مسيرة الكائن الإنساني ورسالة السماء في
القرآن العظيم

    ألقيت في الندوة العلمية المتخصصة التي عقدها الاستاذ سامي محي الدين وأخوته في ديوانهم العامر في النجف الاشرف مساء يوم السبت 18 رمضان 1418 هـ 17 / 1 / 1998 م . وعقبّت بالاجابة عن الأسئلة التي تخص البحث في مناقشة مكثفة . حضرها العلماء الأعلام وأساتذة الجامعات وجمهور كبير من النجفيين والمثقفين .


(106)


(107)

    حياة الكائن الانساني في القرآن تستدعي تأملاً كثيراً في كل منحنياتها ، وتستدعي إنتباه الباحث الموضوعي في تناثر جزئياتها ، فهذا الكائن دون سواه قد حضي بالتكريم الآلهي ، قال تعالى :
( وَلَقَدْ كَرَّمنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلنَاهُم فِي البَرِ وَالبَحرِ وَرَزَقنَاهُم مِّن آلطَيِّبَاتِ وَفَضَّلنَاهُم عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّن خَلَقنَا تَفضِيلاٍ * ) (1) .
والعلة في هذا التكريم إعتباره الخلق الأول في حياة الأرض ، كما هو ظاهر القرآن ، وهذا الخلق يمتاز بالدقة في التركيب ، والحسن بالتقويم ، والابداع في التصوير .
    هذا الخلق الجديد ذو طابعين : طابع إعجازي لا عن مثيل ، وطابع فطري في سنة الحياة يقترن بالتزاوج والتناسل بين الذكر والأنثى بتلاقح الحويمن المنوي المذّكر بالبيضة المخصبة الأنثوية ، لينتج ذلك كائناً ناطقاً عاقلاً مفكراً من جماد ، لا أهلية له من نطق أو عقل أو إرادة أو تفكير ، وهذا ما جلب إنتباه فيلسوف المعرّة أبي العلاء المعري فقال :

والـذي حـارث الـبـريـةُ فيـهِ * حَيـَوانٌ مـسـتـحـدثٌ مـن جـمـاد (2)

    وكل من هذين الملحظين المهمين في تكوين الإنسان حديث يتناول أبعاده الأولى والمتطورة على حد سواء ، حتى لحظات الموت وحياة البرزخ وقيام الساعة .
    وقد بدأ هذا الإبداع الإلهي بما حكاه الله تعالى في كتابه :
( وَإِذا قَالَ رَبُّكَ لِلمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا
____________
(1) الأسراء : 70 .
(2) طه حسين ، تجديد ذكرى أبي العلاء : 170 .

(108)

وَيَسفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحنُ نُسَبِحُ بِحَمدِكَ وَنُقَدِسُ لَكَ قَالَ إِنِى أَعلَمُ مَا لاَ تَعلَمُونَ * ) (1) .
    هذه هي البداية بهذا الجعل التكويني المستفيض الذي لا يقبل الردّ ، وهنا تنطلق قضيّتان : الأولى هذا الأستفهام من الملائكة : ( أَتَجعَلُ فِيهَا مَن يُفسِدُ فِيهَا وَيَسفِكُ آلدِمَآءَ )
ولا يمكن أن يصوّر هذا الاستفهام في طلب المعرفة وإستيضاح الحال بأنّه إعتراض على الله ، لأن الإفاضات التي حصل عليها الملائكة ، وهم عباد مقربّون مكرمون ، لا تبيح لهم الإعتراض والأنكار ، فهم أعرف بجلالة المقام الألهي ، وسمو الحضرة القدسية ، وقد يقال بأنهم قد أشكلوا على الله تعالى لمزيد الإفاضة عليهم ، فيكون الحال مزيجاً بين الاستفسار والاسترحام والتلطف في المسألة لا على جهة الاعتراض والانكار ، وهذا الإشكال على هذا النحو لا يشكّل ما لا يجوز لهم ولا يباح ، لأنهم طلاب معرفة ، وهم يستشكلون الأمر لأنهم يقدّسون الله ويسبحونه ، فعلى هذا يكون الباعث على ذلك مجرد التعجب من وجود حالتين متقابلتين : حالة الملائكة وهم بين التسبيح والتقديس لله في السماء ، وحالة البشرية في الإفساد وسفك الدماء في الأرض ، فكان الجواب : إنه يعلم ما لا يعلمون ، فسلّموا للأمر تسليماً .
    هذا الانقداح الذهني في التصور الملائكي قد يكون للشفافية التي جبلوا عليها في الخلق ، فهم يتفرسون بما سيحدث لو وُجد هذا المخلوق البشري ، وهو ظاهر السياق القرآني ، وقد يقال : بأنّ الله خلق خلقاً قبل آدم ، وقد أفسدوا في الأرض ، وسفكوا الدماء ، وكأنهم قاسوا هؤلاء على أولئك ، وهذا مما لم ينطق به القرآن ، وهو من القياس الباطل .
    القضية الثانية : بعد أن خلق الله آدم حكى الله ما حدث بقوله :
( وَإِذ قُلنَا لِلمَلاَئِكَةِ اسجُدُوا لأِدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبلِيسَ أَبَى وَاستَكبَرَ وَكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ * ) (2) .
    وهنا يظهر إمتناع إبليس من السجود ، فزجره الله تعالى :
( قَالَ مَا مَنَعَكَ
____________
(1) البقرة : 30 .
(2) البقرة : 34 .

(109)

أَلاَّ تَسجُدَ إِذ أَمَرتُكَ ) (1) . فأجاب إبليس بصيغة واحدة ، وأخرى ، أما الصيغة الواحدة :
( أَنَا خَيرٌ مِنهُ خَلَقتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقتَهُ مِن طِينٍ ) (2) ، والصيغة الأخرى في سورة أخرى ، فيما حكاه تعالى عنه : ( قَالَ لَم أَكُن لأسجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقتَهُ مِن صَلصَالٍ مِّن حَمَإٍ مَّسنُونٍ * ) (3) .
    والتعليل في الإجابة واحد أن الله خلق آدم من عنصر الطين ، وهو من عنصر النار ، والنار في زعمه أشرف عنصراً من الطين .
    وهنا يتضح أن الله تعالت قدرته قد خلق آدم من طين ، كما نصّ عليه :
( إِذ قَالَ رَبُكَ لِلمَلاَئِكَةِ إِنِي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ « 71 » ) (4) .
    وفي هذا الضوء نجد خلق عيسى بن مريم عليه في كيفية خرق بها الله النواميس الطبيعية للكون ، فكان عيسى عليه السلام كمثل آدم كما قال :
( إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * ) (5) .
    وهذا الخلق الاعجازي العظيم هزّ العالمين في الحديث عن قدرة الله تعالى ، وقد تحدث القرآن عن بداية هذا الخلق وإرهاصات تكوينه الإبداعي ، ببيان ظروفه كافة ، وشرح أبعاده ، فقال تعالى :
( وَاذكُر فِي الكِتَابِ مَريَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهلِهَا مَكَاناً شَرقِيّاً * فَاتَّخَذَت مِنْ دُونِهِم حِجَاباً فَأَرسَلنَا إِلَيهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً * قَالَت إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحمَنِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لِكَ غُلاَماً زَكِياً * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمسَسْنِي بَشَرٌ وَلَم أَكُ بَغِيّاً * ) (6) .
    وهنا الإرهاص التوقعي أن مريم عليها السلام ستلد غلاماً زكياً ، بعد أن إنتبذت من أهلها مكاناً شرقياً ، وأتخذت لها من دونهم ستراً وحجاباً ، فأرسل الله الروح الأمين جبرئيل عليه السلام متمثلاً بشراً سوياً متكاملاً ، فأستعاذت به من الله تعالى إن كان تقياً ، فأخبرها بأنه رسول الله ليهب لها هذا
____________
(1) (2) الأعراف : 12 .
(3) الحجر : 33 .
(4) صّ : 71 .
(5) آل عمران : 59 .
(6) مريم : 16 ـ 20 .

(110)

الغلام ، فأنكرت ذلك لأنها لم يمسسها بشر ولم تك بغيّاً ، وهنا يتجلى البعد الاعجازي الجديد ، في بيان هوان الأمر على الله ، وفي جعله آية للعالمين : ( قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُو عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجعَلَهُ ءَايَةً لِّلنَّاسِ وَرَحمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمراً مَّقضِيّاً * فَحَمَلتَهُ فَآنتَبَذَت بِهِ مَكَاناً قَصِيّاً * فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إِلَى جِذعِ النَّخلَةِ قَالَت يَلَيتَنِي مِتَّ قَبلَ هَذَا وَكُنتُ نَسياً مَّنسِياً * فَنَادَهَا مِن تَحتِهَا أَلاَّ تَحزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحتَكِ سَرِيّاً * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذعِ النَّخلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيكِ رُطَباً جَنِياً * فَكُلِي وَاشرَبِي وَقُرِّي عَيناً فَإِمَّا تَرَينَّ مِنَ البَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرتُ لِلرَّحمَنِ صَوماً فَلَن أُكَلِمَ اليَومَ إِنسِياً * ) (1) .
فالأمر هين على الله ليجعل عيسى آية للناس ورحمة ، وكان ذلك أمراً إلهياً تكوينياً ، فحملته وإبتعدت به ، فأجاءها المخاض مباشرة إلى جذع النخلة ، وتحسست بفداحة ما حملت به ، فتمنت الموت فناداها الملك أو عيسى ألا تحزني ، وتحدث إليها ، وأمرها بهز الجذع فتساقط الرطب ، وأمرت بالأكل والشرب وقرة العين ، وأن تقول لمن تراه من الناس أني نذرت لله صوم الصمت ، وإنتهى هذا الفصل ، وقد ولد عيسى دون أب ، وكان حقيقة واقعة لا تجحد ، وتختتم القصة بمثولها أمام قومها ، ليتجلى المحور الإعجازي لهم ، ويخشعوا صامتين ، وهكذا كان ، قال تعالى :
( فَأَتَتْ بِهِ قَومَهَا تَحمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَد جِئتِ شَيئاً فَرِيّاً * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرَأَ سَوءٍ وَمَا كَانَت أُمُّكِ بَغِيّاً * فَأَشَارَت إِلَيهِ قَالُوا كَيفَ نُكَلِمُ مَن كَانَ فِي المَهدِ صَبِيّاً * قَالَ إِنِّي عَبدُ اللهِ ءَاتَنِيَ آلكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَينَ مَا كُنتُ وَأَوصَانِى بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَوةِ مَا دُمتُ حَيّاً * وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَم يَجعَلنِي جَبَّارًا شَقِيّاً * وَالسَّلَمُ عَلَيَّ يَومَ وَلِدتُّ وَيَومَ أَمُوتُ وَيَومَ أُبعَثُ حَيّاً * ) (2) .
ويستخلص من هذا أن مريم حينما جاءت به قومها ، جوبهت مباشرة بالاستنكار الشديد ، وهذا ديدن الناس في إستعجال الأمر وقالة السوء ، وقلق الوضين ، فأشارت إليه بحرارة وعزم وإصرار ، فأستغربوا إشارتها وعجبوا لها ، وصرخوا بفظاعة تكليم الطفل في مهده ، وهنا تبدو الآية الالهية الناطقة ، لتحسم الأمر في حركة إرادية غير متوقعة وليست بالحسبان ، قال إني عبد الله ،
____________
(1) مريم : 21 ـ 26 .
(2) مريم : 27 ـ 33 .

(111)

أتاني الكتاب ، وجعلني نبياً . . . إلى آخر ما قال ، فأسقط بأيديهم ، وأخذتهم الدهشة ، وانحلّ كل إغلاق وإبهام ، فآمن من آمن عن دليل ، وأشرك من قال أنه ابن الله .
    هذا النحو من الايجاد هو الخلق الاعجازي دون مثال أو سبيل طبيعي ، والخلق الاعجازي الآخر هو الخلق الفطري في التناسل البشري الذي أصبح فيما بعد طبيعياً ، وإن كان في أصل الايجاد إعجازياً ، لأنه عاد متعارفاً عن طريق التناسل ، أما حقيقة هذا التناسل وكيفيته ، وجعل الإرادة التكوينية متعلقة بها ، فهو مما لاتصل إليه يد الطبيعة ، وإنما هو من صنع أحسن الخالقين ، وقد أشار الله تعالى إلى الخلقين معاً بقوله تعالى :
( والله خَلَقَكُم مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُم أَزوَاجاً وَمَا تَحمِلُ مِن أُنثَى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِن عُمُرِهِ إِلاّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * ) (1) .
    هذه العوالم الهائلة كلها يسيرة عند الله ، فهو الخالق من التراب ، وهو الخالق من النطفة ، وهو جاعل الزوجية ، وهو العالم بما تحمل كل أنثى ، وما تضع ، يضاف إلى هذا كله إحصاء هذه العوالم في كتاب مبين : المعمر وغير المعمر ، وما فوقهما وما دونهما ، ولكن الإنسان يطغى :
( وَضَرَبَ لَنَأ مَثَلاً وَنَسِيَ خَلقَهُ قَالَ مَن يُحيِ العِظَمَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلقٍ عَلِيمٌ * ) (2) .
    فكيف بدأ هذا الخلق على النحو الطبيعي كما هي الحال اليوم ، وإلى انقضاء أجل الدنيا ، وقيام الساعة ، هذا ما يجيب عليه القرآن الكريم مستدلاً فيه على البعث والنشور ، قال الله تعالى :
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُم فِي رَيبٍ مِّنَ البَعثِ فَإِنَّا خَلَقنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نَّطفَةٍ ثُمَّ مِن عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيرِ مُّخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُم وَنُقِرُّ فِي الأَرحَامِ مَا نَشَآءُ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمّىً ثُمَّ نُخرِجَكُم طِفلاً ثُمَّ لِتَبلُغُوا أَشُدَّكُم وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىَ وَمِنكُم مَّن يُرَدَّ إِلَى أَرذَلِ العُمُرِ لِكَيلاَ يَعلَمَ مِن بَعدِ عِلمٍ شَيئاً ) (3) .
____________
(1) فاطر : 11 .
(2) ياسين : 78 ـ 79 .
(3) الحج : 5 .

(112)

    فالتراب هو الأصل التركيبي والانشائي للانسان ، والنطفة هي الاصل الفطري للتناسل ، والعلقة : القطعة من الدم الجامد ، والمضغة القطعة من اللحم الممضوغة ، المخلّقة على ما قبل تامة الخلقة ، وغير المخلّقة غير تامة الخلقة ، وينطبق ذلك على تصوير الجنين الملازم لنفخ الروح فيه ، وعليه ينطبق القول بأن المراد بالتخليق هو التصوير (1) .
    هذا السرد التدريجي في تركيبة النسل الرحمي مما يرفع التشكيك في البعث والنشور، فإن من تدرج بالانسان من التراب إلى النطفة ، ومن النطفة إلى العلقة ، ومن العلقة إلى المضغة ، إلى التخليق في الصورة ، إلى الكائن الحي الناطق ، وهي مجموعة من التقلبات المختلفة حتى تصل إلى حين قبول الحياة ، لقادرٌ على إمكانية تمتع الانسان بعد الموت بالحياة ، نشراً وحشراً ، ذاتاً وعيناً ، روحاً وبدناً .
    والقرآن الكريم يؤكد حقيقة الخلق الاعجازي والطبيعي لا في التركيب بل في الانفصال الأولي والالتقاء الثانوي ، فالانسان ترابي الأصل ، منويّ التفريع في التكوين ، فله تعالى وحده الحديث عن دقة الصنع وعظمة الخلق ، ومساحة المصنع التكويني الذي لا يتجاوز الرحم في صغره ، ليتولد منه هذا الانسان ، يقول تعالى :
( وَلَقَد خَلَقنَا الإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلنَاهُ نُطفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقنَا النُّطفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقنَا العَلَقَةَ مُضغَةً فَخَلَقنَا المُضغَةَ عِظَامًا فَكَسَونَا العِظَامَ لَحمًا ثُمَّ أَنشَأَنَاهُ خَلقًا ءَاخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحسَنَ الخَالِقِينَ * ) (2) .
    وفي الآية ردُّ على نظرية الأستاذ ( دارون ) في النشوء والارتقاء ، فالانسان خُلِقَ متطوراً بعد هذه الأطوار .
    وفي هذه الآيات تتجلى القدرة الباهرة في تطويع السلالة الانسانية حيث التدرج التكويني من البسيط إلى المركب ، ومن الصعب إلى الأصعب ، فهذه المواد الأولية في التركيب للكيان الانساني : تراب ، نطفة ، علقة ، مضغة ، عظام ، لحم ، تكوّن جسماً ما ولكن ذلك يترتب عليه خلقٌ
____________
(1) ظ : الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : 14 / 344 .
(2) المؤمنون : 12 ـ 14 .

(113)

آخر في الانشاء ، ذلك الخلق الآخر هو الانسان ، فهو شيء إذن ، والمراحل التكوينية شيء آخر ، فهو ليس من جنس تلك المراحل بل هو إمتداد لها ، وإبداع حادث فيه العلم والقدرة والحياة والنطق والإرادة ، وهي معالم تختلف تماماً عن جنس المواد التي ركب منها ، وهذا ملحظ دقيق للغاية .
    وتناسل هذا الانسان الأول « آدم » فكانت ثمرته « قابيل وهابيل » ولمّا كان التعليل الكوني في خلق الانسان وسواه هو توحيد الله وعبادته :
( وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ * ) (1)
والعبادة تشمل كل الفروض والسنن التي نادى بها شعار الخلق بما فيها التقرب إلى الله في مراسم القرابين ، فقرّب قابيل قربانه فلم يتقبل منه ، وتقبل من أخيه هابيل ، فاخذته الأنانية ، وتمكن منه الغيظ وربما الحسد ، فأقدم على قتله دون تورّع ، أما كيف علما بتقبل القربان وعدمه « فإنه كان من المعهود عند الأمم السابقة تقبل القربان المتقرب به بأكل النار إياه ، قال تعالى :
( حَتَّى يَأتِيَنَا بِقُربَانٍ تَأكُلُهُ النَّارُ ) (2) . .
فمن الممكن أن يكون التقبل للقربان في هذه القصة أيضاً على هذا النحو . . وكيف ما كان فالقاتل والمقتول جميعاً كانا يعلمان قبوله من أحدهما وردّه من الآخر » (3) . ذلك ما يقرره القرآن في سورة المائدة الآيات ( 27 ـ 31 ) والتي تبدأ بقوله تعالى :
( * وَاتلُ عَلَيهِم نَبَأَ ابنَي ءَادَمَ بِالحَقِ إِذ قَّرَّبَا قُربَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَم يُتَقَبَّل مِنَ الأَخَرِ قَالَ لأَقتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمّا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ * ) (4) .
    ومن هنا بدأ الصراع الدموي عند الانسان متمثلاً بالكفر والايمان ، ومرت البشرية بأدوار وأطوار لا يعرض القرآن لتفصيلها دون الاجمال ، حتى بعث أبو البشر الثاني نوح عليه السلام في العراق ، وفي الكوفة على وجه التحديد ، ذلك ما يحكيه القرآن في خطابه للنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، قال تعالى :
( إِنَّآ أَوحَينَآ
____________
(1) الذاريات : 56 .
(2) آل عمران : 183 .
(3) الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : 5 / 300 .
(4) المائدة : 27 .

(114)

إِلَيكَ كَمَا أَوحَينَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّنَ مِن بَعدِهِ ) (1) .
فهذا الوحي النازل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم له سابقة تأريخية بما أوحاه الله إلى نوح والأنبياء من بعد نوح ، فالقرآن إذن يبدأ حديثه عن وحي الأنبياء إعتباراً من نوح إلى نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ولهذا كان نوح عليه السلام هو المقدم في الذكر بعد آدم مباشرة ، قال تعالى :
(* إِنَّ اللهَ اصطَفَى ءَادَمَ وَنُوحًا وَءَالَ إِبرَاهِيمَ وَءَالَ عِمرَانَ عَلَى آلعَالَمِينَ * ) (2) .
    وكانت رسالة نوح واضحة المعالم بالدعوة إلى التوحيد ، قال تعالى :
( لَقَد أَرسَلنَا نُوحًا إِلَى قَومِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِّن إِلَهٍ غَيرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَومٍ عَظِيمٍ ) (3) .
ولم تجد رسالة نوح آذاناً واعية ، ولا أسماعاً صاغيةً ، بل كان قومه من العتاة الطغاة المتكبرين ، لذلك فقد صرح القرآن الكريم بقلة من آمن مع نوح :
( وَمَا ءَامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ) (4) ،
وسلك العديد الأكثر طرق الضلال وعبادة الأوثان والأصنام في معزل عن الدعوة الألهية إلى التوحيد ، وتواصوا بالأبقاء على الأوثان :
( وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ ءَالِهَتَكُم وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسراً * ) (5) .
    والملاحظ هنا أن أسماء هذه الأصنام أسماء عربية ، فهل كان نوح عربياً وهل كانت المنطقة عربية ، وهل ورثوها من قوم عرب ، إن لم يكونوا هم عرباً ، هذا ما يجيب عليه علماء الآثار واللغات والحفريات .
    وكان قوم نوح بحيث أتعبوا نوحاً تعباً مضنياً ، فلم يستمعوا له ، ولم يستجيبوا لدعوته ، بل قابلوه بما حكاه القرآن الكريم عنه :
( وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوتُهُم لِتَغفِرَ لَهُم جَعَلُوا أَصَابِعَهُم فِي ءَاذَانِهِم وَاستَغشَوا ثِيَابَهُم وَأَصَرُّوا وَاستَكبَرُوا استِكبَاراً * ) (6) .
    بل ذهبوا إلى أكثر من هذا مع سماحة النبي ، وبرّه في الدعاء ، ولين
____________
(1) النساء : 163 .
(2) آل عمران : 33 .
(3) الأعراف : 59 .
(4) هود : 40 .
(5) نوح : 23 .
(6) نوح : 7 .

(115)

الجانب ، وتكرار الدعوة ، فعبّر عنهم نوح :
( وَمَكَرُوا مَكراً كُبَّاراً * ) (1) ، حتى ضاق بهم ذرعاً طيلة هذه المدّة الطويلة التي بلغت ألف سنة إلا خمسين عاماً ، فما أجدى معهم الوعظ ولا الارشاد ولا حسن التأني الذي جبل عليه نوح عليه السلام :
( فَدَعَا رَبَّهُ أَنَِي مَغلُوبٌ فَانتَصِر * ) (2) ، فأمره تعالى بصنع السفينة ، وضرب له موعداً فيها بمجيء الأمر لدى فوران التنور ، فكان ذلك علامة له ، وفيه توجيه وإخبار ، توجيه فيمن يحمل معه في السفينة ، وإخبار بهلاك الذين سبق عليهم القول ، قال تعالى :
( فَأَوحَينَا إِلَيهِ أَنِ اصنَعِ الفُلكَ بِأَعيُنِنَا وَوَحيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسلُك فِيهَا مِن كُلٍّ زَوجَينِ اثنَينِ وَأَهلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيهِ القَولُ مِنهُم وَلاَ تُخاَطِبنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُم مُّغرَقُونَ * ) (3) .
    وكان صنع الفلك بعناية من الله ، وبمرئىً منه ، وفي ظل مراقبته القصوى ، ورعايته الألهية المعهودة مع الأنبياء ، وكان قومه يعجبون من هذا الصنع وبهذه السعة الكبيرة ، ويبدو أنهم بمنأى عن الحياة البحرية ، وإستقرارهم في مناخ بدوي لا يعدو القوافل الساذجة البدائية :
( وَيصنَعُ الفُلكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيهِ مَلأٌ مِّن قَومِهِ سَخِرُوا مِنهُ قَالَ إِن تَسخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسخَرُ مِنكُم كَمَا تَسخَرُونَ * ) (4) . ونفذّ نوح ما أوحى الله به إليه ، فأسلك فيها من كل زوجين إثنين ومعه القلّة من المؤمنين ، وأخبرهم بمصيرهم ، وهذا الأسلاك كما هو ظاهر القرآن ينبىء أن الطوفان شامل للكرة الأرضية آنذاك ، فأراد الله إستمرارية الحياة للكائنات ومسيرة الحضارة في الحياة ، ولو لم يكن الأمر كذلك لكانت الحياة باقية في جزء من الأرض ، كما هي فانية في جزء آخر ، لهذا فذهب بأن الطوفان كان عالمياً ، وصدر الأمر الإلهي الصّارم : ( فَفَتَحنَا أَبوَابَ السَّمَآءِ بِمَآءٍ مُّنهَمِرٍ * وَفَجَّرنَا الأَرضَ عُيُونًا فَالتَقَى المَآءُ عَلَى أَمرٍ قَد قُدِرَ * ) (5) .
____________
(1) نوح : 22 .
(2) القمر : 10 .
(3) المؤمنون : 27 .
(4) هود : 38 .
(5) القمر : 11 ـ 12 .

(116)

    ودلالة السماء ظاهرة في السماء الدنيا ، ودلالة الأرض ظاهرة على هذه الأرض جميعاً ، ولا دليل من القرآن على غير هذا ، ولا يدفع الظاهر بالمؤوّل دون أمارة ، ودعاء نوح يوحي بهذا بل يصرح بعموم الطوفان : ( رَّبِّ لاَ تَذَر عَلَى الأَرضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً ) (1) .
وكون رسالة نوح عالمية تؤكد ذلك : ( شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ) (2) ، مؤيداً بقوله تعالى : « فَبَعَثَ الله النَبِيينَ مُبَّشِرِيِنَ وَمُنْذِرِينَ وأَنَزَلَ مَعَهُمْ الكِتَابَ » (3) .
والكتاب إنما ينزل على أصحاب الرسالات العالمية ونوح أولهم بإعتباره من أولي العزم الخمسة وهو الأول منهم . قال الطباطبائي : « فالحق أن ظاهر القرآن ـ ظهوراً لا ينكر ـ يدل أن الطوفان كان عاماً للأرض ، وأن من كان عليها من البشر قد أغرقوا جميعاً ، ولم يقم لهذا الحين حجة قطعية تصرفها عن هذا الظهور » (4) .
    وغرق الملأ ، وانتهى الأمر ونجا نوح والمؤمنون ، ( فَأَنجَينَاهُ وَأَصحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلنَاهَآ ءَايَةً لِّلعَالَمِينَ ) (5) .
وحصر الله ذرية البشر في نوح وحده ، وهو أيضاً مما يدلل صراحة على هلاك البشرية إلا نوح والذين معه : ( وَنَجَّينَاهُ وَأَهلَهُ مِنَ الكَربِ العَظِيمِ * وَجَعَلنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ البَاقِينَ * وَتَرَكنَا عَلَيْهِ فِي الأَخِرِينَ * سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي العَالَمِينَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجزِي المُحسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُؤمِنِينَ * ثُمَّ أَغرَقنَا الأَخَرِينَ * ) (6) .
    وتغلبت القرون الأخرى في العالم ، وتعاقبت الأجيال على الكرة الأرضية حتى قوم هود عليه السلام ، وهو من أنبياء العرب فبعثه الله إليهم :
( وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُم هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّن إِلَهٍ غَيرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ) (7) .
الدعوة نفسها ، والغرض واحد ، وهو التوحيد ، فكفروا به بعد أن
____________
(1) نوح : 26 .
(2) الشورى : 13 .
(3) البقرة : 13 .
(4) الطباطبائي ، الميزان في تفسير القرآن : 10 / 266 .
(5) العنكبوت : 15 .
(6) الصافات : 76 ـ 82 .
(7) الأعراف : 65 .

(117)

أبلى هود بلاءً حسناً ، حتى قالوا عنه كما حكى القرآن ذلك :
( إنَّا لَنَرَاكَ في سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكَاذِبِينَ ) (1) . وجادلهم هود في الله ، وأبلغ في الدعوة والدعاء ، وذكرّهم بآلاء الله : ( لِيُنذِرَكُم وَاذكُرُوا إِذ جَعَلَكُم خُلَفَآءَ مِن بَعدِ قَومِ نُوحٍ وَزَادَكُم فِي الخَلقِ بَسطَةً فَاذكُرُوا ءَالاَءَ اللهِ لَعَلَكُم تُفلِحُونَ ) (2) .
    وحذرهم هود ما أستطاع إلى ذلك سبيلاً ، ولكنهم ركبوا رؤوسهم ، واتبعوا أهواءهم ، وتركوا العقل جانباً ، وأستعجلوا العذاب ، فأنبئهم بما حكاه سبحانه وتعالى : ( قَالَ قَد وَقَعَ عَلَيكُم مِّن رَّبِّكُم رِجسُ وَغَضَبٌ ) (3) .
فقطع دابرهم ، واستئصلت شأفتهم ، ونجا هود والمؤمنون : ( فَأَنجَينَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحمَةٍ مِنَّا وَقَطَعنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَبُوا بِئَايَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤمِنِينَ * ) (4) .
    وأرسل الله صالحاً بالرسالة إلى ثمود وهم من العرب البائدة في معجزة بينّة ـ بناء على طلبهم ـ وهي الناقة آية لهم من الله ، قال تعالى : ( وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُم صَالِحاً قَالَ يَا قَومِ اعبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّن إِلَهٍ غَيرُهُ قَد جَآءَتكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَبِّكُم هَذِهِ نَاقَةُ اللهِ لَكُم ءَايَةً ) (5) . فكذبوه بعد أن أعذر إليهم ، وأقدموا على عقر الناقة ، وقد كانت لهم غذاء ورواءً ، ولكنه الطغيان الكامن في نفوس القوم الظالمين ، ( فَأَخَذَتهُمُ الرَّجفَةُ فَأَصبَحُوا فيِ دَارِهِم جَاثِمِينَ * ) (6) .
    وهكذا تتوالى الرسالات بالتوحيد ، ويتوالى الاستكبار والتكذيب ، ولم تكن للناس على الله الحجة ، فقد تابع الرسل والنبيين ، يوقظون الغافل ، ويحركون روح الحياة في النفوس ، فأرسل لوطاً وشعيباً ، فكذبوا ذلك ، وكان عذاب الاستئصال يسوّي آثارهم ، وينسف ديارهم ، فبالنسبة
____________
(1) الأعراف : 66 .
(2) الأعراف : 69 .
(3) الأعراف : 71 .
(4) الأعراف : 72 .
(5) الأعراف : 73 .
(6) الأعراف : 78 .

(118)

لقوم لوط قال تعالى : ( وَأَمطَرنَا عَلَيهِم مَّطَراً فَآنُظر كَيفَ كَانَ عَاقِبَةُ آلمُجرِمِين * ) (1) . وكان العبد الصالح شعيب يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويذكرهم بأنعم الله المتواترة عليهم ، وبما منّ عليهم من خيرات فكذبوه : ( الَّذِينَ كَذَبُوا شُعَيبًا كَأَن لَمْ يَغنُوا فِيهَا الَّذِينَ كَذَبُوا شُعَيبًا كَانُوا هُمُ الخَاسِرِينَ * ) (2) .
    هؤلاء الأنبياء قصصت عليك نبأهم مع أقوامهم من خلال مرور سريع في سورة الأعراف وحدها ، لأن البحث مبنيٌّ على سبيل الاشارة والنموذج والمثال ، والاطالة تعني الخروج من أصول البحث .
    وما زالت البشرية تتمتع بنعم الله الطائلة ، وتتقلب في ألطافه العميمة ، وهي تكذب بآيات الله ، وتجحد آلاء الله فيمسهم العذاب الأليم ، حتى أنعم الله على الانسانية بالرسالة الحنيفية الغراء على يد إبراهيم الخليل وكان الكلدانيون وسواهم عبدة أصنام وسدنة أوثان وحضنة تماثيل ، فدعاهم إلى عبادة الله وتوحيده ، فأبوا واستكبروا ، وظلوا على أوثانهم عاكفين ، فأقسم إبراهيم أن سيكيدها : ( وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصنَامَكُم بَعدَ أَن تُوَلُّوا مُدبِرِينَ * ) (3) ، وهكذا كان فقد هجم عليها وهم في منأى عنه وعنها : ( فَجَعَلَهُم جُذَاذًا إِلاّ كَبِيرًا لَّهُم لَعَلَّهُم إِلَيهِ يَرجِعُونَ * ) (4) .
وأحيطوا به خبراً ، وجاء يهرعون إليه ، بعد أن نذروا به : ( قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِئَالِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعنَا فَتىً يَذكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبرَاهِيمُ * قَالُوا فَأتُوا بِهِ عَلَى أَعيُنِ النَّاسِ لَعَلَهُم يَشهَدُونَ * قَالُوا ءَأَنْتَ فَعَلتَ هَذَا بِئَالِهَتِنَا يا إبرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا فَسْـئَلُوهُم إِن كَانُوا يَنطِقُونَ * ) (5) .
    وسقط في أيديهم ، وألزمهم الحجة ، وأحرجهم بداهة ، فلا نطق ولا جواب ولا تفكير للأصنام ، ولجأوا إلى منطق القوة والجبروت والطغيان :
____________
(1) الأعراف : 84 .
(2) الأعراف : 92 .
(3) الأنبياء : 57 .
(4) الأنبياء : 58 .
(5) الأنبياء : 59 ـ 63 .