بحوث في علم الاجتماع الاسلامي
ونقد النظرية الاجتماعية الغربية



النظرية الاجتماعية

في القرآن الكريم



الدكتور زهير الأعرجي


( 4 )



( 5 )

بسم الله الرحمن الرحيم

( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . . . )
البقرة : 213


( 6 )



( 7 )

مقدمة

يحتوي القرآن الكريم على مقاصد واهداف عظيمة تتعلق بالحياة والكون والانسان ؛ فهو بالاضافة الى كونه كتاب هداية وارشاد للفرد ، كما ورد في النص المجيد : ( إن القرآن يهدي للتي هي أقوم ) (1) ، الا انه يهدف في النهاية الى تبيان حقائق على درجةٍ عظيمة من الأهمية . فالقرآن يتعامل مع معنى الحياة البشرية بما فيها من قضايا الخلق والتكوين ومعرفة النفس ، والتضامن والتآخي الاجتماعي ، والضبط الاخلاقي الاجتماعي ، والتسلية العاطفية والطمأنينة النفسية للمؤمنين به.
فعلى صعيد معاني الوجود ، فإن القرآن يقدم أفضل الإجابات على أخطر الاسئلة التي تشغل بال الانسان حول الوجود والغيب والحياة الابدية ؛ وفلسفته توضح معنى الوجود الانساني في هذه الحياة ، وتيسر فهم اهداف خلق الكون والحياة وعلاقتها بخالق الوجود : ( وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون ) (2)، وتفسر اصل الوجود الالهي ضمن اطار التوحيد : ( ليس كمثله شيء ) (3) ، ( الله الصمد . لم يلد . ولم يولد . ولم يكن له كفؤاً أحد ) (4) . فالانبياء والرسل (ع) ما هم الا حلقات الاتصال بين عالمي
____________
(1) الإسراء : 9.
(2) الذاريات : 56.
(3) الشورى : 11.
(4) الاخلاص : 2 ـ 4.

( 8 )

الغيب والشهادة ، فلاريب ان تكون اولى مهماتهم دعوة الافراد الى الايمان بما وراء العالم المحسوس وهو عالم الغيب : ( وعنده مفاتح الغيب لايعلمها الا هو ... ) (1) ، ( عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احداً الا من ارتضى من رسول ) (2) ، ( الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) (3) . وقد دعانا القرآن الى الايمان بالغيب عن طريق الوحي فقط ، لأن العقل ، وان كان مرشداً الى امور الغيب ، الا انه ليس كاشفاً عنها . فالذي لايدرك بالحس يعتمد وجوب الايمان به عن طريق الوحي مباشرة ، وعن طريق العقل بواسطة . فقد اخبرنا الوحي بوجود الله سبحانه ، ووجود الملائكة والجن ، والمعاد والحساب يوم القيامة ؛ إلا انه ليس هناك من دليل أعظم من الدليل العقلي في اثبات وجود الصانع . ولا شك ان الايمان بالغيب يستوجب حتمية البعث والنشر بعد الموت : ( وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ) (4) ، أو كما قال أمير المؤمنين (ع) : ( عجبت لمن أنكر النشأة الاخرى ، وهو يرى النشأة الاولى ) . فالقرآن يؤكد على ان الحياة الانسانية لا تفنى بموت الانسان في الدنيا ، بل انها خالدة خلود الأبد : ( قل الله يحييكم ثم يميتكم ثم يجمعكم الى يوم القيامة لاريب فيه ) (5).
وعلى صعيد التضامن والتآخي الاجتماعي ، فان القرآن يقوم بتوحيد المؤمنين على محور العبودية لله ، ويجمعهم تحت راية العقيدة المشتركة
____________
(1) الانعام : 59.
(2) الجن : 26 ـ 27.
(3) البقرة : 3.
(4) الروم : 27.
(5) الجاثية : 26.

( 9 )

والمصير الواحد : ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) (1) ، ويدعوهم الى الارتباط الاجتماعي : ( يا ايها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون ) (2) ، وعدم التنازع : ( ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) (3) ، والتعاون على الخير : ( وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الاثم والعدوان ) (4) ، والتلبس بالخلق الحميد : ( وانك لعلى خلقٍ عظيم ) (5) ، ( ولاتستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فاذا الذي بينك وبينه عداوةٌ كأنه وليٌ حميم ) (6) ، والتأكيد على صلة الرحم : ( والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب ... اولئك لهم عقبى الدار ) (7) ، وإكرام الجار : ( والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب ) (8).
وعلى صعيد الضبط الاخلاقي الاجتماعي ، فان القرآن الكريم يرشد الامة الى تنظيم شؤونها الاجتماعية عن طريق تقديم نظام اجتماعي الهي في غاية الكمال ، فيدعوها ـ على النطاق السياسي ـ الى طاعة الولاية الشرعية : ( انما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة
____________
(1) آل عمران : 103.
(2) آل عمران : 200.
(3) الانفال : 46.
(4) المائدة : 2.
(5) القلم : 4.
(6) فصلت : 34.
(7) الرعد : 21 ـ 22.
(8) النساء : 36.

( 10 )

ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) (1) . وعلى النطاق القضائي ، يدعوها الى العدالة القضائية : ( وان حكمت فاحكم بينهم بالقسط ) (2) . وعلى النطاق العائلي ، يدعوها الى حفظ الحقوق الزوجية المادية والمعنوية : ( وعاشروهن بالمعروف فان كرهتموهن فعسى ان تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ) (3) . وعلى النطاق التعليمي ، يدعوها الى طلب العلم : ( وقل ربي زدني علماً ) (4) وعلى نطاق الانحراف الاجتماعي فإنه يعالج مشكلة الجريمة معالجة صارمة بتشريع القصاص والحدود والديات : ( ولكم في القصاص حياة يا أولي الالباب لعلكم تتقون ) (5) . وعلى نطاق العدالة الاجتماعية ، فانه بعد ان يعلن بأن الأرض بخيراتها الهائلة انما خلقت لجميع الافراد : ( هو الذي خلق لكم ما في الارض جميعاً ) (6) ، يأمر ـ بعدئذٍ ـ بعدالة توزيع هذه الخيرات عليهم : ( ان الله يأمر بالعدل والاحسان ) (7) ، ( وقد خاب من حمل ظلما ) (8) . وباجتماع هذه العناصر الاساسية للنظام الاجتماعي ، تنشأ الدولة القرآنية بكل مؤسساتها الاجتماعية رافعةً لواء العدالة والمساواة بين جميع افراد المجتمع الانساني.
وعلى صعيد التسلية العاطفية والطمأنينة النفسية للفرد ، فان القرآن
____________
(1) المائدة : 55.
(2) المائدة : 42.
(3) النساء : 19.
(4) طه : 114.
(5) البقرة : 179.
(6) البقرة : 29.
(7) النحل : 90.
(8) طه : 111.

( 11 )

مثلما يسلي الانسان المؤمن وقت المحن بتذكيره بأن الموت انما هو انتقال لعالم لاعناء فيه ولا شقاء : ( سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ) (1) ، ( يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم ) (2) ، فانه في الوقت ذاته يعرف الفرد بنفسه مثلما يعرفه بخالقه العظيم . واول اكتشاف يكتشفه الانسان عن طريق القرآن ، هو ان للنفس الانسانية قابلية عظيمة على تنمية الخير أو انشاء الشر ، واستعداداً عظيماً لعمل الطيبات والحسنات أو لفعل السيئات والخبائث : ( ونفسٍ وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها ) (3) ؛ وما على المكلف الا سلوك الطريق الذي رسمه له القرآن . فالقرآن اذن يمنح الانسان المؤمن بالتوحيد فهماً دقيقاً لمعنى وجوده في الحياة ويعطيه فهماً لاسباب التعاون الاجتماعي ، ويقدم له قاعدة فكرية تعلن ان وجوده في الاصل منبثق عن مبداً الكمال المطلق ، وان حياته الدنيوية بما فيها من اجتماع انساني ونظام يهذب علاقات الافراد انما هي إعداد لمرحلة اخرى ينتفي فيها العناء والشقاء ويتحقق التلبس بالسعادة الابدية.
ان هذا الكتاب مجرد محاولة ابتدائية لاكتشاف النظرية الاجتماعية الاسلامية عبر محاكاة كتاب الله الخالد ، والانصات لتعاليمه الالهية العظيمة في شؤون الاجتماع الانساني وتنظيم شؤون الافراد ومصالحهم . وهذا البحث هو زبدة ابحاث كتابنا ( المجتمع الاسلامي ) والتي حالت بعض
____________
(1) الرعد : 24.
(2) الحديد : 12.
(3) الشمس : 7 ـ 8.

( 12 )

الظروف على تأخير نشره . فان كنت صائباً في طرح اراء الاسلام فبتوفيقٍ من الله سبحانه وتعالى ؛ وان كنت مخطئاً فمن نفسي القاصرة .
ربي انت المستعان ، ولك الحمد في الاولى والآخرة . وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب.

زهير الاعرجي
قم المشرفة | ربيع الاول 1415 هـ.



( 13 )

اطروحة الكتاب

ان رسالة عظيمة كالرسالة الاسلامية لابد وان تكون وليدة مصدر مطلق ينظم شؤون الكون ، والانسان ، والنظام الاجتماعي الذي يعيش تحت ظلاله مجموع الافراد . ولاشك ان القرآن المجيد ـ وهو كتاب الرسالة الالهية الخالد ـ يقدم لنا ملامح رائدة لمنهج النظام الاجتماعي الاسلامي ، ويعرض علينا نظرية رائعة لتنظيم مجتمعنا الاسلامي على ارقى طراز في العدالة الاجتماعية ، ومعالجة الانحراف الاجتماعي ، ورسم السياسة الصحية والتعليمية والعائلية والقضائية والسياسية للدولة الاسلامية.
فقد آمنت النظرية القرآنية ـ بالاصل ـ بعدالة توزيع الثروة الاجتماعية ـ مهما كان حجمها ـ بين الافراد . وحتى ان اختلاف ادوار الافراد ودرجات نفعهم الاجتماعي لايقدم تبريراً مقنعاً لانعدام العدالة الاجتماعية ، كما حاولت النظرية التوفيقية بريادة ( اميلي ديركهايم ) او نظرية ( ماكس وبر ) اقناعنا بذلك . بل ان تفاوت قابليات الافراد في التحصيل ، وتحرك الثروة العينية والقيمية في المجتمع ينتج اختلافاً في درجات العيش ضمن الطبقة الواحدة فحسب ، ولا يتطلب تعداداً للطبقات الاجتماعية كما تؤكد النظريات الاجتماعية الغربية.
ولعل اهم ما يميز النظرية القرآنية في علاج الفوارق بين الطبقات الاجتماعية هو ايمانها الجازم بان للفقراء حقاً في اموال الاغنياء . وهذا الحق ينبع من قاعدة اصالة اشباع حاجات الافراد الاساسية من الطعام واللباس والسكن التي آمنت بها النظرية الاسلامية ، وحاولت تطبيقها عبر الضرائب الثابتة الواجبة على الثروة الحيوانية والمعدنية والنقدية . وبالاجمال ، فان الاسلام خصص اكثر من ربع الثروة الاجتماعية لمساعدة الفقراء والمساهمة في المشاريع والخدمات الاجتماعية التي ترفع من مستواهم وتمنحهم فرصاً حقيقية للعمل والانتاج ؛ في حين ان مخصصات الدول الصناعية الغربية لمعالجة الفقر لا تتجاوز اثنين بالمائة من اجمالي الدخل السنوي للانظمة الرأسمالية.
وعلى صعيد الانحراف الاجتماعي ، فان النظرية القرآنية تقدم علاجاً رائعاً لمشكلة الانحراف عن العرف الاجتماعي والارتكاز العقلائي الذي آمن به الافراد في المجتمع الاسلامي . فعن طريق المشاركة الجماعية في دفع ثمن الجريمة بواسطة ( العاقلة ) في حالة الخطأ او ( ولي الامر ) في حالة قصور الجاني ، وعن طريق المساواة التامة بين جميع الافراد امام القضاء والشريعة ، وعن طريق العقوبة التنفيذية الصارمة ضد المنحرفين كالقصاص والدية والتعزير ، يتم استئصال جذور الانحراف في المجتمع الانساني ؛ لان الاصل في العقوبة الشرعية هو الردع وليس الانتقام .


( 14 )

ولاشك ان النظرية القرآنية في العقوبات تتفوق على النظريات الاجتماعي الغربية المعاصرة ـ كنظرية ( الانتقال الانحرافي ) لـ ( أدوين سوذرلاند ) ، ونظرية ( القهر الاجتماعي ) لـ ( أميلي ديركهايم ) ، ونظرية ( الضبط الاجتماعي ) لـ ( أميلي ديركيهايم ) ايضاً ، ونظرية ( الالصاق الاجتماعي ) لـ ( هاورد بيكر ) ـ باشتمالها على تفاصيل دقيقة في اوصاف الانحراف ، وصفات المنحرف ، والتمييز بين حقوق الفرد وحقوق الله ( وهي مطابقة لحقوق الجماعة ) ، وتعويض الضحية او متعلقيها تعويضاً مالياً يسد حاجاتهم الاساسية التي حرموا من اشباعها بفقدان المعيل ، ووجوب الرد على الغاصب وضمانه تلف المادة المغصوبة ، ووجوب اعادة المادة المسروقة ( الغرم ) حيث لا يسقط عنه بحال من الاحوال حتى مع اقامة الحد . ولاشك ان ( السجن ) ـ في النظرية القرآنية ـ لايحمل عقوبة رادعة ، في حين ان النظريات الاجتماعية الغربية جعلت ( السجن ) المصدر الرئيسي والساحة الحقيقية لمعالجة الانحراف . الا ان فشل السجون بتقويم المنحرفين وضع النظريات الاجتماعية الغربية في موضع حرج للغاية ، فحاولت استبدال عقوبة ( السجن ) بعقوبة ( تعليق الحكم ) بشرط ان يجد المجرم عملاً يرتزق منه ، وان لا يرتكب جريمة جديدة خلال فترة التعليق . وهو تراجع واضح في نظام العقوبات الغربي.
وعلى صعيد السياسة التعليمية ، فان النظرية القرآنية تعتبر الحقيقة العلمية اليقينية شيئاً قطعياً لا يمكن انكارها ؛ وما التعليم الا طريق يوصلنا الى ادراك تلك الحقيقة العلمية ، واستخدامها لتيسير حياتنا الفردية والاجتماعية . ولاشك ان الاصل العقلائي في تعلم العلوم الاجتماعية والتجريبية والدينية هو بناء النظام الاجتماعي وبناء الفرد بشكل يجعله مرتبطاً بالخالق سبحانه وتعالى اولاً ، وقادراً على تأدية التكاليف الشرعية ثانياً ، وقادراً على اشباع حاجاته الاساسية ثالثاً . ومع ان ( المدرسة العامة ) ـ التي تهتم بتعليم جميع الافراد دون استثناء ـ قد نشأت مع ظهور الدولة الحديثة ، الا ان هناك الكثير من الادلة الشرعية الاسلامية التي أكدت على التعليم الجماعي لكل الافراد ـ منذ الصغر ـ في الدولة الاسلامية . فالطفل يعتبر قاصراً وعلى وليه الاهتمام بمصلحته العلمية ومستقبله الاجتماعي ؛ بل ان من مسؤوليات ولي أمر الأمة بناء الدولة الاسلامية ، وما التعليم الا تهيئة مقدمات بناء الدولة من خلال بناء الافراد علمياً وثقافياً قبل البلوغ ؛ أضف الى ذلك ان العلم يقرب المكلف من خالقه عز وجل ، ويجعله من اكثر الافراد تطبيقاً للاحكام الشرعية ، ومن اقوى الافراد فهماً لدور الدين في النظام الاجتماعي . ولاشك ان المساواة العامة بين الافراد ، والعدالة الاجتماعية التي جاء بها الاسلام ، تعتبران دعماً حقيقياً للمساواة في نظام التعليم العام .
وعلى صعيد السياسية الطبية ، فلما كانت الصحة الجسدية والنفسية للافراد مرتبطة بالانتاج الاجتماعي ، فان تدخل الدولة لمعالجة الامراض أصبح امراً حتمياً


( 15 )

لأنه من الضروريات . ودور الدولة هذا ينبع من اهتمامها الشرعي بالفرد والجماعة ، وينبع ايضاً من اهتمام ولي الامر الفقيه بمصلحة من يتولاهم من الافراد . ولاشك ان النظرية القرآنية قدمت ثلاثة مشاريع متوازية لتكامل النظام الصحي للفرد والجماعة ؛ اولها : النظام الوقائي ، وهو النظام الذي يعالج الحالة المرضية قبل وقوعها عن طريق تنظيم دخول المواد الغذائية الى جسم الانسان . وثانيها : النظام الغذائي ، وهو النظام الذي يبعث في الافراد كل ألوان الطاقة والنشاط والتفكير . وثالثها : النظام العلاجي ، وهو النظام التجريبي الذي لابد ان يستخدمه الفرد في الحالات المرضية الاستثنائية ، وقد جاء التأكيد الشرعي عليه من باب احترام القرآن الكريم للحياة الانسانية المتمثل في قوله تعالى : ( ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً ) المائدة : 32.
ولاشك ان الاسلام يضمن معيشة المريض وعائلته ضماناً مالياً الى حد الشفاء والرجوع الى الساحة الانتاجية . ولاشك ان اتفاق الفقهاء على ان الطبيب يضمن ما اتلف بعلاجه ضمن شروط معينة ، يعكس تكامل الفكرة الاسلامية حول السياسة الطبية في النظام الاجتماعي الاسلامي.
وعلى صعيد السياسة العائلية ، فان النظرية القرآنية تتناول دور العائلة في تعويض الخسارة البشرية للمجتمع الناتجة بسبب الموت ، وضبط وتهذيب السلوك الجنسي ، وحماية الافراد وتربيتهم واشباع حاجاتهم العاطفية ، وتنميتهم للاختلاط والتفاعل الاجتماعي لا حقاً ؛ بل ان القرآن الكريم اعتبر ( الاسرة ) محطة استقرار لعالم متحرك تنتقل من خلاله ممتلكات الجيل السابق للجيل اللاحق عن طريق الأرث والوصية الشرعية ، ومحطة لفحص وتثبيت انساب الافراد عن طريق اعلان المحرمات النسبية والسببية الناتجة عن الزواج وجواز الاقرار بالنسب . فالعائلة ـ اذن ـ تساهم في خلق الفرد الاجتماعي الصالح للعلم والانتاج ، المشارك في بناء النظام الاقتصادي والسياسي للمجتمع الاسلامي . وبذلك فان الاسلام يعارض نظرية ( الصراع الاجتماعي ) التي آمنت بأن المؤسسة العائلية هي اول مؤسسة اضطهادية يختبرها الفرد في حياته الاجتماعية ، ويعارض النظرية التوفيقية التي ساندت العائلة الرأسمالية واعتبرتها من انجح التشكيلات الاجتماعية على الرغم من ظاهرة العنف والاضطراب التي تمزق تلك العائلة الرأسمالية اليوم.
وعلى صعيد النظام السياسي ، فان النظرية القرآنية أولت ( الولاية الشرعية ) في المجتمع الاسلامي أهمية خاصة ؛ لان الولاية لازمة بالبديهة ، بل ان السؤال الذي اختلف حوله المسلمون بعد وفاة النبي (ص) لم يكن في اصل الخلافة ، وانما كان في موضوع الخلافة والمواصفات التي يجب ان يتحلى بها الخليفة الذي يتحمل مسؤولية الولاية الشرعية والاشراف على تنظيم شؤون الافراد في المجتمع الاسلامي


( 16 )

ولعل نضوج الفكرة الشرعية لولاية الفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة يعتبر من اعظم الادلة على ضرورة اقامة الدولة الاسلامية وادارة شؤون الافراد على ضوء النظرية الفقهية . فيثبت عن ولاية الفقيه الشرعية للمجتهد : الافتاء ، والقضاء ، والجهاد ، والتصرف في اموال الناس وأنفسهم ، وكل فعل لابد من ايقاعه للادلة اللبية والشرعية كعزل الاوصياء والتصرف في الاوقاف العامة ونحوها ، وهو يعكس بشكل صريح اساس الحكومة في النظام الاجتماعي.
ولاشك ان وجود الدولة يعتبر عنصراً اساسياً في تحقيق العدالة الاجتماعية التي نادى بها الاسلام ؛ فهي التي تشرف على توزيع الخيرات ، وهي التي تخطط لمستقبل البلاد السياسي والاجتماعي والاقتصادي ، وهي التي تقيم علاقاتها مع الدول الاخرى حتى يتحقق العدل الاجتماعي في جميع اقطار الارض.
وبطبيعة الحال ، فان العقد الاجتماعي بين الفرد والدولة الذي جاء به ( توماس هوبس ) وطوره ( جان ـ جاك روسو ) يرفضه الاسلام باعتبار ان امتثال المكلف لطاعة الرسل (ع) وللانظمة الاجتماعية التي يقيمونها لا يمكن وصفه بالعقدية لانتفاء صفة العقد عنه . ويرفض الاسلام ـ ايضاً ـ فلسفة ( الدولة ) في النظريتين ( التوفيقية ) و( الصراع الاجتماعي ) ، باعتبار ان العدالة الاجتماعية ـ حسب النظرية الاسلامية ـ يجب ان تكون الاصل في انشاء تلك الدولة وليس الصراع الاجتماعي المزعوم.
وعلى صعيد النظام القضائي ، فان القضاء في النظرية القرآنية هو ميزان الحق ، ووسيلة رادعة وفعالة من وسائل حفظ النظام الاجتماعي ؛ لان منصة القضاء لاتمنح الا للعارف باحكام الله ، المجتهد العادل الامين الثقة الذي يستطيع استرجاع الحق المغصوب من الظالم ، او انزال القصاص العادل بالجاني ، او اجبار المعتدي على تعويض الضحية مالياً.
ولاشك ان الاسلام يرفض افكار ( اميلي ديركهايم ) الزاعمة بان الجريمة ضرورية لتماسك المجتمعات الانسانية بدعوى انها تعرف حدود السلوك المقبول ، لان الشريعة هي التي حددت ابعاد السلوك المقبول ولم تتركه لتصورات العرف الاجتماعي . ويرفض ـ ايضاً ـ حكم هيئة المحلفين باعتبار ان الحاكم الشرعي يجب ان يكون مجتهداً ، والا فما قيمة الجاهل باحكام القضاء حتى لو اقسم اليمين المغلظة على كونه عادلاً ، وأصبح عضواً في هيئة المحلفين.
ونستنبط ـ عبر دراسة الاطار الشامل للمؤسسات الاجتماعي على ضوء هدى القرآن المجيد ـ ان لهذا الكتاب السماوي العظيم دوراً عظيماً في انشاء نظرية اجتماعية الهية هي النظرية الاجتماعية القرآنية التي تتفوق ـ اليوم وفي كل وقت ـ على كل النظريات الاجتماعية على وجه الارض.


( 17 )

الفصل الاول
العدالة الاجتماعية على ضوء القرآن الكريم

الاجر والمكافأة الاجتماعية * معالجة الفوراق بين الطبقات الاجتماعية * تعريف الفقر والفقراء * على أي أساس يتم التفاضل ؟ * الضمان والتكافل الاجتماعي في الاسلام * نقد فكرة ( العدالة الاجتماعية ) في النظريات الغربية الأربع * الاسباب الداعية لاستمرار الظلم الاجتماعي : 1 ـ السيطرة على منابع القوة . 2 ـ النظام الاجتماعي لطبقة الاقوياء.


( 18 )



( 19 )

الاجر والمكافأة الاجتماعية

لاشك ان مشروعية وجواز الاجارة شرعاً وعرفاً لايحتاج الى مزيد بيان ، باعتبار ان البشرية ـ وعلى مر العصور ـ أكدت على ضرورة دفع العوض أو الأجر مقابل العمل الذي يقوم به الفرد ، أو المنفعة التي يملكها . وقد امضى الشارع ذلك العرف بقوله تعالى في آية الرضاع : ( فإن أرضعن لكم فآتوهن اجورهن ) (1) ، وقوله في آية المتعة : ( فما استمتعتم به منهن فآتوهن اجورهن فريضة ) (2) . وجاء في الآية 32 من سورة الزخرف : ( ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا ) . حيث ورد في تفسيرها ان معنى التسخير هو ان يستسخر الناس بعضهم البعض الآخرة لقاء أجر معين . بمعنى « ان الوجه في اختلاف الرزق بين العباد في الضيق والسعة زيادة على مافيه من المصلحة ان في ذلك تسخيراً من بعض العباد لبعض ، بإحواجهم اليهم يستخدم بعضهم بعضاً ، فينتفع أحدهم بعمل الآخر له فينتظم بذلك قوام أمر العالم » (3).
والسؤال المطروح اليوم على الساحة الفكرية الاجتماعية هو هل ان اختلاف اجور العمل والمكافأة الاجتماعية بين الافراد يؤدي الى ترسيخ
____________
(1) الطلاق : 6.
(2) النساء : 24.
(3) مجمع البيان ج 9 ص 61.

( 20 )

فكرة العدالة الاجتماعية ، أم يؤدي الى انعدامها ؟
فأجابت النظرية الغربية المسماة بـ ( المدرسة التوفيقية ) ـ وهي المدرسة التي لا ترى مبرراً للصراع الاجتماعي تحت ظل النظام الرأسمالي القائم اليوم ، وروادها علماء اجتماع امثال ( اميلي ديركايهم ) ، و( هربرت سپنسر ) ، و( تالكوت بارسنس ) وغيرهم ـ بان انعدام العدالة الاجتماعية ضمن اطار اختلاف اجور العمل والمكافأة لها نواحٍ ايجابية نافعة للنظام الاجتماعي (1) ؛ لأن اختلاف ادوار الافراد على ضوء المهارة الشخصية والابداع يخدم اهداف النظام الاجتماعي والمجتمع بكافة افراده . وطالما كانت هذه الادوار تتطلب جهداً جسدياً وفكرياً متبايناً ، فقد تباين الافراد في استلام المكافآت الاجتماعية . ولأن الطبيب أكثر نفعاً في المجتمع من العامل غير الماهر ، كان المفترض مكافأة الطبيب مكافأة تفوق مكافأته لذلك العامل غير الماهر . وهذا التزيع غير المتكافئ للثروة والمكافآت الاجتماعية ضروري ـ حسب رأي هذه المدرسة ـ في ثبات واستقرار النظام الاجتماعي ؛ لأن المال ، والمكافأة الاجتماعية ، هما اللذان يجذبان الافراد نحو انجاز الاعمال التي تتطلب جهداً أشد من بقية الادوار الاجتماعية الاخرى . وعلى ضوء ذلك ، فان انعدام العدالة الاجتماعية نتيجة واقعية لثبات واستقرار النظام الاجتماعي . ولكن هذه المدرسة جوبهت بنقد شديد من قبل مفكري المدارس الاجتماعية الاخرى ، لأنها بررت ـ بشكل صارخ ـ التفاوت الواسع في نظام الاجور والمكافآت الاجتماعية في النظام الرأسمالي .
____________
(1) ( كنكسلي ديفيز ) و( ولبرت مور ) . « بعض مبادئ انعدام العدالة الاجتماعية » . مقالة علمية في ( المجلة النقدية الامريكية لعلم الاجتماعي ) ، عدد 10 ، 1945 م . ص 242 ـ 249.

( 21 )

فالمدرسة التوفيقية أهملت تماماً ضوابط العدالة الاجتماعية ، أي ضمان الحد الأدنى للاجور التي تضمن معيشة كريمة لكل العاملين في المجتمع على اختلاف اختصاصاتهم المهنية ودرجة نفعهم الاجتماعي . ولاشك ان انعدام العدالة الاجتماعية لا يؤدي الى ثبات واستقرار النظام الاجتماعي ، بل يؤدي الى اختلال الموازين الاساسية في اشباع حاجات الافراد وتمتعهم بالثروات الاجتماعية.
اما النظرية الاسلامية فقد نادت بالعدالة الاجتماعية ، لا من باب عدالة الاجر والمكافأة الاجتماعية التي أمضاها الشارع فحسب ، بل من باب عدالة توزيع الثروة الاجتماعية . فزيادة الثروة في المجتمع ، لم تكن بالضرورة عاملاً من عوامل نشر الظلم والحرمان الاجتماعي ، كما ترى المدرسة الغربية التلفيقية التي وعدت بانتخاب محاسن المدرستين التوفيقية والماركسية (1) ؛ لأن العدالة الاجتماعية ترتبط في الأصل بنظام يساهم في توزيع عادل للثروة ، ولا ترتبط بالزيادة المالية نفسها . وهناك شواهد تاريخية عديدة تؤكد صدق هذا الرأي ، كما ورد في كتب التاريخ عن رجوع الصدقات الى بيت المال في صدر الاسلام ، لأن الثروة المالية انتشرت عن طريق التوزيع بين عدد كبير من الافراد ولم تتكدس بأيدي جماعة محدودة العدد . وليس غريباً ان نرى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) يأبى الا ان يرجع الاموال التي منحها الخليفة الثالث لأقربائه وخاصته ، قائلاً بشأن ذلك : ( والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الإماء لرددته ، فإن في
____________
(1) ( جيرهارد لينسكي ) ، السلطة والامتيازات : نظرية في انعدام العدالة الاجتماعية . نيويورك : ماكرو ـ هيل ، 1966 م.

( 22 )

العدل سعة ، ومن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق ) (1) . اضف الى ذلك ، فان الوازع الاخلاقي الذي يتحسس لآلام المعذبين والمستضعفين يجعل التنافس الاقتصادي عملية يقوم بها الافراد من أجل التكامل الاجتماعي ، لا مجرد تكديس المال.
____________
(1) نهج البلاغة ـ باب فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان . خطبة 15.