نهاية الافكار ـ الجزء الثالث ::: 286 ـ 300
(286)
قلنا باختصاص الحجية حينئذ من جهة دلالتهما على الثواب أعني مدلولهما المطابقي دون الالتزامي كما لعله هو الظاهر أيضا ( فلا مانع ) من الاخذ بهما معا ( حيث ) يكون هذين الخبرين كالأصلين المثبتين للتكليف الذين بينا في محله جريانهما في طرفي العلم الاجمالي.
    ( الخامس ) هل يلحق بالخبر الضعيف فتوى الفقيه بالوجوب والاستحباب فتشمله الاخبار ، فيه وجهان ، بل قولان ( ومحل الكلام ) في المقام هو ما لو كان الافتاء بالاستحباب بمثل قوله يستحب كذا مع احتمال استناده إلى رواية عن النبي (ص) ( واما ) مع عدم احتمال ذلك بان علم استناد فتواه إلى بعض القواعد العقلية كتحسين العقل الاقدام على الاتيان بمقدمات الواجب مثلا فلا اشكال في عدم الالحاق خصوصا لو كان مستنده غير تام لدى مجتهد آخر ( وكذلك ) الامر فيما لو كان فتواه بمثل قوله رأيي أو ان المختار عندي هو استحباب امر كذائي ( فإنه ) وان صدق عليه البلوغ حينئذ بملاحظة كشف رأيه عنه الا ان عدم الالحاق انما هو من جهة انصراف اخبار البلوغ إلى البلوغ بلا واسطة ولو مع احتمال استناد فتواه إلى رواية عن الأئمة (ع) ( وحينئذ نقول ) اما على الانقياد فلا اشكال لما عرفت من أنه يكتفي في جريانه مجرد احتمال الثواب ورجاء المطلوبية الواقعية وان لم يكن هناك خبر أصلا ( واما على الاستحباب النفسي المولوي أو الطريقي ففي التعدي إلى فتوى الفقيه ( اشكال ) خصوصا على الطريقية والحجية ( حيث ) ان الاستحباب خلاف الأصل والقدر المتيقن من تلك الأخبار هي صورة قيام الخبر على الاستحباب مضافا إلى دعوى انصراف اخبار بلوغ الثواب إلى الثواب البالغ من غير جهة الحدس فلا تشمل حينئذ لمثل فتوى الفقيه المستندة إلى حدسه باعمال اجتهاداته الظنية ( بقي الكلام ) فيما لو قام خبر ضعيف على استحباب شيء مع قيام الشهرة الفتوائية أيضا على طبقه فإنه بناء على استفادة الاستحباب النفسي أو الطريقي لا اشكال في جواز الافتاء باستحبابه ( واما بناء ) على استفادة الارشاد والانقياد ، فلا اشكال ، أيضا فيما لو علم استناد فتواهم بالاستحباب إلى ذلك الخبر حيث يجوز الافتاء بمضمونه بالاستحباب الواقعي نظرا إلى انجبار ضعفه حينئذ بتلك الشهرة ( واما لو لم ) يعلم منهم الاستناد إليه بان يحتمل استنادهم في ذلك إلى


(287)
أدلة التسامح ففيه اشكال نظرا إلى بقاء الخبر بعد على ضعفه بل لا يجوز ذلك من جهة كونه حينئذ من التشريع المحرم ، فلابد حينئذ من نفي الباس عن العمل به رجاء لادراك الواقع كما هو ظاهر.
    « الامر الثالث » في أن أدلة البراءة هل تختص بما لو كان الشك في الوجوب التعييني بالأصل أو بالعرض كالواجب المخير المتعين لأجل الانحصار ، أو يعم الشك في الوجوب التخييري ( الظاهر ) هو الثاني لانتفاء ما يقتضى التخصيص بالوجوب التعييني بعد عموم أدلتها ( ودعوى ) ان الظاهر من أدلتها هو عدم تعين الشيء المجهول على المكلف بنحو يلتزم به ويعاقب على تركه وليس المشكوك المردد حكمه بين الوجوب التخييري والإباحة من هذا القبيل ( مدفوع ) بان ما يحتمل كونه من افراد الواجب المخير أيضا كان مما يعاقب على تركه ولو على تركه المقرون بترك الاخر المعبر عنه بالترك لا مع البدل فمن هذه الجهة تعمه أدلة البراءة ( واما توهم ) ان المنسبق من أدلتها هو الاختصاص بما لو كان المشكوك مما يحتمل العقوبة على تركه بقوله مطلق فتختص حينئذ بما لو كان الشك في الوجوب التعييني ( فمدفوع ) بان ذلك مجرد دعوى لا برهان عليها ولا شاهد لها ، بل لا يعتبر في جريانها أزيد من كون الشيء مما يحتمل فيه العقوبة ولو على بعض أنحاء تروكه وهو الترك في حال ترك العدل والبدل ( لان ) مثل هذه الجهة أيضا نحو ضيق على المكلف فترفعه أدلة البراءة عقليها ونقليها ، هذا ( ولكن ) الذي يقتضيه دقيق النظر هو التفصيل في المقام براءة واشتغالا بين شقوق المسألة ( حيث ) ان الشك في الشئ في وجوبه التخيير بتصور على وجوه ( الأولى ) الشك في كون الشيء واجبا تخييريا أو مباحا سواء احتمل وجوبه التعييني أيضا أم لا ( اما الثاني ) كالشك في أن الارتماس في نهار رمضان هل يقتضى وجوب إحدى الخصال تخييرا أو لا يقتضي شيئا « واما الأول » كالشك في أن المفطر الكذائي هل يقتضى الكفارة أو لا وعلى تقدير الاقتضاء فهل يقتضى كفارة معينة كالصوم مثلا أو يقتضى إحدى الخصال بحيث كان الصوم على تقدير وجوبه أحد افراد الواجب المخير « الثانية » الشك في كون الشيء واجبا تعيينيا أو تخييريا مع العلم بأصل وجوبه ، كما لو علم بتعلق التكليف بشيء بخصوصه كالعتق مثلا ( ولكنه ) يشك في شيء


(288)
آخر في أنه هل هو واجب وعدل لذلك حتى يكون ما علم وجوبه أحد فردي الواجب المخير ، أو انه ليس عدلا له حتى يكون ذاك واجبا تعيينيا ( الثالثة ) ما لو علم بتعلق التكليف بكل من العتق والصوم مثلا ولكنه يشك في كونهما واجبان تعيينيان أو تخييريان « الرابعة » ما لو علم بوجوب شيء بخصوصه كالقراءة في الصلاة وعلم أيضا بان الاخر مسقط له كالجماعة ، الا انه يشك في أن مسقطيته له لكونه عدلا له أو لكونه مستحبا أو مباحا مسقطا للواجب من جهة مفوتيته لملاكه أو غير ذلك فهذه صور الشكوك المتصورة في المسألة ( فنقول ) اما الصورة الأولى فلا ينبغي الاشكال في جريان البراءة فيها مطلقا عقلية وشرعية لرجوع الشك فيها إلى الشك في أصل تعلق التكليف بالنسبة إلى المشكوك ، بل ويمكن دعوى انصراف كلام الشيخ قده عن هذه الصورة في منعه عن جريان البراءة ( واما الصورة الثانية ) وهي ما لو علم بتعلق التكليف بشيء بخصوصه كالعتق مثلا وشك في كون شيء آخر عدلا له فقد يقال فيها أيضا بجريان البراءة عن التعيين لأنه كلفة زائدة توجب الضيق على المكلف فتنفي بأدلة البراءة عقليها ونقليها ( ولكن التحقيق ) فيها هو الاحتياط ( وذلك ) لان مرجع كون الشيء واجبا تعينييا انما هو إلى كونه مطلوبا بطلب تام تائم به بشرا شر وجوده الموجب بمقتضى النهي عن النقيض للمنع عن جميع أنحاء عدمه حتى العدم في حال وجود غيره ، في قبال الواجب التخييري الذي مرجعه إلى كونه متعلقا لطلب ناقص على نحو لا يقتضى الا المنع عن بعض أنحاء عدمه وهو العدم في حال عدم العدل ( فتمام ) الامتياز بين الواجب التعييني والواجب التخييري انما هو من هذه الجهة من حيث كون الطلب المتعلق بالشيء تارة على نحو يكون طاردا لجميع أنحاء عدمه ( وأخرى ) كونه على نحو لا يكون الا طاردا لبعض أنحاء عدمه ( لا ان ) الامتياز بينهما من جهة تقييد الطلب في الواجب التخييري بعدم الاتيان بالغير كما توهم ، ولا من جهة مجرد جعل العدل له في طي الخطاب وعدمه ( وكيف ) ويرد على الأول ان لازمه هو عدم تحقق الامتثال بالواجب التخييري عند الاتيان بهما معا وهو كما ترى لا يمكن الالتزام به ( وعلى الثاني ) بان جعل العدل وعدم جعله في طي الخطاب انما هو من لوازم نقص الطلب المتعلق بالشيء وتماميته من حيث اقتضائه تارة لطرد جميع اعدام الشيء


(289)
وأخرى لبعض اعدامه ( لا ان ) ذلك من مقومات تعيينية الطلب وتخييريته ( وعلى ذلك ) نقول ان مرجع الشك في كون الشيء واجبا تعيينيا أو تخييريا حينئذ إلى العلم الاجمالي ، اما بوجوب الاتيان بخصوص الذي علم بوجوبه في الجملة وحرمة تركه مطلقا حتى في ظرف الاتيان بما احتمل كونه عدلا له « واما » بحرمة ترك الاخر المحتمل كونه عدلا له في ظرف عدم الاتيان بذلك « ولازم » هذا العلم الاجمالي انما هو الاحتياط بتحصيل الفراغ اليقيني باتيان خصوص ما علم وجوبه في الجملة ، ووجوب الاتيان بما احتمل كونه عدلا له عند عدم التمكن من الاتيان بما علم وجوبه لاضطرار ونحوه « نعم » لو اغمض عن ذلك لا مجال للمنع عن جريان البراءة عن التعيين بما افاده بعض الأعاظم قده من أن صفة التعينية المشكوكة ليست من الأمور الوجودية المجعولة شرعا ولو بالتبع حتى يجري فيها حديث الرفع وانما كانت عبارة عن عدم جعل العدل فمهما تعلق التكليف بشيء ولم يجعل له عدل في طي الخطاب كان التكليف تعيينيا كما أنه مهما تعلق التكليف بشيء له عدل كان التكليف تخييريا فتعيينية التكليف حينئذ عبارة عن تعلق الإرادة المولوية بشيء ليس له عدل بلا فصل وجودي ( وعلى ذلك ) فلا تكون جهة تعيينية التكليف صفة وجودية للخطاب حتى تجرى فيها البراءة ، بل كان مقتضى الأصل بعد رجوع الطلب التخييري إلى تعلق التكليف بشيء يكون له البدل والعدل هو عدم جعل العدل ووجوبه المنتج لتعينية وجوبه نظرا إلى رجوع الشك في التعيينية والتخييرية إلى الشك في وجوب العدل وعدمه والأصل عدم وجوبه ( وفيه ) ما عرفت من أن صفة التعينية للطلب انما تنتزع عن كون الطلب المتعلق بالشيء حاويا لجميع حدود وجوده بنحو يقتضى طرد جميع أنحاء عدمه التي منها عدمه الذي في حال وجود غيره ، ويقابلها التخييرية حيث إنها كانت منتزعة عن قصور الطلب وعدم احتوائه الا لبعض حدود وجوده الملازم لخروج بعض أنحاء عدمه وهو العدم في حال وجود الاخر عن حير المنع وكونه تحت الترخيص ( نعم ) من لوازم هذا القسم من الطلب غير الحاوي للوجود على الاطلاق هو جعل البدل والعدل في حيز الخطاب لا انه مما به قوام حقيقته وكونه فصلا وجوديا له ( فالوجوبان ) حينئذ مختلفان سنخا لا انهما متحدان وكان الاختلاف من جهة وجوب العدل وعدمه ولقد أجاد


(290)
بعض المحققين في المقام فيما أفاد من التعبير عن الواجب التخييري بأنه طلب الفعل مع المنع عن بعض أنحاء تروكه ( فإذا كانت ) جهة التعيينية منتزعة عن سعة الطلب وشموله للوجود على الاطلاق وفي قبالها التخييرية الراجعة إلى قصور الطلب وعدم شموله لجميع حدود وجود الشيء ( فلا جرم ) يكون مرجعها إلى صفة وجودية للخطاب ( وفي مثله ) لو شك في التعيينية والتخييرية يكون مرجع الشك إلى جهة زائدة عما يقتضيه الخطاب التخييري فتجري فيها البراءة ثم إن ذلك ) كله أيضا بالنسبة إلى البراءة الشرعية ، واما البراءة العقلية فلا يحتاج في جريانها إلى اثبات ان التعينية صفة وجودية بل يكفي في جريانها مجرد كون المشكوك بخصوصه موجبا للعقوبة ( وبما ذكرنا ) ظهر النظر فيما افاده من الرجوع إلى أصالة عدم وجوب العدل فإنه انما ينتج ذلك لو كان العدل وعدمه مما به قوام حقيقة التعينية والتخييرية والا فبناء على ما ذكرنا من كونه من لوازم نقص الطلب وقصوره عن الشمول لجميع حدود وجود الشيء فلا ينتج مثل هذا الأصل الجاري في اللوازم لاثبات تعينية الطلب كما هو ظاهر ( وحينئذ ) فالعمدة في المنع عن جريان البراءة في المقام هو ما ذكرناه من العلم الاجمالي ( واما الصورة الثالثة ) وهو صورة العلم بوجوب الشيئين مع الشك في أنهما واجبان تعينيان أو تخييريان فلا يجري فيها العلم الاجمالي المزبور لاحتمال التعينية في كل منهما ( وبعد ) العلم التفصيلي بحرمة ترك كل منهما في حال ترك الاخر يرجع الشك المزبور إلى الشك في حرمة ترك كل واحد في حال وجود غيره فيجري البراءة فيهما لاندراجه في الأقل والأكثر الارتباطيين ( ولا مجال ) لاجراء قاعدة الشك في المسقط ، لان ذلك انما يكون في فرض ثبوت أصل الاشتغال بالتكليف وفي المقام كان الشك في أصل التكليف بالترك الخاص في كل منهما ومثله كما عرفت يكون مجرى للبرائة ( كما أنه ) لا مجال للتمسك باستصحاب وجوب كل منهما بعد الاتيان بالآخر ، لان الوجوب المردد بين الأقل والأكثر مما لا ينتج شيئا والوجوب الاخر من الأول كان مشكوكا ( واما الصورة الرابعة ) وهي ما لو علم بتعلق التكليف بشيء مع العلم بان الاخر مسقط للتكليف به ، ولكن يشك في أن ذلك من جهة كونه عدلا له وانه أحد فردي الواجب المخير أو انه من جهة كونه مفوتا لملاكه أو غير ذلك ( فالحكم فيها ) أيضا هي البراءة عن وجوب ما علم


(291)
كونه مسقطا ولو مع عدم التمكن من الاتيان بما علم تعلق التكليف به وتعذره عليه ( نظرا ) إلى الشك في أصل تعلق التكليف به ولو تخييرا ثم انه قد يقال ان الجماعة بالنسبة إلى الصلاة الفرادى من هذا القبيل وانه يتأتى فيها الاحتمالات المزبورة فيشك في وجوبيها حينئذ عند تعذر القراءة على المكلف ( ولكن ) التحقيق فيها انها طرف التخيير بالنسبة إلى الصلاة فرادى بما لها من العرض العريض الصادقة على الفرد الاختياري والاضطراري ان المكلف في كل حال مخير بين الصلاة فرادى وبين الصلاة جماعة لا انها طرف التخيير بالنسبة إلى الفرد الاختياري ولا كونها مستحبة مسقطة للوجوب عن الصلاة فرادي ، ولا كونها من حيث قرائة الامام منزلة قرائة المأموم ولو في ظرف اختيار الجماعة ( وعليه ) فلا تجب الجماعة عند تعذر القراءة ، بل المكلف مخير بين الفرادى بما يحسن من القراءة وبين الجماعة ( هذا كله ) فيما لو دار حكم الشيء بين الوجوب التخييري والإباحة ( واما لو دار الامر ) بين الوجوب الكفائي والإباحة ، فمقتضى الأصل فيه أيضا هي البراءة عن وجوبه حتى مع العلم بعدم اقدام الغير على الاتيان به نظرا إلى الشك في أصل توجه التكليف بالنسبة إليه ولو كفائيا فتجري فيه أدلة البراءة عقليها ونقليها ( سواء ) كان الشك في وجوبه عليه من جهة الشك في أصل توجه التكليف الكفائي بالنسبة إليه أم كان الشك في وجوبه عليه كفائيا مع العلم بوجوبه المردد بين العيني والكفائي على الغير ( فإنه ) على كل تقدير تجري البراءة عن وجوبه عليه ولو مع العلم بعدم اقدام الغير على الاتيان به فيجوز له ترك الاتيان بما احتمل وجوبه عليه كفائيا وان لم يجز ذلك بالنسبة إلى ذلك الغير ( وفي ) سقوط التكليف عن المتيقن توجه التكليف إليه باقدام هذا واتيانه بما احتمل وجوبه عليه كفائيا اشكال ( ودقيق النظر ) في ذلك يقتضى ملاحظة كيفية توجيه التكليف الكفائي ( وانه ) بنحو يكون تعلقه بجامع المكلفين بان يكون هناك غرض واحد يقتضي تكليفا واحدا متوجها إلى الجامع وكان كل فرد بما انه ينطبق عليه الجامع مكلفا بالايجاد نظير التكليف التخييري بين الافراد المندرجة تحت جامع واحد أو انه بنحو يكون متعلقا بكل واحد من آحاد المكلفين ولكن بوجوب ناقص كما هو التحقيق نظير ما ذكرناه في الواجب التخييري ( أو انه ) بنحو يكون متعلقا بكل واحد من آحاد المكلفين بحيث كان هناك تكاليف متعددة ناشئة عن اغراض


(292)
عديدة متعلقه بآحاد المكلفين بنحو يكون اقدام بعضهم على الاتيان موجبا لسقوط التكليف عن البقية اما بملاك المفوتية أو غيرها ( فعلى الأولين ) تجرى البراءة عن التكليف بالنسبة إليه بعد اتيان الغير به من جهة رجوع الشك فيه مع اتيان الغير به إلى الشك في أصل الاشتغال بالتكليف لا في الشك في السقوط كما توهم ( فان ) القدر المتيقن من اقتضاء الخطاب المزبور حينئذ انما هو حرمة تركه في ظرف عدم اتيان الغير بالفعل ، واما حرمة تركه على الاطلاق حتى في ظرف اتيان الغير بالعمل فمن الأول كانت مشكوكة لعدم العلم بكون التكليف المتوجه إليه تكليفا عينيا حتى تقتضي حرمة تركه على الاطلاق فكان الشك حينئذ في أصل الاشتغال بالترك الخاص ومثله كما عرفت يكون مجرى للبرائة ( واما على الأخير ) فلازمه المصير إلى الاشتغال ، من جهة رجوع الشك بعد العلم بأصل الاشتغال وقيام الغرض بالشيء إلى الشك في القدرة على الامتثال المحكوم عقلا بلزوم الاخذ بالاحتياط بالتعرض للامتثال وعدم الاعتناء بالشك في السقوط واحتمال العجز ( بل وتجري ) فيه أيضا استصحاب بقاء التكليف وعدم سقوطه عنه باقدام الغير فتدبر

    إذا دار حكم الشيء بين الوجوب والحرمة ، اما جهة فقدان النص ، أو اجماله ، أو تعارض النصين ، واما من جهة الاشتباه في الامر الخارجي ( فتارة ) يكون كل من الواجب والحرام المحتملين توصليا يسقط الغرض منه بمجرد الموافقة كيفما اتفق ( وأخرى ) يكون أحدهما أو كلاهما تعبديا يتوقف سقوط التكليف عنه إلى قصد الامتثال ( وعلى الأول ) تارة تكون الواقعة المبتلى بها واحدة كما في المرأة المردد وطيها في ساعة معينة بين الوجوب والحرمة لأجل الحلف المردد تعلقه بالفعل أو الترك ( وأخرى ) تكون متعددة كالمثال المزبور إذا كان الحلف المردد تعلقه بالفعل أو الترك في كل ليلة مثلا ( اما الصورة الأولى ) فلا شبهة في حكم العقل بالتخيير بينهما بمعنى عدم الحرج في الفعل والترك نظرا إلى اضطرار المكلف وعدم قدرته على مراعاة العلم الاجمالي بالاحتياط وعدم خلوه في الواقعة تكوينا من الفعل أو الترك ، فيسقط العلم الاجمالي حينئذ عن التأثير بعين اضطراره


(293)
الموجب لخروج المورد عن قابلية التأثر من قبله بداهة ان العلم الاجمالي انما يكون مؤثرا في التنجيز في ظرف قابلية المعلوم بالاجمال لان يكون داعيا وباعثا للمكلف نحوه وهو في المقام غير متصور حيث لا يكون التكليف المردد بين وجوب الشيء وحرمته صالحا للداعوية على فعل الشيء أو تركه ( وبذلك ) نقول انه لا يصلح المقام للحكم التخييري أيضا فان الحكم التخييري شرعيا كان كما في باب الخصال أو عقليا كما في المتزاحمين انما يكون في مورد يكون المكلف قادرا على المخالفة بترك كلا طرفي التخيير فكان الامر التخييري باعثا على الاتيان بأحدهما وعدم تركهما معا « لا في » مثل المقام الذي هو من التخيير بين النقيضين « فإنه » بعد عدم خلو المكلف تكوينا عن الفعل أو الترك لا مجال للامر التخييري بينهما واعمال المولوية فيه لكونه لغوا محضا ، نعم لا باس بجريان التخيير في باب تعارض الأدلة في المقام « فان » مرجع التخيير هناك انما هو إلى التخيير في الاخذ بأحد الدليلين بنحو ينتج الحكم التعيني في المأخوذ « ومثله » يتصور في المقام حيث أمكن الامر التخييري بالأخذ بأحد الاحتمالين بنحو يستتبع الحكم الظاهري التعيني بعد الاخذ ولا محذور فيه عقلا ولكنه يحتاج إلى قيام دليل عليه الخصوص فينحصر التخيير في المقام حينئذ بالعقلي المحض بمناط الاضطرار والتكوين بضميمة بطلان الترجيح بلا مرجح لا بمناط الحسن والقبح كما هو ظاهر « وبهذه » الجهة نقول انه لا مجال لجريان أدلة البراءة وأصالة الحلية والإباحة في المقام لاثبات الترخيص في الفعل والترك وذلك لا من جهة ما افاده الشيخ قده سره من انصراف أدلتها عن مثل الفرض « بل من جهة » اختصاص جريانها بما إذا لم يكن هناك ما يقتضى الترخيص في الفعل والترك بمناط آخر من اضطرار ونحوه غير مناط عدم البيان ، فمع فرض حصول الترخيص بحكم العقل بمناط الاضطرار والتكوين لا ينتهى الامر إلى الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان « ولئن شئت » قلت إن الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان انما هو في ظرف سقوط العلم الاجمالي عن التأثير ، والمسقط له حيثما كان هو حكم العقل بمناط الاضطرار فلا يبقى مجال لجريان أدلة البراءة العقلية والشرعية نظرا إلى حصول الترخيص حينئذ في الرتبة السابقة عن جريانها بحكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك « نعم » لو اغمض عن ما ذكرنا لا مجال للمنع


(294)
عن جريان الأصول النافية والمرخصة كاستصحاب عدم الوجوب وعدم الحرمة وأصالة الحل والإباحة في كل من الفعل والترك بما أفيد من مناقصة مفاد أصالة الإباحة في المقام لنفس المعلوم بالاجمال « لان » مفادها انما هو الرخصة في كل من الفعل والترك وهو ينافي العلم بالالزام وان لم يكن منجزا فلا تجرى حينئذ لعدم انخفاظ مرتبة الحكم الظاهري فيها « وكذا » استصحاب عدم الوجوب والحرمة « حيث » ان التعبد بالبناء على عدم وجوب الفعل وعدم حرمته ينافي العلم بوجوب الفعل أو حرمته « إذ فيه » ما لا يخفى من منع المناقضة والمضادة بينهما « فان » قوام العلم وكذا الشك والظن في مقام عروضها بعد أن ان كان بنفس العناوين والصور الذهنية بما هي مرأت إلى الخارج بلا سرايتها منها إلى وجود المعنون خارجا ولا إلى العنوان المعروض لصفة أخرى بشهادة اجتماع اليقين والشك في وجود واحد بتوسيط العناوين الاجمالية والتفصيلية « فلا محالة » ما هو معروض للعلم الاجمالي انما هو عبارة عن عنوان أحد الامرين المبائن في عالم العنوانية مع العنوان التفصيلي لا خصوص الفعل ولا خصوص الترك إذ كل واحد من الفعل والترك بهذا العنوان التفصيلي لهما كان تحت الشك « وعليه » فبعد ان كان موضوع الحلية والإباحة التعبدية هو الشك في لزوم الفعل والترك بهذا العنوان التفصيلي « كان » الموضوع لهما متحققا بالوجدان حيث كان كل من الفعل والترك بعنوانه التفصيلي مشكوكا وان كان بعنوان أحدهما معلوم الالزام « وبعد » عدم اقتضاء أصالة الحل والإباحة بأزيد من الترخيص في عنوان الفعل والترك المشكوكين وعدم شموله للعنوان الاجمالي ، فلا قصور في جريانها في كل من الفعل والترك « إذ لا يكاد » يضاد هذا المعنى مع العلم الاجمالي بعنوان أحد الامرين ( نعم ) لو قلنا بان مفاد أصالة الإباحة هو عدم لزوم الفعل والترك مجتمعا لا عدم لزوم كل منهما منفردا ( اتجه ) المنع عن جريان أصالة الإباحة في المقام لمضادة لا وجوبهما مجتمعا مع العلم بجنس الالزام بينهما كمضادة احتمال عدم وجوبهما كذلك مع العلم الاجمالي بالالزام بينهما « ولكن ذلك » ممنوع بل مفادها انما هو عدم لزوم كل منهما منفردا بعنوانه التفصيلي المشكوك كما في سائر الأصول كالاستصحاب وحديث الرفع ، غير أن الفرق هو اقتضاء أصالة الإباحة للترخيص في طرفي العلم الاجمالي بتطبيق


(295)
واحد وفى سائر الأصول بتطبيقين تارة على الفعل وأخرى على الترك ، وهذا المقدار لا يوجب فرقا بينهما فيما هو الهم فتدبر ، وحينئذ فالعمدة في المنع عن جريان أدلة البراءة العقلية الشرعية في مفروض البحث هو ما ذكرناه من أن مع حكم العقل بالتخيير لا موقع لجريان أدلة البراءة لاثبات الترخيص الظاهري بمناط عدم البيان ( ثم إن ذلك كله ) عند تساوى المحتملين ملاكا بنظر العقل ( واما ) مع عدم تساويهما فلا حكم للعقل بالتخيير بينهما بل يحكم حينئذ بلزوم لاخذ بذى المزية منهما حيث إن مناط حكمه بالتخيير انما هو فقد المرجح لاحد المحتملين فمع وجوده لا حكم له بالتخيير ، وحينئذ ربما ينتهى الامر إلى جريان البراءة بالنسبة إلى ذي المزية منهما بل مطلقا ( نعم ) لا يكفي في ذلك الترجيح من حيث الاحتمال فلا يؤثر مجرد اقوائية احتمال الوجوب مثلا في تعيين الاخذ به ( كما لا يكفي ) نفس احتمال الحرمة في ترجيح جانبها على احتمال الوجوب ( وما قيل ) في الترجيح بذلك من أولية دفع المفسدة المحتملة من جلب المنفعة مدفوع بمنع الكلية وانه انما يكون ذلك تابع احراز الأهمية في المفسدة المحتملة ( وعليه ) ربما يكون الامر بالعكس فيجب تقديم المصلحة المحتملة بملاحظة ما فيها من شدة الاهتمام بما لا تكون في جانب المفسدة كما في الغريق المردد بين كونه نبيا أو كافرا مهدور الدم ( فتخلص ) انه في فرض تساوى المحتملين ملاكا لابد من المصير إلى التوقف والتخيير عقلا بمناط الاضطرار والتكوين ( لا البراءة ) والحكم بالإباحة ظاهرا ( ولا الاحتياط ) بمعنى تقديم جانب الحرمة المحتملة ( ثم إن ذلك كله ) مع وحدة الواقعة المبتلى بها ) ( واما مع ) تعددها فالحكم فيه أيضا التخيير عقلا كما في فرض وحدة الواقعة ( نعم ) انما الكلام في أن التخيير فيه بدوي فليس له ان يختار في الواقعة الثانية الا ما اختاره أولا ( أو انه استمراري ) فيجوز له ان يختار خلاف ما اختاره في الواقعة الأولى وان لزم منه الوقوع في المخالفة القطعية ( وحيث ) ان استمرار التخيير يلازم القطع بكل من الموافقة والمخالفة بخلافه على بدوية التخيير حيث لا يلزم منه إلا احتمالهما ( فقد يقال ) بلزوم تقديم حرمة المخالفة القطعية على الموافقة القطعية بدعوى ان حكم العقل بمنجزية العلم الاجمالي بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية التدريجية لما كان على نحو التنجيز والعلية وبالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية على نحو الاقتضاء


(296)
القابل لمنع المانع عنه فلا جرم عند الدوران بين الطاعتين يقدم جانب العلية على الاقتضاء لصلاحيته للمانعية عن اقتضائه بالنسبة إلى الموافقة القطعية ونتيجته هو المنع عن استمرار التخيير الموجب للوقوع في المخالفة القطعية ( أقول ) وفيه ما لا يخفى فإنه مضافا إلى ما هو التحقيق من كون العلم الاجمالي بالنسبة إلى الموافقة القطعية أيضا كالمخالفة علة تامة ( ان البحث ) في الاقتضاء والعلية للعلم بالنسبة إلى الموافقة والمخالفة القطعية ، انما هو بالنسبة إلى الترخيصات الظاهرية الجارية بمناط عدم البيان بعد عدم قصور المعلوم بالاجمال في نفسه للتنجز من قبل العلم ( حيث ) ان هم القائل بالاقتضاء انما هو اثبات قابلية العلم الاجمالي للترخيص الشرعي على خلافه في جميع الأطراف أو بعضها ( كما أن ) هم القائل بالعلية اثبات عدم قابليته لذلك وانه كالعلم التفصيلي في المثبتية للتكليف والمنجزية بنحو يمنع عن الترخيص على خلافه ولو في بعض الأطراف ( لا بالنسبة ) إلى الترخيص بمناط الاضطرار وكبرى لا يطاق « إذ لم يلتزم أحد بمنجزية العلم التفصيلي في هذه المرحلة فضلا عن العلم الاجمالي وذلك لا من جهة قصور في نفس العلم والكاشف ، بل من جهة القصور في المعلوم والمنكشف وعدم قابليته مع الاضطرار في مورده للبلوغ إلى مرتبة الفعلية فضلا عن التنجز حتى في مورد العلم التفصيلي الذي لا شبهة في عليته لوجوب الموافقة القطعية ( وعليه ) نقول ان عدم الجمع بين تحصيل الموافقة القطعية وبين الفرار عن المخالفة القطعية بعد أن كان بمناط الاضطرار من جهة ملازمة تحصيل الموافقة القطعية للوقوع في المخالفة القطعية بمقتضى الاضطرار والتكوين ، وبالعكس حيث يلازم ترك المخالفة القطعية لعدم القدرة على تحصيل الموافقة القطعية ( فلا جرم ) يدور الامر بمقتضى الاضطرار والتكوين بين رفع اليد اما عن حرمة المخالفة واما عن وجوب الموافقة ( وبعد ) عدم الترجيح في هذا المقام لاحد الامرين ينتهي الامر إلى التخيير بينهما ونتيجته هو التخيير الاستمراري ( هذا كله ) فيما لو كان كل من الواجب والحرام توصليا ( واما لو كانا ) أو أحدهما تعبديا يحتاج في سقوط التكليف عنه إلى قصد الامتثال كما يتصور ذلك فيما تراه المرأة المضطربة وقتا وعددا من الدم المردد بين كونه حيضا أو استحاضة الموجب لتردد صلوتها بين الوجوب والحرمة بناء على حرمتها على


(297)
الحائض ذاتا ( ففي مثله ) وان لم يتمكن المكلف من تحصيل القطع بالموافقة كما في التوصليين ، ولكن بعد التمكن من المخالفة القطعية ولو باتيان الصلاة لا بقصد الامتثال يكون العلم الاجمالي مؤثرا بالنسبة إليها فيدخل في مسألة الاضطرار إلى أحد أطراف العلم الاجمالي لا على التعيين في الشبهة المحصورة ( وبناء ) على المختار في تلك المسألة من لزوم مراعاة العلم الاجمالي بقدر الامكان وعدم جواز الغائه رأسا ( لابد ) في المقام ، اما من ترك الصلاة رأسا ، واما من الاتيان بها عن قصد قربى ولا يجوز ترك كلا الامرين رأسا ( نعم ) على مختار صاحب الكفاية في مسألة الاضطرار المزبور لا باس بالغاء العلم الاجمالي والاقتحام في مخالفة كلا الامرين ( ولكن ) من العجب التزامه قده سره في المقام بوجوب رعاية العلم الاجمالي بقدر الامكان وعدم جواز المخالفة القطعية على خلاف مختاره في تلك المسألة من عدم منجزية العلم الاجمالي مع الاضطرار إلى بعض الأطراف ولولا على التعيين المستلزم لجواز المخالفة القطعية ولذلك التزم في مبحث الانسداد باستكشاف ايجاب الاحتياط من الخارج بحيث لولاه لما كان لمنجزية العلم الاجمالي مجال مع ترخيص العقل في الاقتحام في بعض الأطراف من جهة العسر المخل بالنظام فتدبر هذا تمام الكلام في الموضع الأول.

    في الشك في المكلف به مع العلم بالتكليف من التحريم أو الايجاب وفيه مبحثان ( الأول ) في الشبهة التحريمية وفيه المسائل الأربع المتقدمة وحيث إن الحكم متحد في الجميع نقتصر على البحث عن الشبهة الموضوعية لاشتهار عنوانها في كلمات الأصحاب وعموم البلوى بها فنقول وعليه التكلان ان الكلام يقع فيها من جهات « تارة » في أصل منجزية العلم الاجمالي قبال من يدعى قصوره عن ذلك وانه كالشك البدوي كما هو المحكى عن بعض ( وأخرى ) في أنه على فرض منجزيته هل يكون ذلك على نحو الاقتضاء القابل لمنع المانع عنه حتى بالنسبة إلى المخالفة القطعية المستتبع لجريان الأصول النافية في جميع الأطراف أو انه يكون على نحو العلية ينحو يمنع عن مجيء الترخيص على خلافه مطلقا أو


(298)
بالنسبة إلى خصوص حرمة المخالفة القطعية وتنقيح الكلام فيها يستدعي بيان أمور.
    ( الأول ) لا يخفى ان البحث في قابلية أطراف العلم الاجمالي لمجئ الترخيص على خلافه في المقام ليس في تمامية الحكم الواقعي في الفعلية وعدمه وانه بأي مرتبة من الفعلية يكون قابلا للترخيص على الخلاف وباي مرتبة لا يكون قابلا لذلك بل البحث انما هو في قصور العلم الاجمالي في المنجزية وعدمه وفى كيفية طريقيته من حيث قابليته للارتفاع بالترخيص وعدمه بعد الفراغ عن تمامية التكليف الثابت في مورده في الفعلية بمقتضى ظهور الخطابات وعدم قصوره في التنجيز على المكلف في ظرف قيام الطريق التنجيزي إليه عقليا أو نقليا كيف ومحل البحث في المقام انما هو صورة تعلق العلم الاجمالي بما هو مفاد الخطابات الواقعية ، ولا اشكال في ظهور الخطابات الواقعية في فعليه التكاليف المتعلقة بذوات الأشياء على وجه تتصف بالباعثية أو الزاجرية الفعلية في ظرف وصولها إلى المكلف بقيام طريق تنجيزي إليها كما لا ينبغي الاشكال في أن هذا المقدار من الفعلية التي يقتضيها ظهور الخطابات مما لا ينافيه الترخيص على الخلاف في ظرف الجهل بالواقع ، نعم الذي ينافيه الترخيص انما هو الفعلية على الاطلاق الناشئ عن إرادة حفظ المرام حتى في مرتبة الجهل بالحكم الواقعي ولو بخطاب آخر ثانوي في طول الخطاب الأول ولكن هذه المرتبة من الفعلية كانت خارجة عن عهدة الخطابات الواقعية قطعا لاستحالة تكفلها للفعلية بأزيد من مقدار استعدادها لحفظ وجود المرام من قبلها كما شرحناه في الجمع بين الاحكام الظاهرية والواقعية ، كيف وان كل مقدمة من مقدمات وجود المرام انما تشاء عن الإرادة المقتضية لحفظ المرام من قبلها لا أزيد ومع عدم اقتضاء الخطابات الواقعية لحفظ المرام حتى في ظرف الجهل بها يستحيل تمشى قصد التوصل إلى وجود المرام على الاطلاق من قبل مجرد انشاء الخطاب الواقعي وعليه فلا مجال للبحث عن مراتب فعلية الخطابات الواقعية وانها بأي مرتبه تكون قابلة للترخيص على الخلاف وباي مرتبة لا تكون قابلة لذلك لما عرفت من أن ما تضمنته الخطابات الواقعية لا يكون الا مرتبة خاصة من الفعلية المتحققة حتى في ظرف الجهل واتصاف مثل هذه المرتبة بالباعثية أو الزاجرية الفعلية بقيام الطريق إليها لا يوجب تفاوتا في ناحية الإرادة بسيرها من مرتبة إلى مرتبة أخرى لان طرو مثل هذه


(299)
الصفات عليها انما كان في رتبة متأخرة عن قيام الطريق إليها ( الثاني ) ان قوام العلم والشك بل جميع الصفات الوجدانية كالإرادة والكراهة والتمني والترجي وغيرها بعد ما كان بقيامها بنفس العناوين والصور الذهنية بما هي ملحوظة كونها خارجية بلا سراية منها إلى وجود المعنون خارجا لان ظرف عروضها هو الذهن وان الخارج ظرف اتصافه بالمعلومية بشهادة انه قد لا يكون للمعنون وجود في الخارج فلا محالة يكون مرجع العلم الاجمالي بشيء تكليفا كان أو غيره إلى تعلقه بصورة اجمالية حاكية عن الواقع لا بشراشره ومن لوازمه قهرا هو الشك الوجداني بكل واحد من العناوين التفصيلية للأطراف مع وقوف كل من الوصفين على نفس عنوان معروضه من غير أن يكون وحدة وجود المعنون لهما في الخارج موجبا لسراية أحد الوصفين إلى متعلق الاخر بشهادة اجتماع اليقين بالعنوان الاجمالي مع الشك بكل واحد من العناوين التفصيلية للأطراف ولو مع اتحاد العنوانين في المعنون الخارجي فإنه لولا وقوف كل من الوصفين على عنوان معروضه للزم اجتماع اليقين والشك في موضوع واحد ، مع أن مضادة اليقين والشك في الوضوح كالنار على المنار و ( بما ذكرنا ظهر ) وجه امتياز العلم الاجمالي عن العلم التفصيلي وانه انما كان من جهة المعلوم والمنكشف لا من جهة العلم والكاشف فكان اتصاف العلم بالتفصيل من جهة ان متعلقه عنوان تفصيلي للشيء حاك عن شراشر وجوده ، ولذلك لا يجتمع مع الشك لأوله إلى اجتماع الضدين ، بخلاف العلم الاجمالي فان اتصافه بالاجمال انما كان باعتبار متعلقه لكونه عبارة عن الصورة الاجمالية المعبر عنها بعنوان أحد الامرين وبالجامع بين الطرفين ، وذلك أيضا لا بمعنى ان الجامع بنفسه وحيال ذاته متعلق للعلم الاجمالي ولو بنحو الحكاية عن منشيه كما في الطبيعي المأخوذ في حين التكاليف ، بل بما انه مرآت اجمالي إلى الخصوصية الواقعية المرددة في نظر القاطع بين خصوصيات الأطراف بنحو تكون نسبته إليها نسبة الاجمال والتفصيل بحيث لو كشف الغطاء لكان المعلوم بالاجمال عين المعلوم بالتفصيل ومنطبقا عليه بتمامه لا بجزء تحليلي منه كما في الطبيعي بالنسبة إلى فرده فكان المقام من هذه الجهة أشبه شيء بمدلول التكرة المأخوذة في متعلق الاحكام الذي هو عبارة عن إحدى الخصوصيات قبال عنوان الواحد الحاكي عن صرف منشئة ، غير أن الفرق بينهما هو ان في النكرة يراد بها الخصوصية المبهمة بنحو لا تعين لها


(300)
في الواقع أيضا ، بخلاف المقام فان للعنوان المعلوم بالاجمالي واقع محفوظ بنظر القاطع ولكنه مجهول عنده فلم يدر انه هذا أو ذاك ومن ذلك تنحل القضية المعلومة بالاجمال دائما إلى قضية معلومة على سبيل منع الخلو وهي وجوب أحد الامرين وقضيتين أو قضايا مشكوكة بالنسبة إلى كل واحد من الأطراف حيث كان انطباقه على كل واحد منها احتماليا محضا وبهذه الجهة يفترق هذا الجامع عن الجامع المأخوذ في متعلقات الاحكام ، حيث إن الجامع المأخوذ في حيز التكاليف عبارة عن الطبيعي قبل الانطباق لا بوصف تعينه وموجوديته خارجا بل في ظرف عدمه بنحو يكون الطلب محركا لايجاده ويكون تعينه بايجاده في الخارج والا فقبل الايجاد لا يكون له الا مجرد قابلية الانطباق على كل فرد ، ولذا يتحقق الامتثال باتيان أي فرد يختاره المكلف حتى في مثل النكرة التي تكون قابلية الانطباق فيها تبادليا وهذا بخلاف الجامع المتعلق للعلم الاجمالي فإنه عبارة عن الجامع المنطبق بوصف موجوديته وتعينه في الخارج وكان الترديد في أن المنطق عليه هو هذا أو ذاك ومن لوازم ذلك كما سيجيء هو سراية التنجز إلى الواقع بملاحظة كونه من توابع ما هو الموجود من الحكم في الخارج وان لم يسر إليه العلم لوقوفه على نفس العنوان الاجمالي.
    الثالث الظاهر أنه لا قصور في شمول أدلة الأصول بذاتها للشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي مع قطع النظر عن منجزية العلم ، وذلك اما الأصول غير التنزيلية فظاهر لتحقق موضوعها وهو الشك بالوجدان فان كل واحد من الانائين الذين علم بحرمة أحدهما أو بنجاسته مما يصدق عليه بعنوانه الخاص انه شيء لا يعلم حرمته أو نجاسته فتشمله حديث الرفع والحجب ودليل السعة والحلية والطهارة من غير فرق بين ما كان منها مذيلا بالغاية وهي المعرفة وبين غيره مما لم يكن مذيلا بهذا الذيل وهذا بناء على انصراف الغاية إلى العلم التفصيلي واضح وكذلك بناء على منع الانصراف المزبور وشمول المعرفة للعلم الاجمالي أيضا ، فان جريان الأصول انما كان في كل واحد من المشتبهين بعنوانه الخاص ، ومع تغاير متعلق كل من اليقين والشك في العلم الاجمالي ووقوف العلم على نفس عنوان معروضه من الصورة الاجمالية وعدم سرايته إلى الخارج ولا إلى العناوين التفصيلية ، لا قصور في شمولها لكل واحد من الأطراف بخصوصه ، حيث إن كل واحد منها مما يصدق عليه بعنوانه الخاص انه مما لا يعلم حرمته لا تفصيلا
نهاية الافكار ـ الجزء الثالث ::: فهرس