواقعي ( كما ) ان هم الأصولي انكار هذه الجهة واثبات عدم صلاحية اخبار الاحتياط للبيانية وللمنجزية للتكليف المشكوك اما بنفسها أو من جهة معارضتها بما دل على الترخيص في ارتكاب المشتبه الموجب لحملها على الاستصحاب أو الارشاد فعليه لا مجال لتكثير الأدلة من الطرفين بايراد القاعدتين المزبورتين والتشبث بهما أو بما يرجع إليهما من الأدلة السمعية لاثبات المطلوب في محل النزاع.
    إذا عرفت ذلك فلنشرع في بيان المقصود من ذكر احكام الشكوك وبيان أقسامها ( فنقول ) اما أقسامها فهي حسب الحصر العقلي أربعة ( لأنه ) اما ان يلاحظ فيه الحالة السابقة ( أولا ) وعلى ( الثاني ) ( فاما ) ان لا يكون هناك حجة على التكليف المشكوك من علم اجمالي أو غيره ( واما ) ان يكون في البين ذلك ( وعلى الثاني ) فاما ان يتمكن المكلف من الاحتياط تماما أو بعضا ( واما لا ) فالأول مجرى الاستصحاب ( والثاني ) مجرى البراءة ( والثالث ) مجرى الاحتياط ( والرابع ) مجرى التخير ولا يخفى انه على هذا التقسيم لا يتوجه اشكال تداخل الأقسام في الحكم بتوهم جريان البراءة والإباحة الظاهرية في الفرض الأخير أيضا كصورة دوران الامر بين المحذورين لوضوح ان الترخيص الظاهري بمناط اللابيان انما يكون في الرتبة المتأخرة عن سقوط العلم الاجمالي عن التأثير والمسقط له عن التأثير في المقام انما هو حكم العقل بالترخيص بمناط اللاحرجية في الفعل والترك بضميمة بطلان الترجيح بلا مرجح ومع حصول الترخيص العقلي بمناط عدم


(201)
القدرة وعدم المرجح في الرتبة السابقة لا مجال للترخيص الظاهري في الرتبة المتأخرة بمناط اللابيان كما هو ظاهر ( ثم إن تنقيح الكلام في هذه الأقسام ) يكون في مقامين ( الأول ) في حكم الشك في الحكم الواقعي من دون ملاحظة الحالة السابقة ( الثاني ) في حكمه بملاحظة الحالة السابقة ومقتضى الطبع وان كان تقديم المقام الثاني لكونه من الأصول المحرزة الناظرة إلى الواقع ولكن تبعا للشيخ قدس سره نقدم الكلام في المقام الأول وفي هذا المقام يقع البحث في موضعين ( الأول في حكم الشك في التكليف مع عدم قيام حجة عليه ( الثاني ) في حكم الشك في المكلف به بعد العلم بأصل الالزام ( اما الموضع الأول ) ففيه مبحثان ( الأول ) في الشبهة التحريمة ( الثاني ) في الشبهة الوجوبية ومنشأ الشك فيهما ، تارة يكون فقدان النص ، وأخرى اجماله ، وثالثة تعارض النصين ورابعة الأمور الخارجية فنقول وعليه التكلان.
المبحث الأول
    في الشبهة التحريمية وفيها مسائل ( المسألة الأول ) في الشبهة الحكمية التحريمية لأجل فقدان النص ، وقد وقع فيها خلاف عظيم ، فذهب جمهور المجتهدين إلى البراءة ، وأصحابنا الأخباريون إلى الاحتياط وقد استدل على البراءة بالأدلة الأربعة ، ( اما الكتاب ) فبآيات ( منها ) قوله عز من قائل لا يكلف الله نفسا الا ما آتاها ، بتقريب ان المراد من الموصول هو الحكم والتكليف ومن الايتاء الاعلام ( لان ) الايتاء عبارة عن الاعطاء وهو في الأمور المعنوية والمطالب العلمية عبارة عن الاعلام بها حيث إن اعطاء كل شيء بحسبه فكان إيتاء التكاليف عبارة عن الاعلام بها بخطابه ويقابله الاخذ بهذا المعنى كقولك اخذت من فلان علم كذا ومنه ما في النص خذ معالم دينك من كل مسن في ديننا ( فتدل ) الآية المباركة على نفي التكليف عند الشك فيه إذ كان مفادهما انه سبحانه لا يكلف عباده بشيء من احكامه الا بما أوصله إليهم بخطابه وأعلمهم إياه ( وأورد عليه ) بأنه كما يحتمل ان يراد من الموصول الحكم ومن الايتاء الاعلام ( كذلك ) يحتمل ان يراد منه خصوص المال ومن الايتاء الملكية بقرينة المورد ، أو يراد من الموصول


(202)
مطلق فعل الشيء وتركه ومن الايتاء الاقدار عليه ( ولا ظهور ) في الآية في الأول لولا دعوى ظهورها بقرينة المورد في الثاني أو الثالث ( ولا مجال ) لاحتمال إرادة الأعم من التكليف والمال والفعل من الموصول ( لعدم ) تصور جامع قريب بينها كي به يصح إضافة الفعل أي التكليف إليه ( لان ) الموصول على الأول عبارة عن المفعول المطلق وعلى الأخيرين عبارة عن لمفعول به وإضافة الفعل إلى الموصول بكل تقدير تبائن اضافته إليه بتقدير آخر ( فإنه ) على المفعول المطلق يحتاج في إضافة الفعل إلى الموصول إلى لحاظ كونه من شؤون الفعل وكيفياته على نحو يكون وجوده بعين وجود الفعل ، بخلافه على المفعول به فإنه يحتاج في إضافة الفعل إليه إلى لحاظ كونه موجودا في الخارج قبل الفعل ليكون الفعل موجبا لايجاد وصف عليه بعد وجوده ومفروغية ثبوته ( وبعد ) عدم تصور جامع قريب بينهما بنحو يوجب رجوع النسبتين إلى نسبة واحدة ، لا يمكن إرادة الجميع من الموصول الا بنحو استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، ومثله من المستحيل ( مع ) ما يلزمه من أن يكون للفعل الواحد في الكلام في تعلقه بالموصول نسبتان مختلفتان إلى المفعول به تارة والمفعول المطلق أخرى المستلزم ذلك لاجتماع اللحاظين المتنافيين في كلام واحد باعتبار قوام تعدد النسبة بتعدد اللحاظ ( أقول ) وأنت خبير بما في هذا الاشكال ( اما أولا ) فلانه يرد ذلك في فرض إرادة الخصوصيات المزبورة من شخص الموصول ( والا ) فبناء على استعمال الموصول في معناه الكلى العام وإرادة الخصوصيات المزبورة من دوال اخر خارجية فلا يتوجه محذور ، لا من طرف الموصول ، ولا في لفظ الايتاء ، ولا من جهة تعلق الفعل بالموصول وذلك ( اما من ) جهة الموصول فظاهر فإنه لم يستعمل الا في معناه الكلي العام وان إفادة الخصوصيات انما كان بتوسيط دال آخر خارجي ( وكذلك ) الامر في لفظ الايتاء فإنه أيضا مستعمل في معناه وهو الاعطاء غير أنه يختلف مصاديقه من كونه تارة هو الاعلام عند اضافته إلى الحكم ، وأخرى الملكية أو الاقدار عند اضافته إلى المال أو الفعل ( وهكذا ) في تعلق الفعل بالموصول حيث لا يكون له الا نحو تعلق واحد به ومجرد تعدده بالتحليل إلى نحو التعلق بالمفعول به والتعلق بالمفعول المطلق لا يقتضى تعدده بالنسبة إلى الجامع الذي


(203)
هو مفاد الموصول كما هو ظاهر غاية الامر انه يحتاج إلى تعدد الدال والمدلول كما أشرنا إليه ( واما ثانيا ) فلان إرادة الحكم من الموصول انما يقتضى كونه المفعول المطلق لو كان المراد من التكليف في الآية أيضا هو الحكم ( والا ) ففي فرض كونه بمعناه اللغوي أعني الكلفة والمشقة ، فلا يتعين ذلك ( فإنه ) من الممكن حينئذ جعل الموصول عبارة عن المفعول به أو المفعول النشوي المعبر عنه في كلام بعض بالمفعول منه وارجاع النسبتين إلى نسبة واحدة ( إذ بذلك ) يتم الاستدلال بالآية على المطلوب ، فان معنى الآية على الأول انه سبحانه لا يوقع عباده في كلفة حكم الا الحكم الذي أوصله إليهم بخطابه ، وعلى الثاني انه لا يوقع عباده في كلفة الامن قبل حكم اعلمه إياهم وأوصله إليهم بخطابه وحينئذ لو أريد من الموصول معناه الكلي العام مع إفادة الخصوصيات المزبورة بتوسيط دال آخر خارجي لا يتوجه على الاستدلال المزبور محذور من جهة كيفية تعلق الفعل بالموصول ، لما عرفت من أن نحو تعلقه به حينئذ تعلق واحد وهو تعلق الفعل بالمفعول به أو المفعول منه ( بل ) وان تأملت ترى انه لا مجال لجعل الموصول عبارة عن المفعول المطلق ولو على تقدير كون التكليف في الآية بمعناه الاصطلاحي فضلا عن كونه بمعناه اللغوي أعني الكلفة والمشقة ( وذلك ) لما يلزمه على الأول من محذور اختصاص التكاليف الواقعية بالعالمين بها ، لان مفاد الآية حينئذ هو عدم تكليف الجاهل بالأحكام الواقعية ( وعلى الثاني ) من لزوم اخذ المشقة التي هو معلول العلم في متعلقه فان مفاد الآية على ذلك أنه سبحانه لا يجعل عباده في مشقة الا مشقة اعلمهم بها وهو من المستحيل ( فلا محيص ) حينئذ من جعل التكليف في الآية عبارة عن المشقة والموصول عبارة عن الحكم والتكليف المبرز بالانشاء ، فيكون الموصول حينئذ ممحضا بالمفعول به أو المفعول منه ولا يتصور فيه كونه المفعول المطلق العدم كونه من جنس الفعل المذكور في الكلام ( وحينئذ ) بعد امكان إرادة الأعم من الحكم والفعل والمال ولو بنحو تعدد المال والمدلول ، أمكن التمسك باطلاق الآية على مطلوب القائل بالبرائة من عدم وجوب الاحتياط عند الشك وعدم العلم بالتكليف هذا ويمكن المناقشة فيه ( أولا ) بعدم تمامية اطلاق الآية مع وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ( حيث ) ان القدر المتيقن منه بقرينة السياق انما


(204)
هو خصوص المال ، ومثله يمنع عن الاخذ باطلاق الموصول لما يعم المال والتكليف ( وثانيا ) ان غاية ما يستفاد من الآية انما هو نفي الكلفة والمشقة من قبل التكاليف المجهولة غير الواصلة إلى المكلف لا نفي الكلفة مطلقا ولو من قبل جعل ايجاب الاحتياط فمفاد الآية حينئذ مساوق لكبري قبح العقاب بلا بيان ( ومن المعلوم ) عدم كون مثله مضرا بالاخباري القائل بالاحتياط ، إذ هو انما يدعى اثبات الكلفة والمشقة على المكلف من جهة جعل ايجاب الاحتياط الواصل إلى المكلف بدعوى دلالة الاخبار على وجوب الاحتياط عند الشك وعدم العلم بالتحريم ( لا يقال ) ان ذلك يتم بناء على كون ايجاب الاحتياط عند الشك ايجابا نفسيا مستتبعا للعقوبة على مخالفة نفسه ( والا ) فبناء على كون ايجابه طريقيا فما هو الموجب للكلفة لا يكون الا نفس التكاليف المجهولة ( وبعد ) دلالة الآية على نفيها من ناحية التكاليف المجهولة فلا جرم يتم المطلوب ويصح التمسك بها في قبال الأخباريين ( فإنه يقال ) نعم وان كان ايجابه حينئذ طريقيا ، ولكنه باعتبار كونه منجزا للتكليف على تقدير وجوده كان هو الموجب للضيق والرافع للبرائة العقلية كما هو الشأن في جميع الطرق الشرعية والعقلية الموجبة لتنجيز الواقع ( وعليه ) لا تصلح مثل هذه الآية لرد مقالة الاخباري القائل بوجوب الاحتياط واستحقاق العقوبة على الواقع إذ الكلفة والضيق ليس الا من قبل ما اوتى وهو جعل ايجاب الاحتياط الواصل إلى المكلف ( وثالثا ) ان الايتاء في الآية المباركة لما كان منسوبا إليه سبحانه كان عبارة عن اعلامه سبحانه بالتكليف بالأسباب العادية المتعارفة بين الموالى والعبيد والحكام والرعية لا الاعلام بقول مطلق ولو بغير الأسباب العادية ( وحيث ) كان اعلامه سبحانه بالتكاليف بتوسيط الوحي إلى سفرائه وأمرهم بابلاغ ما أوحي إليهم إلى العباد ( كان ) عدم اعلامه عبارة عن عدم الوحي إلى سفرائه أو عدم الامر بابلاغ ما أوحي إليهم إلى العباد فيكون مفاد الآية المباركة أجنبيا عن المقام لان مساقها حينئذ مساق قوله (ع) ان الله سكت عن أشياء لم يسكت عنها نسيانا فكانت دلالتها ممحصة في نفي الكلفة عما لم يوصل علمه إلى العباد لمكان سكوته وعدم بيانه واظهاره لا نفي الكلفة مطلقا عما لم يصل علمه إلى العباد ولو كان من جهة ظلم الظالمين واخفائهم للأحكام الصادرة عن النبي صلى الله عليه وآله والوصي بأمره سبحانه فان مثل ذلك


(205)
مما لا دلالة للآية المباركة عليه فتأمل.
    ( ومن الآيات ) قوله سبحانه وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ، فان فيها دلالة على نفي العقوبة قبل بعث الرسل الذي هو كناية عن بيان التكليف ( وأورد ) عليه بان ظاهر الآية الشريفة انما هو الاخبار بعدم وقوع التعذيب على الأمم السابقة فيما مضى الا بعد بعث الرسل واتمام الحجة ، فيختص بالعذاب الدنيوي الواقع في الأمم السابقة ، فلا تدل على نفي العقوبة على ارتكاب مشكوك الحرمة ( وفيه ) انه مبنى على جعل المضي في وما كنا معذبين بلحاظ حال الخطاب وهو خلاف ظاهر الآية ( بداهة ) ظهورها في كونه بلحاظ زمان البعث واتمام الحجة لا بلحاظ زمان الحال والخطاب كما كان الاستقبال في بعث الرسول أيضا بلحاظ العذاب المنفي لا بلحاظ زمان الخطاب ، ( ومثله ) لا يختص بالعذاب الدنيوي ( بل الظاهر منها ) هو كونها بصدد اظهار العدل ببيان انه سبحانه لم يكن من شأنه عز وجل ان يعذب قوما الا بعد البيان واتمام الحجة نظير قوله وما كنا ظالمين ( ومن الواضح ) عدم اختصاص ذلك بقوم دون قوم ولا بعذاب دون عذاب ( كوضوح ) ملازمة ذلك لكون المنفي فيها هو الاستحقاق والمعرضية للعذاب الفعلي ، لا الفعلية المحضة مع ثبوت الاستحقاق ( لعدم ) مناسبة ذلك مع البيان المزبور ( لان ) مع الاستحقاق وان كان من شأنه سبحانه العفو رأفة ورحمة على العباد ، الا انه كان من شأنه العذاب أيضا ، ومثله ينافي ظهورها في أنه ليس من شأنه ذلك ( وعليه ) تكون للآية المباركة دلالة على مطلوب القائل بالبرائة لظهور المنطوق فيها في كون المنفي قبل البعث الذي هو عبارة عن اتمام الحجة ، هو أصل الاستحقاق والمعرضية للعذاب الفعلي ، لا انه مجرد الفعلية المحضة كي ( يحتاج ) في اثبات المدعى إلى دعوى الاجماع وعدم الفصل في خصوص المقام أعني الشبهات بين نفى الفعلية ونفي الاستحقاق ( أو دعوى ) كفاية عدم الفعلية أيضا للقائل بالبرائة من جهة اعتراف الخصم بالملازمة بين الفعلية والاستحقاق بمقتضى ما دل على الوقوع في الهلكة في الشبهات ، والتزامه بعدم المقتضى للاستحقاق على تقدير عدم الفعلية ( مع ما في الدعوى ) الأخيرة من لزوم كون الاستدلال بالآية جد لا محضا والزاما للخصم بما التزم به من الملازمة بين الفعلية والاستحقاق


(206)
( لا برهانا ) موجبا للتصديق والاذعان بالمطلوب ، ( ولذلك ) نقول بصحة ما أورده المحقق القمي قدس سره من اشكال المناقضة على من جمع بين الاستدلال بالآية على البراءة بان المنفى فيها هو الاستحقاق ، وبين رد من استدل بها على عدم الملازمة ، بان المنفي في الآية هو التعذيب الفعلي ونفي الفعلية أعم من نفى الاستحقاق لعدم الملازمة بينهما كما في الظهار ( حيث ) أنه مع تسليم دلالة الآية على نفي الاستحقاق لا مجال للثاني ، ومع عدم تسليم ذلك لا يصح الاستدلال بها على البراءة الا جدلا والزاما للخصم ، ( نعم ) لا مجال لمنكر الملازمة أيضا الاستدلال بها على عدمها الا باثبات ظهور مفهوم الغاية في الآية الشريفة في حصر الاستحقاق ببعث الرسول الظاهري والبيان النقلي ( والا فبناء ) على منع ظهور المفهوم في ذلك من جهة دعوى ان بعث الرسول كناية عن مطلق بيان التكليف وان التعبير به لكون البيان به غالبا لاحتياج الاحكام الا ما شذ وندر في اعلامها إلى بعث الرسول ( لا يبقى ) مجال التمسك بالآية على نفي الملازمة كما هو ظاهر ، ( نعم ) يتوجه على الاستدلال بالآية للبرائة انها لا تصلح للمقاومة مع أدلة الأخباريين لكونها مورودا بالنسبة إليها ( لان ) مفادها مساوق كبرى قبح العقاب بلا بيان.
    ( ومن الآيات ) قوله سبحانه « وما كان الله ليضل قوما بعد إذ هديهم حتى يبين لهم ما يتقون » أي ما يجتنبونه من الافعال والتروك ( وتقريب ) الاستدلال بها كما في آية نفي التعذيب ( ويتوجه ) عليه أيضا الاشكال السابق بأنه مساوق كبرى قبح العقاب بلا بيان ، فلا ينفع التشبث بها في قبال الخصم المدعي لوجوب الاحتياط بمقتضى رواية التثليث ونحوها ( فان ) الخذلان على زعمه لا يكون الا عن بيان ( نعم ) لو كان المراد من البيان في الآية خصوص الاعلام بحكم الشيء واقعا بعنوانه الأولى لا الاعلام بمطلق حكمه ولو بعنوان كونه مشكوك الحكم وان الغرض من نفي الخذلان هو نفي جعل ما هو السبب لذلك من ايجاب احتياط أو غيره ( لكان ) للاستدلال بها على المطلوب مجال لصلاحيتها حينئذ للمقاومة مع اخبار الاحتياط ( ولكن ) دون اثباته خرط القتاد ( ثم ) انه أورد على الاستدلال بالآية بوجهين آخرين ( أحدهما ) بما في آية


(207)
نفي التعذيب من دعوى ظهورها في الاخبار عن حال الأمم السابقة بالنسبة إلى العذاب الدنيوي النازل بهم ، فلا تشمل العذاب الأخروي ( وثانيهما ) ان اضلاله سبحانه عبارة عن خذلانه الموجب لاستحقاق العذاب الدائم والخلود في النار ، وتوقف هذه المرتبة على البيان لا يستلزم توقف غيرها من المراتب النازلة عليه « ولكنهما » مردودان « اما الأول » فيما تقدم في آية نفي التعذيب من أن الآية انما تكون بصدد اظهار العدل بنفي ديدنه على التعذيب قبل البيان لكونه ظلما ، وفى ذلك لا فرق بين العذاب الدنيوي والأخروي « وبذلك » يظهر الجواب عن الاشكال الثاني « إذ نقول » ان المانع عن العذاب الدائم عند الجهل ليس الا عدم البيان الموجب لحكم العقل بقبحه على الحكيم تعالى « وفيه » لا يفرق بين مراتب العذاب لوجود المناط المزبور في جميع مراتب العقوبة.
    « ومن الآيات » : قوله سبحانه « قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه الا ان يكون ميتة أو دما مسفوحا » الآية « وتقريب » الاستدلال بها انه سبحانه لقن نبيه صلى الله عليه وآله طريق الرد على اليهود ، حيث حرموا على أنفسهم بعض ما رزقهم الله بقوله قل لا أجد الخ فرد عليهم بان ما حرمتموه على أنفسكم مما لم يعلم حرمته فالتزامكم بتحريمه افتراء عليه سبحانه ، فدلت الآية المباركة على الترخيص في ارتكاب كل ما لم يعلم حرمته « فان » عدم وجدانه صلى الله عليه وآله وان كان دليلا قطعيا على عدم وجوده فيما أوحي إليه « الا ان » في العدول عنه إلى هذا العنوان دلالة على كفاية ذلك في الترخيص في الارتكاب وابطال الحكم بالحرمة بملاحظة كونه من الأصول المسلمة عند العقلاء ويلزمه عدم وجوب الاحتياط عند الشك لكونه لازم ترخيصه في ارتكاب المشكوك « وأورد عليه الشيخ قدس سره » بان غاية ما تقتضيه الآية انما هو مجرد الاشعار بالمطلوب واما الدلالة فلا « وتأمل » المحقق الخراساني قدس سره في الاشعار أيضا بأنه من المحتمل كون النكتة في التعبير بذلك هو تلقين ان يجادلهم بالتي هي أحسن لما في التعبير بعدم الوجدان من مراعاة الأدب ما ليس في التعبير بعدم الوجود « وفيه » ان هذا الاحتمال لا يمنع عن ظهور سوق الآية في التوبيخ على اليهود والزامهم بما هو من الأصول المسلمة العقلائية بان ما لا يعلم حرمته


(208)
لا يجوز الالتزام بتركه وترتيب آثار الحرام عليه وانه يكفي في الترخيص وجواز الارتكاب مجرد عدم العلم بحرمته واقعا « وتوهم » ان التوبيخ على اليهود انما هو من جهة ما يقتضيه التزامهم بالترك من التشريع المحرم ، لا من جهة مجرد الترك من باب الاحتياط « مدفوع » بان الآية كما تنفي ذلك تنفي ايجاب الاحتياط بنفس تكفلها لتجويز الاقتحام عند عدم وجدان خطاب على حرمته واقعا « فإنه » بذلك تكون الآية معارضة مع ما دل على وجوب التوقف والاحتياط ، وصالحه للقرينية على تلك الأدلة على الاستحباب.
    « ومن الآيات » : قوله عز من قائل « وما لكم ان لا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقد فصل لكم ما حرم عليكم » « وتقريب » الاستدلال بها كما في الآية السابقة ، لورودها في التوبيخ على اليهود في التزامهم بترك الفعل مع خلو ما فصل عن ذكر ما يجتنبونه ، بل لعل هذه أظهر من سابقتها « لان » السابقة تدل على أنه لا يجوز الحكم بحرمة ما لم يوجد تحريمه فيما أوحى إلى النبي ، وهذه تدل على أنه لا يجوز التزام ترك الفعل مع عدم وجوده فيما فصل « ولكن » الدلالة موهونة بما أفاده الشيخ قدس سره من أن ظاهر الموصول العموم « فالتوبيخ » على الالتزام بترك شيء مع تفصيل جميع المحرمات الواقعية وعدم كون المتروك منها في محله « لان » لازم تفصيل المحرمات الواقعية هو العلم بعدم كون المتروك محرما واقعيا ، فلا ترتبط الآية حينئذ بما نحن بصدده من جواز الاقتحام فيما شك في حرمته واقعا « هذا كله » فيما استدل به من الآيات على البراءة ، وقد عرفت دلالة بعضها على المطلوب ونهوضه لابطال ما يدعيه الاخباري من لزوم التوقف ووجوب الاحتياط.

    « منها » : النبوي المعروف المروي في الخصال بسند صحيح كما في التوحيد عن أحمد بن محمد بن يحيي العطار عن سعد بن عبد الله بن يعقوب بن يزيد عن حماد بن عيسى عن حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه السلام قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله : رفع عن أمتي تسعة : الخطاء والنسيان وما أكرهوا


(209)
عليه وما لا يطيقون وما لا يعلمون وما اضطروا إليه والحسد والطيرة والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفه ( فيقال ) ان حرمة شرب التتن مثلا مما لا يعلم حرمته فتكون مرفوعة عن الأمة ( أقول ) ولما كان هذا الحديث الشريف محل اعتماد الأصحاب رضوان الله عليهم في أبواب الفقه من العبادات والمعاملات في العقود والايقاعات وغيرها ( كان الحري ) هو بسط الكلام في بيان فقه الحديث وما يستفاد من الفقرات المذكورة فيه ( وتنقيح ) ذلك يستدعى تقديم أمور.
    ( الامر الأول ) لا شبهة في أنه يعتبر في صدق الرفع وروده على امر ثابت ومن ذلك لابد في صحة استعماله من فرض وجود المرفوع في الزمان السابق أو المرتبة السابقة عن ورود الرفع بحيث لولا الرفع لكان موجودا ( بخلاف الدفع ) فإنه لا يعتبر في صدقه وصحة استعماله حقيقة الا كونه بعد ثبوت المقتضى لوجود الشيء ( لان ) شأن الدفع انما هي الممانعة عن تأثير مقتضى الشيء في تحققه وحينئذ فالرفع والدفع وان اشتركا في اعتبار ورودهما بعد فرض المقتضى للشيء ( الا ) انهما يفترقان من حيث الاحتياج إلى فرض وجود الأثر سابقا وعدمه ( فان ) العناية المصححة لصدق الرفع وصحة اطلاقه حقيقة انما هو فرض تأثير المقتضى في الشيء في الزمان السابق أو المرتبة السابقة عن وروده ( بخلاف ) الدفع ، فان المعتبر في صدقه انما هي الممانعة عن تأثير المقتضى في الوجود المقارن ( نعم ) لا يعتبر في صدق الرفع وصحة استعماله حقيقة وجود المرفوع حقيقة ( بل ) يكفي في العناية المصححة لذلك وجوده عناية وادعاء ولو باعتبار وجود مقتضيه ، ( فان ) مع وجود المقتضى للشيء يعتبر العقلاء وجود الشيء ويرونه كأنه موجود فيرتبون عليه أحكاما كثيرة ، كما في اطلاق السقوط في اشتراط سقوط الخيار في متن عقده مع أنه في الحقيقة عبارة عن عدم الثبوت ، حيث كان المصحح لاطلاق السقوط عليه وجوده الادعائي بلحاظ وجود مقتضيه وهو العقد ( وبذلك ) يظهر انه لا مانع من ابقاء الرفع في الحديث الشريف على ظهوره في الرفع الحقيقي في جميع الأمور التسعة حيث إنه يكفي في صحة اطلاق الرفع فيها مجرد اعتبار وجود الشيء سابقا على الرفع عند وجود مقتضيه ، بلا حاجة إلى جعل الرفع في الحديث بمعنى الدفع ، بالمصير إلى التجوز في الكلمة أو الاسناد ،


(210)
أو المصير إلى ما أفيد من أن حقيقة الرفع هي الدفع وان العناية المصححة لذلك هو كون الرفع في مرتبة وروده دفعا أيضا حقيقة باعتبار ممانعته عن تأثير مقتضى الشيء في بقاء ذلك الشيء في الآن المتأخر عن حدوثه ( فان ) ذلك كله كما ترى اتعاب للنفس بلا موجب يقتضيه ، مع وضوح فساد الأخير بما بيناه في الفرق بين الرفع والدفع ، من احتياج الرفع في مرحلة صدقه إلى وروده على امر مفروغ الثبوت والتحقق الملازم لفرض تأثير المقتضى في الزمان السابق أو المرتبة السابقة عن وروده ( قبال ) الدفع المعتبر في صدقه فرض عدم تأثير المقتضى في زمان سابق عن وروده ( إذ ) في مثله لا يكاد يوجب مجرد احتياج الموجود السابق في بقائه إلى علة البقاء وإفاضة الفيض عليه في كل آن ( انقلاب ) الرفع في مرحلة وروده إلى كونه دفعا حقيقة كما هو ظاهر.
    ( الامر الثاني ) ان مقتضى ظهور الحديث الشريف في الفقرات الأربع ، وهي ما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما أكرهوا عليه ، وما اضطروا إليه من حيث إضافة الرفع فيها إلى الموصول ( هو كون ) العناوين المزبورة من الجهات التعليلية للرفع والمانعة عن تأثير ما يقتضى انشاء الحكم ( بخلاف ) مثل الطيرة ، والحسد ، والوسوسة ( فإنها ) لا تكون مانعة عن تأثير المقتضى كما في الأربع المتقدمة بل المقتضى للحرمة فيها هو نفس تلك العناوين الثلاثة والا فلا يكون ورائها مقتض آخر تمنع هذه العناوين عن تأثيره ، ولذلك أضيف الرفع في الحديث إلى نفس الأمور الثلاثة على خلاف الأربع المتقدمة حيث إنه من جهة اقتضائها للحرمة كان الشارع رفعها لمانع خارجي من امتنان أو غيره واما المانع ) عن اقتضاء مثل هذه الأمور لتشريع الحكم التحريمي من جهة عدم اختباريتها ( فمدفوع ) بأنها بمباديها تكون اختيارية حيث يمكن التحرز عنها وعدم الوقوع فيها بالرياضات والمجاهدات ولذا كانت من الواجبات الأخلاقية ( واما الخطاء والنسيان ) فمقتضى الجمود على ظاهر الحديث هو كونهما كالثلاثة المتقدمة في تعلق الرفع بنفس الخطاء والنسيان بلحاظ آثارهما لا بما أخطاء وما نسى ( ولكن ) الذي يظهر منهم هو خلافه وان المرفوع فيهما هو المخطئ والمنسى كما يظهر من استدلالهم بهذا الحديث على صحة الصلاة المنسية فيها السجدة أو التشهد بتطبيق الرفع على السجدة
نهاية الافكار ـ الجزء الثالث ::: فهرس