الفصل الثاني
الانحراف الاجتماعي ومعالجته
على ضوء النظرية القرآنية

النظرية القرآنية في معالجة الانحراف الاجتماعي * الانحرافات الاجتماعية الرئيسية واساليب معالجتها : 1 ـ جرائم الاعتداء على النفس البشرية وما دونها 2 ـ جرائم ضد الملكية 3 ـ الجرائم الخلقية 4 ـ جرائم ضد النظام الاجتماعي العام * النظريات الاجتماعية الغربية بخصوص الانحراف ونقدها * نظام العقوبات : نقاط مقارنة بين النظرية القرآنية والنظرية الغربية * الاضطراب العقلي * الاسلام والتأثيرات الاجتماعية للانحراف.


( 52 )



( 53 )

النظرية القرآنية في معالجة الانحراف الاجتماعي

ربما يعزى نجاح النظرية القرآنية في تحليلها ومعالجتها لظاهرة الانحرف الاجتماعي الى أربعة اسباب رئيسية ، لم تلتفت اليها النظريات الاجتماعية المعاصرة كنظريات ( الانتقال الانحرافي ) ، و( القهر الاجتماعي ) ، و( الضبط الاجتماعي ) ، و( الالصاق الاجتماعي ) التي سنتناولها بالنقد لا حقاً باذن الله . وهذه الاسباب الاربعة هي : الاول : العدالة الاجتماعية والاقتصادية التي جاء بها الاسلام وحاول تطبيقها على الافراد . الثاني : العقوبة الصارمة ضد المنحرفين كالقصاص والدية والتعزير . الثالث : المساواة التامة بين جميع الافراد امام القضاء والشريعة في قضايا العقوبة والتأديب والتعويض . الرابع : المشاركة الجماعية في دفع ثمن الجريمة والانحراف ، كإلزام عائلة المنحرف دفع دية القتيل عن طريق الخطأ ، ودفع دية القتيل الذي لا يعرف قاتله من بين المال.
فعلى الصعيد الاول ، نادى الاسلام بالعدالة الاجتماعية واعتبرها الاساس في بناء المجتمع السليم من الانحرافات الشخصية القائمة على الاساس الاقتصادي أو السياسي ، كالغصب والسرقة والاعتداء على حقوق الآخرين . وقد فصلنا القول في ذلك في الفصل الثاني من هذه الكتاب.
وعلى الصعيد الثاني ، فان ديناً متكاملاً كالاسلام لابد وان يطرح


( 54 )

للانسانية المعذبة نظاماً يعالج فيه مختلف زوايا الانحراف ، ويحلل من خلاله ـ بكل دقة ـ دوافع الجريمة في المجتمع الانساني ، ويشرع ـ على ضوء ذلك ـ احكاماً صارمة لقلع منشأ الانحراف من جذوره النابتة في عمق النفس البشرية ؛ لأن الخالق عز وجل أدرى بتلك النفس الانسانية التي صممها وأنشأها : ( ونفس وما سواها فألهما فجورها وتقواها ) (1) . فمن أجل مكافحة الجريمة وتعويض الضحية ، صنف النظام الاسلامي العقوبات الى قسمين ؛ هما : العقوبات الأدبية والعقوبات المادية . فالعقوبات الأدبية تشمل جانبين ايضاً ؛ وهما : الاول : الحدود ، وهي العقوبات المقدرة في الكتاب والسنة ؛ بمعنى ان الشارع لم يسمح للقاضي الشرعي التصرف في أمر تقديرها ، كالقصاص في جرائم القتل والقطع والجرح ، كما اشار قوله تعالى الى ذلك : ( ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الالباب ) (2) ، وعقوبات الزنا ، واللواط ، والسحاق ، والقيادة ، والقذف ، والسرقة ، والسكر ، والارتداد ، وقطع الطريق . والثاني : التعزيرات ؛ وهي العقوبات التي فوض أمر تقديرها وتحديدها لنظر الحاكم الشرعي ، فيعاقب عليها بما يراه مناسباً ، كعقوبة التزوير والغيبة ونحوها.
والعقوبات المادية : هي الديات ، أو المال الواجب دفعه بسبب الجناية على النفس أو مادونها : ( وما كان لمؤمن ان يقتل مؤمناً الاخطأً ، ومن يقتل مؤمناً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ، ودية مسلمةٌ الى أهله الا ان
____________
(1) الشمس : 7 ـ 8.
(2) البقرة : 179.

( 55 )

يصدقوا ) (1) . وتشمل جانبين ايضاً ، وهما : اولاً : الديات المقدرة على لسان الشارع ، كدية النفس والاعضاء ، وثانياً : الديات التي فوض أمر تقديرها الى الحكومة ، أو الخبراء الموثوق بهم.
وبالاجمال : فان الاسلام صنف الانحراف الى اربعة اصناف ، وهي :
1 ـ جرائم الاعتداء على النفس البشرية وما دونها ، وفيها القصاص أو الدية مع الشروط.
2 ـ جرائم ضد الملكية وفيها القطع ، والمقاصة ، ووجوب رد المغصوب.
3 ـ الجرائم الخلقية ، وفيها الرجم والقتل والجلد.
4 ـ جرائم ضد النظام الاجتماعي ، كالمحاربة والاحتكار ونحوها وفيها التعزير أو الغرامة ، وأوجب في الديات غير المقدرة شرعاً الارش أو الحكومة.
وهذه الاحكام الشرعية هدفها الردع أكثر من الانتقام ، حتى ان القصاص الذي يبدو ظاهراً قضية انتقامية يؤدي في الواقع دوراً اساسياً في ردع الانحراف وتأديب المنحرفين ؛ فانزال الاذى المماثل بالجاني أمضى تأثيراً من عقوبة السجن ، التي آمن بها النظام القضائي الغربي (2) . والسارق الذي تؤدبه الشريعة الاسلامية بقطع اليد يعتبر أكثر انتاجاً من السارق الذي يقبع في سجون الانظمة الرأسمالية مثلاً سنوات معطلاً طاقته الانتاجية ومستهلكاً موارد النظام الاجتماعي . وما ان يخرج الى اجواء الحرية مرة
____________
(1) النساء : 92.
(2) ( ارفينك كوفمان ) . اللجوء : بحوث حول الموقف الاجتماعي للمصابين بالامراض العقلية ونزلاء السجون . شيكاغو : آلدين ، 1961 م.

( 56 )

اخرى حتى يرتكب انحرافاً مماثلاً لذلك ادخله السجن أول مرة.
وعلى الصعيد الثالث ، فان الاسلام نادى بالمساواة بين الافراد في العقوبة والتعويض ، فالسارق مع توفر الشروط يقطع حتى لو كان يشغل أعلى وظيفة سياسية في الدولة لإطلاق الآية الكريمة ( والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما ) (1) ، وعدم تخصيصه بفئة معينة من السراق مثلاً . والزاني مع توفر الشروط يقام عليه الحد كائناً من كان . ولا يستثنى أحد لسبب طبقي أو وراثي من اقامة الحدود الشرعية . وهنا يكمن الفرق بين النظامين التشريعي الاسلامي والقضائي الغربي الرأسمالي . ففي حين يفلت مجرمو الطبقة الرأسمالية من قبضة العقاب ، باعتبار ان العقاب المعنوي لافراد الطبقة العليا اشد ايلاماً من العقاب الجسدي ؛ يصون التشريع الاسلامي النظام القضائي من عبث الاصابع البشرية التي يدفعها الهوى والطموح الشخصي . وبعد اربعة عشر قرناً من الزمان ، لم يستطع مقننٌ واحد ـ أياً كان مذهبه ـ من تغيير حكم القرآن في قطع يد السارق أو قتل القاتل المتعمد أو جلد الزانية والزاني ؛ في حين ان القوانين الوضعية تبدلت تبدلاً جذرياً خلال القرون الماضية من عمر البشرية.
ولاشك ان الافراد جميعأً بمختلف ألوانهم وهيئاتهم متساوون امام الشارع ، فالاسود والابيض والاصفر سواسية كاسنان المشط في مثولهم امام الحاكم الشرعي وانزال العقاب بهم أو تبرئتهم : ( ان الله يأمر بالعدل
____________
(1) المائدة : 38.

( 57 )

والاحسان ... ) (1) ، ( ان الله يحب المقسطين ) (2) ، بل ان الشارع يعاقب من يميز على اساس اللون ، أو يتعدى حدود القصاص ، ويلزمهم بدفع مقدار التعدي.
ولابد ان نذكرهنا ، ان النظرية الاسلامية قد ميزت الانحراف بانواعه وطرقه المتعددة ، واعتبرت فيه الاسباب الموجبة . فاخذت الاضطراب العقلي ، وعدم البلوغ مثلاً ، بعين الاعتبار في انشاء الحكم على القاتل . وميزت بين قتل العمد ، وقتل الخطأ ، والقتل الشبيه بالخطأ ؛ وافردت لكل واحد منها حكماً خاصاً . وأعطت الشريعة للاحداث والصبيان فرصة لعلاج انحرافهم بدل إنزال العقاب بهم.
وعلى الصعيد الرابع ، فان الاسلام شجع المشاركة الجماعية في دفع الانحراف بطرق عديدة ؛ منها : اولاً : ان ولي الامر مسؤول شرعاً عن دفع الدية اذا ارتكب من يتولاه انحرافاً يستوجب دفع تلك الغرامة . ثايناً : ان العلاقة الاسرية التي أكد عليها الاسلام تساهم من خلال التعاون والتآزر على اصلاح الفرد المنحرف في الاسرة . ثالثاً : العاقلة ، وهم العصبة من قرابة الاب كالاخوة والاعمام واولادهم ، التي تتحمل دية القتل الخطأ ، ودية الجناية على الاطراف ونحوها ، ضمن شروط معينة . والمدار في كل ذلك ان الافراد في المجتمع ملزمون اخلاقياَ ، بارشاد واصلاح ذويهم ودرء خطر الانحراف عنهم.
____________
(1) النحل : 90.
(2) الممتحنة : 8.

( 58 )

الانحرافات الاجتماعية الرئيسية واساليب معالجتها

ولاشك ان الانحرافات التي فصلتها الشريعة وأوجبت فيها العقوبات الادبية والمادية ، تأخذ مجريين شرعيين ؛ الاول : ما يستدعي ارتكابها التعدي على حقوق الله سبحانه وتعالى ، وهي الزنا واللواط وشرب المسكر ؛ لأنها تعد مخالفة لأمر الله ، ولا يجوز العفو فيها بعد قيام البينة وثبوت الحد . والثاني : ما يستدعي ارتكابها التعدي على حقوق الله وحقوق الفرد معاً ، كالقذف والسرقة والقتل ، لأن فيها جهة شخصية متضررة ، فيتوقف اقامة الحد على المطالبة من المتضرر أو من يرثه . ويجوز للحاكم الشرعي اقامة الحد فيما يتعلق بحقوق الله بمجرد علمه ، ولكنه لا يستطيع القيام بذلك فيما يتعلق بحقوق الناس كالسرقة والقذف.
1 ـ جرائم الاعتداء على النفس الانسانية وما دونها : وهي جرائم القتل والجراح والشجاج وإسقاط الجنين ، وقد أوجب فيها الاسلام القصاص ، أو دفع الدية ، وأوجب كفارة القتل في مواضع معينة ، وأباح للمعتدى عليه الدفاع عن نفسه في كل الاحوال.
فالقصاص ـ وهو من اقتفاء الاثر (1) ، كما في قوله تعالى : ( وقالت
____________
(1) مجمع البيان ج 20 ص 270.

( 59 )

لاخته قصيه ... ) (1) ، وشرعاً وجوب المماثلة في القتل والقطع بشروطها الشرعية ـ يعتبر من أقصر الطرق الى تحقيق العدالة القضائية : ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) (2) ، ( وكتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس ، والعين بالعين ، والانف بالانف ، والاذن بالاذن ، والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ، ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الظالمون ) (3) . ففي حين يعلن الاسلام بكل قوةٍ وجوب المماثلة في القصاص ، يقوم النظام الغربي ـ في تشريعه لعقوبة الانحراف ـ بفرض القيود على حرية المجرم عن طريق السجن ، أو العلاج الطبي ، أو خدمة مؤسسات الادارة المحلية ، أو بتعويض الضحية مالياً (4) . وهذه الاساليب لا تبعد المنحرف عن انحرافة ولا تقدم للضحية مثالاً واقعياً لمعاقبة الجاني ، بل تربك النظام الاجتماعي وتستهلك موارده المالية ؛ لان السجن والطب النفسي اثبتا فشلهما في علاج المنحرف علاجاً حقيقياً ( لاحظ دراساتنا حول الانحراف الاجتماعي واساليب العلاج في الاسلام ).
وقد ذهب أكثر الفقهاء الى ان القاتل المتعمد لو مات قبل الاقتصاص منه ، اخذت الدية من ماله اذا كان له مال ، أو من مال ارحامه اذا لم يكن له مال ، لقوله تعالى : ( فقد جعلنا لوليه سلطاناً ) (5) ، وللرواية المروية عن
____________
(1) القصص : 11.
(2) البقرة : 194.
(3) المائدة : 45.
(4) ( مارشال كلينارد ) و( روبرت ميير ) . علم اجتماع السلوك المنحرف . الطبعة السادسة . نيويورك : هولت ، راينهارت ، وونستن ، 1985 م.
(5) الاسراء : 33.

( 60 )

الامام الصادق (ع) عندما سئل عن هروب القاتل ، فقال : ( ان كان له مال اخذت الدية من ماله ، والا فمن الاقرب فالاقرب فان لم يكن له قرابة أداه الامام ، فانه لا يبطل دم امرئ مسلم ) (1).
ومع تأكيد القرآن الكريم على القصاص او المماثلة عيناً بعين وسناً بسن ، الا انه في الوقت نفسه وضمن اطاره الاخلاقي يحبب لاولياء المقتول العفو عن القاتل مع الامكان ( فمن تصدق به فهو كفارة له ) (2) ، ( وجزاء سيئةٍ سيئةٌ مثلها فمن عفا واصلح فأجره على الله ) (3).
اما الدية ، فان الاصل في وجوبها قوله تعالى : ( وما كان لمؤمن ان يقتل مؤمناً الا خطأً ومن قتل مؤمنأً خطأً فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمةٌ الى اهله الا ان يصدقوا فان كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وان كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة الى اهله وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله وكان الله عليماً حكيماً ) (4) . ولاشك ان الدية عامل مهم من عوامل التعويض المالي المختص بجرائم قتل الخطأ وشبه العمد ؛ فانهما يوجبان الدية دون القصاص . ويوجب الدية ايضاً التراضي بين الطرفين . وفي الضرب الذي لا يجرح ولكنه يولد احمراراً ونحوه ، الارش أو الحكومة . وفي الضرب الذي يسبب الالم فقط : التعزير . وتتعين دية المقتول عمداً في حالات استثنائية فقط ؛ منها : فوات المحل ، كموت القاتل ونحوه.
____________
(1) الجواهر ج 42 ص 330.
(2) المائدة : 45.
(3) الشورى : 40.
(4) النساء : 91.

( 61 )

ومن المسلم به ان الدية المقدرة شرعاً في قتل المسلم الذكر عمداً الف دينار ذهب ، وهو ما يعادل اكثر من 3.5 كيلو غرام ذهباً ، أو ما قدر شرعاً من الشياه والابل والابقار والحلل والفضة . وهذه الكمية من المال كافية لاغناء العائلة المفجوعة بفقد معيلها ، حتى لا تمد يدها استعطاءً للناس . والاصل في احكام الديات ان القاتل يضمن الدية اذا كان قاصداً القتل أو الفعل الذي يؤدي اليه.
ولم يتوقف دفع الدية على القتل فحسب ، بل تعدى الى تلف الاعضاء كالعين والانف والشفة واللسان والاسنان ونحوها ، والى تلف المنافع كالعقل والسمع والبصر والشم والنطق ونحوه ، والى الجراح المختصة بالرأس والوجه كالحارصة والدامية والباضعة والسمحاق والموضحة والهاشمة والمأمومة ونحوها . وفي غير ذلك يتعين الارش الذي تقدره الحكومة.
وبطبيعة الحال فان تقدير قيمة الضمان ، في النظام الاسلامي ، تخدم المجتمع عن طريق عاملين ؛ الاول : تعويض الضحية أو اسرته تعويضاً مالياً يسد حاجاتها الاساسية التي حرمت من اشباعها بفقدان المعيل ، والثاني : ردع الانحراف الاجتماعي ، بابلاغ المنحرفين علناً بأن انحرافهم لا يمر دون ثمن باهض يدفعونه لصالح الضحية وبالتالي لصالح النظام الاجتماعي.
ولاشك ان اشراك العاقلة في دفع الدية ، واشراك القسامة في التحليف حالة اللوث ، يعتبران من أهم العوامل الرادعة للانحراف الاجتماعي ؛ لأن الفرد ـ لكونه كائناً اجتماعياً ـ فانه يرتبط بعشيرته ومحلته وقريته بروابط الزواج والاخوة والاسرية والمصلحة الاجتماعية . وهذه


( 62 )

الروابط تقلل من فرص زيغه عن اعراف وقوانين النظام الاجتماعي العام ، وتجعل الجريمة التي يرتكبها فضيحة اجتماعية تجلب عليه وعلى اسرته وعشيرته ، وصمةً وعاراً لا تمحو آثارها السنون . اما اذا كانت الجناية خطأً ، فان مشاركة العصبة أو العشيرة في تسديد ثمنها المالي ، يعتبر بمثابة المشاركة الجماعية في مساعدة العائلة المفجوعة ، وتقويتها امام المحن والمصاعب الاقتصادية القادمة.
وتكمن اهمية العاقلة في المشاركة في دفع دية الخطأ بما يلي :
1 ـ ان مساهمة العاقلة في دفع دية الخطأ يخفف من تحمل الفرد كاهل دفع تلك الدية لوحده ، وهو مبلغ هائل ، كما هو واضح.
2 ـ ان مساهمة العاقلة في دفع الدية يساهم في تقوية العلاقات والاواصر الاجتماعية بين ابناء العشيرة الواحدة ويجعلها تقف متحدة في المحن والمصائب التي يتعرض لها افرادها.
3 ـ ان جمع مبلغ الدية عن طريق العاقلة يخفف من العبء الذي تتحمله عائلة المجني عليه ، خصوصاً اذا عجز الجاني عن تسديد ذلك المبلغ ، فتصبح العائلة المفجوعة ضحية لجريمة اقتصادية ومعاشية خارجة عن ارادتها . فتكون العاقلة عندئذ وسيلة ضمان لاستلام الدية.
نقطة مهمة اخرى نود ان نعرضها هنا ، وهي ان القيمومة الشرعية على الاسرة هي المقياس في مقدار الدية ، وليس تفضيل جنس على جنس آخر كما يدعيه اعداء النظرية الدينية . فدية قتل الذكر المسلم عمداً الف دينار ذهب أو نحوه ، ودية المرأة الحرة المسلمة على النصف من اصناف الديات الست ، سواءً كانت الجناية عليها عمداً أو خطأً أو شبه عمد ،


( 63 )

صغيرة كانت أو كبيرة ، عاقلة كانت أو مصابة بالاضطراب العقلي ( الجنون ) . وكذلك في حالة الجراح والقطع والشجاج ، فان المرأة ـ الضحية ـ تتساوى مع الرجل قصاصاً ودية الى حد الثلث ، فان زاد عن الثلث رجعت ديتها على النصف من الرجل . ولاشك ان مقادير هذه الديات لم توضع لتقدير قيمة المرأة ، فيكون مقدارها نصف قيمة الرجل مثلاً . بل ان الاسلام أراد منها معالجة وضع ما بعد الجريمة . فالرجل المقتول الذي يفترض فيه ان يكون معيلاً لعائلة ما ، تذهب ديته الى عائلته التي افتقدت المعيل ، فيكون الدخل المقدر بالف دينار ذهب أو نحوه ضماناً لنفقات العائلة المعيشية . اما المرأة المقتولة ، فان ديتها المقدرة بنصف دية الرجل تدخل وارد الرجل الذي يفترض فيه ان يكون قيماً على عائلته ، زوجة كانت المجني عليها أو اختاً أو بنتاً . ودليل آخر على مساواة الاسلام للمرأة والرجل في نظام العقوبات ، هو ان حد القذف وحد المسكر وهو ثمانون جلدة يتساوى فيه القاذف والشارب ، ذكراً كان أم أنثى.
اما فيمايتعلق بالاجهاض او الاسقاط المتعمد للجنين ، فان النظام الاسلامي شرع أدق العقوبات الخاصة بهذا الانحراف ، فقسم ديته بحسب عمر الجنين ؛ ففي النطفة المستقرة في الرحم عشرون ديناراً ، وفي العلقة أربعون ، وفي المضغة ستون ، وفي العظم ثمانون ، وفي الجنين التام الذي لم تلجه الروح مائة دينار ، وفي الجنين الذي ولجته الروح دية كاملة (1) . وهذا الحكم الشرعي يرجع بالتأكيد الى اصالة قوله تعالى في خلق الانسان : ( ولقد خلقنا الانسان من سلالة من طين ، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين . ثم
____________
(1) الكافي ج 7 ص 343.

( 64 )

خلقنا النطقة علقة ، فخلقنا العلقة مضغة ، فخلقنا المضغة عظاماً ، فكسونا العظام لحماً ، ثم انشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) (1).
وفي حين حل الاسلام مشكلة الاجهاض من الصميم قبل نشوء الثورة الصناعية بقرون ، الا ان قضاة النظام الرأسمالي الغربي يحاولون لحد اليوم الاجابة على السؤال الذي يناقش أحقيقة المرأة في الاجهاض . فمنذ تشريع المحكمة الامريكية العليا سنة 1973 م القاضي بشرعية الاجهاض في قضية ( جين رو ضد هنري ويد ) (2) ، والقانون يتبدل بين شد وجذب ، وجواز وحرمة ، وكلما يتبدل عضو من اعضاء المحكمة العليا يتبدل القانون الخاص بالاجهاض . وهذا الاضطراب دليل قوي على فشل النظام الاجتماعي الغربي في معالجة مشاكل قضائية خطيرة عالجها الاسلام بكل دقة قبل اربعة عشر قرناً من الزمان.
2 ـ جرائم ضد الملكية : ولا ريب ان النظرية الاسلامية الخاصة بالعقوبات الجنائية تنظر الى الجرائم المتعلقة بالملكية نظرة خاصة وترتب عليها عقوبات صارمة ؛ لأن ضمان سلامة حقوق الناس من تعدي الاخرين يعتبر من أهم اسباب استقرار النظام الاجتماعي وتطوره الاقتصادي . ولاشك ان الاقرار باحكام اليد ودلالتها على الملكية ، تضع للمجتمع الانساني الحدود العامة لانتقال الملكية ، ودوران المال بين افراد النظام
____________
(1) المؤمنون : 13 ـ 14.
(2) ( آرثر شوستاك ) و( كيري مكلوث ) . الاجهاض والرجال : الخسائر ، الدروس ، والحب . نيويورك : مطبعة العلوم الانسانية ، 1984 م.

( 65 )

الاجتماعي عيناً كان ذلك المال أو نقداً ، منقولاً كان أو غير منقول . ولولاها لاضطرب النظام الاقتصادي والاجتماعي ، وانعدم البيع والشراء الذي هو الاصل في سد حاجات الناس الاستهلاكية والكمالية . ولذلك فان اقرار الاسلام لهذا الاصل وربطه بالصدق العرفي ينسجم مع الطبيعة الفطرية للتعامل الاجتماعي وتنظيم سلوك الافراد.
وتنقسم الجرائم المتعلقة بالملكية الى قسمين :
القسم الاول : الانحرافات التي تؤدي الى سلب الملكية من مالكها قهراً وظلماً كالغصب ويتحقق بصدق الاستيلاء عرفاً على حق الغير . وقد شدد الاسلام على حرمة غصب اموال الناس . وحرم الصرف بالمال مطلقاً الا مع العلم بالاذن الشرعي ، لقوله تعالى : ( ولا تأكلوا اموالكم بينكم بالباطل ) (1) ، وعموم قوله (ص) : ( لايحل مال امرئ مسلم الا عن طيب نفس منه ) (2) ، وقوله (ص) ايضاً : ( من غصب شبراً من الارض طوقه الله من سبع ارضين ) (3).
ان حرمة الغصب تتعدى من مجرد الاثم الى وجوب الرد على الغاصب وضمانه تلف المادة المغصوبة . فالغاصب ـ حسب النظرية الاسلامية ـ يتحمل مسؤولية كاملة في ارجاع المادة المغصوبة سليمةً من كل عيب ، بل يتعين عليه وجوب الرد فوراً ودون تأخير ؛ بينما لا يتحقق الضمان ولا الفورية في قانون العقوبات الرأسمالي الغربي (4).
____________
(1) البقرة : 188.
(2) الكافي ج 7 ص 274.
(3) كنز العمال ج 10 ص 639.
(4) ( جاك جيبز ) . الجريمة ، العقاب ، والردع . نيويورك : السفاير ، 1975 م.

( 66 )

ولاشك ان المباشرة أو التسبيب أو اجتماعهما في تلف المغصوب توجب الضمان بأي حال من الاحوال ، باعتبار ان الخطابات الوضعية تشمل الجميع . وعليه فان الطفل والمجنون اذا اتلفا مال الغير ، تعين على وليهما دفع البدل ان كان لهما مالٌ ؛ والمسبب لتلف مال الغير يدفع للمالك بدل التالف من المثل والقيمة ؛ والمستولي على مال الغير بغير اذن ونحوه يدخل في عهدته ، وعليه مسؤولية تلفه اذا تلف . والنتيجة ان وجوب الضمان يحفظ اموال الافراد من الضياع والتلف ، ويصون الثروة الاجتماعية والانسانية من الهدر والتبذير.
القسم الثاني : السرقة وهي سلب مال الغير المودع في حرز سراً وفيها شروط . ولعل السرقة أشد من الغصب ، باعتبار ان انتهاك حرمة الشيء المسروق الذي اطمأن صاحبه على سلامته بالسر والحرز ، يعرض النظام الاجتماعي لمخاطر كبيرة فيما يتعلق بالوضع الاقتصادي للمجتمع الاسلامي . وقد أوجب الشارع الحد فيها على السارق دون الغاصب ، كما ورد في قوله تعالى : ( والسارق والسارقة فاقطعوا ايديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم ) (1).
ونستلهم من كتب السيرة والتاريخ عدالة النظرية الاسلامية في معاقبة المنحرفين . فقد روي ان امرأة من طبقة الاشراف سرقت ، فتشفع لدى رسول الله (ص) أحد الصحابة ، فقام (ص) وخطب في الناس خطبة قوية قصيرة ، معلناً فيها مبدأ مساواة جميع الافراد امام الشريعة والقانون : ( ايها الناس ، انما ضل من قبلكم انهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف تركوه ،
____________
(1) المائدة : 38.

( 67 )

واذا سرق فيهم الضعيف اقاموا عليه الحد ، وأيم الله لو ان فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمدٌ يدها ) (1) .
ولابد للسارق ـ بموجب الشريعة الاسلامية ـ من اعادة المادة المسروقة ( الغرم ) حيث لا يسقط عنه بحال من الاحوال حتى مع اقامة الحد . وهذا الضمان لا تلتزم به النظرية الغربية . فاذا صرف السارق المال المسروق في المجتمع الرأسمالي فانه يعاقب بالسجن ولا يجبر على رد ما سرقه الى صاحبه (2).
ولايحد السارق الا بتوفر الشروط الشرعية ، وهي البلوغ والعقل ، لقاعدة ( رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم ، وعن المجنون حتى يفيق ، وعن النائم حتى يستيقظ ) (3) ، والاختيار (4)، وارتفاع الشبهة (5) ، وكون المال المسروق في حرز (6) ، وان تبلغ قيمة المسروق نصاب القطع وهو ربع دينار ذهب (7) . بمعنى ان المضطر الجائع لايقطع اذا سرق ما يسد رمقه ورمق عائلته . بل ان وجود الشبهة تدرأ تنفيذ الحد لقاعدة ( ادرأوا الحدود بالشبهات ) (8) . واذا تمت السرقة في مكان عام غير مقفل لا يقطع ايضاً ، لأن القطع مختص بكون المال المسروق موضوع في حرز أو نحوه . ومن المسلم به
____________
(1) البخاري ـ كتاب الحدود باب 12.
(2) ( اليوت كيري ) . مواجهة الجريمة : التحدي الامريكي . نيويورك : بانثيون ، 1986 م.
(3) سفينة البحار ج 1 ص 530.
(4) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 43.
(5) المقنع للشيخ الصدوق ص 147.
(6) تفسير العياشي ج 1 ص 319.
(7) المقنع للصدوق ص 150.
(8) المصدر السابق ص 147.

( 68 )

ان الفرد المسروق اذا طلب عدم معاقبة السارق بالحد ، يترك السارق دون قطع ، لأن عقوبة السرقة متعلقة بالحقوق المالية للناس وليست من حقوق الله.
وطريقة القطع ـ المراد منها تأديب المنحرفين وردعهم عن ارتكاب الجريمة ـ لاتجعل الفرد المذنب معاقاً عن العمل الانتاجي . فالاصل في القطع ، هو الاصابع الاربع فقط من اليد اليمنى للمنحرف ، فتترك له الراحة والابهام . وهذا لا يعتبر تعطيلأً لانتاجية الفرد ، بل ان للفرد الحق بعد توبته الدخول في الحقل الانتاجي الاجتماعي ليكون عضواً نافعاً في مجتمعه الانساني ، علماً بأن عنصر ابداع الانسان في العمل والبناء يعتمد على الابهام وراحة اليد بالاصل . وفكرة القطع تناقض تماماً فلسفة نظام العقوبات الغربي التي جعلت السجن محور العقوبات ، مما سبب انخفاضاً في الانتاج واستهلاكاً لموارد وثروات المجتمع ، لأن السجين معطل عن الانتاج الاجتماعي بالاكراه (1).
3 ـ الجرائم الخلقية : ولما كانت رسالة الاسلام العظيمة اجتماعية المنشأ ـ فتتعامل مع الفرد والمجتمع ضمن الاطار الاخلاقي المرسوم لها من قبل السماء ـ اصبح تعاملها الشديد مع الجرائم والانحرافات الخلقية امراً حتمياً ؛ لأن القاعدة الاخلاقية هي الاصل في ضمان سلامة اجهزة النظام الاجتماعي وتكاملها لبناء المجتمع الانساني السعيد . وهذا الاطار الاخلاقي الذي نادت به الشريعة وتبنته على امتداد تاريخها الحافل بالوقائع والاحداث ،
____________
(1) ( جاك جيبز ) . العرف ، الانحراف ، والسيطرة الاجتماعية . نيويورك : السفاير ، 1981 م.

( 69 )

هو الذي حفظ المجتمع الاسلامي من الانحرافات التي يعيشها المجتمع الغربي وهو في أوج تقدمه المدني والاقتصادي (1) . وأهم الجرائم والانحرافات الاخلاقية التي يواجهها النظام الاجتماعي هي الانحرافات الجنسية كالزنا واللواط والمساحقة والقيادة ، والانحرافات السلوكية كالقذف وشرب الخمر ، والانحرافات العقائدية كالارتداد.
والاصل في العقوبات الاخلاقية القرآنية لردع المنحرفين هو التشديد والحسم ، فتتعين عقوبة القتل في الزنا بذات محرم نسباً ، وفي الاغتصاب الجنسي ونحوها ؛ والرجم في الزانية المحصنة والزاني المحصن ؛ والجلد على الزاني والزانية غير المحصنين ؛ والجلد والرجم معاً في الشيخ والشيخة المحصنين الزانيين ؛ والجلد والتغريب والجز في البكر الزاني الذي تزوج ولم يدخل . ومع ان هذا التفصيل يستند الى السنة الشريفة الا ان دليل تحريم الزنا ظاهر في النص القرآني الشريف : ( ولا تقربوا الزنا انه كان فاحشة وساء سبيلا ) (2) ، وقوله تعالى في وصف المؤمنين : ( ولايزنون ومن يفعل ذلك يلق اثاماً ) (3) ، ( الزاني لا ينكح الا زانيةً أو مشركةً والزانية لا ينكحها الا زانٍ أو مشركٌ وحرم ذلك على المؤمنين ) (4) ، ( الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدةٍ ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله ان كنتم
____________
(1) ( جاك جيبز ) . العرف ، الانحراف ، والسيطرة الاجتماعية . نيويورك : السفاير ، 1981 م.

( 70 )

تؤمنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين ) (1).
ويحد اللوطي بالقتل ضرباً بالسيف أو حرقاً بالنار أو الالقاء من شاهق ، أو هدم الجدار عليه . وهذا اللون من الانحراف من أخطر مراتب الانحرافات الجنسية ؛ ومعناه اللغوي : اللصوق ، وسمي لواطاً نسبة الى قوم لوط الذين ادانهم القرآن الكريم بالقول : ( اذ قال لهم اخوهم لوط الا تتقون . اني لكم رسول امين فاتقوا الله واطيعون ، وما اسألكم عليه من أجر ان اجري الا على رب العالمين ، اتأتون الذكران من العالمين ، وتذرون ما خلق لكم ربكم من ازواجكم بل انتم قوم عادون ) (2) ، ( أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل ) (3) ، وقد شدد التحريم فيه ، كما ورد في قول رسول الله (ص) : ( من جامع غلاماً جاء جنباً يوم القيامة ، لا ينقيه ماء الدنيا ، وغضب الله عليه ، ولعنه واعد له جهنم وساءت مصيرا ) (4).
وفي السحق مائة جلدة ، وقيل ان « اصحاب الرس كانت نساؤهم سحاقات » (5) ، وهو « اشارة الى قوله تعالى : ( وعاداً وثمود واصحاب الرس ) (6) » (7) . وفي القيادة ـ وهو الجمع بين فردين على الحرام ـ خمسٌ وسبعون جلدة ، وفي القذف والسكر ثمانون جلدة ، لقوله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا باربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين
____________
(1) النور : 2.
(2) الشعراء : 161 ـ 166.
(3) العنكبوت : 29.
(4) الكافي ج 2 ص 70.
(5) مجمع البيان ج 19 ص 107.
(6) الفرقان : 38.
(7) تفسير القمي ص 465.

( 71 )

جلدة ) (1) ، وقوله ايضاً : ( انما الخمر والميسر والانصاب والازلام رجس من عمل الشيطان ) (2) ، وللنص الوارد عن أمير المؤمنين (ع) : ( ان الرجل اذا شرب الخمر سكر ، واذا سكر هذى ، وان هذى افترى ، فاجلدوه حد المفتري ) (3).
ولاشك ان هذا التشديد في التعامل مع المنحرفين اخلاقياً منسجم مع النظرية الاخلاقية الاسلامية . فلابد من أجل بناء مجتمع متكامل نظيف يهتم بحقوق الاسرة وحقوق الافراد الذين يشكلون تركيبتها البشرية وحقوق النظام الاجتماعي ، من انزال أقصى العقوبات الجسدية بالذين يحاولون تمزيق ذلك النظام الاسري والاجتماعي عن طريق الانزلاق في الشهوات المحرمة وخلط الانساب . وبطبيعة الحال ، فان الاسلام لم يغفل حاجة الفرد المتعلقة بالجنس ، بل اشبعها ضمن ضوابط الزواج الشرعية والعرفية ، وجعل العقاب صارماً فيما وراء ذلك.
ومع التشديد المذكور في انزال العقاب بفعلية الانحراف ، هناك تشديد آخر في الشهادة على الجرائم الخلقية ، وخصوصاً الزنا واللواط والسحق وهو اربعة شهود ، وفي القيادة والقذف والسكر شاهدان . ففي ثبوت الزنا الموجب للحد رجماً أو جلداً ينبغي شهادة اربعة عدول يتواردون على الشهادة برؤية الواقعة رؤية دقيقة ، ولابد من اتفاقهم على المشهود به زماناً ومكاناً وفعلاً . واذا نقص عدد الشهود عن أربعة ، أو اختلفوا في
____________
(1) النور : 4.
(2) المائدة : 90.
(3) الكافي ج 7 ص 215.

( 72 )

التفصيل حد الشهود على القذف ثمانين جلدة ، وهذا مصداق قوله تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابداً واولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا فان الله غفور رحيم ) (1) ، وقد ورد ان ثلاثة شهود شهدوا على رجل بالزنا ، فقال امير المؤمنين علي (ع) : اين الرابع ؟ قالوا : الآن يجيء ، فقال : ( حدوا الشهود ، فليس في الحدود نظر ساعة ) (2) . ولاشك ان هذا التشديد في دقة الشهادة وعدالة الشهود ، له ناحيتان ايجابيتان ؛ الاولى : ردع الافراد عن اتهام الآخرين بالزنا بمجرد الظن أو الشك . فلابد من اجتماع الاربعة على رؤية الواقعة بتفصيلاتها الدقيقة ، والا فستكون العقوبة من نصيبهم . الثانية : ان الذي يرتكب هذا الانحراف امام اربعة رجال دون ادنى حياء ، يستحق العقوبة الجسدية لانه عنصر افساد للنظام الاجتماعي ينبغي استئصاله دون رحمة.
وقد جعل الاسلام تطبيق الحدود آخر الحلول لمعالجة الجريمة والانحراف . فقد أمر الافراد اولاً بالستر والتوبة وسد الحاجات الغريزية بالطرق الشرعية . فاذا استتر المنحرف وتاب الى الله قبل قيام البينة فهو في ستر الله ولا يقام عليه الحد : ( الا الذين تابوا من بعد ذلك واصلحوا فان الله غفور رحيم ) (3) ، ولكن اذا أقر على نفسه بالجرم أو ثبت عليه الجرم بالبينة اقيم عليه الحد . وقد ورد في الروايات ان الامام (ع) مسؤول عن تزويج
____________
(1) النور : 4 ـ 5.
(2) من لا يحضره الفقيه ج 4 ص 24.
(3) النور : 5.

( 73 )

الزانية بحيث يعصمها عن ارتكاب هذا الانحراف ؛ وهو دليل قوي على ان أهم اسباب انحراف الفرد هو الحاجة المالية أو الغريزية التي لا تسد الا عن طريق الزواج الشرعي.